أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - بابكر عباس الأمين - إراقة الدماء والتشفّي لدي إسلاميي السودان















المزيد.....

إراقة الدماء والتشفّي لدي إسلاميي السودان


بابكر عباس الأمين

الحوار المتمدن-العدد: 2752 - 2009 / 8 / 28 - 07:34
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


يمتاز السودانيون بقدرٍ عالٍ من التسامح والتعايش السلمي منذ القِدم ويفوق العديد من الأمم حتي بمقاييس العصر الحديث. وهذا التسامح لدي السودانيين هو أمرٌ ضاربٌ في القِدم وقد سبق دخول الإسلام , إذ إستقبلت قبائل البِجة في شرق السودان واّوت بعض العرب قبل الإسلام , كما ثبت من بعض الاّثار في مُثلث حلايب وخور نبت بالقرب من هيا.

وبعد دخول العرب , تشرّب السودانيون إسلاماً صوفياً متسامحاً لم يعهد الغلو أو التطرف ولم يُفرض عليهم بالسيف إذ ظلّت النوبة علي مسيحيتها بعد توقيع إتفاقية البقط. وكان بعض الحجيج القادم من نيجيريا وبقية غرب أفريقيا - أثناء عبوره للسودان في طريقه إلي مكة - قد اُعجِب بتسامح السودانيين فاّثرالعيش معهم. إستضافت القبائل السودانية وسمحت بإستيطان أولئك الوافدين عبر القرون. لم يشأ أولئك الوافدين الإستيطان في الحجاز أرض المقدسات , ولم تُغرِهم مراعي السودان لأن مواطنهم الأصلية غنية في الزرع والضرع , إنما هاموا بتسامح السودانيين فأصبحوا رافداً هاماً من النسيج السوداني.

وقد نهلت الثقافة السياسية السودانية في العصر الحديث من موروث التسامح هذا فامتاز السياسيون - بإستثناء المُحدثين - بالتسامح والتواضع وسماع الرأي الاّخر, ولم يكن هناك حاجزاً بين الحكام والمحكومين. وكان الشرطي الحارس للرئيس إسماعيل الأزهري قد ذكر له بأن بعض الصبية الذين لهم فريق كُرة قدم في الحي يودون لقائه. وكان سبب اللقاء أن كُرتهم قد أصابها العطب , ولم تكن ميزانية الفريق تسمح بشِراء أخري فسمح لهم الرئيس باللقاء وإستمع إليهم!

ورغم السِجال والمعترك السياسي الذي كان يدور في البرلمان , فقد كانت هناك علاقات إجتماعية وإنسانية جيدة بين السياسيين من الأحزاب المختلفة. فقد كان المرحوم عبدالخالق محجوب - زعيم الشيوعيين - يبعث بالطعام وكتب إسلامية إلي الرشيد الطاهر بكر زعيم الأخوان المسلمين عندما كان سجيناً. كما سمحت الثقافة السياسية المتسامحة للمرأة السودانية بحق الإقتراع والترشيح منذ عام 1965 , بينما ما زالت بعض الدول تمنعها من قيادة السيارة أوتحرمها حقها في التصويت - هذا إن وُجِد. بل أن السودان قد سبق بعض الدول الأوربية في هذا الشأن كسويسرا التي لم تحصل المرأة فيها علي حقوقها السياسية إلا عام 1971 , والبرتقال في عام 1976.

ولم تعرف الثقافة السياسية السودانية الإغتيال والتصفية الجسدية لأسباب سياسية كما هو الحال في بعض الدول العربية : فيصل في السعودية , السادات في مصر , فيصل في العراق , الحريري في لبنان. كما لم تعرف تلك الثقافة - قبل البِعثة التُرابية - الإرهاب الفكري. والمعروف أن الفكر السياسي المقنِع والذي تتجسد المُثل التي ينادي بها في قادته وكوادره لا يحتاج إلي فرضه بالقوة أو البطش أوالتشفّي في الخصوم السياسيين.

