أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير - شابا ايوب - الكلدان الآشوريون السريان - شعب واحد بثلاث تسميات















المزيد.....



الكلدان الآشوريون السريان - شعب واحد بثلاث تسميات


شابا ايوب

الحوار المتمدن-العدد: 2721 - 2009 / 7 / 28 - 08:09
المحور: القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير
    


الكلدان الآشوريون السريان - شعب واحد بثلاث تسميات
مقدمة
منذ سقوط جدار برلين وانهيار الأتحاد السوفييتي وبقية الدول الأشتراكية في شرق أوروبا وتفككها الى كيانات قومية أدت الى تشكيل دول جديدة على اسس عرقية أو قومية كما هو الحال في جمهوريات الأتحاد السوفيتي السابق وانفصال سلوفاكيا عن جمهورية التشيك وتفكك يوغسلافيا وغيرها,عادت المشاعر القومية تبرز بقوة في ألأوساط الشعبية ووسط النخب السياسية, كما أزداد الأهتمام من جديد بالقضية القومية. وساهم الغرب عموما والولايات المتحدة الأمريكية بصفة خاصة ولدوافع ذاتية على تأجيج الصراعات العرقية فيما بينها تنفيذا للسياسة القديمة (فرّق تسد).
وقد أثّرت هذه التغييرات الدولية الكبيرة في وعي قطاعات واسعة من الجماهير الشعبية وخاصة في تلك الدول التي سادت فيها أنظمة الأستبداد ومورست فيها سياسات التمييز القومي والديني والمذهبي. وتجلى هذا بأوضح صوره في العراق, حيث مارس النظام البعثي سياسة الصهر القومي ضد الأكراد والتركمان والكلدان والآشوريين والأرمن الى جانب سياسة التبعيث القسرية, مما أجج المشاعر القومية لدى طائفة واسعة من أبناء هذه القوميات, وأعطى دفعا قويا لتشكيل عدة أحزاب وكيانات سياسية على اسس عرقية أو مذهبية أو قبلية, وذلك بحثا وراء هوية جديدة, بعد أن فقدت المواطنة مضمونها وخف بريقها, وفقد الأمل بالتغيير المنشود لصالح اقامة نظام ديمقراطي يقوم على المساواة التامة بين كل المكونات العرقية والدينية والمذهبية, ويرتكز على المواطنة الصادقة (أي الولاء للوطن وليس للقائد أو للحزب أو للأيديولوجيا أو للدين). لأن الوطن يسبق كل هذه المسميات في وجوده ويسمو عليها قاطبة, كما أن كل هذه المسميات يمكن أن تفنى وتزول أو تتغير بمرور الزمن ألآّ الوطن فهو باق. لأن الوطن هو الأرض, هو التاريخ والتراث, هو الشعب بكل ابداعاته ومنجزاته, هو الأب والأم بحنانهما ومحبتهما وعشقهما, هو بأختصاركل شيء. والكلدان والآشوريون والسريان ليسوا أقل تأثرا من غيرهم بهذه الأوضاع.
وعلى الرغم من أن أهتمام مثقفينا بالقضية القومية للكلدان والآشوريين والسريان أخذ طابعا جديا منذ النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي, ومن أن فكرة اقرار تسمية موحدة لأبناء شعبنا الكلداني الآشوري السرياني ليست جديدة, الاّ ان الجدل حولهما احتدم كثيرا بعد سقوط نظام الطاغية صدام والذي أتاح الفرصة لأعداد غفيرة من المهتمين بالشأن السياسي والقومي لشعبنا لأبداء الرأي والمشاركة في صياغة القرارات السياسية المصيرية لشعبنا. وفي مقدمتها اقرار تسمية موحدة جامعة لهذه المكونات الثلاثة ونابعة من صميم تاريخه وتراثه وملامحه القومية والدينية وخصوصيتة وتميّزه عن باقي شعوب المنطقة لتثبيتها في الدستور العراقي الجديد وكذلك في دستور كردستان العراق.
ان الهدف من الكتابة في هذا الموضوع هو البحث الجاد لأيجاد تسمية موحدة لشعبنا ترضي جميع الأطراف, وتأخذ بنظر الأعتبار هذا الأرث التاريخي المجيد. وتعكس التحولات والتبدلات التي طرأت على وعيه القومي والديني والتي أثرت على تكوين شخصيته, وما تركته من أثر في تحديد هويته وانتمائه, منذ سقوط دولته والى عصرنا الراهن. وهي مهمة صعبة وتحدي كبير يواجه الجيل الجديد من أبناء شعبنا.
أن حل هذه الأشكالية يجب أن يكون ديمقراطيا وينبع من الأرادة الحرة لجماهير شعبنا وبعيدا عن كل أشكال التعصب العرقي والمذهبي والطائفي, ووفق منظور علمي يأخذ بالحسبان انتشار ما يعادل نصف أبناء شعبنا في دول المهجر, ووفق غايات وأهداف تخدم تطلّعات شعبنا في الرقي والأزدهار, لكي يستعيد دوره التاريخي في الخلق والأبداع ولكي يصبح مكونا نشيطا يساهم بقوة في نهضة العراق الجديد.
ومن أجل بلوغ هذه الغاية النبيلة لابد من الأحتكام الى الوقائع التاريخية والجغرافية واللغوية والى بعض المفاهيم السياسية كالقومية ومقوماتهما الأساسية والدين, لنرى مدى تأثيرها على صياغة الهوية القومية لمواطننا الكلدو– آشوري– السرياني.

*****

نبذة تاريخية لبلاد ما بين النهرين
يشير الأستاذ الكبير طه باقر في مؤلفه مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة الى ظهور مصطلحان جغرافيان مهمان منذ عصر فجر السلالات (2800 – 2400 ق.م) أحدهما (بلاد سومر) – مات شومريم للقسم الجنوبي من السهل الرسوبي, والآخر (بلاد أكد) – مات أكديم للقسم الأوسط من ذلك السهل. هذا ولا توجد حدود طبيعية واضحة بينهما, ولكن يمكن القول أن بلاد أكد كانت تمتد من حدود شمال بغداد الى جنوب مدينة الحلة, والى الجنوب من ذلك بلاد سومر. وبعد فترة استحدثت تسميات جغرافية سياسية أخرى منها (بلاد بابل ) و (بلاد آشور). وأستعمل عدد من الكتاب اليونانيين والرومان ومنهم المؤرخ المشهور (هيرودوتس) هاتين التسميتين لأطلاقهما على القطر كلّه أو الأجزاء الوسطى والجنوبية منه, كما استعملوا تسمية (كالدية) أي بلاد الكلدانيين نسبة الى الكلدانيين الآراميين الذين أسسوا الدولة الكلدية ما بين القرنين السابع والسادس ق.م. وما بين القرن الرابع والثاني ق.م ظهر عند الكتاب اليونانيين والرومان مصطلحا جغرافيا جديدا هو بلاد ما بين النهرين( ميسوبوتاميا ), وهي التسمية الأغريقية التي شاع استعمالها عند الكتاب الأوروبيين فيما بعد. ان أقدم وأوضح استعمال لهذه التسمية جاء على يد المؤرخ الشهير بوليبيوس (202 – 120 ق.م) ثم تبعه الجغرافي الشهير سترابون (64 ق.م – 19 م) في استعمال هذا المصطلح على الأرض العراقية المحصورة ما بين دجلة والفرات من الشمال الى حدود بغداد تقريبا. كما جاء في التوراة ذكر الأقليم ب (آرام نهرايم) الذي يعني (آرام النهرين) أي بلاد ما بين النهرين, واتسع مدلول هذا المصطلح من القسم الشمالي من بلاد ما بين النهرين الى اطلاقه على القطر العراقي كله. ان الحد الفاصل ما بين بلاد آشور وبلاد بابل عند البلدانيين العرب هو الخط المار تقريبا من الفلوجة على الفرات الى تكريت على دجلة. أما حسب غولايف فأن هذا الخط يمر من هيت على الفرات الى سامراء على دجلة.
ان خصوبة ارض ما بين النهرين جعلها محط انظار الأقوام المجاورة وهجراتهم اليها منذ العصور القديمة. فمن البوادي الشمالية الغربية وجزيرة العرب نزحت اقوام سامية مختلفة. ومن الأقاليم الشرقية والشمالية الشرقية نزحت اقوام عديدة يرجع اصل بعضها الى الأقوام الهندية الأوروبية. ان ابرز ظاهرة في تاريخ بلاد ما بين النهرين هو استمرار الهجرات البشرية من المناطق المذكورة أعلاه في مختلف عصور التاريخ القديم والحديث وعملية الأنصهار الحضاري المتمثلة في صهر الأقوام المختلفة في بودقة حضارة وادي الرافدين جاعلة له كيانا تاريخيا وحضاريا متميزا منذ القدم.
