أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هدى حسين - أحلامي















المزيد.....

أحلامي


هدى حسين

الحوار المتمدن-العدد: 857 - 2004 / 6 / 7 - 04:44
المحور: الادب والفن
    


عندما كنت صغيرة، حلمت. لم أكن بعد أعرف معنى ذلك. ولا أعرف المرادفة التي تعبر عن هذه الأشياء التي تحدث لي بعد أن أغمض عيني بقليل. لم أستطع أن أسأل أمي: "أماه؟ أنا أحلم. فهل هذا طبيعي أم أنني مريضة؟" لم أستطع، لأن كلمة "حلم" لم تكن بعد دخلت قاموس الكلمات التي أعرفها. لكنها بدأت تحدث لي وأتذكرها. ولا أعرف من اين أتت. الصراحة انني لم اكن أتخيل أن الأحلام تأتي للواحد. كنت أظن أنني عندما أنام يأخذني السرير إلى مكان ما، ثم يعيدني في الميعاد المناسب للاستيقاظ للذهاب إلى الحضانة. لذلك، في الصباح ، كنت آخر من يزيح عن رأسه الغطاء لكي ينزل من السرير: كنت أخاف أن أفتح عيني بينما أنا في أحد الأماكن التي يأخذني السرير لها، فأتوه ولا أعرف طريق العودة إلى البيت وحدي. أفتح عيني بعدما أسمع أصوات كل من في البيت وأميزها جيداً.
وكنت أحب تلك الأماكن وهؤلاء الأشخاص وتلك الأحداث التي يعرفني عليها سريري.. حتى أنني كنت أربت على سطح سرير عندما أستيقظ وشكرها - كنت أظن السرير مؤنثاً – وكنت أظنه أمي. لم أستوعب أبدا في هذا السن أن لكل واحد أم واحدة وأب واحد. كانت أمي أمي، وجدتي لأمي أمي، وسريري أمي، وأسوان أمي، ورأس البر أمي، والشجرة التي ترتكن بجزعها على شرفة حجرة نومي أمي.... وكان أبي أبي. والأقصر أبي، والبحر أبي، وبيانو المدرسة أبي، بل إن القمر الذي أراه يزول في الفجر من شرفة الصالون أبي، كذلك المقعد البني المخملي الوثيل الذي أحبه قرب مدخل شرفة الصالون.. كلهم كانوا آبائي.. يبدو لي أيضا أنني لم أكن أستوعب فكرة الأسرة الواحدة. فقد كان لي إخوة أيضاً ألعب معهم، هم الصلصال والتلفزيون والمنبه وعلب دواء جدتي لأمي ومكحلتها النحاسية اللون، الملابس التي أختارها...الخ.. بل وكان لي أطفال أيضاً. أريد إبنا من الشيكولاتة، فآكل الكثير من الشيكولاتة حتى تكبر معدتي وتلدها لي.... وكانت أصابعي لعبي. أصابع يدي وقدمي على حد سواء. أغرسها في أخي الصلصال حتى نلعب بها معاً..أدورها وألففها حول خيوط السكوبيدو صديقي. أجعلها تتحدث إلى أبي البيانو وتحتضن أبي المقعد وتختبر درجة حرارة أمي الشجرة بالضغط على لحائها. وكنت أحيانا أستلقي على ظهري، وارفع رجلي وأجعل من يدي ورجلي اشجاراً تتحدث أغصانها إلى بعضها البعض، عن الغابة التي نمَت على أطرافها، عن الهواء الشديد الذي يعصف بها بحيث يجعل أوراقها (أصابعي العشرين) تعصف على فروعها (ذراعي وساقيّ) التي تتمايل بعنف تكاد معه تنقصف.. هكذا كنت أحاول أن أشكر سرير.. بأن ألعب هذه اللعب فوقه أو تحته، أو مستنده إليه حتى آخذه معي إلى أماكن ما أخترعها له، مثلما يأخذني وأنا نائمة إلى أماكن يعرفها ويطلعني عليها.. لكن أول لعبة جعلته بشاركني فيها، كانت "رأيي". حيث كنت أجلس على السرير أهرش شعري بيديّ الاثنين بينما أخرج خرج لساني وأحاول أن أراه وأن أصدر به أي صوت وهو خارج هكذا عن فمي..
عرفت كلمة رأي قبل أن أعرف كلمة حلم، وكلمة شرود. حدث ذلك في سن الثالثة. كان أبي قد اخترع تقليدا في الأسرة وهو أن يكون هناك ساعتين كل خميس، من الساعة الخامسة حتى السابعة مساءً، يجلس فيها كل أفراد الأسرة الأكبر من ثلاث سنوات. في هذه الجلسة الأسبوعية يقول فيها كل واحد ما يضايقه من الآخر ويناقشه في حضور الآخرين حتى يتوصل المتخاصمان إلى حل يصفوا بعدها الجو بينهما. في هذه الجلسة أيضا يمكن لمن شعر خلال الأسبوع أنه أخطأ في أمر ما، أو هناك أمر يؤرقه طوال السبوع ولا يفهمه أو لا يجد له تفسيرا، أن يعرض على الجميع هذا الأمر ليناقشوه معاً. وفي هذه الجلسة أيضا، نناقش مصروف البيت الأسبوعي، ونختار حسب الظروف المادية وظروف الامتحانات نوع الفسحة الأسبوعية التي سنقوم بها يوم الجمعة.
عندما أتممت الثالثة من عمري. بدأت أداوم على حضور مجلس الأسرة هذا المنعقد أسبوعيا. لم أفهم ما يجري. لكن أبي سألني: "وانتِ ما رايك؟" نظرت إليه ببلاهة واندهاش. لم أفهم معنى الكلمة. كانت أول مرة أسمعها. نظرت لأمي أستفسر. قالت: "يا حبيبتي. هذا أمر طبيعي جدا. تحدثنا هنا عن أشياء ونريد أن نأخذ رأيك". كان ردي بالنفي. قالت أمي: "إذاً أنتِ لا توافقين."
قلت: "طبعاً لا أوافق! رأيي تخصني وسألعب بها وحدي. ولن أسمح لأحد أن يأخذها مني. فقط أرجو منكم إذا كانت فعلا هذه "الرأي" لي، أن تخبروني أين أشتريها وبكم هي حتى أدخر من مصروفي ما يكفي لآخذها معي إلى حجرتي."
كانت أيضا كلمة "مصروف" كلمة جديدة. لكنني عرفتها قبل كلمة رأي، واعتدتها بسرعة. فقد كانت كلمة تتكرر على مسامعي يومياً. قبل الدخول إلى باب الحضانة، يقول أبي :"خذي يا حبيبتي، هذا مصروفك. اشتري به ما تشائين."… كنت أريد أن أشتري رأيي. لكني لم أجده في كانتين الحضانة، ولا عند "عم شعبان" بائع الحلوى المجاور، ذلك الرجل العجوز الطيب الذي لا تفارقه ابتسامته التي تعلن عن فم بلا أسنان تقريباً، والذي كان عنده دائما لبان السجاير، والربسوس والشيكولاتة المسكوكة على هيئة عملات، ولا عند محل "صباح الخير"، محل لعب الأطفال الموجود في ركن الشارع، والذي كنت أظن ان اسم صاحبه "صباح الخير"، هناك كنت أجد الصلصال الذي أحبه، والدفوف البلاستيكية الصغيرة، والبيانو اللعبة الذي يصدر أصواتا تشبه الاكسليفون، والاكسليفون نفسه مثلما أجد خيوط سكوبيدو البلاستيكية الملونة، والخرز وخيط السنارة. لكنني لم أجد رأيي.
لم أستطع الانتظار إلى الاسبوع التالي لكي أطرح محنتي في مجلس الأسرة. بعد أيام قليلة وبينما يأخذني أبي معه مساءً لشراء العيش الفينو والتمشية قليلا بحزاء النيل، قررت أن أخبره بالموضوع. فهو الوحيد في الأسرة الأسمر مثلي تماماً. وكان هذا يعني لي، أنني عندما سأكون في حجمه سأصبح هو. كنت في تلك الفترة لا أميز الناس باعتبارهم أطفال وكبار، ولا بنات وأولاد. كان الناس عندي يتميزون بأحجام الجسم، وألوان الجلد. قلت له كيف أنني بحثت عن رأيي في محل اللعب، وفي محل الحلوى، وعند البقال وفي الصيدلية، ولكني لم أجده عندهم. كل ما وجدت هو أنهم يضحكون. فهل رأيي هذا يدغدغ؟ وأنني عندما أجده سأضحك مثلهم؟ ثم أين أجده؟.. ابتسم أبي. كان هذا أول حوار حميم بيننا. وبعدها توالت الحوارات.. قال أبي: "يا حبيبتي، رأيك لا يمكن أن تشتريه. رأيك تجديه بداخلك. يجلس في رأسك ويخرج من لسانك." أخذت أهرش في رأسي ثم بسرعة أخرج لساني وأحاول أن أنظر له وهو خارج فمي لكي أرى رأيي.. لكن والداي كانا يقولان إنه من العيب أن نهرش هكذا أو نخرج لساننا أمام الناس.. فصرت ألعب برأيي وحدي في حجرتي، وعلى سرير العزيز…



