أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - فتحي الضو - خالد مِشعل: صَهْ يا كنارُ فإن لحَنُك مُوجعٌ!















المزيد.....


خالد مِشعل: صَهْ يا كنارُ فإن لحَنُك مُوجعٌ!


فتحي الضو

الحوار المتمدن-العدد: 2787 - 2009 / 10 / 2 - 13:31
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


ثمة طُرفة شاعت في حقبة زمنية معينة وتداولها إخوتنا في شمال الوادي، وكانت في سياق التعبير عن مرارات هزيمة حرب يونيو من العام 1967 أو حرب الأيام الستة أو ما سمى تلطفاً بـ (نكسة حُزيران) وقد جرت وقائع تلك الطُرفة على ألسنة مُحصلي تذاكر الباصات والحافلات، الذين دأبوا على مخاطبة الركاب عند وصولهم محطة معروفة بقولهم (المطار السِّري...حدِى نازل)! بيد أنني لم أكن أتوقع أن يهبط علينا - بعد أكثر من أربعة عقود زمنية - من يُطبق الطُرفة تطبيقاً عملياُ ويخلعها على نفسه وواقعه. بل لمزيد من طعم الإثارة لم يشاء أن يكون ذلك من وراء جُدر صماء، ولكن - كالعهد به دوماً - قدَّر أن يكون حديثه أمام العديد من وسائل الإعلام المختلفة، والتي حرِصت على توصيل الخبر إلى أركان الدنيا الأربعة بأسرع مما وعد به الهدهد سيدنا سليمان. وكأنها تُشِهد الدنيا كلها على خطل ما قاله السيد خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) والذي استبد به الحماس في الخرطوم، أثناء مخاطبته رهط من حاضري مؤتمر قطاع شباب العصبة ذوي البأس يوم 9/9/2009 حيث قال لا فضَّ فوه: (أنتم في السودان صنعتم معجزات بفضل الله، وإخوانكم في فلسطين رغم الحصار وإغلاق المعابر والتضييق والمؤامرة الكبيرة وأساطيل الشرق والغرب التي تمنعنا من السلاح، فنحن والحمد لله نشتري السلاح ونصنع السلاح ونهرب السلاح، وهذا أمر الله لنا) ويعلم الله لو لم تقل لنا وسائل الإعلام تلك أن مِشعل هو القائل، لما ترددت لحظة في التأكيد على أنه القائل. ذلك لأن السيد مشعل منذ تسنمه قيادة حماس، وهو كعصبته يستلهمون خطبهم من اسم الحركة المختصر. وهم أيضاً من شاكلة قوم ما زالوا يظنون أن الخطب (الحماسية) تلك يمكن أن تحرر وطناً، وثالثة الأثافي أن سيادته تحديداً لم يستطع حتى الآن، التفريق بين قيادة حركة سياسية أياً كانت هويتها العقائدية، وبين ترؤسه إتحاد الطلاب الفلسطينيين بجامعة الكويت. والمفارقة أنه كشأن كل الاسلامويين يوحى لسامعه أنه كليم الله حتى يُضفى لحديثه هالة من قدسية. ولكن أن يمنحه واقعية نراها مفقودة بأم أعيننا، فهذا والله مصدر دهشتنا وصُرَّة استغرابنا. فيا ليت السيد مشعل أكمل لنا تقريظه ودلنا على المعجزات التي صنعناها نحن في السودان، ولا نعرف ماهيتها ولا ندري كنهها؟