سأورد هنا وبأختصار أشهر الأقوام التي استوطنت بلاد ما بين النهرين وأسهمت بالأدوار الرئيسية في بناء حضارته, وسوف أقتصر على الجوانب اللغوية فقط نظرا لشحة المعلومات حول الأصول العرقية والأجناس.
السومريون
ان أصلهم ما زال يحيّر العلماء والأختصاصيين, ولكن هناك اعتقاد بأن اسم سومر يعني (أرض سيد القصب والأحراش) ولعل المقصود بسيد الأحراش هنا هو الأله السومري المشهور (أنكي) أو (أيا)- أله الأرض والمياه الظاهرة. اما لغتهم فهي من نوع اللغات المعروفة باللغات الملصقة مثل اللغة العيلامية القديمة والمغولية والتركية والمجرية وبعض اللغات القوقازية مثل الجورجية, ولكنها لاتمت بصلة بأي منها. ان تفرّدها يعود على الأكثرالى انتمائها الى عائلة لغوية قديمة, انقرضت في أزمان بعيدة من عصور ما قبل التاريخ.
الساميون
اطلق على الأقوام التي هاجرت من مهدها الأصلي في جزيرة العرب وأطرافها أي ما يسمى بالهلال الخصيب اسم الأقوام السامية, وكان المستشرق الألماني شلوتزر أول باحث أوجد مصطلح ساميين لأطلاقه على المتكلمين بأحدى لغات العائلة السامية كالعربية والعبرانية والأكدية والآرامية والكنعانية نظرا لتشابهها وظنا منه ان المتكلمين بها منحدرون من نسل (سام) أبن نوح. ويمكن تصنيف عائلة اللغات السامية الى ثلاث كتل لغوية:
1 - كتلة اللغات السامية الشرقية
وتتألف من اللغات او اللهجات الأكدية في العراق القديم وقد بدأ تدوينها بالخط المسماري منذ 2500 ق.م ومنذ الألف الثاني ق.م تفرّعت اللغة الأكدية الى اللهجات الرئيسية التالية:
أ) - البابلية ( في حدود 2000 ق.م الى القرن الأول الميلادي)
ب) - الآشورية (في حدود 2000 ق.م - 600 ق.م)
2 - كتلة اللغات السامية الغربية
وموطنها في بلاد الشام, اي سورية وفلسطين ولبنان وشرقي الأردن. وتنقسم هذه الكتلة بدورها الى مجموعتين كبيرتين هما
أ) اللغات الكنعانية ومنها الآمورية والكنعانية-الفينيقية, والعبرانية والموأبية (نسبة الى موأب في شرقي الأردن) والفينيقية الحديثة في قرطاجنة.
ب) الآرامية القديمة ما بين القرنين العاشر والثامن ق.م ثم تفرّعت الى فرعين رئيسيين احتوى كلا منها على عدة لهجات.
1- الآرامية الشرقية ومنها اللهجة الحضرية (مدينة الحضر المشهورة) والآرامية البابلية والآرامية الرهوية (سريانية الرها) واللهجة الصابئية المندائية والآثورية في العراق.
2- الآرامية الغربية ومنها الآرامية النبطية والتدمرية والآرامية الفلسطينية والسورية وغيرها من اللهجات المحلية.
3 - كتلة اللغات السامية الجنوبية ( الجنوبية الغربية)
وهي لغات الجزيرة العربية واللغة الحبشية والحجازية بفروعها ولهجاتها المختلفة.
فالساميون الشرقيون أقاموا الدولة الأكدية وذلك في منتصف الألف الثالث ق.م. أما الساميون الغربيون فأشتهر منهم القبائل الآمورية وهم الكنعانيون الشرقيون في وادي الرافدين وبلاد الشام والكنعانيون الغربيون ومنهم الفينيقيون في سورية ولبنان وفلسطين. كانت الهجرة الأولى للآموريين الى العراق في أواخر الألف الثالث ق.م ونتج عنها تحطيم امبراطورية (أور) وأقامة عدة دويلات على أنقاضها وأعقبتها من بعد نحو مائة عام هجرة آمورية ثانية تشكلت منها عدة دويلات من أشهرها سلالة بابل الأولى التي اشتهرت بملكها السادس حمورابي (1792 – 1750 ق.م).
الآراميون
انتشرت القبائل الآرامية ما بين القرنين الرابع عشر والثاني عشر ق.م في بلاد الشام وبواديها وفي جزيرة ما بين النهرين (أرض ما بين النهرين العليا) وقامت منها عدة دويلات, ولكنها دخلت في صراع مميت مع الآشوريين. وكان الضغط الآشوري واحدا من الأسباب الرئيسية التي حالت دون قيام دولة كبرى من الآراميين. كما نزحت القبائل الآرامية الى وادي الفرات الأعلى والأسفل وقامت منهم عدة مشيخات ودويلات كان آخرها وأشهرها الدولة الكلدانية التي أشتهرت بملكها نبوخذ نصر الثاني (650 – 562 ق.م).
السوباريون
ان أصل ولغة السوباريين غير معروفتين وقد ورد ذكرهم لأول مرة في أخبار حاكم مدينة لجش المسمى (أياناتم) وفي أخبار فتوح سرجون الأكدي, وأنهم كانوا من الأقوام الجبلية في الجهات الشرقية مثل الكوتيين واللوبيين, وكانوا يقطنون في شمالي ما بين النهرين في منطقة الجزيرة العليا وشرقي دجلة (وهي المنطقة التي عرفت بعد ذلك ببلاد آشور), وذلك قبل هجرة الآشوريين الساميين في الألف الثالث ق.م, حيث أزاحوا القسم الأكبر من السوباريين الى المناطق الجبلية شرقي دجلة. فدخلت عناصر كثيرة منهم في التركيب القومي للآشوريين. كما دخلت منهم عدة تأثيرات لغوية وحضارية في الثقافة الآشورية. واستعمل مصطلح (سوبارتو) في كثير من النصوص البابلية مرادفا لبلاد آشور والآشوريين. أما الآشوريون فقد تحاشوا استعمال كلمة سوبارتو لأطلاقها على بلادهم بسبب استهجانهم لهذا التعبير الذي كان يطلق أيضا على العبد, بالنظر الى شهرة العبيد الذين كان البابليون يجلبونهم من بلاد السوباريين بحيث أصبحت كلمة (سوبارم) مرادفة في اللغة الآشورية القديمة لكلمة عبد.
الحوريون
يرجح أصلهم من المنطقة الجبلية التي تكّون نصف دائرة تمتد من جبال طوروس بالقرب من كركميش الى بحيرة وان تقريبا. وقد ظهروا في التاريخ منذ الألف الثالث ق.م, ولكن لم يبرز لهم شأن سياسي مهم الاّ في القرن الخامس عشر ق.م. حيث ظهرت في شمالي ما بين النهرين مملكة كان أغلب سكانها من الحوريين ولكن الطبقات الحاكمة فيها كانت من الأرستقراطيين الآريين, وكان مركزها في وادي الخابور والباليخ وقد سماها الآشوريون (خانيكلبات) وأطلق عليها اسم (نهارين), كما عرفت بالنصوص المعاصرة بأسم مملكة (ميتاني). وفي القرن الخامس عشر ق.م غزا ملكهم المسمى (سوشتار) بلاد آشور ولكن الملك الآشوري آشور اوبالط ( 1362 – 1337 ق.م) قضى على دولتهم.
*****
الكيانات السياسية (الدويلات) القديمة في بلاد ما بين النهرين
دويلات المدن
كان النظام السائد في عصر فجر السلالات هو نظام دولة المدينة, ويعدّ هذا النظام على أنّه أول شكل من أشكال الحكم في التاريخ البشري. ونمت في دولة المدينة فكرة المواطن والمواطنة. أن ما يدهش الباحثين في حضارة وادي الرافدين أن لا يجد آثارا للنظام القبلي منذ أواخر عصور ما قبل التاريخ. ولعل السبب في ذلك هو ان الوحدة السكانية في السهل الرسوبي كانت القرية الفلاحية أولا ثم المدينة, اللتين اعتمدتا على الأقتصاد الزراعي وجهاز الري والتجارة. كانت دولة المدينة مكونة من مدينة مركزية هي العاصمة, يتبعها مدن اخرى وعدد من القرى والأرياف والأراضي الزراعية. وكان لمعظم المدن أسوار تحيط بها. وكان المعبد مركز حياة المدينة في النواحي الدينية والأجتماعية والأقتصادية والسياسية.