#هدى_حسين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بيننا
- بعض الوقت لآليس بلا عجائب
- الكتابة رفيقة العمر التائه
- الحدث
- قصائد
- عشـوائـية
- سأقول أعرفها
- إنهم يصنعون الخبز
- لأمي
- قِدر الطعام


المزيد.....




- الفنان السوداني أبو عركي البخيت فنار في زمن الحرب
- الفيلم الفلسطيني -الحياة حلوة- في مهرجان -هوت دوكس 31- بكندا ...
- البيت الأبيض يدين -بشدة- حكم إعدام مغني الراب الإيراني توماج ...
- شاهد.. فلسطين تهزم الرواية الإسرائيلية في الجامعات الأميركية ...
- -الكتب في حياتي-.. سيرة ذاتية لرجل الكتب كولن ويلسون
- عرض فيلم -السرب- بعد سنوات من التأجيل
- السجن 20 عاما لنجم عالمي استغل الأطفال في مواد إباحية (فيديو ...
- “مواصفات الورقة الإمتحانية وكامل التفاصيل” جدول امتحانات الث ...
- الامتحانات في هذا الموعد جهز نفسك.. مواعيد امتحانات نهاية ال ...
- -زرقاء اليمامة-... تحفة أوبرالية سعودية تنير سماء الفن العرب ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هدى حسين - أحلامي