أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - زكرياء الفاضل - فران الحومة أو نادي المهمشين















المزيد.....



فران الحومة أو نادي المهمشين


زكرياء الفاضل

الحوار المتمدن-العدد: 2779 - 2009 / 9 / 24 - 16:47
المحور: الادب والفن
    


1
فتح عينه، بصعوبة، على نور الصباح الفاتر بعد ليلة قضاها كعادته في شرب الخمرة و سجائر محشوة بالممنوع، وسيلة تعود عليها في مكافحة الإرهاق الذي يصيبه بعد يوم عمل شاق مُجهد. همّ بالنهوض و مغادرة ما يسميه فراشا، لكن جسمه الهزيل استكبر و أبى مطاوعته. كرّ المحاولة للمرة العاشرة دون أن يظفر بموافقة من أعضائه. كان يعد نفسه كل صباح بعدم العودة إلى عادته السيئة هذه و لكن الرغبة في الممنوع كانت تشتد كل مرة مع غروب الشمس فيجد قدميه تسير به نحو فران الحومة حيث يلتقي برفاقه المدمنين على شرب الخمرة و تدخين الممنوع. هذا الفران الذي كان لا يؤمّه إلا مرة كل يومين أو ثلاثة يسلم خلالها العجين ليستلمه، بعد فترة، خبزا طازجا، تحول فجأة في حياته إلى نادي ليلي من درجة المهمشين المنبوذين تجتمع به كل ليلة شلة من المستضعفين في الأرض يتسامرون حول زجاجة نبيذ أحمر طراز"بو لبّادر" و ملفوف الحشيش المعروف في الأوساط الشعبية ب"جوّانات". كان لكل مهمته في الشلة، فحمّودة الطرّاح، و كان رجلا مربوع القد نحيف الجسم أسمر اللون أشرف على الأربعين، جُعل من اختصاصه انتقاء الحشيش ذو الجودة الرفيعة أو كما يسمونه أهل "الزطلة": "النكعة" أو "السم" و ذلك لخبرته الطويلة و كفاءته العالية في علم النباتات و الأعشاب المؤثرة في خيال الإنسان. فقد كان إذا شرع في انتقاء الحشيش، من باعته أو "البزناسة"- على حد لسان اللغة العامية- المنتشرين، علانية، في كل مكان كباعة الطماطم و البصل، ترى نظر عينيه الصغيرتين قد احتد و ارتعشت أرنبة أنفه الغليظ و اتسعت فتحتاه، حتى لتعتقد أنهما نفقا قطار. ثم بعد ذلك يأخذ في استنطاق "البزناس"، كضابط تحقيق، عن عملية تحضيره و مكوناته و منطقة مصدره، إذ كان لا يعترف إلا بمنتوج منطقة "كتامة" الشهيرة في أوساط المدمنين. إنه كان حقا أستاذا في علم زراعة و تحضير الحشيش. أما احمد "لسورطي" فكان قصير القامة بدينا من دون إفراط و شاحب اللون في الثلاثين من عمره. و قد أُطلق عليه لقبه لمعرفته الواسعة بخريطة تموقع "الكرّابة"، أي بائعي الخمرة بطريقة غير مشروعة، في جل أحياء المدينة، لذلك اختص في إحضار الخمرة خاصة في أيام الشدة كالأعياد مثلا. لم تكن لاحمد لسورطي مهنة محددة فهو اليوم حمّال و غدا سباك و بعد غد خياط و هكذا.. لذا كانوا كلما تحدثوا عنه تذكروا المقولة الشعبية "سبع صنايع و رزق ضايع". و تميز بوشعيب "الراديو"، الرجل الطويل لحد الإفراط في حدود الخامسة و الثلاثين، ليس بالثرثرة كما قد يوحي لقبه للبعض و إنما حمل اللقب لما كان يبلغ به صحبه من أخبار جديدة كل يوم لا أحد يعلم مصدرها و لا كيف يحصل عليها. فقد كان حقا "وكالة أنباء المغربي العربي" بكاملها لوحده. أما هو فكان إسمه لعربي "الصحراوي" دخل عقده الخامس، و لقبه هذا جاء نتيجة لشهرته بالعناد و ليس لانحداره من جدور صحراوية إذ لم يكن كذلك. فقد كان يحب العناد إلى حد كبير و إذا قال رأيه لا يتنازل عنه حتى و إن تبين عدم صوابه. ربما كان هذا نتيجة لشعوره بالنقص بسبب أميته و اعتقادا منه بأن العناد يجعله ذو نفود بين صحبه. و بالرغم من طبعه العنيد هذا فإن أصدقاءه أحبوه و أخلصوا في صداقته لما تميز به من شهامة و طيبوبة قد تصل مستوى السذاجة و كرم يصل، أحيانا كثيرة، مستوى الإسراف. و قد بادلهم حبا بحب و ازداد إخلاصه لهم لما أبدوه من وفاء له خلال و بعد النكبة التي أفجعته في عقر داره بوفاة ابنه الرضيع على إثر مرض كان علاجه غير عسير لو توفر له المبلغ المطلوب لإجراء العملية، ثم فقدانه لزوجه التي عز عليها فراق وحيدها فالتحقت به بعد نصف سنة. و الحقيقة أنه قبل فقدانه لأعز الناس على قلبه ما شرب الخمر قط و لا عرفت هي طريقا إلى فيه أبدا و لا كان يتعاطى الحشيش بالرغم من معاشرته لصحبه المدمنين عليهما. فقد كان زوجا مخلصا و أبا حنونا و مسلما مطيعا لتعاليم دينه دون تعصب. كما كان يحب المواضبة على الصلاة في أوقاتها داخل البيت أو العمل. أما المساجد فكان يتجنبها دفعا للشبهات عن نفسه، نظرا للظرفية السياسية التي كانت تجعل من كل متردد على المساجد موضع شك و اتهام لدى أجهزة الأمن و الاستخبارات. و هكذا قطع على نفسه وعدا،ربما للمرة الألف، بألا يعود إلى عادته السيئة في الصباح لكن مع حلول المساء اشتدت رغبته الملحة في الخمرة و الحشيش بشكل أنساه، كذلك للمرة الألف، ما قطعه من عهد على نفسه في الصباح.