ليس سراً أن الضيف القائل والمضيف السامع، لهما من الملفات المثقلة بالخطايا والآثام ما تنوء بحمله دول العالم أجمع. ولهذا نعتقد أن مشعل لم يكن مصيباً في اختيار المكان. وبنفس القدر لم يكن موفقاً في اختيار الزمان، ذلك لأن حديثه جاء في اعقاب حدث تضاربت وقائعه وإضطربت أرقام ضحاياه، نعم...هو الحدث الذي صاحبه الكثير من الجدل والغموض ولم تكن حماس منه ببعيد. وتمثل في ثلاثة غارات جوية حدثت في شرق السودان بدايات هذا العام، ولم يكشف النقاب عن خفاياها إلا مؤخراً. وللتذكير نقول كانت صحيفة الشروق المصرية هي المبادرة بنشر ذلك الخبر في مارس الماضي ولكن بعد نحو شهرين من وقوعه. ثم بدأت تداعيات النفي والإثبات، إذ نقلت صحيفة أمريكية (نيويورك تايمز 27/3/2009) عن مسئولين لم توضح هويتهم أن (طائرات إسرائيلية أغارت على قافلة في شرق السودان لوقف تدفق السلاح إلى غزة) ونسبت الصحيفة نفسها إلى د. ربيع عبد العاطي التي ذكرت أنه الناطق الرسمي بإسم الحكومة قوله: (إن الضحايا في الغارة يفوق المائة، ونفي أن تكون الشاحنات محملة بالأسلحة، ووصف ما جرى بأنه إبادة جماعية إرتكبتها القوات الأمريكية) لكن شبكة سي بي أس الأمريكية أكدت (أنها طائرات تابعة لسلاح الجو الإسرائيلي، وأدت الغارة لمقتل 39 شخصاً وتدمير 17 شاحنة) وفي اليوم نفسه نقل مراسل شبكة (إسلام أون لاين) عن الناطق الرسمي بإسم القوات المسلحة العميد الدكتور محمد عثمان الأغبش قوله إن (الحكومة السودانية كانت على علم بالضربات التي تعرضت لها السيارات، وشرعت في اتخاذ الإجراءات الضرورية وقامت بالاتصال بالمصريين وبكل الأطراف ذات الصلة عبر وزارة الخارجية، ولكنه لم يؤكد أو ينفي إجراء اتصالات مع الإدارة الأمريكية) وحول تأخير الإعلان عن هذه الغارة لشهرين كاملين قال الأغبش: (إن الحكومة وأجهزتها المختصة هي التي تقرر الوقت المناسب لذلك)!
واستمرت التداعيات في اليوم التالي (28/3/2009) حيث أكدت صحيفة وول استريت جورنال الخبر منسوباً لمسؤول غربي قال (إن الطيران الإسرائيلي شن هجومين في الفترة من منتصف يناير وحتى بدايات فبراير في محاولة لقطع شبكات التهريب إلى غزة) ثم جاء التأكيد الزماني والمكاني على لسان مُجرِّب ممن يعرفون المنطقة وتضاريسها كمعرفتهم لنسب شجرة العائلة، إذ أكد مبروك مبارك سليم وزير الدولة للنقل، ورئيس الأسود الحرة (تنظيم جهوي قوامه قبيلة الرشايدة) الحادثة في حديث لقناة الجزيرة وآخر لصحيفة الشرق الأوسط، وأورد حولها تفاصيل بأرقام في عدد الضحايا تقشعر لها الأبدان. إذ قال (هما في الأصل حادثتان، الأولى في 27 يناير والثانية في 11 فبراير...الإثنان في منطقة جبل صلاح قرب الحدود السودانية المصرية، وقال إن عدد القتلى 800 من جنسيات بينهم أريتريون وصوماليون وسودانيون، وحدد عدد القتلى السودانيين بـ 200 شخص) ومع ذلك لم يترحم أحد مع مبروك على عدد الضحايا المهول، كما لم يقل له أحد جزاك الله خير على ما عجزت الرادارات عن رصده!