الأكديون
انتهى عصر فجر السلالات (عصر دول المدن) بتوحيد دويلات المدن وتأسيس مملكة القطر على يد القائد العظيم
لوكال زاكيزي. وبعد حوالي ربع قرن برز قائد آخر أشد عزيمة وأصلب عودا منه وهو الملك العظيم سرجون الأكدي مؤسس الدولة الأكدية (2334 – 2154 ق.م) نسبة الى مدينة أكد التي أسسها سرجون بنفسه واتخذها عاصمة له.
والأكديون هم الساميون الذين نزحوا الى وادي الرافدين منذ أقدم العصور التاريخية وعاشوا جنبا الى جنب مع الأقوام الأخرى وفي مقدمتهم السومريون.
ويعتبر العهد الأكدي بداية لعصر جديد, بدأت فيه ملامح حضارة وادي الرافدين تتبدل تبدلا أساسيا من النواحي القومية واللغوية والسياسية. فعلى الصعيد اللغوي صارت اللغة الأكدية هي اللغة السائدة منذ العصر البابلي القديم (الألف الثاني ق.م) تدوينا وتكلّما. وأتخذ سرجون لقبا جديدا لنفسه هو (ملك الجهات الأربع) وهو لقب ذو مدلول ديني أيضا, لتثبيت السلطان السياسي. فقد كان هذا اللقب خاصا ببعض الآلهة العظام مثل (آنو) و (أنليل) و(شمش) بصفتهم أسياد الخليقة والكون. كما أبطل نظام تولي المناصب العليا (مثل حكام المدن والأقاليم التابعة) بالوراثة. ويستشف من الكثير من الوثائق المكتشفة بوادر الأنتقال من الأقتصاد المعبدي الذي كان سائدا في دويلات المدن الى النظام العلماني في الحياة الأقتصادية والأجتماعية.
وقد اسفرت الفتوح الأكدية التي قام بها سرجون وخلفاؤه وأشهرهم حفيده (نرام – سين) عن تكوين امبراطورية واسعة شملت معظم أجزاء الهلال الخصيب وبلاد عيلام والأقسام الشرقية من آسية الصغرى الى سواحل البحر المتوسط. وأصبحت ممالك آشور وبابل وسومر جزأ من امبراطوريته الواسعة والمترامية الأطراف, حيث استولى سرجون على بلاد آشور ومدنها المشهورة آنذاك ومنها مدينة آشور. وبعد موت حفيده نرام– سين انهارت الأمبراطورية الأكدية على أيدي الكوتيين الذين ينحدرون من أقوام جبال زاجروس, وكانوا يجاورون اللولوبيين الساكنين جنوب منطقة شهرزور.ويقال عن هؤلاء الكوتيين أنّهم كانوا برابرة, وأن عهدهم كان من الفترات المظلمة في تأريخ البلاد السياسي. وقد أتخذوا من أرابخا (كركوك) مركزا لهم. وقد تم طردهم علي يد حاكم مدينة الوركاء (أوتو – حيكال), الذي عيّن أور– نمو حاكما على أور. وبعد فترة انفصل هذا الحاكم عن أوتو – حيكال وأسس سلالة أور الثالثة (2112 – 2004 ق.م) حيث أعيدت فيها وحدة البلاد السياسية من بعد فترة حكم الكوتيين المظلمة. ووسعوا مملكة القطر بفتوحهم الخارجية, معيدين بذلك الأمبراطورية الأكدية.
*****
العصر البابلي القديم
أنّ أبرز ما يميّز العصر البابلي القديم (2004 – 1594 ق.م) هو تدفق هجرات الآموريين الذين نزحوا من المرتفعات المسماة جبل (بسار) ويمكن تحديدها ما بين (تدمر ودير الزور). وقد جاءت على موجتين. الموجة الأولى كانت في أواخر سلالة أور الثالثة, والتي قضت على تلك السلالة ونتج عنها تأسيس جملة سلالات أشهرها (أيسن) و(لارسة) و(أشنونا). وبعد زهاء قرن أنحدرت عن جهات الفرات الأعلى والأوسط جماعات أخرى من الآموريين, استطاع شيوخ قبائلها أن يؤسسوا مشيخات أو سلالات حاكمة أشهرها سلالة بابل الأولى التي أسسها (سومو آبم). ومن اشهر القبائل الآمورية هذه هي قبيلة (أمنانم) التي استوطن فرع منها مدينة الوركاء, كما استوطن فرع آخر منها منطقة سبار (أبو حبة). أما قبيلة (يحرورم) فقد استوطنت منطقة دجلة الوسطى ما بين الزاب الأسفل وديالى. وقبيلة (خانيين) التي أستوطنت منطقة خانة (عانة حاليا). كما تميّز هذا العصر بقيام عدة دويلات استمرت تتحارب فيما بينها حتى قيام الملك حمورابي وفرضه الوحدة السياسية في حدود 1763 ق.م بعد قضائه على سلالة لارسة. وبحدود 1900 ق.م وأثناء ازدهار مملكة ماري, أذ أمتدت سلطتها على طوال نهر الفرات والخابور وشملت منطقة عانة, تعاظم سلطان الدولة الآشورية في عهد الملك (شمس – أدد) الأول الذي كان من أصل آموري, فضم اليه مملكة ماري وأجزاء وسطى من وادي دجلة والفرات.
كان الملك شمس– أدد الأول معاصرا لملك بابل المسمى (سين– ميلط) (1812 – 1793 ق.م) وكانت العلاقات ما بين الدولتين علاقات مهادنة ومجاملة. وعندما توفي شمس – أدد الأول في العام السابع من حكم حمورابي 1786 ق.م, أعقبه في الحكم أبنه القوي (أشمي دكان) بينما ظل أخوه (يسمح – أدد) يحكم ماري, ولكنه لم يستطع المحافظة عليها حين نازعه أمير ماري على السلطة, واستطاع أن يطرده منها بمساعدة مملكة حلب. ولكن( أشمي دكان) لم يتقبل ضياع القسم الغربي من مملكته, فأستمرت المناوشات والحملات الحربية ما بين الطرفين.
لما جاء حمورابي الي عرش بابل كان يزاحمه في البقاء ويهدد وجود مملكته الصغيرة ملك لارسة القوي (ريم – سين), الذي استطاع القضاء على مملكة (أيسن) ويضمها اليه قبل أن يتبوأ حمورابي العرش بعامين. بالأضافة الى ذلك كانت هناك ثلاث دويلات الى الشمال منها تحت سلطان شمسي - أدد وهي بلاد آشور وأقليم (أيكالاتم) ومنطقة ماري. والى الشرق مملكة أشنونا المستقلة في الأقليم الكائن ما بين نهر دجلة وديالى.
لكن الملك حمورابي بقابليته الفريدة وقدرتة المتعددة الجوانب التي ميزته, مكّنته من القضاء على كل الدويلات المزاحمة له, فأنفرد بزعامة البلاد وحقق وحدتها السياسية. أن براعة هذا الملك في الخطط الحربية والأدارة والتنظيم جعلت منه ملكا عظيما, ويعد حكمه الطويل الذي دام 43 عاما من العهود المجيدة في تاريخ حضارة وادي الرافدين وفي التاريخ البشري أجمالا. وأقام حمورابي مملكة موحدة تضم العراق وأجزاء مهمة من بلاد الشام وأعالي ما بين النهرين.
وفي عهد ابنه (سمسو– أيلونا) استطاع المسمى (أيلوما– أيلو) أن يثور ويستقل في المناطق الجنوبية من البلاد وحينها أغتنمت بلاد آشور الفرصة فقامت فيها سلسلة من الملوك انفصلوا عن تبعيتهم لأمبراطورية حمورابي. وفي عام 1595 ق.م أسقط الحثيون , الذين أقاموا مملكة قوية في حدود القرن السابع عشر ق.م وعاصمتها (حاتوشا), سلالة حمورابي, فهيمن الكشيون والمتمركزون في منطقة الفرات بالقرب من منطقة عانة على بلاد بابل.
أن أسباب أنهيار امبراطورية حمورابي هي أعتمادها على رجل واحد هو حمورابي نفسه وميزاته الشخصية, وتفضيل سكان المنطقة نظام دولة المدينة الذي سبق ذكره.عند السومريين, وكذلك في سياسة حمورابي وخلفائه في حصر أهتمامهم بالعاصمة بابل على حساب المدن والأقاليم الأخرى التابعة.