2
سار حتى وصل باب الفران، المغلق عادة في مثل هذه الساعة من الليل، فقبض يده و طرقه بها ليسمع حمودة الطراح يقول: "الصحراوي وْصْل". و بعد برهة سمع الباب يفتح من الداخل، فطلع عليه وجه حمودة الأسمر بابتسامة أبانت عن فم افتقد نصف أسنانه من جراء السكر و تعاطي الحشيش.
- و السلام عليكم يا هاد الراجل، مالك على هاد التعطيلة؟ اجماعة راهم كلهم هنا، نتسناو غير فيك..
- واش غدير الطوبيس لي جي عامر غايطردق، اضطريت نجي على رجليّ..
- زيد زيد بوشعيب الراديو راه جايب اخبار جديدة عوتني..
- الله يسمعنا خبار لخير.. مسا لخير أجماعة..
- مسا لخير ألصحراوي..
جلس لعربي الصحراوي بين رفاقه، و مدّ له حمودة الطراح كأس الخمرة متبعة بملفوف الحشيش قائلا:
- هاك رد المزاج باش تسمع "النشرة الأخيرة" ديال الراديو..
تناول الكأس و أفرغ محتواه في فيه جرعة واحدة، و كأنه ظامئ تائه في صحراء عثر على بركة ماء في واحتها، ثم شد على الملفوف بشفتيه بشوق العاشق لحبيبه ليملأ فضاء الفران بسحابة دخان تفوح كتامة قبلة الحشاشين. ثم توجه لاحمد الراديو مداعبا و سائلا:
- آش من خبار جايب هاد الليلة يا الراديو المنحوس؟
حدّجه بوشعيب الراديو بنظرة العارف للجاهل و أجابه مبتسما:
- يا الأمي كون كنت تقرا الجرائد كون اعرفت بأنه بدات حملة اخرى ضد اصحاب لحايا.
فأجابه لعربي الصحراوي بحزن و عتاب واضحين في نبرات صوته:
- عندك الحق أنا أمي ما قريتش، الله يخد الحق فاللي مخلينا كلبهايم نجريوْ غير علخبز أما القرايا ما خلاو لينا وقت و لا دماغ باش نفكرو فيها.
لام احمد لسورطي بوشعيب الراديو على كلامه بقوله:
- النبي صلى الله عليه و سلم كان أمي. زعما انت قاري نوض الله يعفو علينا و عليك، كتهجا الجريدة بحال لتتقرا الضمياطي.
ثارت ثائرة بوشعيب الراديو و رد على احمد لسورطي بعند:
- إيّه أنا قاري ما شي بحالكم الأميين.
فردعه حمودة الطراح بقوله:
- و راك قاري حسيفة، نوض تنعس و خليك من الهرّان حدك الشهادة و خرجت منها. تلت سنين و انت تعاود فيها و ماجبتها حتى مرة. الله يعفو علينا و عليك. قالك قاري و راك خاري ماشي قاري.
أحب احمد لسورطي من تلطيف الجو، الذي ابتدأ يتكهرب، فنطق مبتسما:
- شتيوْ هاد مّالين لحايا جبدو لينا غير الصداع الله يخليهم بلخلا، زيدو نضربو واحد الكاس آخور نشطو به الراس مع هاد جوان السم و خلّونا من الخوانجية و ما يجي من حسهم.
قضوا ليلتهم، كالمعتاد، في العربدة إلى ما قبيل الفجر بقليل، ثم قام كل منهم إلى بيته، و الأصح إلى كوخه أو جحره، و رجلاه لا تقوى على حمله.
كان الوقت فجرا و الشارع يكاد يكون مقفرا لو لا بعض المواظبين على صلاة الفجر يخطون خطوات شبه سريعة و تكاد الثؤباء تمزق أفواههم احتجاجا على الصحوة القصرية. سار لعربي الصحراوي في الشارع متمايلا مرة يمينا و أخرى يسارا و هو يطرب:
بين البارح و اليوم..
ليلة يا محلاها..
بها الفرح يدوم..
عمري ما ننساها ..
لكن صوتا جهوريا مؤنبا إياه قطع عليه إطرابه و أرجعه إلى صحوته أو لنقل حاول التظاهر بذلك:
- لعربي عوتني سكران، واش ما بغيتش تتقى الله و ترجع لطريق؟
وقع صوت جاره هشام لخوانجي ، المتوجه إلى المسجد، عليه كوقع الدبوس من الرأس، لما يعلمه مسبقا من لوم و عتاب له من طرفه على شربه للخمرة و تعاطيه الحشيش. و لكم من مرة عزم على مواجهته بغلظة للتخلص منه إلا أن شيئا غامضا مبهما كان يمنعه من ذلك و يحثه بقوة على كن الاحترام له و الشعور بالخجل أمامه بسبب عادته السيئة. لذلك عندما حاول لعربي الرد عليه لم يطاوعه لسانه و كأنه أخرص لا يقوى على النطق، فتابع هشام تأنيبه له قائلا:
- و الله العظيم لو لا الجورة لي بينتنا، و الرسول صلى الله عليه و سلم وصانا علجار، ما كنت نصدع راسي معاك. واش ما كتعرفش بلّي الشراب حرام و ما فيه غير المضرة لصحة و الجيب؟ حتى لاين غتبقى على هاد الحالة؟ لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم، اللهم نسألك التوبة و حسن العاقبة. ادخل.. ادخل تنعس.. دبا ما كاين هضرة معاك..
فتح باب كوخه بصعوبة و خطا خطوة برجْل لم تطاوعه إلا بمجهود جبار، ثم أقفل بابه و سقط على أرض كوخه المفروشة بحصيرة و فرو خروف دُبح، ربما، في عهد سيدنا إبراهيم على السلام.

