أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - إرنست ماندل - الماوية والثورة الصينية















المزيد.....


الماوية والثورة الصينية


إرنست ماندل

الحوار المتمدن-العدد: 4719 - 2015 / 2 / 13 - 20:03
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


كان المجتمع الصيني في مطلع القرن العشرين في أوج التفكك. انهار نظام الامتحانات الإمبراطوري الذي كان مصدر تشكل بيروقراطية موظفين كبار شكلت طيلة قرون إحدى أعمدة المجتمع الصيني و فئة اجتماعية ذات امتيازات. و تفككت السلطة المركزية، إذ في بضعة عقود شهد نظام ظل على حاله طيلة آلاف السنين انهيارا تحت ضربات التغلغل الامبريالي خلال القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.

--------------------------------------------------------------------------------

I - الأسباب الاجتماعية للثورة

أ- المجتمع الصيني في مطلع القرن العشرين

لم ُتحول كل تلك التدخلات الصين إلى مستعمرة تقليدية، تديرها مباشرة بلدان امبريالية، لكنها أدت إلى عواقب مشؤومة عديدة: منحت القوى الاستعمارية نفسها امتيازات ترابية حيث تمارس سيادة فعلية. كما كانت" تحصل" على امتيازات لتشييد خطوط سكك حديد وإعفاءات جمركية كبيرة تتيح استيراد السلع المصنعة بأوربا إلى الصين بأسعار منخفضة جدا. وعلى هذا النحو جرى تنظيم نهب منهجي. وكانت إحدى عواقب ذلك الهامة انهيار الصناعة الحرفية بفعل المنافسة. وزال قسم هام من موارد الفلاحين الصينيين.

ب- طبقات المجتمع الصيني

كانت غالبية المجتمع الصيني في مطلع القرن العشرين لا تزال مكونة من "الطبقات التقليدية": الملاكون الفلاحون الصغار، والأعيان القرويون، والملاكون الأغنياء الذين كانوا يشكلون مع الموظفين الكبار (" الحائزون على شهادات") الطبقة السائدة في الصين الإمبراطورية. لم يكن الملاكون يفلحون أراضيهم، إذ كانوا يحصلون على ريع عقاري يقدمه المزارعون. و خارج هؤلاء الأعيان، يمكن تمييز مختلف أشكال الفلاحين المالكين، فثمة الفقراء، والمتوسطون، والأغنياء. لكن هذا الغنى نسبي جدا! فوالد ماو الذي كان يملك 15 هكتارا كان ُيعتبر فلاحا غنيا (2) !

لم يكن 68 بالمائة من الفلاحين يملكون غير 22 بالمائة من الأراضي، فيما يملك 10 بالمائة من الفلاحين الأغنياء والملاكين العقاريين 53 بالمائة منها. وعلى هؤلاء الفلاحين يقع عبء الريع العقاري والضريبة. و قد يبلغ الريع العقاري الواجب دفعه للمالك العقاري 50 بالمائة من المحصول الزراعي. وكانت الضرائب أكثر فأكثر ثقلا مع جبي ُمسبق، وكمثال تُذكر تلك القرية التي ُجبيت فيها عام 1933 ضرائب 1971 !

إذا أضفنا إلى اللوحة خراب الصناعة الحرفية و مصيبة الربا ( غالبا ما كان المرابي والمالك العقاري الشخص ذاته) وأضرار الامبريالية اليابانية بدءا من 1937، يمكن إدراك إلى أي حد كان وضع أولئك الفلاحين، الفقراء والمضطهدين تقليديا، قد تفاقم لدرجات غير قابلة للتحمل. إن هذا هو التفسير الأساسي للدور الثوري للفلاحين الفقراء في القرن العشرين.