الكشيون
نزح الكشيون من بلاد اللر, أي لورستان في الجهات الجنوبية من أيران. ولما برزوا كقوة عسكرية في عهد سلالة بابل الأولى أتجهوا في توسعهم الى وادي الرافدين, ولكن خلفاء حمورابي استطاعوا أن يصدوهم فأتجهوا عبر نهر ديالى ودجلة الى الجهات الشمالية الغربية وتمركزوا في منطقة الفرات الأوسط أي في منطقة عانة الأستراتيجية بالنسبة لبلاد بابل. وحين غزا الحثيون بلاد بابل, أنحدروا الى بابل. ويرى المؤرخون أن الكشيين هم الذين أدخلوا أستعمال الخيل الى بلاد وادي الرافدين على نطاق واسع بحيث أصبحت شائعة للنقل وفي الحرب وفي جر العربات. وفي هذا العهد انتشرت اللغة البابلية بخطها المسماري انتشارا أوسع, بحيث أتخذت لغة للمراسلات الدولية الدبلوماسية بين ملوك الشرق الأدنى وحكّامه. ففي هذا العصر كان يحكم في الشرق آنذاك جملة دول أشهرها وأقواها من بعد الدولة المصرية هي المملكة الحثية في بلاد الأناضول ثم يأتي من بعدها في القوة والأهمية الدولة الآشورية في شمالي العراق والدولة الكشية في بلاد بابل, ودولة ميتاني في الأجزاء العليا من بلاد ما بين النهرين. وسرعان ما ظهرت النزاعات ونشبت الحروب بين هذه الدول ولا سيما بين المصريين والحثيين.
ومنذ القرن الرابع عشر ق.م بدأت الدولة الآشورية بالتعاظم والقوة وازداد نفوذها في عهد الملك شلمنصر الأول (1274 – 1245 ق.م) وأصبحت تتدخل في شؤون بلاد بابل التي حل فيها الضعف وساءت أحوالها الداخلية, ورافق ذلك قيام سلالة حاكمة قوية في بلاد عيلام, فتجددت أطماع عيلام ببلاد بابل, وبدأت تتحارش ببابل وانتهت تحرشاتها بأندحار الملك الكيشي. ولم يخلّص بلاد بابل من الأحتلال العيلامي الاّ هجوم الملك الآشوري القوي (توكلتي – ننورتا) الأول (1244– 1208ق.م) والسيطرة عليها. وظلّت بلاد بابل تحت الأحتلال الآشوري 7 سنوات. وأثر موت الملك توكلتي – ننورتا استعاد البابليون استقلالهم السياسي ولكنهم اذ سلموا من التسلط الآشوري, فأنهم لم يسلموا من عدوهم الآخر العيلاميون الذين هجموا على بلاد بابل وقضوا على السلالة الكشية في حدود 1162 ق.م. لكن احتلال العيلاميين الأخير لبلاد بابل لم يدم طويلا, اذ اغتنم زعماء مدينة (أيسن) الفرصة وأعادوا استقلال البلاد.
*****
الآشوريون
أن اسم الآشوريين مأخوذ من كلمة آشور التي تعتبر من اقدم مراكز الآشوريين وعاصمتهم الأولى وبها سمي أيضا الههم القومي (آشور). ان الموطن الذي حل فيه الآشوريون هو الجزء الشمالي من العراق ويمكن اعتبار نهر العظيم الحد الجنوبي لموطنهم. وكانت مدينة آشور مركزا اداريا مهما من مراكز الأمبراطورية الأكدية. ان ما تركته اللهجة الأكدية في اللغة الآشورية القديمة حمّل بعض الباحثين على القول بأن الكثير من الآشوريين في العصر الآشوري القديم ينتمون الى أصل أكدي, ومما يقّوي هذا الأحتمال أن الكثير من الآشوريين وبصفة خاصة الطبقة الحاكمة منهم من أصل أكدي, هو أن بلاد آشور لم ينشأ فيها نظام دول المدن في عصورها القديمة على غرار ما ظهر في سومر وبابل في عصر فجر السلالات. ان ما يميّز العصر الآشوري القديم هو تدفق هجرات الأقوام الآمورية الى بلاد ما بين النهرين ومنها بلاد آشور. وقد استطاع هؤلاء الآموريين الجدد من اقامة كيانا سياسيا مستقلا وصار منهم ملوك وحكام عديدون من أهمهم سرجون الأول الذي بلغت في عهده الدولة الآشورية اتساعا ملحوظا.
ويليه العصر الآشوري الوسيط الذي يبتدأ من حدود القرن الخامس عشر ق.م وينتهي في أواخر القرن العاشر ق.م والذي كان يعاصر حكم السلالة الكشية في بابل. ففي القرن الخامس عشر ق.م حلّت في بلاد آشور نكبة فادحة اذ استطاعت دولة ميتاني في أعالي ما بين النهرين فرض السيطرة عليها وظلت تحت السيطرة الميتانية حتى مجيء الملك القوي آشور أوبالط الأول الى العرش الآشوري , حيث استطاع بفضل دهائه اسقاط تلك الدويلة وازالتها من الوجود واضعا بذلك أسس الدولة الآشورية القوية. وسار خلفاء آشور اوبالط من الملوك والحكام على نهجه وخصوصا الملك شلمنصر الأول (1274 – 1245 ق.م) الذي اشتهر بفتوحاته الخارجية وتقويته كيان الدولة, كما أسس عاصمة أخرى جديدة للمملكة سماها (كالخو)- نمرود حاليا, وكانت بمثابة العاصمة الحربية. وخلف شلمنصر الأول ملك قوي هو ابنه المسمى توكلتي – ننورتا الأول حيث استمر في عهده تعاظم الدولة الآشورية. وبعد اغتياله وهو محاصر في قصره حل الضعف في المملكة الآشورية وتقلّصت حدودها لفترة دامت زهاء القرن الواحد. وفي هذه الفترة اشتد اندفاع القبائل الآرامية وضغطها على الآشوريين بحيث هددتهم في عقر دارهم, وشملت هذه الأخطار أيضا بلاد بابل حيث اتجهت اليها جملة قبائل من الآراميين. دامت هذه الفترة المظلمة زهاء 166 عاما وانتهت بمجيء الملك (أدد – نيراري) الثاني عم 911 ق.م الى الحكم وبداية العصر الآشوري الحديث.
أثّر الآراميون تأثيرا واسعا في تاريخ الشرق الأدنى, سواء كان ذلك في التركيب السكاني أم اللغوي والحضاري. ونشأت بينهم وبين أقوام حضارة وادي الرافدين صلات كثيرة أثرّت في كلا الجانبين تأثيرات قوية. ومن أشهر القبائل الآرامية هذه هي قبيلة (الأخلامو) و (سوخو) والقبيلة المسماة (كلدو) التي حلّت في بلاد بابل واشتهر من زعماء الآراميين في أواخر القرن السابع ق.م نبوبولاصر الذي كان حاكما على الأجزاء الجنوبية وتابعا للملك الآشوري آشور بانيبال وكذلك ابنه الشهير نبوخذ نصر الثاني.
وبعد أن ضيّق الملوك الآشوريين الخناق على الآراميين, أقام الآراميون في بلاد الشام جملة دويلات منها (آرام نهرين), ويقصد بالنهرين هنا الفرات والخابور, ودويلة (فدان) وكان مركزها في حرّان. وازدهرت اللغة الآرامية والثقافة الآرامية في هذه المنطقة كما اشتهرت في التوراة بكونها موطن الآباء العبرانيين الأوائل قبل ذهابهم الى فلسطين. كما أقاموا مملكة دمشق التي اشتهرت في أواخر القرن الحادي عشر ق.م في الفترة التي ظهرت مملكة العبرانيين في عهد شاؤول وداود, وقضى الآشوريون على دولة دمشق في عام 732 ق.م.
وتميّز الآراميون بنشاطهم التجاري الواسع, حيث كانت قوافلهم التجارية تجوب أنحاء الشرق ألأدنى, ويمكن القول أنهم احتكروا التجارة العالمية طوال عدة قرون. وكان من نتائج ذلك النشاط التجاري الواسع انتشار اللغة الآرامية, وساعدها في ذلك الأنتشار أنها دونت بحروف هجائية أخذها الآراميون من الفينيقيين, فأنتشرت لغتهم انتشارا واسعا عجيبا من دون أية سلطة سياسية.
وأصبحت الآرامية لغة تدوين ولغة الكلام الى جانب اللغات القديمة حتى في عهد الأمبراطورية الآشورية, ومن بعد ذلك في أرجاء الأمبراطورية الفارسية ألأخمينية من تخوم الهند الى بلاد الحبشة. كما صارت لغة السيد المسيح وأتباعه ودونت بها الأناجيل.
