أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - إبراهيم عرفات - معضلة الحوار الإسلامي المسيحي















المزيد.....


معضلة الحوار الإسلامي المسيحي


إبراهيم عرفات

الحوار المتمدن-العدد: 2767 - 2009 / 9 / 12 - 23:26
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


رومانسية الحوار الإسلامي المسيحي

إنها رومانسية لأنها تنأى عن الواقع وتغازله من بعد. . .

في هذا النوع من اللقاءات والتي فيها يغازل النصارى المسلمون طالبين منهم الحوار فاتهم إنه حوار إسلامي أولاً ومسيحي تبعاً لذلك؛ إن جاز لنا من الأساس الاقتناع بأنه هناك "حوار". لم نقل حوار مسيحي إسلامي ولكن نقول حوار إسلامي مسيحي؛ واليد العليا هنا للطرف المسلم، والمسيحي هنا مطالب باللباقة وفهم أصول اللعبة والسعي للانحناء أمام المسلم والانثناء له ولمعطياته فيضع القومية فوق الحقيقة، والمجاملة الدبلوماسية فوق تسمية الأشياء بأسمائها. هنا نسعى للتفتيش كمسيحيين عن ما يطالب به الطرف المسلم أن نتحدث عنه ونسميه "جمال" حاضر في الإسلام؛ ونحن نعلم علم اليقين أن الجمال الموجود في الإسلام هو جمال أطراف معينة أخذت من القرآن ما أرادت أن تأخذ ومزجته بفلسفات غنوصية مثلما فعلا إخوان الصفا في رسائلهم الشهيرة أو مثلما فعل ابن عربي صاحب مقولة إن قلبه قد أضحى مسكناً للجميع ولا مانع لديه في أن يصبح قلبه "معبد أوثان" رغم أن في هذا مخالفة صريحة لروح القرآن وصرامته وحدته وجموده. قال ابن عربي:

لقد صار قلـبي قابلاً كل صـورة فـمرعى لغـزلان ودير لرهبـان وبيت لأوثـان وكعـبة

طـائـف وألـواح توراة ومصـحف قـرآن أديـن بدين الحب أنّى توجّـهـت ركـائـبه فالحب ديـني وإيـماني

هذا هو ابن عربيّ الذي له يطبلون ويزمرون في الدوائر الأكاديمية الدراسية الغربية وكذلك في دوائر الحوار المسكوني في الشرق والغرب. هل ما يقوله ابن عربي يتمشى وروح القرآن؟ وهل يصدق إنسان عاقل مقولة ابن عربي بأن قلبه قد صار قابلاً كل صورة في أنها تعكس روح الإسلام القائم على الأحادية لا التعددية انطلاقاً من تطبيق "حكم الله"؟ ابن عربي، قطعاً، فريد في تحليه بهذه الروح وفي ما اكتسبه من فلسفات غير عربية مثل الأفلاطونية الجديدة ومذهب وحدة الوجود، ولكن ما يبشّر به ابن عربي ليس هو جوهر الروح الإسلامية كما عرفتها من نصوص القرآن.