انبثقت تحت تأثير الامبريالية طبقتان ُمميزتان للمجتمع الرأسمالي، البرجوازية والطبقة العاملة. تتكون البرجوازية من شرائح عديدة. و يشكل الكومبرادور برجوازية مرتبطة المصالح مباشرة بالامبريالية ( كانوا يقومون بدور الوسيط). وكانت الشريحة الأخرى مكونة من البرجوازية الوطنية: كبار تجار المدن، و رأسماليون وطنيون، و مثقفون حضريون. وكانت هذه البرجوازية تبدي مشاعر مناهضة للامبريالية، لكنها ضعيفة و وجلة و مرتبطة بالكومبرادور وبالأعيان القرويين. و سيتضح عجزها عن قيادة ثورة برجوازية معادية للامبريالية وللإقطاع. و بوجه مهام الثورة البرجوازية (الإصلاح الزراعي، النضال ضد امتيازات الإقطاعيين، توحيد البلد، التصنيع و المعركة ضد الامبريالية، الخ) ستستسلم هذه البرجوازية أمام القوى الأشد رجعية (الأعيان القرويون، الامبريالية)، وتترك قوى اجتماعية أخرى تضطلع بتحقيقها: سيكون ذلك دور البروليتاريا.

كانت الطبقة العاملة حديثة التشكل. و كانت قليلة العدد (2 مليون)، ومركزة ببعض المدن (شنغهاي، هانكو،تينتسين...). وبفعل فرط استغلالهم، سرعان ما كسب العمال الوعي الطبقي ومشاعر معادية للامبريالية. وأبانت الطبقة العاملة في سنوات 1920 قوتها بإضرابات هامة ونشأت نقابات قوية.

باختصار، كانت صين القرن العشرين سائرة، بتأثير الامبريالية، إلى التحول إلى مجتمع يسيطر به نمط الإنتاج الرأسمالي. و تتجلى سيطرة نمط الإنتاج الرأسمالي هذه في تطور متنام لسوق رأسمالية صينية ( مرتبطة بالسوق العالمية)، وفي كون الطبقات السائدة، البرجوازية والأعيان القرويين، ُمدمجة مباشرة في تلك السوق الرأسمالية (3). لكن هذه التشكيلة الاجتماعية هجين تحت وطأة مجتمع في طور تفكك، حيث تتفاقم الأعباء التي على كاهل أغلبية الفلاحين. وعلاوة على هذا تتفكك الدولة، وتنقسم إلى جملة سلطات إقليمية، أي ما يسمى"أسياد الحرب". كانت هذه السلطات الإقليمية أشبه بشكل من عصابات قطاع الطرق منها إلى سلطة في مجتمع حديث.

لم تفض ثورة 1911 ("الثورة الصينية الأولى") التي أقامت الجمهورية سوى إلى تعميم تفكك العالم الصيني. وبسرعة أبانت الطبقة السائدة الجديدة، البرجوازية، إفلاسها. وكان على البروليتاريا أن تضطلع بدور البديل. بنظر تروتسكي (4) ستقوم الطبقة العاملة، كما جرى في روسيا، بتحقيق سيرورة الثورة البرجوازية في غمرة الحركة ذاتها التي ستقيم ديكتاتورية البروليتاريا. و ستجر البروليتاريا الفلاحين الفقراء خلفها في تحالف حيث تظل الطبقة العاملة مهيمنة. وبعد مضي عشر سنوات على الثورة المجهضة، ظهرت المنظمة التي ستنجز، عبر تقلبات وانعطافات عديدة، المهام التاريخية للبرجوازية، وتقيم في الآن ذاته ديكتاتورية البروليتاريا، و تجعل الصين بدورها " تهز العالم" بانجازها ثاني أكبر ثورة بروليتارية في القرن العشرين. لكن في انتظار ذلك، لم يكن الحزب الشيوعي لحظة تأسيسه في العام 1921 يضم سوى 57 عضوا...

II- الحزب الشيوعي الصيني وثورة 1925-1927

لن يشهد الحزب الشيوعي الصيني، البادئ بقاعدة عددية متواضعة، تطورا هاما إلا مع ثورة 1925. هكذا، لم يكن بالحزب أثناء مؤتمره الرابع في يناير 1925 غير 995 عضوا!