ولكن بعد إن إنكسر الإناء وإندلق اللبن، قطعت جهيزة قول كل خطيب، إذ خاطب الفريق أول عبد الرحيم محمد حسين وزير الدفاع، المجلس الوطني (البرلمان) في 26/5/2009 أي بعد نحو أربعة شهور من الحادثة، وشهرين من إثارتها في الوسائل الإعلامية الخارجية. وقال إستناداً إلى وكالة السودان الرسمية للأنباء: (إن الهجوم وقع على قافلة تضم ألف مدني ضالعين في عمليات تهريب بضائع على الحدود مع مصر) وأضافت الوكالة أن الوزير (كشف عن أن 119 شخصاً قتلوا بينهم 56 مهرباً و63 شخصاً من أثيوبيا والصومال وجنسيات أخرى كان يجري تهريبهم) وكأنه إستمرأ إصرار الفاعل على استباحة أرضه، زاد الوزير غارة ثالثة، قال إنها حدثت في 8 مايو2009 وكانت على بعد 30 كليومترا من الحدود السودانية المصرية، بالاضافة إلى الأولى التي أكدها في 11 يناير ومثيلتها الثانية في 20 فبراير. وبحسب تأكيده أيضاً قال (إن التحقيقات ستظل مستمرة ويجري تنفيذها بالتعاون مع وزارة الخارجية وأجهزة الأمن والسلطات في بلدان مجاورة) وتلك من شاكلة أشياء لن تأتي نتائجها أبداً، ولكن لو أنك كنت يا قارئي العزيز ممن يمكن أن يعيل صبرهم، ما عليك إلا أن ترهف السمع لحديث أدلى به الجنرال سكوت غرايشين المبعوث الخاص للرئيس الأمريكي اوائل شهر أغسطس المنصرم، وجاء ذلك في سياق ردوده على اسئلة النواب في اللجنة الفرعية للكونجرس الأمريكي أثناء الادلاء بشهادته، فقد سئل حينها عن مدى قناعاته في التغيير الذي طرأ على الحكومة السودانية؟ فأجاب بثقة الواثق فيما معناه (إنها تحولت من داعم للإرهاب إلى محاربة له، بدليل تعاونهم في القضاء على إرهابيين كانوا يحملون شحنات أسلحة قادمة من إيران في طريقها إلى منظمة حماس في قطاع غزة)!
تعلمون يا سادتي أن السيد خالد مشعل يترأس عصبة منذ ظهورها في الساحة الفلسطينية قبل نحو عقدين من الزمن، لم تستطع تقديم برنامجاً وطنياً سياسياً يستوعب طموحات الفلسطينين بتعددهم الديني والثقافي والسياسي، ولم تقدم لهذا الشعب المنكوب سوى العنتريات التي لم تقتل ذبابة، وفي الوقت نفسه تعمل كل ما في وسعها لإثارة حفيظة العدو الإسرائيلي المدجج بالسلاح والإمكانات الضخمة، ويحدث ذلك سواء بمثل تلك التصريحات الهوجاء أو بإطلاق صواريخ رعناء كتلك التي شُبهت بـ (لعب الأطفال) في الحصار الأخير على غزة. ورأيناهم كلما حمى الوطيس، تركوا ذلك الشعب المغلوب على أمره بظهر مكشوف لنيران الآلة العسكرية الإسرائيلية، وتيمم بعضهم شطر الرصافة والجسر لاستنشاق هواء دمشق العليل، ولاذ البعض الآخر بطهران بحثاً عن إمام غائب. وعندما يقضيان وطراً منهما، يبدآن في إدارة المعركة عبر الفضائيات ووسائل الإعلام المتناثرة، أليس ذلك ما حدث بالضبط العام الماضي في حرب الإبادة التي راح ضحيتها مئات الآلاف من بسطاء الفلسطينين، في حين خلت قوائم الضحايا من قيادي حماس عدا حالة واحدة، وكان شقيق لأحدهم، حيث قتل وزوجتيه وبقية أفراد الأسرة!
