أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - غسان كنفاني - إلى غادة السمان














المزيد.....

إلى غادة السمان


غسان كنفاني

الحوار المتمدن-العدد: 6195 - 2019 / 4 / 8 - 10:20
المحور: الادب والفن
    


غادة..
أعرف أنّ الكثيرين كتبوا لك، وأعرف أنّ الكلمات المكتوبة تخفي عادة حقيقة الأشياء خصوصًا إذا كانت تعاش وتُحسّ وتنزف على الصّورة الكثيفة النّادرة التي عشناها في الأسبوعين الماضيين.. ورغم ذلك، فحين أمسكت هذه الورقة لأكتب لك كنت أعرف أنّ شيئًا واحدًا أستطيع أن أقوله وأنا أثق من صدقه وعمقه وكثافته وربّما ملاصقته التي يخيّل إليّ الآن أنّها كانت شيئًا محتومًا، وستظلّ، كالأقدار التي صنعتنا: إنني أحبّك.
الآن أحسّها عميقة أكثر من أيّ وقت مضى، وقبل لحظة واحدة فقط مررت بأقسى ما يمكن لرجلّ مثلي أن يمرّ فيه، وبدت لي تعاساتي كلّها مجرّد معبر مزيّف لهذه التّعاسة التي ذقتها في لحظة كبريق النّصل في اللحم الكفيف.. الآن أحسّها، هذه الكلمة التي وسّخوها، كما قلت لي والتي شعرت بأنّ عليّ أن أبذل كلّ ما في طاقة الرّجل أن يبذل كي لا أوسّخها بدوري.