وبسرعة سيتعرض لتقلبات سياسة الحزب الشيوعي بالاتحاد السوفييتي السائر إلى التستلن[اتخاذ طابع ستاليني]. وعلى هذا النحو سيدخل أعضاء الحزب الشيوعي الصيني، منذ 1924، بضغط من الأممية الشيوعية إلى الكومينتانغ بصفة فردية.

كان الكومينتانغ، المؤسس سنة 1905 من طرف صون يات صن، يمثل حزب البرجوازية الوطنية، التقدمية والمعادية للامبريالية في الأصل. لكن، إن كانت البرجوازية الوطنية قد ظهرت في لحظات ما كقوة معادية للامبريالية، فقد أدى ضعفها وخوفها من الجماهير، لما انضم إليها الشيوعيون، إلى سقوطها في أحضان الامبريالية والتعاون مع الأعيان القرويين، وبذلك لم تعد بالنسبة للثورة غير جسم ميت. لا بل ستتحول إلى سلطة مدنية للثورة المضادة.

وبدءا من 1924 عبر الحزب الشيوعي الصيني، بإيعاز من الأممية الشيوعية، عن أوهام كبيرة بصدد قدرات الكومينتانغ المعادية للامبريالية، و أسند إليه الهيمنة في السيرورة الثورية القادمة. إنها الحقبة التي كان ستالين، وقد بات سيد جهاز الحزب الشيوعي السوفييتي والأممية الشيوعية، يبلور مع بوخارين نظرية الثورة عبر مراحل التي تميز بوضوح مرحلة أولى ديمقراطية برجوازية يجب أن تكون فيها هيمنة الكومينتانغ (حزب البرجوازية) كلية. وبعد تحقيق هذه المرحلة يمكن الانتقال إلى النضال من أجل الثورة الاشتراكية (5)، لكن بعدها فقط! وخلال المرحلة الأولى، يجب على الحزب الشيوعي الصيني ألا يكون غير الجناح اليساري، المنضبط، للكومينتانغ. لكن هل كان الكومينتانغ ( الذي يقوده بعد وفاة صون يات صن في 1925 تشيانغ كاي شيك) مستعدا لتحقيق الثورة البرجوازية؟ ستجيب ثورة 1925-1927 جوابا قاسيا على هذا السؤال.

في 1925 دخلت الصين الإعصار الثوري؛ وفي بضعة أشهر حاز الحزب الشيوعي الصيني تأثيرا جماهيريا بين العمال، وضاعف عشر مرات عدد أعضائه، وأصبح في قيادة نقابات عمالية قوية: إنها الثورة الصينية الثانية.

برزت قوة الحزب الشيوعي الصيني بوجه خاص خلال الإضراب العام في شانغهاى يومي 21 و 22 مارس 1927 الذي حرر المدينة قبل وصول جيش الكومينتانغ. وبعد شهر كان الانقلاب الدامي يوم 12 ابريل 1927، حيث سحق تشيانغ كاي شك الحركة الشيوعية في شانغهاى: إنها بداية الثورة المضادة. تم قطع رأس الحزب الشيوعي، وفي الآن ذاته ُسحقت الحركة العمالية.

أبانت البرجوازية عن حدودها، واصطفت في معسكر الثورة المضادة. وأدى الحزب الشيوعي ثمنا باهظا عن أخطائه في التقييم، حيث جرى طرده من المدن و تحطيم نفوذه وسط العمال. وكانت مسؤولية الأممية الشيوعية وستالين مسؤولية كلية. فموسكو هي التي قررت التحالف مع الكومينتانغ لا سيما إخضاع الحزب الشيوعي للكومينتانغ. سيطول الحديث عن تفاصيل مواقف الأممية الشيوعية بوجه الثورة المضادة، ويمكن بتبسيط القول إنه بعد الانتهازية والتبعية للبرجوازية، جاءت سياسة مغامرة تجلت بوجه خاص في سوفييت كانتون الذي جرى سحقه بسرعة. وتم فرض انتفاضة فلاحية (" انتفاضة حصاد الخريف"- 1927)، بقيادة ماو اتسي تونغ، و التي انتهت هزيمة. تم سحق الحزب الشيوعي وطرده من المدن. ولن يدخلها سوى مع الثورة الظافرة في 1948-49، ولن يستعيد هيمنته على الطبقة العاملة. ولن تقوم الطبقة العاملة سوى بدور هامشي في مسار الثورة الصينية ( الثورة الثالثة) التي ستفضي إلى جمهورية الصين الشعبية في 1949.