لأسباب موضوعية لا تخفي على أي مراقب، كلنا يعلم أن مشعل وعصبته ظلوا منذ ظهورهم في الساحة الفلسطينية وحركتهم محصورة في مثلث برمودا السياسي (دمشق/طهران/الخرطوم) وهي العواصم التي وصمت برعايتها الإرهاب، ولحماس نصيب في ذلك أيضاً، وقد وضعتهم الإدارات الأمريكية المتعاقبة في القائمة السوداء، بتجديد سنوي دؤوب لا يعرف الكلل ولا الملل. ولكن ما علينا فذلك لا يعنينا الآن في كبير شيء، سواء صدقت أو إفترت الإدارات الأمريكية المتعاقبة على الثلاثي المذكور كذباً. لكن الذي نعلمه علم اليقين ونحن له لسنا بمستغربين، أن بعض هذه الدول، بالرغم من وصفها لأمريكيا بالشيطان الأكبر والأصغر وربيبة الدولة الصهيونية، وبالرغم من تبشيرها بعذاب واقع، إلا أن تلك الدول ظلت وما إنفكت تقدم لها التنازلات سراً وتدعي البطولات جهراً، كما أنها استرخصت الغالي والنفيس في سبيل الإنفكاك من ربقة ذلك القيد اللعين. ويبدو لي - والله أعلم – أنه نظراً لسجل هذه الدول السييء في الأروقة والمحافل الدولية، لكأنما تلك الأسماء والألقاب والبشارات التي يضفونها على الولايات المتحدة الأمريكية تستحسنها هذه الأخيرة، وتعتبرها بمثابة مكافأة لها على جليل أعمالها، ولربما زادتها درجة في بورصة التباهي العالمي. ولكن هل يا ترى سيضيرها شيئاً سواء حدث ذلك أم لم يحدث؟ الحقيقة ليس ذلك ما يسترعى إنتباهي، ولكن ما يعقد الأمور في عقلي ويزيدها طلسماً على طلاسم...هي أننا نعلم لماذا يكثر السيد خالد مشعل من زياراته للخرطوم (إلى حد الآن بلغت ثلاثة مرات في خلال التسعة أشهر الماضية) إذ أن له بغير الأيدولوجيا مآرب آخر، ولكن ما لا نستطيع فهمه هو إيهامه لنا بأنه يرتجي دعماً سياسياً ممن يفتقد إليه، ويبدو أن فاقد الشيء نفسه قد صدق الفرية، ولهذا لم نستعجب قولاً تحبَّر بالضبابية والبوهيمية، وذلك ما أنطوى عليه بالفعل حديث للدكتور قطبي المهدي أمين المنظمات في المؤتمر الوطني عقب زيارة مشعل إذ قال (إن الخرطوم تلقت طلباً بالوساطة لإنهاء الخلاف الفلسطيني الفلسطيني، وقال تعلمون أن زيارة رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الاسلامية/حماس، جاءت في أعقاب زيارة مماثلة قام بها الرئيس محمود عباس للخرطوم) ومنَّا نهدى القول السديد هذا إلى الأشقاء في قطر ومصر وليبيا واريتريا واثيوبيا والسعودية وكينيا وجنوب أفريقيا وواشنطن ولندن وباريس واتاوا وموسكو وبكين واوسلو وبروكسل ولاهاي وهلمجرا!
لقد كان ظهور حماس في الساحة الفلسطينية في الأصل ظهوراً إنتهازياً، كان ذلك في آواخر ثمانينات القرن الماضي (1988) في اعقاب ما درج على تسميته بـ (إنتفاضة الحجارة) التي بدأت العام 1987 وقد رأت جماعة حماس في ذلك فرصة للإلتفاف حولها، فلم تلبث أن إختطفتها وتبنتها وإدَّعت أنها إبنها الشرعي، وتلك لصوصية سياسية نعرفها في أفعال وأقوال حركات الاسلام السياسي أو الاسلامويين. أذكر ذات مساء في تلك الفترة كنت أدير في مؤشر المذياع بطريقة عشوائية باحثاً عن أخبار تسر الخاطر في هذا العالم العريض. وفجاة توقفت عند صوت يهدر بكلمات فخيمة من جنس ما تعودناه من مشعل واصحابه. كان المذيع يردد منتشياً (هنا صوت المقاومة الإسلامية...هنا صوت الثورة الاسلامية) فقلت لنفسي كأنني أحادث شخصاً آخراً...ومنذ متى يا ترى أوصلت الهوية العقائدية ثورة إلى هدفها؟ الذي نعلمه أن الشعوب في كل الدنيا، ثارت عبر التاريخ وإنتفضت ضد الظلم والطغيان والاستبداد والفساد والمحسوبية، وهذه منغصات الانسانية وهي ممارسات لا دين لها، ولهذا لم يقل لنا شعب أنه تحرك للقيام بثورة إسلامية أو مسيحية أو هندوسية أو بوذية، فالانتهازيون وحدهم هم من يلبسون الثورات جلاليبهم ليُعروها من أهم عناصرها الانسانية. وقلت لنفسي أيضاً يوم أن سمعت ذلك الناعق...