3
صحا على عويل نساء مزق صمت الصباح الهادئ و ضجة رجال دل وقع أقدامهم على حركة منتظمة مما جعله يفكر بأن الحملة الجديدة وصلت بيت جاره هشام. أطل من ثقب في بابه فرأى من يسميهم "اصحاب الحال" في لباس مدني يرمون بجاره إلى داخل سيارة ثم يركبون أخرى و ينطلقون به إلى مكان غير معروف، بينما وقفت أم هشام و أخته و زوجته يصرخن و ينعلن في يأس و إحباط. رجع إلى فرشه بقلب يكاد يفارق صدره من شدة الفزع و هو يغمغم:
- الطاسة و لقرطاسة و لا السياسة و لحبسات..الطاسة و لقرطاسة و لا السياسة و لحبسات، فهاد البلاد اللي ما سكرش و ما تحشاش يحماق. أشدانا لشي سياسة.. الطاسة و لقرطاسة و لا السياسة و لحباسات..
حاول النوم مرة أخرى لكن جفونه لم تطاوعه فأخذ يتخيل جاره و "اصحاب الحال" يعذبونه تارة ب"القرعة" و أخرى ب"الجفاف" و ثالثة بالطائرة و رابعة بخلع أظافره و خامسة ب.. فاقشعر جلده و اهتز قلبه و ارتعشت أعضاؤه فقام كالمحموم يبحث عن قطعة حشيش يدخنها فتغيبه عن عالم السياسة و "اصحاب الحال" و الخوانجية.
لم تفارقه طيلة اليوم، أثناء عمله، صورة جاره المقدوف به داخل سيارة و نظرة الاستعلاء و التحدي التي كان يحدج بها العالم من حوله حتى استغرب من أمره. رجل ألقي القبض عليه بتهمة خطيرة "الإخلال بالنظام العام و إقامة تجمعات غير مرخص لها و الانتماء إلى تنظيم محظور" و هذا يعني أن مصير مستقبله غير معروف، و مع ذلك لم يجبن و لم يظهر عليه الارتباك بل ظهر كجلمود صخر يتحدى خصومه و آليتهم. و لوهلة خطرت بباله فكرة انصب من جرائها جبينه عرقا باردا و سرت مع عموده الفقري رعشة و تغير لون وجهه "ترى لو كنت مكانه هل كنت سأقدر على وقفته هذه؟"، حاول التخلص من هذا التفكير الخطير بسرعة و أخذ يلعن الشيطان الرجيم منبع كل كابوس لعين ثم أخذ يتلو في نفسه الآية "أعود برب الناس ..". باءت كل محاولته بالفشل إذ أن الفكرة لم تفارق مخيلته طيلة اليوم و فضلت ملازمة بها كصورة الجارة فاطمة ذات الثديين الناهدين المغريين و الجسم الفائح شهوة باكتناز لحمه، لكم حضنها و ضمها إليه في خياله الواسع و كم مرة رءاها و هي تشاطره فراشه متأوهة تارة و مهتزة أخرى و هو يبدل جهده الجهيد لإرضائها في منامه. قطع عليه أفكاره المزعجة صوت صاحب الورشة المدوي كالرعد و هو يسب و ينعل:
- يا ولاد القحاب واش بغيينّي ندخل الحبس؟ أدويو يا وجوه الحبس ديال بصّح، ما بقى لإماكم غير السياسة ، صافي شبعتو خبز؟
أجابه أحدهم محاولا عبثا تهديئه:
- أنعل الشيطان ألمعلم و برّد، و قول لينا أش وقع..
إلتفت إليه صاحب الورشة و أطلق عليه نظرات حية من عيار غضب عارم و حقد دفين ثم رماه بقذائف كلمات:
- يا ولاد الزنى مشي مشكلة.. و مصيبة كبيرة، أش دا ربكم لشي سياسة، و الله يا حنّاكم ما نغطي على شي واحد منكم. مزيان مبقى ليا غير D.S.T. الله ينعل بو ربكم يا ولاد القحاب..
عند سماعه كلمة D.S.T. كاد يبلل سرواله بسائل دافئ و خارت قواه و عجزت رجلاه على حمله، عندما خانته ركبتيه، حتى كاد ينهار على أرض الورشة العفنة الدالة على انعدام مفهوم "ظروف العمل الصحية" و غياب حضور النقابات في مثل هذه الورشة و إن كان في الواقع هي غائبة في كل الأماكن اللهم فيما عدا المناسبات و الأعياد الوطنية كعيد العرش، لكن كوعه ارتكز في حركة آلية برفوف الأدوات فلم يسقط.
تابع صاحب الورشة هذيانه قائلا:
- فين داك الزا.. ديال مصطفى؟ بغيت نشوفو دابا.. فلحين.
أجابه صبي الورشة:
- مصطفى مشى لجامع يصلي العاصر و يرجع.
فزمجر رئيس الورشة:
- دين الكلب مزال زايد فعمييتو و باللاتي على يماه حتى يرجع.
ثم موجها كلامه للصبي:
- كيف يرجع قولو باغي نشوفو فلحال.
كان جواب الصبي بالطاعة:
- وخّا ألمعلم..

4
وقف مصطفى أمام صاحب الورشة محمر الوجه لا من الخجل أو من الخوف بل من شدة حنقه و عدم قدرته، في الظرف الراهن، إطلاق العنان لغضبه في وجه من يسميهم عبيد المال و الشهوات كرئيسه هذا، و انطلق الآخر في السب و اللعن:
- أدوي يا وجه الغضب بغيتي تخرج عليّ ؟ غير انت لي مسلم حنا يهود.. واش دين امكم غير اللي دار شي لحية يولي حساب راسو نبي؟
قاطعه مصطفى بصوت هادئ:
- غفر الله لك..
فثارت ثائرة صاحب الورشة و اشتد غضبه فتابع هستيريته :
- يحفر لبوك الجدر واش عارف يا الكلب بأنني ساعة و نص و انا عند اصحاب الحال فجرتك انت.. كنجاوب على أسئلتهم و انا ما فراسي ما يتعاود؟
فتساءل مصطفى متعجبا:
- فجرتي؟
فواصل صاحب الورشة:
- إيه في جرة دين امك..
قاطعه مصطفى هذه المرة بحدة:
- حسن ألفاظك ألمعلم.. و استغفر ربك..
فتراجع الآخر و كأنه يعتذر:
- أسي مصطفى انت خدام ما عندي ما قول فيه.. و لكن السياسة راها غتخروج عليك.. واش بغي تخلي اولادك يتامى؟ خدم على راسك و ديها فسوق راسك.. و خلي عليك السياسة بعيد. اليوم مشيت ل( و دنا من أذنه حتى لا يسمع أحد ما سيقوله له أو ربما لقناعته بأن عيونهم و آذانهم في كل مكان) D.S.T حيت عيطو لي على ودك، سولوني عليك مع من كتهضر.. مع من كترافق.. مع من كتجمع.. واش فهمتي و لا لا؟
فسأله مصطف بعد أن أجابه ب "قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا":
- و ما قالو ليكش علاش؟
فهز الرجل رأسه في يأس و حيرة، و الواقع أنه كان يحب مصطفى و يقدره لتفانيه في العمل و لأنه رأى فيه الشخصية التي كان يتمنى أن تكون فيه.. لكن حبه للخمرة و بنات المدارس اللائي دون السابعة عشرة حال دون تحقيقها في نفسه. كما أنه على غلظته و شدة معاملته للعمال أحيانا كان رجلا طيبا لا يعرف قلبه الحقد و الحسد و يده كانت مبسوطة مع عماله في الأعياد و المناسبات لذلك كانوا لا يعيرون اهتماما لنوباته الهستيرية التي كان يطل عليهم بها من حين لآخر. استأذن مصطفى منه للذهاب إلى بيته بحجة مرض أحد أبنائه، فنظر إليه و كأنه يقول له "الله يكون فعونك فلمحنة اللي جياك" و أذن له بالذهاب و هو يحق أنه قد فقد عاملا ممتازا و أنه ربما لن يراه بعد اليوم، لأنه كان يعرف أن مصطفى إنما احتج بعلة ولده ليعد نفسه للهرب. قبل أن يغادر الورشة ناداه ثم اقترب منه و دس في جيبه كومة ورق لم يفتشها مصطفى إلا عندما دخل بيته فوجدها مبلغا ماليا بحدود مائتي درهم. ابتسم و قال في نفسه "ألمعلم يرجى منك خيرا، فأنت لم تفقد فطرتك بعد".