وفي العصر الآشوري الحديث الذي يبدأ بحكم الملك (أدد – نيراري) الثاني (911 – 891 ق.م) والذي دام زهاء ثلاثة قرون وانتهى بسقوط نينوى العام 612 ق.م تمكن الآشوريون من السيطرة على حياة الشرق الأدنى كله, وكوّنوا امبراطورية كبرى كانت أوسع ما مرّ بنا من الأمبراطوريات في تأريخ العراق وتأريخ الشرق القديم. فقط قضوا على الخطر الآرامي من جوار بلاد آشور نفسها, وقاموا بعدة غزوات بالأتجاهات الشمالية والشمالية الغربية والى الجهات الشرقية والشمالية الشرقية. أما في الجهة الجنوبية فأن بلاد بابل أصبحت في هذا العهد عاجزة ضعيفة, بحيث أدخلت تحت السيطرة المباشرة وغير المباشرة.
وقد خلف أدد – نيراري الثاني الملك توكلتي - ننورتا الثاني (890 – 884 ق.م) حيث بنى أسوار العاصمة آشور كما قام بتكرار الحملات العسكرية الى المستوطنات الآرامية, وفرض السلطان الآشوري على بلاد بابل. ثم جاء من بعده ملك ذو شخصية قوية حازمة وقاسية وهو الملك آشور ناصربال الثاني (883 – 859 ق.م) حيث حارب الحثيين في الشمال وضرب القبائل الجبلية في اقليم (زاموآ) اي منطقة السليمانية حاليا – واكتسح بعض الدويلات الآرامية في طريقه, ثم سار من كركميش الى سهل أنطاكية وعبر نهر العاصي وسار بمحاذاة جبال لبنان الى بحر الآموريين(البحر المتوسط), وتقبل من مدنهم الجزية ممثلة بالذهب والفضة والقصدير والنحاس وأنسجة الكتان ذات الألوان الزاهية والعاج والأخشاب النفيسة مثل الأبنوس والأرز. وأرسلت كلها الى العاصمة آشور. كما أعاد بناء المدينة القديمة كالح (نمرود حاليا) وأتخذها عاصمة عسكرية له نظرا لموقعها الأستراتيجي, لأنها محمية من الغرب بدجلة ومن الجنوب بالزاب الأعلى الذي يصب في دجلة بمسافة قصيرة جنوب نمرود.
وعند مجيء الملك شلمنصر الثالث (858 – 824 ق.م) الى الحكم وسّع من رقعة الأمبراطورية حيث وصلت فتوحاته أرمينية وجبال زاجروس وكيليكية في (آسية الصغرى), والى قلب جبال طوروس والى أبعد الأجزاء الجنوبية في منطقة الخليج. وفي عام 851 ق.م سارع في نجدة الملك البابلي (مردوخ– زاكر شومي) الذي كانت تهدده الدويلات الآرامية في الأجزاء الجنوبية من بلاد بابل, فدحر شلمنصر المعتدين ودخل مدينة بابل وقدّم القرابين لكبير آلهتها مردوخ في معبده المشهور (أي – ساكلا) وطارد فلول الآراميين من قبائل (الكلدو) ومنها تسمية الكلدانيين الى سواحل الخليج.
انتهى حكم شلمنصر الثالث بثورة داخلية في بلاد آشور تزعّمها أحد أبنائه المسمى (آشور – دانن – أبلى) وانحازت الى جانبه سبع وعشرون مدينة, من بينها مدن آشور ونينوى وأربيل وأرابخا (كركوك حاليا). وقد دامت هذه الثورة والحرب الأهلية التي نجمت عنها أربع سنوات, مات الملك الشيخ في أثنائها. فأعتلى العرش الآشوري ابنه (شمسي – أدد) في عام 824 ق.م. وقد سببت هذه الحرب الداخلية الضعف والوهن في المملكة, وحلّت فترة انكماش دامت زهاء الثمانين عاما, أي الى حكم تجلا تبليزر الثالث. ومن أسباب نشوب الحرب الأهلية هذه هو ظلم كبار الموظفين والنبلاء وحكام الأقاليم واستغلالهم السكان الأحرار ولا سيما الفلاحين والمزارعين.
وعندما تولى الملك الآشوري تجلا تبليزر الثالث (744 – 727 ق.م) الحكم استطاع أن يعيد المملكة الى سابق قوتها وكيانها, وقد مهّد لذلك بالقيام بأصلاحات واسعة في الجيش ونظام ادارة الدولة ولهذه الأسباب يعتبر حكم هذا الملك بداية عصر الأمبراطورية الآشورية الثانية (744 – 612 ق.م). وفي عهده جدد الملك البابلي نبو ناصر ولاءه لملك آشور. لكن بلاد بابل ثارت من جديد على السلطة الآشورية بزعامة أحد شيوخ الآراميين المسمى (أوكن – زير) فأرسل الملك تجلا تبليزر حملة عليها وقضى على حكم هذه السلالة. وتوّج نفسه ملكا على بابل سنة 729 ق.م. وغزا هذا الملك النواحي الشرقية من جبال زاجروس وأوغل في الأراضي الأيرانية وفي بلاد الميديين في منطقة جبال هماوند, كما وجه حملة الى بلاد الشام في عام 734 ق.م ففتح دمشق عنوة وأزال الدويلة الآرامية فيها من الوجود, كما ضمّ نصف مملكة اسرائيل الى الدولة الآشورية وعيّن (هوشع) ملكا على السامرة بصفته تابعا له.
*****
وخلفه على العرش الآشوري ابنه شلمنصر الخامس (726 – 722 ق.م) ولم يدم حكمه طويلا, اذ جاء من بعده الملك الشهير سرجون الثاني الذي أسس سلالة حاكمة كان حكمها أخر عهود التاريخ الآشوري. حكم سرجون 18 عاما. بدأ حكمه في اخماد بعض الأضطرابات التي ظهرت في بلاد آشور نفسها. ثم توجه بعد ذلك لصد العدوان الخارجي القادم من الدولة العيلامية والدولة المصرية والأرمنية. اذ تميّز حكمه بسلسلة متتابعة من الحملات الحربية لأخماد ثورات الأقاليم التابعة الى الدولة الآشورية. وقد نجح في سحق كل هذه الثورات, وفي عام 710 ق.م أصبح سرجون سيد الموقف من بعد انتصاراته في مختلف الميادين, وخضعت له بلاد الشام وأزال دولة اسرائيل القديمة من الوجود ونقل الكثير من اهلها أسرى وأسكنهم في بلاد ماذي. لم يستقر سرجون في عاصمة واحدة من العواصم الآشورية, فقد اتخذ في أول حكمه مدينة آشور مركزا للحكم ثم انتقل الى نينوى, بالأضافة الى العاصمة العسكرية (كالح), وفي عام 717 ق.م شرع في وضع أسس المدينة الجديدة التي سماها بأسمه أي (دور – شاروكين) التي تبعد نحو 15 ميلا شمال شرقي نينوى.
أن نهاية سرجون الثاني غير معروفة, ومن االمرجح أنه أغتيل. وقد خلفه في الحكم أبنه سنحاريب عام 704 ق.م. وفي زمانه ظهرت أقوام جديدة قدمت من ألأنحاء الجنوبية من روسيا, وهم (الكميريون)- كميرايي, حيث عبرت جبال القفقاس في نهاية القرن الثامن ق.م الى آسية الصغرى وبلاد الأناضول, كما حدث عصيان وتمرد على السلطة الآشورية في بلاد فينيقية وفلسطين وكان من بينها مملكة (يهوذا) في عهد ملكها حزقيا. لكن سنحاريب استطاع قمع هذه التمردات وضيّق الخناق على مملكة يهوذا وحاصر عاصمتها أورشليم, وقد أبى الملك حزقيا الخضوع والأستسلام بتحريض من النبي (أشعيا). ولا نعلم نتيجة هذا الحصار بالتفصيل (لكن التوراة تذكر أن ملاك الرّب خرج وضرب من جيش آشور مئة وخمسة وثمانين ألفا جاعلا منهم جثثا ميتة) , ولكن المرجح أن الجيش رفع الحصار عن المدينة المقدسة مقابل دفع جزية كبيرة من الذهب والفضة والنساء, من بينهن بنات الملك, وذلك حسب ما جاء في حوليات الملك سنحاريب.