بدأ الإرهاب الفكري بإختلاق التُرابيين لتلك الحادثة التي أدت إلي حل الحزب الشيوعي عام 1966, وطرد نوابه من البرلمان واّثارها الكارثية التي تمثلت في إنقلاب مايو 1969 , الذي قطع نمو وتطور الديمقراطية الطبيعي لستة عشر عاماً عِجاف ساد فيها الفساد. وإنتهت حقبة مايو عندما أضفي التُرابيون قداسة علي طاغية لم يعرف السودان مثله من قبل , وصاغوا له قوانين في سبتمبر 1983, بإمكان بعض خريجو الخلوة تفنيدها شرعياً.

ولو سلّمنا جدلاً بصحة إساءة أحد الشيوعيين لعقيدة المسلمين , فليس من المنطق والعدل عقاب الحزب كله وطرد نوابه وتجريدهم من حقهم الذي كفله الدستور وتجاوز قرار المحكمة العليا. إنما كان كل الأمر مصادرة فكر تمكن من كسب شعبية - خاصة وسط القوي الحديثة - تنافسهم وله مقدرة علي مقارعتهم بالحجة والمنطق والديالكتيك.

تطور الإرهاب الفكري السياسي بإسم الدين درجةً بإغتيال الأستاذ محمود محمد طه - شيخ في السبعينات من عمره - في 1984. وقرروا إلقاء جثمانه في الصحراء كأنهم لم يطلعوا علي تلك الاّية التي أبدي فيها ابن اّدم أسفه وحسرته لأنه لم يوارِجسد أخيه بينما فعل الغُراب ذلك. ولم أجد في القراّن أو السنة أو سيرة السلف ما يمنع تكريم الميت بدفنه إلا سابقة واحدة - ربما كانت مرجعية الترابيين - هي عندما منع الثوار المتمردون الذين قتلوا عثمان بن عفان من دفنه في البقيع.

لقد كان إغتيال الأستاذ طه أمرا أصاب السودانيين - بمختلف توجهاتهم السياسية - بالذعر , لأنه قام بمحاولة لنسف أهم الموروثات السودانية الراسخة عبر القرون وهو التسامح والتعايش السلمي. ذلك بالإضافة إلي تقدُمه في العُمر , وأنه ظلّ يدعو لفكره منذ خمسينيات القرن المنصرم في حرية وسلام ولم يمسسه أحداً بسؤ. وعكس الترابيين , إمتاز الأستاذ طه بأنه لم يقم بإنقلاب عسكري لفرض مفاهيمه علي السودانيين بالقوة , بل كان يدعو لها بالحكمة والموعظة الحسنة. وذلك لأن مفهوم السلطان والسيطرة علي الإقتصاد لم يكن محورياً في فكره , إذ كان يعيش زاهداً في بيتٍ متواضعٍ من اللبِن. لقد كانت حادثة إغتياله - كحادثة حل الحزب الشيوعي - نوع من الكيد السياسي والتشفّي وتصفية للخصوم , وذلك لأنه كان قد أصدر كتاباً أوضح فيه أن الذي حدث في سبتمبر 1983 ليس له علاقة بالإسلام.

وعقب الإنقلاب , قام رجال أمن الإنقاذ - في إساءة أخري لتسامح السودانيين - بذلك الفعل الذي يستحي القلم عن ذكره في العميد محمد أحمد الريّح , الذي أثبت شجاعته وأصالته السودانية عندما قام بفضحهم وتعريتهم. وهو فعل من الأفعال التي لا تمارسها الحيوانات رغم أنها لم تتطلع علي دِين. كما أن أحد ضباط الأمن كان قد هدّد أحد الإتحاديين من زعماء أحدي قبائل شرق النيل في ولاية الخرطوم بأن مصيره سيكون كالعميد الريح , فتوفي ذلك الزعيم كمداً عقب سقطة قلبية!