III – ظهور التيار الماوي وأوجهه

لم يبق من الحركة الثورية القوية في متم 1927 ومطلع 1928 غير بقايا جيوش فلاحية تتراجع في فوضى. كانت إحدى المجموعات المسلحة بقيادة تشوده ، القائد اللاحق للجيش الأحمر، و آخر بقيادة إطار شيوعي عمره 34 سنة كان ُطرد توا من أجهزة الحزب القيادية: ماو تسي تونغ.

كان ماو تسي تونغ، الابن لفلاح غني، والعضو بالحزب منذ تأسيسه، " اختصاصيا" داخل الحزب في المسائل الفلاحية في فترة بدت تلك المسائل ثانوية. كان أكد على القدرة الثورية الكبيرة الكامنة لدى الفلاحين الفقراء في تقريرين شهيرين لم يكن لهما، لحظة صدورهما، أي صدى في الحزب:" طبقات المجتمع الصيني" (مايو 1926) و " دراسة حول الحركة الفلاحية في إقليم خونان" ( مارس 1927).

كان ماو منظما لجماهير الفلاحين في منطقة خونان، وقائدا للانتفاضة الفلاحية لـ"حصاد الخريف" ( بأمر من قيادة الحزب الشيوعي الصيني والأممية الشيوعية) – ويبدو انه كان على خلاف مع ذلك الخط المغامر، و كان في متم 1927 على رأس فرقة عسكرية صغيرة. وبهذه القوى المحدودة يتشكل حزب شيوعي متمحور حصرا بالوسط الفلاحي. وفي الحدود بين جيانغشي وخونان، نظم ماو "سوفييت جيانغشي" الذي يشرف على إدارة منطقة فلاحية تحت هيمنة الحزب الشيوعي. وانطلاقا من تشكيل هذا "السوفييت" ستظهر السمات الأصيلة للماوية. و يمكن تلخيصها بتبسيط فيما يلي:

1. يرى ماو أنه بعد سحق ثورة 1927، يؤول الدور الثوري الغالب إلى الطبقة الأشد عرضة للاضطهاد في المجتمع الصيني، أي إلى الفلاحين الفقراء.

2. سيجسد الحزب الشيوعي في الوسط الفلاحي مصالح الطبقة العاملة. ومن ثمة أهمية التربية السياسية الماركسية الأساسية، والصراع الضاري جدا الذي خاضه الحزب الشيوعي الصيني ضد الميول المذوبة للوسط الفلاحي البرجوازي الصغير، كما التذكير الدائم بهيمنة البروليتاريا في حزب لم يكن به سنة 1929 غير 3 بالمائة من العمال وأقل من ذلك في السنوات اللاحقة.

3. سيحل الحزب الشيوعي، بأطره الماركسية ، وتكوينه الإيديولوجي البروليتاري، محل البروليتاريا الغائبة، وسينجح في تفادي الذوبان وسط الفلاحين وفي التحول إلى مجموعة قائدة لثورة فلاحين واسعة كالعديد من ثورات الفلاحين التي شهدها تاريخ الصين (6).

4. سينسج الحزب الشيوعي الصيني علاقات معقدة مع جماهير الفلاحين: هيمنة الحزب في السوفييت كلية، لكن من جانب آخر تمكن الحزب الشيوعي من الظفر بتأثير ودعم عميق في الفلاحين: حقق إصلاحا زراعيا جذريا، وألغى الديون...