إذا كانت تلك ثورة إسلامية، ألا يحق لرجال نذروا أنفسهم لهذه القضية وحملوها على مناكبهم كجورج حبش الملقب بحكيم الثورة، ونايف حواتمة الذي له أكثر من خمسة وعشرين مؤلفاً عنها..أن يكسباها الهوية المسيحية؟ وهل أي من الهويتين الاسلامية أو المسيحية أكثر شمولاً يا ترى من الهوية الثقافية والفكرية التي منحها ادوارد سعيد ووديع حداد وجبرا ابراهيم جبرا ورشاد ابو شاور وغسان كنفاني وسلمى خضراء الجيوسي وفدوى طوقان وحنان عشراوي للقضية الفلسطينية، ولو أن الفصل العقائدي يجدي...لماذا اختلط دم المسيحي كمال ناصر بدم رفيقيه كمال عدوان وأبو يوسف النجار في شارع الفردان في بيروت برصاص الموساد الإسرائيلي العام 1973!؟
في الواقع كنت قد توجست أصلاً آنذاك، لأن بين ظهرانينا كانت هناك عصبة أخري تشاركهم ذات الأيدولوجيا التي إمتطوها لإلهاب ظهر الخلق. كان ذلك في النصف الثاني من عهد الرئيس المخلوع جعفر نميري، الذين أحاطوا به يومذاك واوهموه أنه الأمام المنتظر (مجدد المائة على رأس كل قرن) وانهم القادرون على تثبيت أركان نظامه عن طريق تلك القوانين سيئة الصيت، ثم بعد سقوطه خرجوا للملأ وكأنهم أبطال الأساطير الاغريقية يملأون الدنيا زعيقاً وضجيجاً، وبالرغم من أن اياديهم ملطخة بدماء أبرياء أقاموا عليهم الحدود، وشيخ سبعيني قتلوه غيلة وغدرا، لكنهم كما الحرباء التي تغير جلدها، غيروا جلودهم وإنخرطوا في النظام البرلماني في الظاهر، وبدأوا يحيكون ضده المؤامرات في الباطن، إلى ان اطاحوا به في تلك الليلة المشؤومة. إذاً فقد كان على إخواننا الفلسطينين أن يعيدوا السير في نفس طريق الآلام الذي سار فيه السيد المسيح عليه السلام!
كنت في تلك الفترة تحديداً، قد جلست إلى السيد صلاح خلف وأسمه الحركي (أبو اياد) وهو ثاني ثلاثة ممن أسسوا منظمة التحرير الفلسطينية (فتح) وثاني أثنين كانا في قيادتها يومذاك، حاورته لنحو ثلاث ساعات (نشر الحوار في صحيفة الوطن الكويتية 16/12/1988) ونسبة لمتعة الحوار لم أجد بداً من أن اجاريه بالإكثار من القهوة التي يحبها ويشربها بإفراط بالغ، وكذا السجائر الذي يدخنه بتفريط أشد، لدرجة كان يمكن أن يعتقد فيها الرآئي أن الجالسين يتسابقان على الانتحار! وما كنت أدري أنه سيكون حواري الأخير معه، إذ راح مغدوراً بنحو عام من ذلك، حينما طالته الذراع المجرمة في تونس (يناير 1991) وجاء مقتله بعد سنوات قلائل من إغتيال خليل الوزير المكنى بأبي جهاد (ابريل 1988) والذي ينسب له الريادة في تفجير إنتفاضة الحجارة، تلك التي قلنا عنها أن عصبة مشعل إختلستها وجيرتها لصالح أغراضها الخاصة. كان أبو اياد قد قال لي عنهم عبارة ما زالت تتراءى أمام عيني، وصداها لم يزل يرن في أذني، وذلك برغم مرور أكثر من عقدين من الزمن عليها، إذ أسماهم في ذاك الحوار بـ (السرطان الأسود) وقال إن ظهورهم سيهدد بل سيضرب الوحدة الوطنية الفلسطينية، وقال إنها أي الوحدة الوطنية هي الوحيدة التي يعود لها الفضل في صمود الشعب الفلسطيني كل تلك السنوات، وهي التي أبقت على جذوة نضاله متقدة على الدوام. شعرت وكأنما الرجل يحدثني عن جمرة إكتوينا بها سلفاً، وما أظن أن تلك الصورة كانت بعيدة عن مخيلته، والآن بعد أن حولت حماس البندقية من صدر العدو إلى صدور أبناء الشعب الفلسطيني، هل يمكن أن يقال أن أبي أياد كان زرقاء اليمامة التي إستشعرت الخطر مبكراً، أليس غيابه وصحبه من الساحة كان ايذاناً بظهور طحالب سياسية، خلا لها الجو لتبيض وتفرخ!