5
وصل لعربي الصحراوي، كما ينادي عليه أصحابه، إلى الفران و عندما أحب بوشعيب الراديو إخبارهم بخبر جديد قاطعه لعربي و قال:
- اليوم أنا هو الراديو، اليوم أنا اللي عندي خبار جديدة و خطيرة..
انتبه إليه الجميع في استغراب و عيونهم متوسلة إليه بإطلاق فرج شوقهم فقال بصوت منخفض خوفا من أن يكون لأولئك آذان مصغية في الجدار أو السقف أو الأرض أو في بيت النار و من يدري:
- اليوم اصحاب الحال جاو لجاري و دّاوه.. و فالخدمة المعلم جا عينيه فلتات يسب و يربّبْ علاودّاش استدعاوه ل(هنا أخفض صوته أكثر و دنا من أصحابه) D.S.T بسباب مصطفى لخوانجي.
هنا توجه حمودة إليه بسؤال:
- و مالك انت كتقفقف؟ كلا يعوم فبحرو و حنا مالنا؟
أجابه لعربي:
- أخاي ما نخبيش عليك أنا تنخاف من اصحاب الحال، لمخزن ما معاه لعب. أنا غير لراف إلا كانت دايزا حدايا.. و معايا وراقيّ.. قلبي تيبدا يضرب بحال الطبل..
رد عليه احمد لسورطي متهكما:
- وا يني خواف انت بلا قياس..
فأجابه لعربي:
- اللي خاف نجا..
أفرغ حمودة محتوى الكأس في جوفه ثم قال:
- ما ديرش ما تخافش.. فالمغرب بعّد غير من السياسة و السلاح و قل عاش الملك.. و دير ما بغيتي.. تحشش و شرب و تقرقب.. و ما يكلمك حد..
احمد لسورطي، الذي بدأ الحشيش و الخمرة يلعبان برأسه، فاجأهم بكلام غير معتاد منه:
- حتى لاين غنبقاو عايشين بحال لبهايم غير نجريو على عضة دلخبز و ما نقولوش رأينا فتسيير البلاد واش حنا عبيد و لا مواطنين؟
رد عليه لعربي و قلبه يرجف على غير عادته و جبينه ابتدأ يتصبب عرقا:
- سد فمك علينا.. واش سكرتي و لا مالك؟ (ثم متوجها لحمودة) ما دزيدش تخويلو راه سكر و غايدير لنا شي مصيبة..
رد عليه احمد و علامات السكر واضحة عليه:
- اسمع نقولك يا حولي الضحية.. سكاتنا هو لخارج علينا.. شحال قدهم يدخلو لحباسات و يقتلو فينا؟ لو كلنا وقفنا وقفة رجل واحد لكان بزاف ما غايكون.. لكن الخوافة بحالك و مساحين الكابّا هما لخارجين علينا.. فبلادنا و ما عندنا حقوق و لا مستقبل و لا مولاي بّه..
قاطعه بوشعيب بحدة و عيناه تتطايران شرا منبعه القلق من عواقب كلام احمد لسورطي:
- ضرب الطم و لا غن خسّر لك داك الفم الخانز..
فصرخ احمد لسورطي احتجاجا على قمع بوشعيب الراديو له "أنا يا رفيق ما نويش نتخلى على نضالية الجماهير الشعبية.. أنا يا ر..". لم يتمكن من ترديد شعاره مرة ثانية إذ بادرته لكمة قوية من بوشعيب، لكنه و بالرغم من الدم السائل من فيه حاول مرة أخرى رفع شعاره، إلا أن لعربي ضغط على فمه براحته حتى كاد يكتم أنفاسه، ثم توجه لبوشعيب:
- زيد نكتفوه و ربطو ليه فمو حتى يسحى..
و نفذو مقترح لعربي بنشاط و حيوية و ألقوه جانبا و هو يلعنهم بشرارات عينيه اللتان باتت حمراء من شدة غضبه أو ربما من أثر الخمرة و الحشيش فيهما.
و ساد صمت ثقيل و رهيب زاد المكان كآبة و قلوب السمار قلقا إلى أن اخترقه حمودة متسائلا:
- من وقتاش احمد لسورطي ولى اشتراكي؟
"من نهار شاف مظاهرة ديال الطلبة.. حتى هاد الشعار اللي غوت به سمعو غير فلمظاهرة.." نطق بوشعيب الراديو مجيبا على سؤال حمودة. فعاتبه حمودة قائلا:
- انت عارف هاد الشي و ساكت!
فرد بوشعيب مدافعا عن نفسه:
- أنا ماشي ربي كنعلم الغيب.. كنا طالعين من لمدينة دزنا على باب الرواح و لقينا مظاهرة ديال طلبة الجامعة.. شكون كان يقول باللي احمد لسورطي غايتـأتر لهاد الدرجة؟ ..
قاطعهم لعربي الصحراوي:
- تعرفو آش يجيكوم مليح نوضو طلو برّا شوفو واش مكاين حد.. ليكون شي واحد سمعو تيغوّات بداك الشعار ديالهم..
رد عليه حمودة بشيء من العصبية:
- و ما دزيدش فيه حتى انت.. الربعة دصباح هادي.. شكون غايسمعنا.. حنا ماشي خوانجيا و لا اشتراكيين باش يتبعونا.. نوض إلى باغي تمشي لدارك و ما تكونش خواف بلا قياس.. احمد غايبقى معايا تلصباح..