فهل حقاً هناك "حوار" من الأساس؟ وهل المطلوب من المسيحي السعي وراء هذا الحوار المزعوم؟ كلمة "تقتضي" تكافوء، أخذ وعطاء، تبادل، تواصل. السهم يذهب عودة وإياباً في روح ودية حوارية تقدر ما للآخر على ما لديه دون النظر بامتعاض إليه على أنه "كافر". باعتقادي، وأنا مسيحي، أنه لا يوجد شيء اسمه "حوار أديان" وإنما هناك "لقاء" بين الأديان ... حوار؟ أستغفر الله! على أي أساس هذا الحوار المزعوم؟! الحوار يقتضي تكافؤ من البداية. من وجهة نظر المسلم، هو "جدال" و"بالحسنى" في أحسن الظروف. من وجهة نظر المسيحية، المطلوب ليس الحوار بل "اللقاء" encounter، وهذا عين ما أكده الأب سهيل قاشا في أكثر من لقاء ومقابلة معه حيث أكد على أن واجب المسيحيين ليس "الحوار" وإنما إعلان البشارة بيسوع المسيح للخليقة كلها. البشارة هي لـ "الإعلان" Kerygma وليست فرصة للمباحثات الجدلية؛ والإعلان يكون بيسوع المسيح الذي "يستعلن" نفسه في هذا اللقاء دون جدال بالحسنى أو ما يستدعي للتزلف الحواري بإسم "الحوار"، وما هو في حقيقة الأمر بـ حوار. ولكن من قال إن "المجادلة" هي "الحوار"؟ القرآن يدعو المسلم للمجادلة والتي تنتهي بالـ مباهلة والتي هي ليست سوى صورة من صور الردح الرباني لتبادل الملاعنات والسباب لعدم اعتناق الإسلام. والإنجيل يحظر على المسيحي أي صورة من صور الجدال بل كثيراً ما ينهاه بشدة عن المماحكات الدينية والمباحثات الجدلية العقيمة. يقول الإنجيل إن المباحثات الجدلية الدينية توّلد الخصومات والمسيحي الحق ما من شأنه أن يكون إنسان مخاصم بل عبد الرب لا يجب أن يخاصم. في رسالته الثانية إلى تيموثاوس، يقول بولس: "أما المجادلات السخيفة الخرقاء، فتجنبها لأنها تولد المشاجرات كما تعلم؛ فإن عبد الرب يجب عليه أن لا يكون مشاجرًا، بل لطيفًا بجميع الناس"(2: 23، 24). عندما يفكر المسيحي في الحوار مع غير المسيحي فإنه إنما يريد أن يقدم المسيح كما عاش معه وعاشره طوال هذا الوقت. المسيح لا يدخل في جدل حول دعوة الناس لاتباعه بل يقول لفلان من الناس "اتبعنيّ" والشخص هنا لا يملك إلا أن يتبعه لما للمسيح من جاذبية في شخصه وصفاته وطباعه. هذه الكلامة الواحدة التي يقولها المسيح لشخص من الناس "اتبعنيّ" لا تحتمل مجادلة أو مناظرة أو مباهلة كما هو الحال في الإسلام. المسيح ليس جملة من الأفكار البراقة النظريات الفلسفية أو الأراء العقائدية الجافة بل هو شخص حقيقي وإنسان كامل الإنسانية؛ والموقف حياله إما يكون بالقبول أو الرفض لا الجدل. هذا الإنسان يسوع المسيح يلتقي الناس على مفرق طرق الحياة ويلتقيهم في ذهابهم وإيابهم ولا يقول بأكثر من "اتبعني". ونحن إما أن نتبعه ونضع أيدينا في يديه ونغنم الحياة الإلهية أو نرفضه ونستمر في العيش كعبيد للجسد والذات والإرادة والدنيا عامة. قبول المسيح يكسبنا امتيازات الحرية الحقيقية المتأصلة في باريء الأكوان فننعم حق التنعم بالحياة الإلهية. الله لا يستفيد شيء ولا يتوعد أو يهدد بشيء ولكن الكسب كل الكسب هو لنا نحن.

نقول حوار إسلامي مسيحي ونتنازل. ولكن أهناك حقاً حوار؟ أم أنه "جدال"؟ الإسلام لا يدعو للحوار وإنما يدعو لـ "المجادلة" حيث يقول القرآن: جادلوا أهل الكتاب بالتي هي أحسن. الأساس في الإسلام هو الجدال لا الحوار، وكثيراً ما يبدأ بداية حسنة ولكن خاتمتها هي المباهلة. المباهلة هي لون من ألوان الردح الرباني حيث أن الطرف المسيحي يرفع رأسه للسماء مشاركاً الطرف المسلم الدعاء واستنزال السخطات والغضبات على من لم يرضخ لما يراه المسلم على أنه "دين الحق" ويطلب أن تحل لعنة الله على القوم الظالمين. أهل الحوار المسكوني يتغافلون وجود المباهلة في الإسلام لأنهم يريدون تقارب وبأي ثمن لأنهم يظنون أن النخبة المثقفة هي المتحدثة في كل أوان وزمان ومكان. ندخل غمار ما نسميه في رومانسيتنا الحالمة "حوار" إسلامي مسيحي وإذا بالمباهلة تحلّ بنا في خاتمة الحديث الذي كنا نظنه حواراً ولكنه ليس بحوار. الروح الإسلامية قائمة على "الجدل" والقرآن صريحاً يقول "جادلوا". الإنجيل ينهى المسيحي عن أي صورة من صور الجدل وما يتبعه من مجادلات عقيمة ومماحكات كلامية حيث يقول بولس موصياً تيموثاوس ابنه في الإيمان: "وأما المباحثات الغبية فاجتنبها لأنها تولد الخصومات؛ وعبد الرب لا يجب أن يخاصم". الروح المسيحية تطالب المسيحي على أن يبتعد عن الخصومة وبأي ثمن لأن الخصومة تولد المرارة وتقتل الود والمرارة يتنجس بها المؤمن "لئلا ينبع روح مرارة فيتنجس به كثيرون"(عبرانيين ). الشخصية العربية تحب الجدل، وتراهم يجادلون وكأنهم سيسحسمون أزمات العالم في صولاتهم وجدلاتهم السياسية والدينية، ولذا قال الملحد عبد الله القصيمي عبارته الخالدة: "العرب ظاهرة صوتية".