كانت القضية الفلسطينة في تلك الفترة تتميز بقوة طرحها ووضوح رؤيتها، قضية شعب يناضل من أجل حقوقه المشروعة، لا قضية عصبة تجاهد من أجل كراسي السلطة. ولعل عدالتها وتجرد المنضوين تحت لوائها عندئذ هو ما جعل الأصدقاء والأشقاء يلتفون حولها بصدق وإخلاص. وكانت منظمة التحرير الفلسطينية برغم الديكتاتورية الأبوية التي يمارسها ياسر عرفات (أبو عمار) وبعض كاردينالات المنظمة أحياناً، إلا أنها وصفت بأنها الواحة الديمقراطية الوحيدة في محيط من الديكتاتوريات أي محيط الأنظمة العربية، وبرغم الدعم المادي والمعنوي الذي كانت تقدمه تلك الأنظمة الموبوءة لها، إلا أنها لم تتأثر مطلقاً بذاك الداء اللعين، والدليل على ذلك اجتماعاتها ومؤتمراتها التي شهدت الكثير مما يمكن أن يقال في هذا الصدد. وكانت البندقية متجهة بالفعل نحو صدور الأعداء ولا يشينها استثناءات حدثت هنا وهناك. وذلك جيل استخدم كل قدراته للوصول إلى هدفه ولم يدع يوماً أن الله سبحانه وتعالى أمره بشراء أو صناعة أو تهريب السلاح، الأمر الذي جعل أفئدة من غير الفلسطينين تهوى إلى تلك القضية، جاؤوها مناصرين وباذلين أرواحهم رخيصة في سبيلها دونما هوية عقائدية تلحق بهما!
يومذاك جاءها من العاصمة الفنزويلية كاركاس ألينيتش راميروس سانشيز الملقب بـ (كارلوس) بعد أن ركل حياة مرفهة ونعيماً تمرغ فيه بين أسرته، وأصبح نصيراً للقضية الفلسطينية حتى لحظة القبض عليه وتسليمه في أحط وأخس صفقة في التاريخ، بالرغم من أن الذين سلموه للسلطات الفرنسية، كانوا يعلمون أن كثير من الاجهزة الاستخباريه في عدة دول من العالم سبق وان تعرفت عليه لكنها غضت الطرف عن اعتقاله، ومع ذلك فإن العصبة إدعت بطولة زائفة، مع أنها إبتغت من ورائها صفقة بائسة. ويومذاك ناصر القضية الفلسطينية المطران كابوتشي الذي أعتقل بتهمة تهريب سلاح للمقاومة الفلسطينية في صندوق سيارته. ويومذاك تحمست لها الممثلة الأمريكية الشهيرة جين فوندا واصبحت تبشر بها كأنها رسالة سماوية جديدة. ويومذاك نذر لها المناضل الياباني كوتوموتو نفسه. ويومذاك إلتصق بها من الصحفيين الفرنسي أريك رولو إلى أن زهد فيها بتركه الصحافة، واتجه نحو السلك الدبلوماسي، فعينته بلاده سفيراً لها في تونس. وكان هناك الصحفي البريطاني روبرت فيسك أشهر مراسل غربي في المنطقة العربية خلال الثلاثين عاما الماضية، وكان من المناهضين للسياسة الأمريكية البريطانية أو ما أسماه بالسياسة الانجلو ساكسونية، وكذا مواطنه الصحفي البريطاني باتريك سيل الذي ألف كتاباً بعنوان (بندقية للإيجار) وكشف فيه علاقة صبري البنا المعروف بأبي نضال بجهاز الموساد ومخابرات دول أخرى لا تحصى ولا تعد، ويبدو أن ذلك كان السبب في إنتحاره أو قتله في بغداد العام 2002 وقال سيل (إنه تورط كذلك في اغتيال أبو اياد في تونس بإيعاز من الموساد أو صدام حسين)!