ثم ّحدثت مذبحة رمضان عام 1990 - حسب فتوي الترابي - والتي أريقت فيها دماء ثمان وعشرون ضابطا من القوات المسلحة بتهمة تدبير إنقلاب عسكري , كأنما النظام قد جاء إلي سدة الحكم عن طريق صناديق الإقتراع. ولأن السودانيين يأنفون بطبعهم المتسامح من الإعدام , فقد صُدم السودانيون وكان عيد ذلك العام أسوأ عيد عرفه السودان. ومقارنة بإعدامات نظامي أبراهيم عبود وجعفر النميري , فإن هذه كانت أكثر فجيعة لأنها أولاً تمت في قداسة شهر رمضان , وثانياً لم يطرح هذين النظامين إشعارات إسلامية , والإسلام يقدّس النفس البشرية لأن الله قد نفخها من روحه. وثالثاً فقد فاق عددهم جُملة الذين أعدمهما كلٌ من نظامي عبود ونميري. فقد كان عدد الضباط الذين أعدمهم عبود خمس , بينما أعدم نميري إثني عشر ضابطاً.

لم تكن هناك ضرورة أمنية لتلك المذبحة لأنه كان من الممكن الحكم عليهم بالسجن المؤبد , إنما أراد النظام بها وبحادثة العميد الريّح , وما دار في بيوت الأشباح , إرسال رسالة واضحة وفي غير لبس إلي السودانيين. فحوي تلك الرسالة هي أننا نحن الإسلاميون وبعد أن حققنا طموحنا الذي ظللنا نعمل ونخطّط له منذ الستينيات لحكمكم لن نتواني عن البطش والتنكيل وإراقة الدماء لمن تسول له نفسه المساس بحكمنا ولن يلجمنا دين أو عُرف أوأسطورة التسامح والتعايش السلمي لديكم.

ثم كانت الحرب الجهادية في الجنوب والتي إستمرت لخمسة عشر عاماً سالت فيها أنهار من الدماء من الجانبين والتي هلك فيها من الشماليين إضافة إلي الجيش , أولئك الذين تمّ أخذهم عُنوة كحادثة معسكر أم دوم والتي مات فيها العشرات من شبابٍ في ريعان شبابهم. واّخرون كان قد تمّ غسيل أدمغتهم فطمعوا في الظفر بالحور العين في الجنة , خاصة وقد سمعوا بالمعجزات التي حدثت في أحراش الجنوب إذ كانت القرود تنبيء "المجاهدين" بأماكن الألغام!

لم يتعظ المحافظون الجُدُد من حرب الجنوب والحل الذي اّلت له , والذي هو في الواقع دولة في الجنوب لها جيشها وعلاقاتها الدولية وتحالفاتها الإقليمية , بل واصلوا إسالة الدماء في دارفور. أهل دارفور ظلوا مقيمين في هذه البقعة من قبل الإسلام ولم يسملوا بفتح إنما عن طريق الفقهاء والمتصوفة وأحسنوا إسلامهم. وتمسكوا بروح الإسلام وكان سلطانهم علي دينار قد بعث بكسوة الكعبة , وظلت دولة مستقلة إلي أن ضمها الإستعمار الإنجليزي إلي السودان عام 1916.

يحاول بعض مُنظِري المحافظين الجُدُد في كتاباتهم المعروفة بتغليف الحقائق وتزوير التاريخ المعاصر, تصوير هذا الصراع العرقي علي أن أساسه هو صراع قبلي يدور حول المراعي. وهذا رأي باطل لأن الفور قد سمحوا بتواجد قبائل عربية شاركتهم تلك المراعي منذ مئات السنين , منها المسيرية والهبانية وبني حسين والمحاميد والرزيقات. وكيف يكون صراعاً قبلياً وقد أستخدم فيه الجيش المروحيات ضد الفور؟

يرفض الرئيس الأرقام التي تشير إلي مئأتي ألف قتيل من الفور ويعترف بأن الرقم الحقيقي هو تسعة ألف , متناسياً أنه "من قتل نفسٌ بغير نفسٍ أو فساداً في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاُ" وكيف وإذا بالرقم تسعة ألف؟ وحتي لو إقتنع النظام بتقليص السودان إلي مُثلث حمدي الشهير - حسب فلسفتهم المِعوجة في الإستثمار - فإنه قد منح إسرائيل بهذه الحرب العنصرية , نفوذاً في دارفور مما يشكّل خطراًعلي الأمن القومي لما يتبقي من القطر.