6
في صباح اليوم التالي رجل طريقه كعادته إلى عمله، و الواقع أن السبب في عدم تنقله بالحافلة لا يرجع إلى ازدحام المواصلات بقدر ما هو عملية حسابية لميزانيته التي لا تسمح بذلك، إذ الرحلة الواحدة تكلفه ما يفوق بقليل ثلاثة دراهم، و هو يحتاج إلى رحلتين أي نقله يتطلب حوالي ستة دراهم و نصف و هذا يعني أنه يجب عليه تخصيص ما قد يناهز بقليل 156 درهما إضافة إلى وجبة غدائه في حدود عشرة دراهم في اليوم أي ما قد يعادل 260 درهما في الشهر يضاف على هذا إيجار كوخه المقدر ب 500 درهم دون التطرق إلى الفطور و العشاء و الكهرباء و الماء، بينما راتبه لا يتجاوز 1300 درهم عدا أيام الأعياد و المناسبات الدينية حيث صاحب الورشة يعطف على عماله بعلاوات من خمسين إلى مائة درهم حسب الظروف. و مع هذه الحياة المتواضعة للغاية فإنه لم يكن ليضيق بها أو يشتكي منها لو لا فقدانه أعز الناس عليه.
سار في طريقه، حيث حفرت قدماه آثارها عليها و هي تدوسها لسنين كل يوم، بشارع مولاي يوسف إلى أن وصل شارع المحيط، و قبل أن يسير فيه حتى منتصفه ليعرج على يساره باتجاه الكنيسة ثم يلف مرة أخرى نحو اليمين إلى آخر الشارع حيث توجد الورشة التي يعمل بها، فوجئ بتظاهرة تعترض سبيله، بمكان تقاطع الشارعين، حالت بينه و بين مقصده. و لاحت له سيارات شرطة التدخل السريع على مسافة غير بعيدة و قد تراصف، من حملت على ظهرها، أمامها في أكثر من عشرة صفوف لا يقل الصف الواحد منها عن ثلاثين شرطيا مدججين بالخوذ و الأتراس و الهراوات و بعضهم، الواقف جانبا، حمل قاذفات القنابل المسيلة للدموع، كما وقفت على حدة مجموعة بكلاب مدربة.
تقدمت المتظاهرين مجموعة من الشبان الملتحين قويي البنيان في زي وطني يغلب عليه اللون الأبيض و قد رفعوا أصواتهم بنشيد لا يخلو من تحد واضح للسلطة و أجهزتها و تعبير عن تضامنهم مع رفاق دربهم القابعين وراء القضبان ردده الجمهور الغفير من ورائهم بحماس:
أخي أنت حر وراء السجون..
أخي أنت حر بتلك القيود..
إذا كنت بالله مستعصما..
فماذا يضيرك قيد العبيد..
هتف هاتف من مكبر الصوت داعيا المتظاهرين بمغادرة المكان باعتبار التظاهرة غير قانونية و إلا ستضطر قوات الأمن إلى التدخل لحسم الأمر. لكن هذا النداء وقع من الجمع الغفير موقع الأمر بالتحرك فتزحزح متقدما نحو قوات الأمن التي شكلت رأس السهم استعدادا للتحرك في مواجهة قُدّر لها أن لا تخلو من العنف. و قبل الاصطدام ببضع أمتار غير المتظاهرون شعارهم بالتكبير و التوحيد أبان أنهم أعدوا أنفسهم للمعركة من جميع جوانبها – التكتيك و الاستراتيجية ثم العامل النفسي فرددوا بحرارة:
- الله أكبر.. الله أكبر.. ربنا الله الواحد الأحد.. لا إله إلا الله.. الله أكبر..الله أكبر.. ربنا الله الواحد الأحد.. لا إله إلا الله..
فارتبكت صفوف القوات بل و توقفت عن التقدم و صاح فيها ضابط يأمرها بالتحرك لكن دون جدوى و ارتفع صوت من داخل رأس السهم، الذي تحول إلى ما يشبه شكلا بيضويا، "حنا ماشي أبو لهب". إذ ذاك فطن قائد السرية إلى تكتيك المتظاهرين و فهم خدعتهم الحربية و استراتيجيتها فأعطى لمجموعة الكلاب المدربة أمرا بالتحرك. و تحركت المجموعة وراء كلابها المتعطشة لنهش لحم البشر، و دب الرعب في صفوف المتظاهرين، و تراجعوا في فوضى فكّت صفوفهم فأمر القائد بإطلاق القنابل المسيلة للدموع فانتشر دخانها هنا و هناك وسط التظاهرة و ارتفعت أصوات معبرة عن الآلام و أخرى ناصحة باستخدام المناديل المبللة مسبقا و ثالثة داعية للتغلب على الدعر و تشبيك الصفوف.. ساعتها فقط استطاع الضابط السيطرة على الوضع و تحريك رأس السهم شاقا المتظاهرين إلى شقين، ثم تحول كل شطر من شطراه إلى خط مستقيم ثم هلال فطوق محكوم على كل من وقع صيدا سهلا في مصيدة العنكبوت.
وقف لعربي في مكانه متجمدا لا يدري ما يجري من حوله و كأنه في حلم مزعج إلى أن سمع صوت يصرخ به:
- اهرب يا أخي..
فانطلقت رجلاه منفصلتين عن باقي جسده لا تلويان على شيء و لسانه يكاد يغادر فيه و رئتاه تكاد تتوقف عن الحركة بينما قلبه راح ينبض كالطبل في الأفراح. لم يع إلا و هو أمام باب الفران يختنق من شدة الجهد لا يقوى لا على النطق و لا على التنفس. انحنى متأوها من آلام في جنبه فازداد وجهه حمرة و جحظت عيناه. سأله حمودة عما به فأجابه بفيه مفتوح يصدر تأوهات مبهمة و حركات يد دائرية غير مفهومة. فتريته الرجل حتى استعاد أنفاسه ثم راح يعيد عليه سؤاله:
- آش بيك مالك، واش كانت تجري عليك عيشة قنديشة؟
فأجابه بصوت متقطع لم يستعد كل أنفاسه:
- أ م..صّا..ب لو كا..نت عي..شة قن..ديشة..
فخاطبه حمودة قائلا:
- و شكون جرى عليك؟
فأجابه و قد استرجع أنفاسه:
- ألبوليس أمولاي..
- البوليس؟
- أيّه أسيدي..
- و علاش؟
- والو كنت غادي لخدمة و عند رّونبّوان ديال لوسيان لقيت مظاهرة ديال الخوانجية، الله يقطعهم و يقطع حسهم، و البوليس مشتت فكل بلاصة.. غير هما طلقوا الكلاب..
قاطعه حمودة مذهولا من عبارته الأخيرة:
- لكلاب؟
- و أيّه أمولاي.. ألكلاب و لقنابل دلكاز..مشعرت براسي حتى لقيت نفسي نجري و نعيّط على ليجري معايا..
و قص لعربي على صاحبه كل ما رأى من البداية حتى النهاية و حمودة يسمع بقلب مرتعش و عيون مذهولة. قص عليه كيف أن قوات التدخل السريع عاملت بقساوة نادرة حتى النساء كيف كانت الهراوات تتساقط على ظهورهن و الأحدية ترفس بطونهن مرافقة بالسب السفيه يحط من شرفهن و كرامتهن و كأن لا أمهات لهؤلاء العساكر و لا أخوات و لا بنات أو زوجات. فتذكر حمودة، و هو مراهق، كيف عومل الطلبة الاشتراكيون و كيف كانت الأخبار تنتشر عن اختطافات غاشمة داخل صفوفهم في الأحياء الجامعية و بيوتهم فقال في حزن "اشتراكيين و لا خوانجية كلهم اولادنا.. و كروش لحرام كالسين كيتكرفصو عليهم الله يخد الحق" ذهل لعربي لكلام صاحبه و تمتم "مالك واش عداك احمد لسورطي؟ واش خرج ليك لعقل؟" فنهره حمودة قائلا:
- أنا ما عدانيش لسورطي و ما خرجش لي لعقل.. لكن هاد الدل و الظلم لي حنا عايشين فيه طلع لي فراسي.. آش من عيشة هادي عايشين؟ عيشت الدبانة فالبطانة كما قالوا ناس الغيوان.. ما عندنا لا حسبات فالأبناك و لا قصورة نخافو عليهم.. حتى لاين غنبقاو على هاد الخوف و ساكتين.. ولاّ غير اللي يتكلم علحق يتهرس وجهو و يدخل لبنيقة.. اللهم منو منكر هدا..