5. كانت الأداة الرئيسية للحزب الشيوعي الصيني هي الجيش الأحمر. تشكل الجيش الأحمر من الفلاحين المسلحين الذين جرت تربيتهم السياسية في إطار إيديولوجية بروليتارية. وبسلوكه في الوسط الفلاحي، قطع هذا الجيش مع ممارسات الجيوش التقليدية (اللصوصية).

6. استوعب ماو وقادة الحزب الشيوعي الصيني دروس أخطاء ثورة 1925-27 ، ودافعوا دوما عن استقلال الحزب الشيوعي الصيني والجيش الأحمر، رافضين اندماج الفرق الشيوعية مع فرق الكومينتانغ، حتى في فترة الغزو الياباني. ولهذا السبب مثل الحزب الشيوعي وجيشه على الدوام خطرا على البرجوازية ومنظمتها الكومينتانغ. ومن ثمة محاولات سحق عسكري لسوفييت جيانغشي.

7. كانت سياسة الحزب الشيوعي الصيني مطبوعة بسمة اللبس. لم يحاول أبدا إعادة كسب منهجية لنفوذ وسط الطبقة العاملة في المدن (7). وبالنسبة للفلاحين، تأرجح الحزب الشيوعي بين دعم الفلاحين الفقراء و دعم الفلاحين المتوسطين. و عبر برنامجه الزراعي عن تقلبات موقفه الطبقي: راديكالي في بداية سوفييت جيانغشي ( توزيع الأراضي)، و أكثر اعتدالا لما حاول الحزب الشيوعي الصيني الحصول على دعم الفلاحين المتوسطين وحتى الأغنياء، بخاصة أثناء النضال ضد اليابان. آنذاك لم ُتوزع غير أراضي المالكين المتعاونين مع المحتل، و جرى الحد من نسب الريع.

8. موقف ماو إزاء الأممية الشيوعية وستالين ملتبس جدا أيضان حيث لم يعبر قط الحزب الشيوعي الصيني بشكل علني عن أدنى خلاف. لا بل كان لكتابات ماو مظهر أرثوذكسية ستالينية صارمة. لكن خلف واجهة الوحدة هذه، كان الحزب الشيوعي الصيني في الواقع قد حدد على نحو مستقل خطا سياسيا مختلفا عن نهج الأممية الشيوعية، هذا بالأقل فيما يخص الصين. فاستقلال الحزب الشيوعي الصيني والجيش الأحمر والأهمية الأساسية للفلاحين عنصران أساسيان يميزان الخط السياسي للحزب الشيوعي عن الأرثوذكسية الستالينية. وفيما يخص مشاكل أخرى، يبدو خط الحزب الشيوعي الصيني تابعا لتوجيهات الأممية الشيوعية: مثلا حول الثورة عبر مراحل. لكن بصدد هذه النقطة أيضا، نجد فروقا كبيرة بين نظرية الحزب الشيوعي الصيني وممارسته (8).

و من 1927 إلى 1934 لم يكن الحزب الشيوعي الصيني يمثل غير قوة محدودة على صعيد البلد، وكان دوما عرضة لتحرشات في أراضيه من قبل الجيوش المتنامية لشيانغ كاي شيك. فشلت الحملات الأربع الأولى للكومينتانغ، لكن الحملة الخامسة عبأت مليون جندي، ونظمت محاصرة السوفييت، و من ثمة أرغمت الجيش الأحمر على مغادرة قواعده وبدء "المسيرة الطويلة" الشهيرة (1934-35). غادر جيش أحمر مكون من 100 ألف جندي جيانغشي، وبعد عام من السير والمعارك البطولية بلغ شنشي بشمال الصين، حيث أعاد ماو والباقون على قيد الحياة ( كانوا 10 آلاف) تنظيم سوفييت سيمارس سلطته على 2 مليون فلاح. وبعد زهاء عام من الغزو الياباني تغير الوضع مرة أخرى وعلى نحو جذري.