ثم أننا كعرب شعوب نامية لم تتقن بعد فن الاختلاف في الحوار لأن الحوار كثيراً ما كان مصطلح أجنبي علينا. الحوار يعني التكافوء. وهل حقاً المسلمون ينظرون للنصارى أنهم متكافئون معهم في هذا الجدل الإسلامي المسيحي أم أن المسلم يقترب من المسيحي على أنه "ضال" و"ذاهب للجحيم" و"يصدع عن الحق"؟ نحن شعوب نامية اقتصادياً وتنموياً وقطعاً حوارياً. في المؤسسات الأكاديمية الأميركية سمعت أحدهم يقول لزميله طالب الدكتوراة عبارة كان لها رنين الموسيقى في قلبي وتمنيت لو نقدر أن نقوم بتعريبها وإدخالها إلى قاموسنا العربي. قال: I beg to differ أي ألتمس الاختلاف. هو يرى أن حق الاختلاف له هو أمر يلتمسه بأدب، ولا يرى نفسه أنه "ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون". أعلون بأي حق يقولون؟ لا اقتصاد ولا تنمية ولا مراعاة لكرامة الإنسان ومع ذلك يصرون على أنهم "الأعلون". يعلون في ماذا؟ أهو مجرد كسب جولة في تضخم الأنا بالباطل؟ لا شك أن هناك أزمة في المجتمع العربي المسلم وانطلقت منذ ميلاد الدعوة المحمدية لـ محمد بن عبد الله. إنه لم يشجع في أي وقت من الأوقات على أحقية الاختلاف وقبول الآخر في اختلافه بصدق واستحسان. أبو بكر يشن حروب الردة لا لأجل الدين ولكن لأجل بطنه ويقول مقولته التاريخية: "والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه حتى يؤدونه". نصدم بـ "عقال بعير" و"أموال" و"قتال" للحفاظ على ميزانية الرسول وخليفته. مجتمع ينشأ بهذا الشكل من البداية هو يؤذن بخراب عشه من البدء، ويحمل في داخله "قنبلة موقوتة" قابلة للانفجار عدة مرات على مراحل متفرقة من حقب التاريخ لأن الإسلام ليس مجرد روحانية محضة ولكنه "دين ودولة"؛ مصحف وسيف، دين ثيوقراطي يفرض الأحكام المنسوبة للإله على الآخرين بالقوة.