7
لم يعرف النوم، ليلتها، طريقا إلى جفنيه إلا عند الشروق و رأى في منامه حلما غريبا لم يفهم مغزاه، حيره في منامه و يقظته. فقد رأى نفسه غارقا في مستنقع تمتصه الرمال المتحركة و هو يقاوم بكل ما أوتي من قوة حتى إذا اعتقد أنه قد خلص نفسه وجدها بين أمواج المحيط تتلاعب بها تلاعب ريح الخريف بأوراق الشجر. حاول المقاومة عبثا، فالأمواج، مع كل حركة تصدر عنه، تكبر و ترتفع أكثر فأكثر مبعدة إياه عن البر الذي بات أفقا بعيدا.. و عندما سلم بنهايته و بدأ ينطق الشهادتين، لاحت فجأة لعينه على بعد بضعة أمتار جزيرة حنأت بأشجار غريبة تحركت أغصانها كأطراف بشرية في اتجاهه حتى إذا بلغه أحدها و تمسك به، بكل ما أوتي من قوة، جذبه إلى برها منقذا حياته من موت أكيد. احتار في أمر حلمه و استغرق في التفكير فيه إلى أن قطع عليه حيرته طرق الباب. فقام و أثر الحلم الغريب لا تزال مخيم على وجهه ففتح فيه ناطقا:
- شكون؟
سمع صوتا غير غريب عليه، بل هو يعرفه و يحق معرفته لكنه يأبى تصديقه.. نعم إنه صوت هشام.. كيف يعقل ذلك؟.. ألم يقبضوا عليه؟.. ألم يرموا به في سيارة و انطلقوا به إلى جهة غير معروفة؟.. رباه هل تمكن عودة من يُقبض عليه؟
- افتح أنا هشام..
فتح الباب و هو لا يصدق عينيه و قد تبخر أثر حلمه الغريب من على وجهه، الذي ارتسمت عليه تقاسيم جديدة دلت على عدم التصديق الممزوج بالخوف الشديد فوقف أمام جاره مذهولا لا يقوى على النطق أو الحركة.
- مالك عمرك ما شفتي بنادم؟ ادخل..ادخل بغي نتكلم معاك..
هكذا كانت كلمات هشام من دون مقدمات و كأنه فارقه بالأمس فقط.. و كأنه لم يحدث أي شيء.. و كأنهم لم يعتقلوه.. أفسح له المجال فدخل هشام و قد اشمأز من منظر ما رآه من أكوام الوسخ و أواني مبعثرة هنا و هناك من دون غسيل و رائحة كريهة تكدست بسبب عدم تهوية المكان.. فنظر إليه بعتاب قائلا:
- آش هاد الحالة اللي انت فيها.. واش انت بنادم و اللا آش تكون؟
حاول الدفاع عن نفسه فلم يستطع لأنه كان يعي بإهماله لمسكنه و نفسه لذلك وقف أمام جاره هشام كالتلميذ المذنب أمام ناظر المدرسة. و توقع سماع لوم شديد من جاره، فصدر من هشام ما فاجأه إذ نطق بصوت عبرت نبراته عن عطف و إشفاق من حاله.. و هذا ما لم يكن ينتظره منه:
- يا أخي النظافة من الإيمان، مهما يكن الإنسان فقير، و كلنا فقراء على بابه، لا بد من النظافة و الطهارة..و المسلم المؤمن نظيف البدن طاهر الروح و القلب..
هنا جال بفكره خاطر "بدينا فالدعوة..وقيل هرب من لحبس و باغيني نخبيه" و رفع عينه لأول مرة و قد ظهر عليهما الارتباك، و أدرك هشام، بفراسة المؤمن على حد تعبيره، ما يجول من حيرة و خوف بداخله فطمأنه بقوله:
- ما تخافش أنا ما هربتش، طلقوني بعد ما استنطقوني و سجنوني شهر.. ما لقاو علي حتى حجة كدل بأني عندي علاقة بالعمليات الإرهابية ديال الدار البيضا.. و لكن أنا عارف أنهم غيبقاو تابعيني ديما.. على أي هدّي نفسك و اسمع اللي بغي نقولك.. شوف أسي لعربي(استغرب لكلمة"السي" التي لم يخاطبه بها هشام قط و قد وقعت من نفسه موقعا حسنا جعله يشعر بإنسانيته و كرامته فأرخى سمعه في دلال إلى قول جاره)، قال الرسول صلى الله عليه و سلم "كاد الفقر أن يكون كفرا" و هذا يعني أنا الوضعية اللي انت فيها هي نتيجة لحياة الفقر اللي كتعيشها، حتى الشراب اللي كتشربوا هو فلحقيقة محاولة للهروب من الواقع المر ديال حياتك و حياتنا جميع..و لكن الإنسان لازم يكون إيمانو فالله قوي.. حتى حاجة ما بعيدا عليه.. لكن الله سبحانه و تعالى قال في سورة الرعد: "بسم الله الرحمن الرحيم.. إنّ الله لا يُغيّرُ ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.." صدق الله العظيم.. و هذا يعني أن التغيير المنتظر لازم يجي من الداخل ماشي من الخارج.. واش فهمتني؟ لأن الإنسان إلتغيّر من الداخل تيقدر غيّر لمحيط ديالو..
نظر لعربي إلى جاره، و قد بدأ يفهم قصده، باستعطاف و كأن به يقول له "ارحمني أخويا الله يرحم والديك.. راني ماشي ديال السياسة.. او ما قاد على حبسات..". فطن الآخر لما يدور برأسه، و كان يتوقع مثل رد الفعل هذا، فتابع:
- ما تخاف حتى حاجة.. أنا مجيتش نكلمك فالسياسة.. أنا غرضي نرجعك للطريق و لدين الله لا غير..يمكن لك ما تمشيش لجامع و تصلي فدارك و عمر قلبك بالله و ما يكون غير لخير..واش قلتي؟
تمتم بكلمات تكاد تكون مبهمة لم يفهم منها إلا "إنشاء الله" و "الله يعفو"..فخاطبه هشام:
- الله ديما يشاء لعباده الخير و ديما يعفو عليهوم من طريق الشيطان.. راه النفس الضعيفة هي اللي كتخلينا نمشيو فطريق الهاوية.. نوض تغسل و تتوضا و يلاّه نمشيو لعندي نصلّيو شي ركعات ومن بعد نرجعو لعندك نسيْقو براكتك و نظفوها باش تقدر تصلي فيها من بعد..
خضع لقول جاره و كأنه أمر مقدر لا هروب منه، بالرغم من نفوره من الصلاة لا كراهية فيها و إنما لما تولد في مخيلته من ارتباط بينها و بين المخزن.. و الحبس.. و التعذيب..و الإرهاب..، بل أصبح عنده، في لاشعوره، المسلم المواظب على صلاة الجماعة و الإرهابي مرادفتان لمعنى واحد. و هذا ما كان يعكر عليه أفكاره كلما همّ بالصلاة، نعم لقد فكر فيها و من دون دعوة من جاره، لأنه على معاقرته للخمر و تعاطيه للحشيش كان يعتبر نفسه مؤمنا و إن كان عاصيا. هكذا سمع مرة فقيها يفتي في أمر الشخص الذي ينطق الشهادتين و لكن لا يقوم بالفرائض و يقدم على كل ما حرمته الشريعة. لهذا فكر فيها مرارا بنيّة خالصة بل و قد وصل به الأمر، في أحيان كثيرة، حد الاغتسال و الوضوء، إلا أنه في كل مرة ما يقف موليا وجهه القبلة حتى تتبادر إلى ذهنه صور الانفجارات، التي بثتها القنوات، و مناظر المصابين.. و الشرطة المتنقلة بينهم.. ثم لوحات مخيفة من مسلسل الاعتقالات العشوائية.. و صور التعذيب من ابتكار خياله المبني على ما يسمعه هنا و هناك.. فتثور نفسه و يفر من كوخه متوجها لا للمسجد بل لفران الحومة.