إنني أحبّك: أحسّها الآن والألم الذي تكرهينه – ليس أقلّ ولا أكثر مما أمقته أنا- ينخر كلّ عظامي ويزحف في مفاصلي مثل دبيب الموت. أحسّها الآن والشمس تشرق وراء التلّة الجرداء مُقابل الستارة التي تقطّع أفق شرفتك إلى شرائح مُتطاولة.. أحسّها وأنا أتذكّر أنني أيضًا لم أنم ليلة أمس، وأنني فوجئت وأنا أنتظر الشروق على شرفة بيتي أنني – أنا الذي قاومت الدّموع ذات يوم وزجرتها حين كنت أجلد- أبكي بحرقة. بمرارة لم أعرفها حتى أيّام الجوع الحقيقي، بملوحة البحار كلّها وبغربة كلّ الموتى الذين لا يستطيعون فعل أيّما شيء.. وتساءلت: أكان نشيجًا هذا الذي أسمعه أم سلخ السّياط وهي تهوي من الدّاخل؟
لا. أنت تعرفين أنني رجل لا أنسىوأنا أعرَف منك بالجحيم الذي يطوّق حياتي من كلّ جانب، وبالجنّة التي لا أستطيع أن أكرهها، وبالحريق الذي يشتعل في عروقي، وبالصّخرة التي كتب عليّ أن أجرّها وتجرّني إلى حيث لا يدري أحد.. وأنا أعرف منك أيضًا بأنّها حياتي أنا، وأنّها تنسرب من بين أصابعي أنا، وبأنّ حبّك يستحقّ أن يعيش الإنسان له، وهو جزيرة لا يستطيع المنفيّ في موج المحيط الشّاسع أن يمرّ بها دون أن... ورغم ذلك فأنا أعرف منك أيضًا بأنني أحبّك إلى حد أستطيع أن أغيب فيه، بالصّورة التي تشائين، إذا كنت تعتقدين أنّ هذا الغياب سيجعلك أكثر سعادة، وبأنّه سيغيّر شيئًا من حقيقة الأشياء.
أهذا ما أردت أن أقوله لك حين أمسكت الورقة؟ لست أدري.. ولكن صدّقيني يا غادة أنني تعذّبت خلال الأيّام الماضية عذابًا أشكّ في أنّ أحدًا يستطيع احتماله، كنت أجلد من الخارج ومن الدّاخل دونما رحمة وبدت لي حياتي كلّها تافهة، واستعجالا لا مبرر له، وأنّ الله إنّما وضعني بالمصادفة في المكان الخطأ لأنّه فشل في أن يجعل عذابه الطّويل الممض وغير العادل لهذا الجسد، الذي أحتقر فيه قدرته غير البشريّة على الصّلابة، ينحني ويموت..
إنّ قصّتنا لا تُكتب، وسأحتقر نفسي لو حاولت ذات يوم أن أفعل، لقد كان شهرًا كالإعصار الذي لا يُفهم، كالمطر، كالنّار، كالأرض المحروثة التي أعبدها إلى حدّ الجنون وكنت فخورًا بك إلى حدّ لمت نفسي ذات ليلة حين قلت بيني وبين ذاتي أنّك درعي في وجه النّاس والأشياء وضعفي، وكنت أعرف في أعماقي أنني لا أستحقّك ليس لأنني لا أستطيع أن اعطيك حبّات عينيّ ولكن لأنني لن أستطيع الاحتفاظ بك إلى الأبد.
وكان هذا فقط ما يعذّبني.. إنني أعرفك إنسانة رائعة، وذات عقل لا يصدّق وبوسعك أن تعرفي ما أقصد: لا يا غادة لم تكن الغيرة من الآخرين.. كنت أحسّك أكبر منهم بما لا يُقاس، ولم أكن أخشى منهم أن يأخذوا منك قلامة ظفرك. لا يا غادة، لم يكن الادّعاء والتمثيل والزّيف فذلك الشيء الوحيد الذي لا أستطيع أبدًا إتقانه ولو أتقنته لما كنت الآن في قاع العالم.. لا يا غادة.. لم يكًن إلا ذلك الشّعور الكئيب الذي لم يكُن ليُغادرني، مثل ذبابة أطبق عليها صدري، بأنّك لا محالة ستقولين ذات يوم ما قلتِه هذه الليلة.
إنّ الشّروق يذهلني، رغم الستارة التي تحوّله إلى شرائح وتذكّرني بألوف الحواجز التي تجعل من المستقبل – امامي- مجرّد شرائح.. وأشعر بصفاء لا مثيل له مثل صفاء النّهاية ورغم ذلك فأنا أريد أن أظلّ معك، لا أريد أن تغيب عنّي عيناك اللتان أعطتاني ما عجز كلّ شيء انتزعته في هذا العالم من إعطائي. ببساطة لأنّي أحبّك. وأحبّك كثيرًا يا غادة، وسيدمّر الكثير منّي أن أفقدك، وأنا أعرف أنّ غبار الأيّام سيترسّب على الجرح ولكنني أعرف بنفس المقدار أنّه سيكون مثل جروح جسدي: تلتهب كلّما هبّت عليها الرّيح.
أنا لا أريد منك شيئًا وحين تتحدّثين عن توزيع الانتصارات يتبادر إلى ذهني أنّ كلّ انتصارات العالم إنّما وزّعت من فوق جثث رجال ماتوا في سبيلها.
أنا لا أريد منك شيئًا، ولا أريد – بنفس المقدار- أبدًا أبدًا أن أفقدك.
إنّ المسافة التي ستُسافرينها لن تحجبك عنّي، لقد بنينا أشياءكثيرة معًا، لا يمكن بعد، أن تغيّبها المسافات ولا أن تهدمها القطيعة لأنّها بنيت على أساس من الصّدق لا يتطرّق إليه التزعزع.
ولا أريد أن أفقد "النّاس" الذين لا يستحقّون أن يكونوا وقود هذا الصّدام المروّع مع الحقائق التي نعيشها.
.. ولكن إذا كان هذا ما تريدينه فقولي لي أن أغيب أنا. ظلي هنا أنت فأنا الذي تعوّدت أن أحمل حقيبتي الصّغيرة وأمضي..
ولكنني هذه المرّة سأمضي وأنا أعرف أنني أحبّك، وسأظلّ أنزف كلّما هبّت الرّيح على الأشياء العزيزة التي بنيناها معًا..
غسّان



#غسان_كنفاني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إلى غادة السمان


المزيد.....




- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - غسان كنفاني - إلى غادة السمان