بل حتى في إطار المثقفين العرب، فقد ولى ذلك الزمن الذي كانوا يعتبرون فيه فلسطين قضيتهم المركزية، يوم أن إلتفوا حولها إلتفاف السوار حول المعصم. منهم من مضى إلى رحاب ربه ومنهم من ينتظر...عبد الوهاب البياتي ونزار قباني ومظفر النواب وأحمد عبد المعطي حجازي ومحمد الماغوط وصلاح عبد الصبور وعلى أحمد سعيد (أودوينس) وأحمد مطر. بل أنت تعلم أن شعوباً بأكملها يا سيد مشعل كانت تتجه بكل ما أوتيت من قوة معنوية لمناصرة القضية الفلسطينة، ويكفينا فخرا نحن في السودان أن غنى مغنينا لـ (برتقال يافا) في زمن مبكر، علماً أن بعضنا لن يراه إلا في الجنة إن قيض الله لهم دخولها، وأن لنا إخوة حاربوا بشرف وكبرياء في الحروب الثلاثة، بل أن بعضهم طاب له المقام فلم يعد لمسقط رأسه وآثر العيش في الأرض المحتلة، ومن صلبهم خرج أبناء وبنات كالمناضلة فاطمة برناوي، صحيح أن بني قومي فقراء يا سيدي ولكن تحسبهم أغنياء من التعفف، ولهذا فهم لا يتذمرون ولا يتضجرون برغم علمهم أن ما تجود به عصبتهم على عصبتك مقتطع من جلودهم، ولم يقولوا يوماً - لا سراً ولا علانية - إنهم ينفذون أوامر ربانية، هم يعلمون أنهم يفعلون ذلك لأنهم جبلوا على الكرم، ولم تكن الانسانية سوى غلالة بيضاء شُدت بأمراس كتان بين قلوبهم ومن يحبون!
أسأل نفسك يا سيدى لماذا إنفضَّ المناصرون للقضية الفلسطينية بعد مقدمكم الميمون؟ لماذا أداروا ظهرهم لقضية سبق وآمنوا بها حتى النخاع؟ أسأل نفسك يا مولانا لماذا لم تعد أشجار الزيتون تطرح ثمراً شهياً وزيتاً يضيء عتمة الطريق؟ لماذا لم يعد للصفصاف ظلاً يستظل به الناس في هجير حياتهم؟ لماذا اضمحل كل شيء، لم يعد النضال هو النضال ولا الشعر هو الشعر ولا الفكر هو الفكر ولا الثقافة هي الثقافة؟ لماذا بح صوت محمود درويش حتى مات بالسكتة الشعرية؟ ولماذا لم يعد سميح القاسم يتلو علينا شعراً يذكرنا فيه بخبز أمه؟ لماذا توقف مريد البرغوثي كشيطان الشعر في العقبة؟ ولماذا حين بحثنا عن أميل حبيبي واحمد دحبور ومعين بسيسو وتوفيق زياد وراسم المدهون وجدناهم فروا من قسورة؟ نحن نعلم أن مارسيل خليفة حطم غيثارته وهجر الغناء وتوقف عن بث الشجن الدفين. لكننا لم نكن نعلم يا سيدي إنك يومئذ كنت كناراً يصقِل حنجرته، ليبشرنا بحلم تبعثر في الأرض الخراب!
اللهم...أعنَّا على مشعل وعصبته، أما عصبتنا فنحن كفيلون بها!!







#فتحي_الضو (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295


المزيد.....




- “خليهم يتعلموا ويغنوا ” نزل تردد قناة طيور الجنة للأطفال وأم ...
- فيديو خاص عيد الفصح العبري واقتحامات اليهود للمسجد الأقصى
- “ثبتها الآن” تردد قناة طيور الجنة 2024 Toyor Aljanah لمشاهدة ...
- بعد اقتحامات الأقصى بسببه.. ماذا نعرف عن عيد الفصح اليهودي ا ...
- ما جدية واشنطن في معاقبة كتيبة -نيتسح يهودا- الإسرائيلية؟
- بالفيديو.. مستوطنون يقتحمون الأقصى بثاني أيام الفصح اليهودي ...
- مصر.. شائعة تتسبب في معركة دامية وحرق منازل للأقباط والأمن ي ...
- مسئول فلسطيني: القوات الإسرائيلية تغلق الحرم الإبراهيمي بحجة ...
- بينهم طلاب يهود.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين تهز جامعات أمري ...
- أسعدي ودلعي طفلك بأغاني البيبي..تردد قناة طيور الجنة بيبي عل ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - فتحي الضو - خالد مِشعل: صَهْ يا كنارُ فإن لحَنُك مُوجعٌ!