8
مرت ليلة و ثانية و ثالثة ثم أسبوع فشهر و هو في غياب عن مجمع أصدقائه حتى فكروا أنه قد يكون مريضا أو أصابه مكروه أقعده عن لياليهم الجميلة، حسب اعتقادهم، و هو المواظب عليها باجتهاد. و استقر رأيهم على الذهاب لزيارته ليستبينوا من حقيقة أمره.. فكانت الزيارة.. و كانت المفاجأة..
عندما طرقوا بابه سمعوا صوتا هادئا واثقا من نفسه يقول:
- مرحبا بعبد الله إلا هداه الله..
و لما فتح الباب لهم كانت مفاجأتهم أكبر من تلك التي انتابتهم.. فقد رأوا شخصا غير صديقهم و رفيق لياليهم.. إن الذي فتح الباب لهم كان إنسانا ملتحيا في جلباب أبيض.. نظر إليهم بنظرة من اهتدى إلى حقيقة جُعلت من شأن الخواص و غابت عن العموم.. و قد علت وجهه ابتسامة مفعمة بثقة في النفس.. و لما نطق عبرت نبرات صوته على الهدوء النفسي و الطمأنينة الروحية:
- السلام على من حبهم الله و بعتكم لعبد الله..
دخلوا صامتين من شدة وقع المفاجأة عليهم فلم ينبشوا و لو بكلمة، و لما جلسوا خاطبهم مبتسما:
- ما تستغربوش يا إخواني.. الله فتح عليّ بنعمة الإيمان على يد جاري السي هشام جزاه الله خيرا..
و لما لاحظ أن صحبه لازالوا ينظرون إليه في ذهول غير مصدقين أعينهم تابع قائلا و الابتسامة لا تفارق محياه:
- يا إخواني شحال غانبقاو متبعين طريق الشيطان؟ كلنا ضعاف الحالة.. و عوض ما نحافظوا على رزقنا تنضيعوه فلحرام.. واش هادشي معقول؟ إوا جاوبني.. قالك: آش خصك آلعريان.. قالك: خاتم آمولاي..هادا من جهة.. و من جهة خرى واش حنا خاسرين الدنيا معا هاد كروش لحرام و نزيدو نخسرو حتى لأخيرة؟ حنا لفقرا ما عندنا حض فالدنيا و الله سبحانه و تعالى دار لينا لآخرة باش نعوضو ما ضيعو لنا عُبّاد المال فالدار الدايزا.. شحال قدهوم ما يجمعو من المال و ما بعدها غير الموت.. شبر دلأرض و جوج دلكتان.. غدا يوم القيامة الله غيحاسبنا على اعمالنا ماشي على فلوسنا..
استمعوا إليه كمن نزلت بهم صاعقة، إذ الذي كان يجلس أمامهم و يتحدث إليهم غير صاحبهم القديم الجبان، إنه شخص آخر تعذر طريق الخوف إلى قلبه و تمنعت نفسه عن الارتباك بحاجز الإيمان.. نعم الإيمان بفكرة أعطته لمحة أمل في الغد المشرق و أقنعته بالعمل لتحقيق ذاك الغد.. فالأمل هو الروح المغذية لطاقة العمل، من دونه لا طموح و لا مستقبل.. و تابع يقول:
- لهذا ألإخوان أنا كندعيكم لطريق الله تجمع بناتنا كما جمعاتنا طريق الشيطان..
احتاروا فيما يجيبون به صديقهم و طالت بهم الحيرة و عم صمت معبر عن تردد و قلق بين الحاضرين وعندما رأى العربي صمت أصدقائه قرر مقاطعته فهم بالقول، و قبل أن ينطق بادره احمد لسورطي بجواب ما خطر على باله قط:
- أنا فرحان حيت رجعت للطريق و ما بقيتيش كتخاف و فهمت بأن الخوف هو لزايد فمحنتنا.. لكن احنا ماشي كفار حتى تدعينا لطريق الله كلنا مسلمين و الحمد لله.. أنا شخصيا طريقي غير طريقك الجامع كنعرفو فين كاين و كانمشي ليه مرة مرة.. و اسمح لي نقولك أن الاتجاه السياسي ألي اختاريت، وخا كيناضل ضد الظلم، ماشي صحيح.. و السبب هو أنه ما عندوش برنامج اقتصادي واضح.. كلامو غير علماضي و الخلافة.. لكن أشنو موقفو من التعليم و الصحة و الشغل و الفلاحة و الصناعة.. إلخ ما مفهومش.. كيتكلممو بزاف على الأبناك الإسلامية و ما كيوضحوش كيف غتعمل.. ما تنساش البنك الإسلامي اللي دار فييت فلدن.. إيران راه عندها البترول و احنا آش عندنا البعابع؟ هاهما وصلو للبرلمان آش دارو؟ والو غير الهضرة الخاوية و اخلاص..