IV- الحرب ضد اليابان (1937-1945)

يمثل غزو الجيوش اليابانية في 1937 محاولة أخيرة من الامبريالية لتحويل الصين إلى مستعمرة. وكان عنف الغزو، و أعمال العنف ضد الأهالي، وتدمير الصناعة بالساحل، جعلت الشعب الصيني بكامله ينتصب ضد المحتل. وشهد الحزب الشيوعي الصيني، ببرهنته على انه القوة الأشد حزما ضد الامبريالية اليابانية، ازدهارا جديدا. لم يبد الكومينتانغ غير مقاومة محدودة بوجه القوات الغازية، ورغم تشكيله مع الحزب الشيوعي الصيني "جبهة موحدة ضد اليابان"، أمضى من الوقت في مطاردة الشيوعيين أكثر مما قضى في محاربة الاحتلال. وحدها حرب العصابات التي نظمها الحزب الشيوعي الصيني في شمال الصين كانت فعالة، دون أن تتمكن مع ذلك في طرد الجيوش اليابانية من المدن. لكن الحملة في تلك المناطق كانت تحت سيطرة الحزب الشيوعي الصيني.

وتشهد الأرقام على الازدهار المذهل للحزب الشيوعي الصيني: في 1945 عند نهاية الحرب، كان بالحزب الشيوعي الصيني 1.2 مليون عضو، و بالجيش الأحمر 900 ألف، وكان يشرف على إدارة أراض يقطنها 90 مليون ساكن. وسيعطي هذا التطور الخارق للحزب الشيوعي القوى التي ستتيح له، بالاستناد على الانتفاضة الفلاحية، الظفر الثوري بالصين.

هذا لأن غزو الصين لم يتح ازدهار الحركة الشيوعية وحسب، بل أبرز أيضا مكامن ضعف المجتمع الصيني، وسرع سيرورة التفكك التي بدأت في القرن التاسع عشر (سيما بفعل تدمير الصناعة بالمدن الساحلية، وفقد العديد من الفلاحين أراضيهم أثناء الحرب ضد اليابان). وبقصد توحيد أقصى ممكن من الفئات الاجتماعية تحت سلطته، خفف الحزب الشيوعي، كما رأينا، برنامجه الزراعي الجذري، مكتفيا بالحد من نسب الضريبة والريع وتوزيع أراضي الملاكين المتعاونين مع المحتل.لا بل كان مدافعا عن الملكية الرأسمالية. باختصار كبح تطلعات الفلاحين الفقراء المتعطشين إلى الأرض والدافعين نحو إصلاح زراعي جذري.

إن خط الحزب الشيوعي الصيني معبر عنه في نص ماو الشهير:"الديمقراطية الجديدة" (1940)، حيث تتجلى من جديد الطبيعة المعقدة للماوية. يرى ماو أن نظام "الديمقراطية الجديدة"، الذي يجب أن يكون نظام الصين لأمد طويل، ليس نظاما بروليتاريا ولا برجوازيا، بل اتحادا بين الطبقات الأربع " المعادية للامبريالية وللإقطاع"أي البروليتاريا، و الفلاحون، و البرجوازية الصغيرة، والبرجوازية الوطنية. وهذه النظرية عودة إلى الضلال الستاليني حول الثورة عبر مراحل التي يفضي طورها الأول إلى دولة لا جنس لها (لا هي بالبروليتارية ولا بالبورجوازية)، لا وجود لها لا في النظرية الماركسية، ولا في واقع مجتمعات القرنين 19 و20 ! لكن هذه النظرية تعبر عن فرقين مهمين قياسا بالأرثوذكسية الستالينية:1) البروليتاريا هي من يجب أن يتولى الهيمنة في هذا التحالف الطبقي ؛2) هذه الثورة مرتبطة بنظر ماو بالثورة الاشتراكية العالمية. علاوة على ذلك،في الواقع يظل الجيش الأحمر، أداة الثورة، تحت هيمنة تامة للحزب الشيوعي. وعلى هذا النحو يعبر الحزب الشيوعي الصيني عن عزمه على ألا يعرض نفسه للسحق مرة أخرى من طرف الكومينتانغ.