لا قيمة للإنسان في مجتمعاتنا العربية لأننا على مدى 14 قرن ونحن نقول إن هذه الدنيا بكل مباهجهة تافهة و"لا تساوي عند الله جناح بعوضة". احتقرنا ما أعطاه الله لنا وساوينا بينه وبين البعوض والحشرات. في الكتاب المقدس الإنسان ليس نكرة والله لا يريد تحقير حياته أو مساواتها بـ "جناح البعوضة" بل الحياة ذاتها هي اسم آخر لله في الإنجيل حيث يقول المسيح عن نفسه إنه "الحياة": أنا هو الطريق والحق والحياة. والحياة التي يراها الإسلام في دونية مرزولة يقول عنها المسيح إنه قد جاء ليهبها لنا في غناها وملئها وووفرتها وشبعها ودسامتها. قال يسوع المسيح: "أتيت لتكون الحياة للناس ولتفيض فيهم". والقديس إيرينيئوس قال: مجد الله هو الإنسان الحيّ. في المسيحية دعوة جادة لعشق الحياة ومعانقتها. مجد الله في المسيحية لا يكون إلا بأن يمتلئ الإنسان من هذه الحياة، وأن ينتعش بها. عندما تختلف نظرتنا للحياة في أساسياتها، هل يستقيم وجود حوار صحيّ حقاً؟ واحد يرى أن الحياة توهب له/ لها، والآخر يراها على أنها تافهة ولا تساوي جناح بعوضة. واحد يرى الحياة ممتعة، والآخر قد تملكته ذهنية التحريم، وعقلية الحلال والحرام؛ وصار وسواس الحلال والحرام يؤرق مضجعه، وجعل حياته كلها عقد. لا يحق للمرأة أن تلبس البنطال وإلا أثارت مؤخرتها البارزة غريزة الرجل وفتنته عن الحق. قاموا بلفّ المرأة في أمتار وأمتار من القماش، وليس لخيرها وإنما لحماية الرجل من وساوسه القيمية الأخلاقية. أمتار من القماش تكفنت بها المرأة فقبروها وهي لا تزال حية فلم تتمتع بمباهج الحياة؛ وكيف لا والإسلام قال إن للمرأة عورات. عندما نسأل عن سبب عدم أحقية المرأة لفعل أو قول ذلك قالوا لنا كلمة واحدة وهي كلمة العورة. في العورة عار؛ وقالوا في المثل الشعبي العربي أن "خلف البنات عار"، وليس عجباً أن يربط الرجل العربي شرفه وكرامته كإنسان بـ "عورة" المرأة، وما قد يجلب ذلك من "عار"؛ الأمر الذي أدى إلى اعتوار الثقافة العربية حيث المرأة نصف المجتمع. قال محمد فيما نسب إليه من حديث: "للمرأة عشر عورات، فإذا تزوجت ستر الزوج عورة واحدة، فإذا ماتت ستر القبر العشر عورات". بصرف النظر عن مدى دقة النسبة لمحمد في هذا الحديث إلا أنه حديث شائع منتشر ويتوافق إجمالا مع ما تقوم عليه الروح الإسلامية من ثقافة العورات، وإلا فمن أين أتينا بمصطلحات "صوتها عورة" و"هذه عورة عند المرأة" إلخ؟ منذ قيام الإسلام وعلى مدى 14 قرن وهو في حالة مخاض. وفي حين يتمخص الدبّ وقد يلد فأراً، فالإسلام عبر قرون طويلة من المخاض لم يلد شيء. مخاض يتبعه مخاض. صراخ يتبعه صراخ. ظاهرة صوتية هم العرب، والجدل ديدنهم.