وفي عام 703 ق. م قضى سنحاريب على جموع الثائر القديم مردوخ بلادان في بلاد بابل ولكن مردوخ هذا استطاع الأفلات من الأسر, فنصب سنحاريب احد اتباعه من البابليين المسمى (بيل – ابنى) الذي نشأ وتربى في نينوى ملكا على بابل.
ونجح سنحاريب في غزو المدن العيلامية الساحلية, ورجع يحمل الغنائم وأسلاب الحرب الكثيرة, ولكن هذه الضربة لم تقض على تجدد الأطماع العيلامية ببلاد بابل, حيث استمرت عيلام في تحريضها على العصيان, فثار البابليون من جديد في عام 689 ق.م وعندئذ صبّ سنحاريب جام غضبه على بلاد بابل فدمّر المدينة المقدسة (بابل) ودك حصونها وقصورها وسلّط ماء الفرات على أنقاضها. ولما ترك بلاد بابل عيّن ابنه أسرحدون واليا عليها بالنيابة عنه. ومن أعمال سنحاريب العمرانية أنه جعل من نينوى عاصمة تليق بالأمبراطورية الواسعة, فقد زينها باقامة المعابد والقصور الجديدة وغرس الحدائق الباسقة.
وتروي التوراة في سفر أشعياء أن سنحاريب أغتيل من قبل أثنين من أبنائه فيما هو ساجد في بيت نسروخ ألهه, ولكن المرجح أن حربا أهلية نشبت على أثر ذلك, الى أن استطاع ولي العهد أسرحدون (وهو أصغر أبناء سنحاريب) أخمادها. وأن ما يؤيد صحة هذا الترجيح, ما جاء في فاتحة حوليات أسرحدون نفسه, اذ يقول أن اتهامات أخوته ووشايتهم به أوغرت صدر أبيه عليه, بحيث أنه اضطر الى الهرب والأختفاء. ويروي أسرحدون بهذا الصدد عنهم أنهم صاروا من بعد ذلك (يناطح أحدهم الآخر كالتيوس لأخذ الملكية). ومهما كان الأمر فأنه تغلّب عليهم وأعتلى العرش الآشوري في عام 681 ق.م. وبعد ان استقامت له الأمور واستتبت أحوال المملكة, كانت فاتحة أعماله أعادة بناء مدينة بابل من بعد تدمير أبيه لها, ولعلّ دافعه في ذلك كان اعتقاده أن ما أصاب أباه كان بسبب غضب آلهة بابل لأنتهاك حرماتها. وقد ضمن أسرحدون بأعماله الحسنة تجاه بابل رضا البابليين وتقبلهم لحكمه. بعد ذلك وجه أسرحدون نشاطه الى الجبهتين الشمالية والشرقية حيث الكميريون المندفعون من جنوب روسيا عبر آسية الصغرى وايران وقد التحقت بهم جماعات أخرى من أقربائهم في السنوات الأولى من حكم أسرحدون وهم ( أشكوزيون) و(سكيثيون) . أن التقاء هؤلاء الأشكوزيين مع الكميريين جعل منهم قوة عظمى أخذت تهدد الولايات الآشورية وحامياتها في اقليم كيليكية وغيره في عام 679 ق.م, فأضطر الى اتباع سياسة المصالحة والتحالف مع تلك الأقوام, وقد أبرم معهم معاهدة سلم تزوج بموجبها أحد زعمائهم المسمى (بارتاتو) من أميرة آشورية. ان من الأنجازات الكبيرة لحكم أسرحدون هو غزو مصر وضمها الى الأمبراطورية الآشورية.
وقبل ان يتوفى أسرحدون في مدينة حرّان عام 669 ق.م بثلاثة أعوام اختار ابنه الأصغر آشور بانيبال لتولي العرش من بعده. وعيّن ابنه الأكبر (شمش – شم – اوكن) ملكا على عرش بلاد بابل. ويبدو أن ولي العهد المختار آشور بانيبال كان محبوبا مفضلا من جانب جدته لأبيه الآرامية الأصل واسمها (نقية زكوتو). وهكذا تبوأ آشور بانيبال عرش المملكة الآشورية (668 – 627 ق.م) وتولى أخوه شمش– شم – أوكن عرش بلاد بابل, واستقامت الأمور ما بين الأخوين طوال سبعة عشر عاما. ومن اولى أعمال هذا الملك هو اعادة فتح مصر. وما بين أعوام 665 – 655 ق.م تحالف الملك اشور بانيبال مع الأشكوزيين ( السكيثيين) ووقعت الحرب في بلاد عيلام واندحر فيها الملك العيلامي المسمى (تيومان) الذي قتل في المعركة وقطع رأسه وأخذ الى نينوى وعلّق فوق شجرة في الحدائق الملكية, وجاء هذا ممثلا في احدى المنحوتات من عهد الملك آشور بانيبال. بعدها نشبت في بلاد بابل ثورة عارمة قام بها أخو الملك نفسه, أي شمش – شم – أوكن, ولعل انشغال أخيه الملك في عدة جبهات أثارت أطماعه الكامنة بعد أن ظل مواليا له في الظاهر 17 عاما. وقد فاوض شمش بشكل سرّي للحصول على تحالف لمساعدته دخلت فيه بلاد فينيقية ومملكة يهوذا والكلدانيين الآراميين في الأجزاء الجنوبية من العراق والعيلاميين وحتى مصر, ولكن عيون الملك آشور بانيبال أكتشفت المؤامرة, فأنذر البابليين لردّهم الطاعة, ولمّا لم يأبه بأنذاره البابليون نشبت الحرب الطاحنة بين الأخوين. وظلّت المعارك تدوم زهاء ثلاثة أعوام. ولمّا أدرك أخوه شمش الموقف الميؤس منه أضرم النار في قصره في بابل وقضى نحبه محترقا وسط النيران عام 648 ق.م. وحاول آشور بانيبال تهدئة الأوضاع في بلاد بابل فعيّن أحد الزعماء الكلدانيين المسمى (قندلانو) نائبا عن الملك على عرش بابل. ووجهت حملة على ملك بلاد عيلام الذي وقف الى جانب أخيه ودامت هذه الحرب زمنا طويلا أنتهت بأنتصار الجيش الآشوري في عام 639 ق.م. فدمرت عيلام ونهبت العاصمة سوسة وانتهكت حرمة معابدها وحطمت تماثيل آلهتها ورميت بالنار.
في خضم الأضطرابات الداخلية والنكسات العسكرية التي مني بها استطاع الملك الميدي كي اخسار, الذي اتخذ من (أكبتانا) همذان حاليا عاصمة له, أن يكوّن من القبائل الميدية جيشا قويا ضخما ووسع مملكته من بحيرة أورمية الى منطقة طهران وبلاد فارس. وفي حدود ذلك الزمان استأنف البابليون محاولتهم لنيل الأستقلال عن التبعية الآشورية وتزعمهم هذه المرة الحاكم نبوبولاصر وهو كلداني أي آرامي الأصل, فهجم على الحامية الآشورية في مدينة نفر عام 626 ق.م ثم قصد بابل واستقل بعرشها وأخذ يصفي الحاميات الآشورية الأخرى في بابل. ولما مات الملك آشور بانيبال عام 626 ق.م خلفه على العرش ولديه الذين لم يستطيعا انقاذ الوضع المتدهور, اذ كانت العاصمة نينوى مهددة بالسقوط من قبل نبوبولاصر. كما أن الجيوش الميدية بلغت في زحفها في نهاية 615 ق.م الى منطقة كركوك, ثم مدينة آشور (قرب الشرقاط حاليا) التي سقطت بأيديهم في عام 614 ق.م. والتقى الملك البابلي بالملك الميدي عند أسوار مدينة آشور, وعقد ما بين الملكين تحالف ومعاهدة صداقة كان من نتائجها زواج ولي العهد البابلي نبوخذ نصر الشهير من ابنة الملك الميدي المسماة (أميتس). وزحف الجيشان نحو العاصمة نينوى القريبة. وكان الهجوم الأخير عام 612 ق.م قد قرر مصير الدولة الآشورية حيث سقطت العاصمة العظيمة – رغم ما أبداه المدافعون عنها من بسالة واستماتة في حصار دام طوال ثلاثة أشهر. وهكذا سقط هذا المارد الآشوري بعد أن دوّخ العالم القديم عدة قرون.
*****
الدولة الكلدانية (626 -539 ق.م)
دام هذا العصرزهاء القرن الواحد وكان آخر عهود بلاد بابل وهي دولة مستقلة, حيث تلته عهود صار فيها العراق ولاية تابعة, أولا الى الفرس الأخمينيين (539 – 331 ق.م) ثم الى السلوقيين المقدونيين, خلفاء الأسكندر الكبير (331 – 126 ق.م) ثم الفرس الفرثيين أو الأرشاقيين (126 ق.م – 227 ب.م) وأخيرا الفرس الساسانيين (227 – 637 ب.م).