v . الثورة الصينية الثالثة (1945-49)

خارج الأراضي التي يسيطر عليها الحزب الشيوعي (في الشمال)، كان المجتمع الخارج من الحرب مفككا كليا. كان فلاحون عديدون مجبرين على بيع أرضهم- خلقت الحرب و الفترة التالية لها مباشرة فئة جديدة من الملاكين الطفيليين والمضاربين من جهة و كتلة كبيرة جدا من الفلاحين منزوعي الملكية من جهة ثانية. و كان تقاطب المجتمع هذا يعني تفاقما أقصى للتناقضات الاجتماعية، وكان مولدا للثورة الصينية الثالثة(9).

و علاوة على هذا، تعمم الفساد. وتعرضت الصين لتضخم هائل: كان دولار أمريكي واحد يعادل 36 ألف دولار صيني في 1247، و بات يعادل 13 مليون في أغسطس 1948. وازداد طابع الاضطهاد المميز للنظام الديكتاتوري، وتدهور الوضع الاقتصادي لكافة الطبقات، وتقلصت القاعدة الاجتماعية لنظام تشيانغ كاي شيك بسرعة. و بلغ الوضع عشية قيام الجمهورية الشعبية مستوى أن البرجوازية ذاتها منزوعة الملكية من طرف "الأسر الأربعة" المرتبطة بتشيانغ كاي شيك، التي انتهى بها الأمر إلى التحكم بكامل الاقتصاد الصيني ( أو بالأحرى ما بقي منه في الأراضي غير المحررة!).

تطورت في وضع التفكك المتسارع هذا انتفاضة فلاحية عملاقة (1946)، ستحسم معضلة الثورة ولن تترك للحزب الشيوعي غير إمكانية وحيدة، ألا وهي قيادة هذه الانتفاضة، وتحقيق الإصلاح الزراعي، وسحق نظام الكومينتانغ، واستلام السلطة في الصين برمتها. كانت الروابط بين الجماهير الشعبية والحزب الشيوعي الصيني عميقة جدا لدرجة استحالة اختيار القادة الشيوعيون مخرجا آخر. لذاحسم الحزب الشيوعي الصيني، بعد تردد وجيز، الأمر نهائيا في صيف 1946 ، وقرر الإصلاح الزراعي. وكانت تلك بداية الحرب الأهلية التي ستوصل في ثلاث سنوات الحزب الشيوعي إلى السلطة.

تمكن الجيش الأحمر،عبر جملة حملات عسكرية خيضت بمهارة، رغم تفاوت القوى في البدء (1مليون جندي في الجيش الأحمر مقابل 3 مليون جندي في قوات الكومينتانغ)، ورغم الدعم العسكري الكبير الذي منحته الامبريالية الأمريكية لتشيانغ كاي شيك، من سحق قوات الديكتاتور. و هرب تشيانغ كاي شيك في مطلع 1949 إلى فرموزة. وأعلنت جمهورية الصين الشعبية يوم 1 أكتوبر. وانتصرت الثورة الصينية الثالثة. وأقام الحزب الشيوعي الصيني الماوي، بعد 22 عامل من النضالات الضارية على رأس الفلاحين، ديكتاتورية البروليتاريا (التي لن يعترف بها صراحة سوى بعد بضع سنوات!). وبدأ انقلاب العلاقات الاجتماعية الذي سيحول المجتمع الصيني القديم رأسا على عقب. و أقام الحزب الشيوعي الصيني، فيما هو ينجز مهام البرجوازية، السلطة العمالية. و أفضت دينامية الثورة الدائمة، رغم ترددات الماوية وأوجه لبسها وحدودها، إلى إرساء ديكتاتورية البروليتاريا.

و بدأت صفحة جديدة من تاريخ الثورات الاجتماعية. ودخلت الصين الثورية الساحة الدولية ...