كيف نطلب "حوار إسلامي مسيحي" والاثنان يختلفان من البدء على الطريقة التي يتكلم بها الله؟ يؤمن المسلم أن الله يتكلم بشكل إملائي ولذلك يرى أن القرآن هو "تنزيل". نزل من فوق لتحت. لا تنزيل في المسيحية. لإيوجد "تنزيل" في الكتاب المقدس وإنما هناك وحيٌ وإلهامٌ. مصطلح "التنزيل" غريب على أدبيات الفكر المسيحي والكتاب المقدس. يفرح المسيحي بدعوة المسلم لما يسميه حوار وإذ به يرتطم بالحقيقة المرة وهي أن الدينان مختلفان عن بعضهما كل الاختلاف وكأننا نتحدث عن جهاز كمبيوتر ماركة الماك وجهاز كمبيوتر ماركة المايكروسوفت. الجهازان من الخارج يطلق عليهما كمبيوتر، ولكن شتان الفرق في طريقة العمل بين الاثنين. كيف يمكن معادلة الدينين والنظر إليهم كأنهما وجهان لعملة واحدة (على عادة القوميين السوريين) وهما في الأساس يختلفان شكلاً ومضموناً في كيفية خطاب الله للبشر ووحيه لأسفاره المقدسة؟ قالوا لي: "كلنا مسلمون لرب العالمين منا من أسلم بالإنجيل منا من أسلم بالقرآن منا من أسلم بالحكمة و ليس من عدو يقاتلنا في ديننا و في أمتنا و في معتقدنا سوى اليهود". سألت عن مصدر قائلها فقالوا إن اسمه أنطون سعادة. قالها أنطون وليس محمد أو أحمد مثلا. يحاول الأقليات في المجتمعات القومية إعلاء القومية السورية كمثال فوق المعتقد؛ والمعتقد ربما تعرّض للتطويع أو المكيافيللية أو التذويب في محاولة للاقتراب من "الأغلبية المسلمة" السائدة والتي بيدها مقاليد الأمور. لن تسمع مسلماً يقول جملة على غرار مقولة أنطون سعادة فيقول لك مثلا "كلنا نصارى؛ فمنا من تنصر بالإنجيل ومنا من تنصّر بالإسلام إلخ". على العكس! المسلم دائماً يشهر في وجه المسيحيين عبارات مثل "السلام على من اتبع الهدى" وأشباهها؛ وكلها عبارات تهدف إلى الإقصاء والتنبيه مسبقاً للمسلم على أنه صاحب اليد العليا والمهيمن ويتصاغر أمامه من لم يعتنق دينه. هذا التزلف القوميّ من المسيحيين العرب للأغلبية المسلمة، والذي يعلو تعلو فيه النعرة القومية على حساب إعلان مسيحيته بجرأة ولطف ووداعة، ربما جاز لنا أن نطلق عليه "عقدة الذميّ". هو يشعر في نفسه أنه "ذميّ" وأنه يتلقى الخطوط العريضة للعيش المشترك من المسلم ابن مجتمع الأغلبية. كيف، إذا، نقول هو حوار متكافيء؟


يفشل المسيحيون في جولة الحوار المسيحي الإسلامي لأنهم يخضعون أسفار كتابهم المقدس لطريقة التفكير الإسلامية التنزيلية. لا يمكن تطويع نصوص الكتاب المقدس وآلية عملها لمفهوم التنزيل الإسلامي. الكتاب المقدس في المسيحية هو مثل شخص المسيح. المسيح هو إنسان كامل الإنسانية وإله كامل الألوهة من حيث هو "كلمة الله". والكتاب المقدس هو كذلك لأنه كتاب كامل الإنسانية ونتعامل مع إنسانية الناس فيه بدون أي تجميل ونقرأ ألفاظهم والتي تتفاوت من الرقة إلى الحدة أو ربما الجلافة. هذه هي إنسانيتهم. والكتاب المقدس هو إلهي كامل الإلهية من حيث أنه قد أوحاه إله كامل ونطقه نطق كامل؛ وبما أن الله ذاته معصوم فكلام الله في الكتاب المقدس معصوم في الرسالة والوحي والإلهام. في المسيح يتلاقي ما هو إنساني مع ما هو إلهي دون تعارض، وفي الكتاب المقدس الأمر ذاته يحدث حيث نقرأ قصة حياتنا في زماننا من جديد في الكتاب المقدس وندرك كم هو بشريّ هذا الكتاب وأيضا نقرأ فيه وحي الله والذي ينطق فيه الله تارة من خلال الأنبياء والرسل والنذيرين وتارة أخرى وبشكل ختامي نهائي في مجيء المسيح حيث أضحى المسيح نفسه هو "كلمة الله". مفهوم التنزيل الإملائي في الإسلام جامد كجمود الإله الـ "صمد" الذي لا حراك فيه ولا يتأثر بعاطفة impassive لأنه يركن إلى إملاء الأوامر والناس حيالها كأنهم آلات أو عبيد مغلوبون على أمرهم ولا يعرفون أكثر من "سمعنا وأطعنا" في كل شاردة وورادة. كيفية نظر الناس إلى الإله الذي يعبدون ستنعكس إما سلباً أو إيجاباً على كيفية نظرهم لأنفسهم، وكيف ينظرون أيضا لبعضهم البعض؛ قد يعشقون الحياة ويقبلون عليها فينتجوا ويفيدوا الآخرين، وقد يعشقون الموت ناظرين للدنيا على أنها لا تساوي جناح بعوضة فيستسلمون للكسل والتراخي ولا نرى لهم انتاج وسط شعوب العالم. لا يتعالى الله علينا في المسيحية (وبما يفيده التعالي! هل هو نرجسي حتى يتعالى!) بل هو أبونا؛ والذي يتنازل وينزل لمستوانا، ويشاركنا في كل شيء من طبيعتنا ما عدا الخطيئة. هذا ما نسميه بعقيدة التجسد حيث يتلاحم الله مع جنسنا البشري بكل ما فيه من وسخ وعيوب ويقرن مصيره بهم. في هذا التلاحم هو لا يتعالى عليهم بل يقرنهم به في معيّته التي نعرفها في صفة المسيح "عمانوئيل" والذي تفسيره "الله معنا". في هذا التلاحم الإلهي، نحن مدعوون لاقتحام حياة الله والتنعم بها والاغتراف منها حتى ما تسري فينا نحن فيتبدل ما لنا من رائحة الموت إلى حياة إلهية (2 كورنثوس 2: 16). رائحة الحياة للحياة - التي يتحدث عنها هنا القديس بولس- كفيلة بقهر ثقافة الموت، رائحة الموت للموت، التي نلمسها في جهادية الإسلام وإحلال حضارة المحبة محلها.