كانت المفاجأة أعظم من الأولى للأصدقاء الذين كانوا يعتبرون شغف احمد لسورطي بالاشتراكيين إحدى نزواته التي تمر مرور سحاب الصيف، ما أدركوا أن صاحبهم اعتنق و آمن بالفكر الإشتراكي إلى هذا الحد. و رغم قوة المفاجأة استطاع حمودة الطراح السيطرة على نفسه و التدخل في النقاش حتى لا يتحول إلى صراع كتلك الصراعات التافهة التي يسمع عنها و تحصل بين فصائل الطلاب المختلفة من إشتراكيين و قاعديين و إسلاميين.. إلخ، إنه كان يعلم بفطرته التي تشبعت بدروس الحياة أن مثل هذه الاحتدامات إنما هي في صالح المخزن و ليست مفيدة للفقراء المظلومين. فقد أدرك ما لم يدركه الكثيرون من المتعلمين و المثقفين. إنه أدرك أن كل الجماعات و التنظيمات السياسية الشريفة المناضلة من أجل الغد السعيد هي من صلب رحم إمرأة واحدة إسمها أرض المغرب، و علم فيما علم أن الهدف واحد و إن اختلفت الأساليب للوصول إليه، لذلك من الممكن جدا التوصل إلى اتفاق على حد أدنى من دون تناحرات نحن اليوم قبل الغد في غنى عنها، شريطة التخلي عن العصبية المذهبية و الاعتقاد بامتلاك الحقيقة المطلقة.. و لذلك نطق قائلا:
- احنا كلنا اولاد بلاد و أرض وحدة.. كلنا مغاربة و باغيين لخير لبلادنا و شعبنا.. و لهذا خليونا من لعناد ديال الدراري الصغار.. إلى كنتوا بلفعل باغيين تعملوا لبلادنا.. و اجمعوا راسكم لمعقول و اتوحدوا.. و خليونا من هادا اشتراكي و هادا شيوعي و هادا خوانجي بحال إلى تقول لميريكان و لفيتنام.. و شوفو دابا.. احمد لسورطي صاحبي ولاّ اشتراكي.. و لعربي الصحراوي حتى هو صاحبي ولاّ خوانجي.. إيه واش ندير أنا.. مع من نتكلم و لا مع من نقطع لكلام؟.. إوا قولو لي؟.. بجوجهم بغاو لخير لينا و لكن كل واحد شاد فأفكارو و تيقول هو لصحيح إوا فيمن غنشدو؟ علاش ما نقادّوش لكلام و نتوحدو؟ يا كلنا ولاد البلاد و لا فينا لغريب؟..
هنا تدخل بوشعيب الراديو مساندا صديقه حمودة الطراح:
- حمودة عندو الصح.. حنا لمزاليط إلا بقينا معولين على دوك اللي باعو الفيستا و اشراو المنصيب.. عمرنا ما غنطفروه.. ما يعرف بحق المزلوط غير المزلوط بحالو.. لهذا لابد لينا ما انتحدو و انتفقو إلا بغينا بلفعل إولي المغرب بلاد زينا.. أما هادوك ديال البارح.. راهم اليوم ولاّو حتى هما تيقولو "العام زين"..
خيم على الجميع صمت تفكير عميق فيما قاله حمودة الطراح و بوشعيب الراديو، و طال بهم التفكير وسط سكون شامل لا يدري الواحد منهم ما يجيب به، فالعقل قد اعترف بصواب الرجلين، لكن التربية الحزبية أو التنظيمية لا زالت متمكنة من النفوس.. و من يدري؟ ربما غدا قد يتوصلون بالفعل إلى رأي يجمع بينهم و يؤلف بين قلوبهم كما كان في الماضي..







#زكرياء_الفاضل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الغرب 2009


المزيد.....




- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - زكرياء الفاضل - فران الحومة أو نادي المهمشين