ارنست ماندل [ كتب باسم مستعار R. LERAUX) جريدة اليسار ( la gauche) العدد 7 بتاريخ 18 فبؤراير 1972



--------------------------------------------------------------------------------

1. انظر بوجه خاص مقال سوفري عضو المجموعة الايطالية "لوتا كونتينوا" في مجلة "الأزمنة الحديثة" (يناير 1972)، وانظر أيضا مواقف مجموعة "ثورة" في فرنسا.

2. يجب اعتبار الفروق الإقليمية: زراعة أغنى في الجنوب، و غلبة الملكية العقارية الصغيرة في الشمال؛ و في الجنوب يشكل المزارعون و المؤاكرون القسم الأعظم من الفلاحين (راجع ارنست جرمان"الثورة الصينية الثالثة" في مجلة " الأممية الرابعة" مايو- يوليو 1950 صفحات 22-24).

3. وضعه معقد. في القرية ثمة تركيبات بين أنماط إنتاج مختلفة: إقطاعي،و شبه إقطاعي، و أسيوي- ما لا يعني أن الفلاحين مرتبطون بالسوق الرأسمالية.

4. ليون تروتسكي،" الأممية الشيوعية بعد لينين"، الجزء الأول ، لا سيما صفحات 306 إلى 311 و 337 إلى 344.

5. راجع تروتسكي المرجع المذكور، و اسحاق دويتشر :" الماوية : تكونها وآفاقها، مجلة "الأزمة الحديثة" أكتوبر 1964.

6. دويتشر ، مرجع مذكور صفحات 677 إلى 682.

7. حول هذه المسألة المعقدة ، انظر دويتشر، مرجع مذكور، صفحات 673-674.

8. يتمثل كامل لبس الماوية حول هذه النقطة في الصيغة المستعملة حاليا:" الثورة اللامتقطعة و عبر مراحل" .

9. ارنست جرمان ، مرجع مذكور ، ص 15.



#إرنست_ماندل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحرب العالمية الأولى والثورة الروسية
- الرقابة العمالية والإستراتيجية الثورية
- من أجل الديمقراطية العمالية
- حول أحزاب الطليعة
- إرنست ماندل: لماذا نحن ثوريون اليوم؟
- لينين ومشكلة الوعي الطبقي البروليتاري
- التنظيم الذاتي والحزب الطليعي في تصور تروتسكي
- الإضراب العام
- لماذا نحن ثوريون اليوم؟
- حالية نظرية التنظيم اللينينية على ضوء التجربة التاريخية
- من النضالات الجارية التي تخوضها الجماهير إلى الثورة الاشتراك ...
- الحركة الطلابية الثورية
- بلترة العمل الذهني
- الديموقراطية البورجوازية والديموقراطية البروليتارية
- الاقتصاد الرأسمالي: خصائصه، قوانين تطوره، تناقضاته ،أزماته ا ...
- ماهي الستالينية؟
- قبل 40 عاما تمت إبادة مليون شيوعي في إندونيسيا....دروس الهزي ...
- الثورة العالمية
- حدود التطور الإشتراكي في البلدان المتخلفة
- الثورات الإشتراكية في البلدان المتخلفة


المزيد.....




- محتجون في كينيا يدعون لاتخاذ إجراءات بشأن تغير المناخ
- التنظيمات الليبراليةَّ على ضوء موقفها من تعديل مدونة الأسرة ...
- غايات الدولة في تعديل مدونة الاسرة بالمغرب
- الرفيق حنا غريب الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني في حوار ...
- يونس سراج ضيف برنامج “شباب في الواجهة” – حلقة 16 أبريل 2024 ...
- مسيرة وطنية للمتصرفين، صباح السبت 20 أبريل 2024 انطلاقا من ب ...
- فاتح ماي 2024 تحت شعار: “تحصين المكتسبات والحقوق والتصدي للم ...
- بلاغ الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع إثر اجتماع ...
- صدور أسبوعية المناضل-ة عدد 18 أبريل 2024
- الحوار الاجتماعي آلية برجوازية لتدبير المسألة العمالية


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - إرنست ماندل - الماوية والثورة الصينية