باعتباري مسلم، سابق أجد أن كيفية كلام الله في الكتاب المقدس من أكثر الأمور تشويقاً. لا أجد جمال في السجع القرآني ولا المبالغات البيانية القرآنية وإسرافاتها ولكني أعكف على حفظ آيات الكتاب المقدس عن ظهر قلب بالعربية والعبرانية والانكليزية ومؤخراً بالآرامية. أحب سماع تلاوة نصوص الكتاب المقدس بلغاتها الأصلية وتذوقها. أشعر أنه نص يأتيني من داخلي ولا ينفرض عليّ في تعاليّ الإله. يقولون لنا "أديان إبراهيمية" وكأنها كلها تقف معاً على قدم المساواة. النبي إبراهيم الذي نلتقيه في سفر التكوين ليس هو "سيدنا إبراهيم" الذي عرفته من القرآن والقصص النبوي. الأسماء تتشابه ولكن الشخصيات مختلفة. تشابه الأسماء يوهم البعض أن الإسلام والمسيحية متقاربان، ظانين بذلك أن الرسالة "واحدة". يريدون وحدة على حساب الحقيقة. المسيح في القرآن يأتي داعياً للإسلام ومبشراً بالتوحيد المحمدي، وينفون عنه قيامه بأي عمل فداء أو خلاص. كيف نقول إن مسيح القرآن قريب من مسيح الإنجيل، إذا؟ والله في القرآن لا يمكن أن يكون أبّ بل هو خالق، ويرسل الأنبياء ويتهدد من يخالفوه بعذاب عسير. في الكتاب المقدس يسأل موسى الله عما يجب أن يقوله لفرعون عندما يسأله من أرسلك يا موسى. جواب الله بسيط: "إهيه الذي إهيه" אהיה אשר אהיה؛ وبالعربية "أنا هو من هو"(خروج 3: 14). لا يفصح الله عن "إسم" محدد بذاته لموسى ولا يقول إن إسمه "فلان". ما يكفي موسى هو أن يعرف أن هذا الإله هو خالقهم، نعم؛ وأبوهم، نعم؛ وفاديهم، نعم. جواب الله يأتي هنا في صيغة "الافتراض" وليس المضارع؛ وكأنه يقول لموسى: "أكون اللي بكون" أو بالانكليزية: I may be whomever I may be . كأنه يقول لموسى: "لن أخبرك"(مش ها أقول لك)؛ أكون ما أنا أريد. يقولون في لبنان: "بكون اللي بكون" أو بالعامية المصرية "أكون زي ما أكون". في الكتاب المقدس نقف أمام الرب الإله ويبقى هو سرّ بل وسرّ الأسرار؛وكل ما نعرفه عنه ليس إلا صفات تتكشف لنا بالتدريج على مرّ التاريخ إلى أن يأتي المسيح وتستعلن لنا في شخصه هذه الصفات جملة واحدة فنعرف أن الله ليس إلا محبة. وبما أن الله يأتي على هذا النحو السرائري في الكتاب المقدس، كيف نرضى للإنزال به إلى مستوى "الله" الإسلامي والذي كل شيء قد أملاه إملاءاً في القرآن ولا يعرف سوى لغة الإملاء والتنزيل؟