يعتبر نبوبولاصر أول الملوك الكلدانيين في هذا العصر. ويبدو من مجريات الأحداث بعد سقوط نينوى, أن الميديين لم يضّموا بلاد آشور الى مملكتهم, بل اكتفوا بالأسلاب والغنائم فأنسحبوا الى بلادهم تاركين حليفهم نبوبلاصر وشأنه ليقتطع ما يستطيع اقتطاعه من أقاليم الأمبراطورية الآشورية. فاستولى على سورية وفلسطين نظرا لأهمية هذة المنطقة الحيوية لبلاد بابل, وليحول دون تغلغل الجيش المصري فيها. فقد سبق للفرعون المصري (نيخو الثاني) أن جاء على رأس جيش الى سورية لمساعدة حلفائه الآشوريين قبل أن تسقط دولتهم فأستولى عليها وبضمن ذلك دولة يهوذا في عهد ملكها (يوشيع) ثم استولى على كركميش والتي كانت تعتبر نقطة استراتيجية هي طريق نهر الفرات, الأمر الذي هدد الدولة البابلية تهديدا خطيرا. فأسرع الملك البابلي نبوبولاصر الى ارسال حملة عسكرية كبيرة وعهد بقيادتها الى أبنه وولي عهده نبوخذ نصر لطرد الجيش المصري, فباغته في عام 605 ق.م في كركميش وأوقع فيه الهزيمة. وبينما كان ولي العهد نبوخذ نصر يطارد فلول الجيش المصري الى داخل البلاد المصرية, وتقدّم الى حدود العريش, بلغته الأنباء بموت أبيه فأسرع بالعودة الى بابل ليتوّج ملكا عليها في 23 أيلول 604 ق.م. ودام حكمه 42 عاما (604 – 562) ق.م كانت من العهود المجيدة في تاريخ العراق القديم.
ولما رأى (يهوياكيم) ملك مملكة يهوذا الموالي للفرعون المصري نيخو الثاني انتصارات نبوخذ نصر في بلاد الشام أظهر له الطاعة وقدّم له الجزية, ولكنه نكث العهد بعد فترة بتحريض ملك مصر عام 598 ق.م على الرغم من نصائح النبي (أرميا) وانقطع عن دفع الجزية, فأسرع نبوخذ نصر بأرسال جيش الى مملكة يهوذا وحاصر أورشليم فأستسلمت له في عام 597 ق.م, وهلك ملكها يهوياكيم أثناء الحصار, وأسّر من اليهود 3000 أسير, ونصب نبوخذ نصر (صدقيا) ملكا على يهوذا, وكان هذا هو السبي الأول لليهود.
ان توطيد السلطة البابلية في بلاد الشام أصبح يشكل خطرا على مصالح مصر التجارية المعتمدة على الموانىء الفينيقية, فأعدّ ملك مصر المسمى (حوفرا) العدة لغزو فلسطين, فأستطاع أن يتولى على غزة كما أنّه ضيّق الخناق على صور وصيدا, فأسرع نبوخذ نصر بالتوجه على رأس جيشه الى بلاد الشام, وجعل من مدينة (ربلة) قرب حماة مقرا لقيادته ومنها كان يوجه العمليات الحربية. وفي هذه الأثناء كان ملك يهوذا (صدقيا) قد خلع ولاءه لملك بابل وأنحاز الى جانب الفرعون المصري, فضيّق نبوخذ نصر الحصار على أورشليم, فأستسلمت له من بعد 18 شهرا عام 586 ق.م. وقبض على صدقيا عند هروبه الى أريحا فأخذ هو وأولاده الى معسكر الملك البابلي في ربلة, وكان غضب الملك شديدا, فأمر بذبح أولاده أمام عينيه, ثم فقأت عيناه وأخذ مكبّلا مع الأسرى اليهود الذين قدّر عددهم بنحو 40000 أسير الى بابل, ودمّرت أورشليم ودكّت معالم هيكل سليمان, وهذا هو السبي البابلي الثاني لليهود الذين مكثوا في بلاد بابل الى زمن الدولة الفارسية الأخمينية حيث رجع بعضهم الى فلسطين.
كان نبوخذ نصر من أعاظم الملوك في حقل البناء والتعمير. وقد كرّس جهده لأعادة بناء العاصمة بابل. وخلفه في الحكم بضعة ملوك لم يكونو جديرين بأسمه وبأدارة الأمبراطورية التي أقامها, وكان حكمهم في الواقع فترة ضعف سبقت انهيارها. ونذكر بالخصوص (نبونيدس), وكان أبوه أحد النبلاء في مدينة حرّان وأمه الكاهنة العليا في معبد الاله سين (اله القمر) في حرّان. أن اهتمام نبونيدس الكبير في حرّان وغيابه الطويل عن المملكة ولّد تذمرا وتمرّدا عامين في أرجاء مملكته, وخاصة في المدن الكبرى مثل بابل وبورسبا ونفر وأور والوركاء ولارسة. وعندما تدهورت الأوضاع الأقتصادية والأحوال المعاشية ورافق ذلك انتشار القحط وارتفاع الأسعار حاول نبونيدس حل تلك الأزمة بطرق شتى منها أن قاد جيشه وسار به عبر بادية الشام وأخذ واحة تيماء الشهيرة حيث قتل أميرها واتخذها مركزا له طوال عشر سنوات, وخلّف على مملكة بابل ابنه المسمى (بلشاصر). ويؤخذ من النصوص المكتشفة في حرّان أن نبونيدس وضع يده على واحات أخرى في شمالي الجزيرة العربية الى الجنوب من تيماء منها واحة (يتريبو) أي يثرب (المدينة المنورة حاليا). وبعد أن أمضى نبونيدس زهاء عشر سنوات في تيماء عاد الى بابل في حدود 546 ق.م.
وفي هذه الأثناء استجدت في بلاد ايران احداث كبيرة, اذ استطاع الملك الفارسي كورش الثاني أخذ السلطة من الميديين في عهد الملك الميدي (أستياجس) جدّه لأمه, ويكوّن بسرعة عجيبه امبراطورية واسعة شملت آسية الصغرى وبلغت الى تخوم الهند. وبعد أن قضى كورش على (كروسس) ملك ليدية (في آسية الصغرى) صار يضم الأقاليم التابعة الى الدولة البابلية ومنها بلاد آشور التي استولى عليها في عام 547 ق.م, ثم جاء دور مدينة بابل نفسها في العام 539 ق.م. وقد عهد الملك نبونيدس الى ابنه بلشاصر لقيادة الجيش والتصدي لجيوش كورش عند سلوقية فقتل بلشاصر في المعركة, ثم تقدم الجيش الفارسي في العام نفسه نحو مدينة سبار (أبو حبة قرب المحمودية). فأنحاز الحاكم البابلي (كوبرياس) والذي كان نفسه قائدا للجيش الى كورش, فسار هذا من بعد سبار الى مدينة بابل ودخلها في 13 تشرين الثاني 539 ق.م بدون مقاومة تقريبا وأخذ نبونيدس أسيرا, ودخل كورش الى مدينة بابل بعد أيام قلائل. ودخلت بذلك بلاد بابل وبلاد آشور ضمن امبراطوريته, كما أصبحت الولاية رقم 11 في ترتيب الولايات العشرين التي قسّمت اليها الأمبراطورية الفارسية الأخمينية.
وهنا لابد من الأشارة الى عظمة مدينة بابل, اذ أنّها غدت في عهد ملكها الشهير نبوخذ نصر الثاني أكبر مدن الدنيا القديمة, وبهرت العالم القديم بحيث عدّها المؤرخون والكتاب القدماء لاتضاهيها في عظمتها وسعتها مدينة أخرى. ولشهرتها صارت هذه المدينة عنوان حضارة وادي الرافدين ونسب اليها القطر كلّه فقيل بلاد بابل (بابلونيا) وأهله (البابليون) وغدت أسوارها وجنائنها المعلّقة من عجائب الدنيا السبع المشهورة, وانبهر بها حتى أعداؤها من أنبياء بني اسرائيل حين قال عنها النبي أرميا (كأس ذهب بيد الرب تسكر كل الأرض من خمرها).
وفي القرن السادس ق.م (أي في عهد الدولة البابلية الأخيرة) حصلت في بابل تغيرات لغوية وسكانية, اذ ازداد اختلاط السكان, فبالأضافة الى الآراميين والعرب دخلت الى البلاد عناصر جديدة مثل العبرانيين والمصريين والسوريين وحتى جماعات قليلة من اليونان.