رغم أن إراقة الدماء لتحقيق ماّرب سياسية لا يمكن تبريره إطلاقاً دينياً أوأخلاقياً , إلا أن المرء ربما وجد بعض العُذر للعنف عند حركتهم الأم : الأخوان المسلمين في مصر. وذلك كرد فعل لأن تلك الحركة قد نشأت وعملت في ظِل نظامٍ كان قد بطش بها ولم يسمح لها بالعمل العلني وأعدم وربما إغتال قادتها (قطب , البنا). بيد أن الأمر مختلفاً تماماً في السودان الذي سمح لهم تسامح أهله - بإستثناء إعتقالات سِني مايو الأولي - بكامل الحرية في إنشاء حزبهم ومنظماتهم الواجِهة ومصارفهم. إذن فلدينا فئة إستغلت تسامح السودانيين ثمّ أساءت لهم بالتنكيل والتشفّي في الخصوم السياسيين وإراقة الدماء دون أي مُبرر.

ما هو الحل؟
لا يمكن إدارة أزمة تُحدّد مصير ومستقبل أمة اُستهدِفت في هويتها بمبدأ "عفا الله عمّا سلف" الذي يناسب حل شجار حدث بين شخصين. يبدو أن السودان يحتاج أولاً إلي قانون إنتخابات جديد أو حتي دستوراً جديداً يفرضه نظام ثوري. وبما أن المحافظين الجًدُد قد حذفوا صفة "إسلامي" من حزبيهما الشعبي والوطني , فإن قانون الإنتخابات المصري الذي يحظر الأحزاب القائمة علي أساس ديني لن يُخرج السودان من هذا المأزق. إذن تبقّي الحل الأخير والأوحد وهو سن قانون كقانون إجتثاث البعث العراقي لإستئصال هذا الداء , وإستعادة الغنائم التي سُلِبت. خلا ذلك فإن الأخطبوط سيظهر وينمو في شكلٍ جديدٍ ويعود السودانيون يديرون في نفس الحلقة المفرغة.



#بابكر_عباس_الأمين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- النِفاق الأمريكي بشأن الديمقراطية في هندوراس وجمهوريات الموز
- النزعة العلمانية للحركة الإسلامية السودانية


المزيد.....




- رصدته كاميرات المراقبة.. شاهد رجلًا يحطم عدة مضخات وقود في م ...
- هل تعلم أنّ شواطئ ترينيداد تضاهي بسحرها شواطئ منطقة البحر ال ...
- سلطنة عُمان.. الإعلان عن حصيلة جديدة للوفيات جراء المنخفض ال ...
- في اتصال مع أمير قطر.. رئيس إيران: أقل إجراء ضد مصالحنا سيقا ...
- مشاهد متداولة لازدحام كبير لـ-إسرائيليين- في طابا لدخول مصر ...
- كيف تحولت الإكوادور -جزيرة السلام- من ملاذ سياحي إلى دولة في ...
- محاكمة ترامب -التاريخية-.. انتهاء اليوم الأول دون تعيين مُحل ...
- حزب الوحدة الشعبية الديمقراطي الأردني في عمان يتقبل التهاني ...
- كاتس يدعو 32 دولة إلى فرض عقوبات على برنامج إيران الصاروخي
- -بوليتيكو-: الاتحاد الأوروبي بصدد فرض عقوبات جديدة على إيران ...


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - بابكر عباس الأمين - إراقة الدماء والتشفّي لدي إسلاميي السودان