في هذا الكتاب المقدس الذي أعشق يتكلم معه الناس في أريحية كاملة ودون خوف ونتعجب ضاربين كفاً بكف من حال هؤلاء الأنبياء الذين كانوا يخاطبونه بهذه الحرية وبدون خوف. نحن تربينا على الخوف والعيب. في الكتاب المقدس يتكلم الإنسان مع الله دون خوف أو عيب. يشكو ربنا إلى ربنا. من يفعل هذا سوى الحبيب؟ أشكو إليك منك، كما تقول القصيدة. أشكو منك إليك، يا رب. ما كل هذا اليقين! إنه يقين الحب، والله ليس إلا حب، ومن فاته ذلك فمعرفته بالله مشوهة، ولا يزال يتعامل معه على أنه أحد "عبيده"، والله حرّ ويحب الأحرار وما له من حاجة في العبيد.



نأمل في وجود حوار مسيحي إسلامي، وحوار إسلامي مسيحي يلتقي فيه الطرفان على قدم المساواة وهما مدركان تمام الإدراك أن الأمور الغيبية الميتفايزيقية ليس فيها غالب ومغلوب أو رابح وخاسر ولكن ناس يطلبون وجه الله ويسعون لإدراك الحقيقة والتي يسمونها بأسماء عدة. للدكتور عبد المجيد الشرفي كتاب "الفكر الإسلامي في الرد على النصارى إلى نهاية القرن الرابع/ العاشر"؛ ويلخص فيه حصيلة دراساته عن هذا الجدل الذي احتدم لقرون يبدأ فيه الطرف الإسلام بالصراخ: هاتوا برهانكم إنْ كنتم صادقين. قال الدكتور الشرفي (صاحب كتاب "الفكر الأسلامي في الرد على النصارى: الى نهاية القرن الرابع/ العاشر") إنه في المحصلة النهائية الطرفان المسلم والمسيحي يتساويان ولا نقدر أن نقول إن هناك فيه غالب أو مغلوب. قال هذا الدكتور الشرفي لأنه إنسان صادق مع نفسه ورجل أكاديمي محترم ويريد أن يقرّ الحقيقة لذات الحقيقة. وأمور الإيمان لا تقبل الجدل العقيم ولكن إما القبول أو الرفض؛ وأيضا بطابعها الميتافيزيقي ليس فيها غالب أو مغلوب وإنما فيها نورٌ يستعلن وجاذبية مسيح يأخذ بالأبصار أو قفر يصيب النفس.









#إبراهيم_عرفات (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295


المزيد.....




- العجل الذهبي و-سفر الخروج- من الصهيونية.. هل تكتب نعومي كلاي ...
- مجلس الأوقاف بالقدس يحذر من تعاظم المخاوف تجاه المسجد الأقصى ...
- مصلون يهود عند حائط البراق في ثالث أيام عيد الفصح
- الإحتلال يغلق الحرم الابراهيمي بوجه الفلسطينيين بمناسبة عيد ...
- لبنان: المقاومة الإسلامية تستهدف ثكنة ‏زبدين في مزارع شبعا ...
- تزامنًا مع اقتحامات باحات المسجد الأقصى.. آلاف اليهود يؤدون ...
- “عيد مجيد سعيد” .. موعد عيد القيامة 2024 ومظاهر احتفال المسي ...
- شاهد..المستوطنين يقتحمون الأقصى في ثالث أيام عيد -الفصح اليه ...
- الأردن يدين سماح شرطة الاحتلال الإسرائيلي للمستوطنين باقتحام ...
- طلاب يهود بجامعة كولومبيا: مظاهرات دعم فلسطين ليست معادية لل ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - إبراهيم عرفات - معضلة الحوار الإسلامي المسيحي