العراق في العهد الفارسي الأخميني
يبتدىء هذا العهد في العراق منذ فتح كورش الثاني لبابل عام 539 ق.م وينتهي بفتح الأسكندر الكبير عام 331 ق.م. ان الفرس الأخمينيين هم من الأقوام الهندية – الأوروبية التي استوطنت بلاد ايران في مطلع الألف الأول ق.م في الجزء الذي دعي بلاد فارس, وهو الجزء الجنوبي الغربي من ايران. وكان هؤلاء الفرس يجاورون العيلاميين الذين استوطنوا في اقليم خوزستان وكوّنوا حضارة مشتقة في أسسها وأصولها من حضارة وادي الرافدين. وعاش في حدود ذلك الزمن قبيلة ايرانية أخرى, هي قبيلة الماذيين في الأجزاء الشمالية الغربية من ايران وعاصمتها(أكبتانا).
استطاع كورش الثاني (558 – 530 ق.م) ان يستولي على عاصمة الماذيين ويؤسس امبراطورية واسعة شملت معظم العالم القديم, تمتد من تخوم الهند الى بحر أيجة وآسية الصغرى ودخلت بلاد بابل وبلاد اشور ضمن امبراطوريته. وقد سمىّ الأخمينيون أراضي الدولة الكلدانية الواقعة غرب دجلة (آثورا) وهي التسمية المحرّفة للكلمة الآرامية آثور, أما المناطق التي تقع شرقي دجلة فأصبحت جزءا من أقليم ميديا وخاضعة أيضا للدولة الأخمينية.
وعند سيطرة الأسكندر المقدوني وخلفاؤه السلوقيين على بلاد ما بين النهرين, أطلقوا على مناطق غرب دجلة اسم سيريا وهو تحريف لكلمة أسيريا أو آثوريا أو آشوريا ومنها ترادفت كلمة (السريان) و(سورايي) التي شاع استعمالها بعد اعتناق أقوام المنطقة الديانة المسيحية, للدلالة على أن الشخص المعني هو مسيحي, لأن المبشرين الأوائل بالديانة المسيحية في بلاد ما بين النهرين قدموا من سوريا ولهذا تسموا (ٍسوريايي). أما الذين كانوا يتحدثون اللغة الآرامية فكان يطلق عليهم (أسيريان) لأن اللغة الآرامية منذ عهد سنحاريب كانت اللغة الرسمية بجانب الأكدية.
وقد حقق انتشار اللغة الآرامية في ارجاء الأمبراطورية الفارسية حاجة شعوب هذه الأمبراطورية الواسعة الى وسيلة مشتركة للتفاهم, فأزدهرت الآرامية واتخذها ملوك هذه الأمبراطورية لغة رسمية الى جانب اللغة الفارسية القديمة واللغة البابلية ولا سيما في بلاد بابل.
انتهى العهد الأخميني بفترة فتح الأسكندر الكبير للشرق والعراق. ثم تلاها العهد السلوقي نسبة الى سلوقس أحد كبار قواد الأسكندر الذين اقتسموا امبراطوريته من بعد موته, حيث صارت سورية والعراق وايران من حصة سلوقس.
شرع الأسكندر بزحفه على الشرق في عام 334 ق.م واستطاع في مدى ثلاثة أعوام أن يحطم جحافل الأمبراطورية الفارسية الضخمة ويضم أقاليمها اليه ويغيّر مجرى التاريخ البشري. وكانت معركة أربيل الشهيرة ما بين الملك الفارسي دارا وبين الأسكندر عام 331 ق.م هي النهاية الحاسمة في حياة الأمبراطورية الفارسية.
عبر الأسكندر نهر الفرات قرب دير الزور, فسار شرقا في جزيرة ما بين النهرين الى دجلة وعبره بمسافة قليلة شمال الموصل في الموضع المسمى(بيزبدا) ووصل الى السهل الواقع بين مدينتي أربيل والموصل, حيث كان دارا وجحافله في الموضع المسمى (كوكميلة) , فنشبت المعركة الكبرى في هذا الموضع عام 331 ق. م والتي عرفت في التاريخ بمعركة أربيل, حيث انتصر فيها الأسكندر على دارا.
تمهّل الأسكندر قليلا في أربيل ثم توجه نحو بابل حيث فتحها بسهولة, اذ سلّمه الحاكم الفارسي في بابل (مازيوس) مفاتيح المدينة سنة 331 ق.م ورحّب به السكان على أنّه محررهم. ولم يمكث في بابل سوى شهرا واحدا, حيث تابع فتوحاته نحو الشرق مرورا بسوسة, ولمّا عاد الى بابل من بعد تسع سنوات من حملاته البعيدة في الشرق والهند كان مشبعا بأفكار وأحلام في جعل العالم دولة واحدة وأن تكون بابل والأسكندرية عاصمتي تلك الدولة العالمية. وبينما كان الأسكندر متهيئا للشروع بحملة حربية الى جزيرة العرب, مرض الأسكندر بالحمى وتوفي في قصر نبوخذ نصر في 13 حزيران 323 ق.م وهو في سن 32 عاما. وبعد موته نشبت منازعات وحروب ما بين مشاهير قادته دامت زهاء 42 عاما, اقتسم ثلاثة منهم امبراطوريته الواسعة وهم سلوقس وبطليموس الذي أسس مملكة البطالسة في مصر وأنتيكونس حاكم آسية الصغرى (اقليم فريجية) وصارت بلاد بابل وآشور وسورية من حصة سلوقس. وانقسمت المملكة السلوقية منذ نشأتها الى قسمين كبيرين. القسم الشرقي وكان يتضمن العراق والأقاليم الشرقية وقد أسست له عاصمة جديدة وهي (سلوقية دجلة) والقسم الغربي يتضمن بلاد الشام وتوابعها وجعل مركز ادارته في مدينة أنطاكية الشهيرة التي أسسها سلوقس في عام 300 ق.م على العاصي وسماها بأسم أبيه (أنطيوخس).
تميّز العهد السلوقي في العراق في نشوء المدن الجديدة. ففي أعالي ما بين النهرين أسست المدينة المهمة (أديسا) أي (الرها) و(دورا – يوروبس) أي الصالحية على الفرات ومدينة سلوقية في منطقة سلمان باك وتضاؤل شأن الكثير من المدن القديمة وموت البعض منها بأستثناء تلك المدن الواقعة على الطرق التجارية المهمة مثل كالح وماري وأرسلان طاش.
العراق في العهد الفرثي
أعقب الملوك السلوقيين المقدونيين في حكم العراق الملوك الفرثيون الآيرانيون عام 138 ق.م ودام حكمهم الى العام 227 ب.م. وكان موطن الفرثيين في السهول الممتدة ما بين بحر قزوين وبحر (أرال) وأشتهروا بالفروسية والحرب. وتميّز حكمهم بكثرة الحروب مع السلوقيين ثم بعدئذ مع الرومان وكان شمالي العراق ميدان الكثير من المعارك التي نشبت ما بين الفرثيين والرومان فبرزت في أخبار هذه الحروب جملة مدن مهمة مثل أنطاكية وحرّان ونصيبين وغيرها.
بدأت الحرب ما بين الدولتين منذ عام 92 ق.م وتخللتها معاهدات سلم ما بين الطرفين, وانتهى السلم ما بين الفرثيين والرومان في زمن الأمبراطور الروماني تراجان (98 م – 117م) المعاصر للملك الفرثي خسرو. وبدأ تراجان حملته من أنطاكية, قاعدة الجيوش الرومانية في بلاد الشام وعبر الجيش الروماني دجلة بعد تغلّبه على مقاومة ضعيفة, بيد أن تراجان لم يزحف على العاصمة طيسفون رأسا, بل رجع فعبر دجلة واتجه غربا ومرّ بمدينة الحضر فلم يستطع فتحها لمقاومتها الشديدة ومناعة أسوارها فتركها متجها الى الفرات, وبعد ألتقائه بالأسطول القادم من الفرات سار بالأسطول الى بابل. ولم تنجح محاولات الرومان في الاستيلاء على العراق وايران من الفرثيين. لكن حياة الفرثيين السياسية انتهت بعد معركتهم الأخيرة ضد الرومان قرب نصيبين بين آخر الملوك الفرثيين أرطبان الخامس وبين الأمبراطور الروماني مكرينيوس, والتي انتهت بأبرام الصلح. بعدها دخلت بلاد ايران والعراق تحت حكم السلالة الفارسية الجديدة هي السلالة الساسانية (227 م – 637 م) وظل العراق تحت حكم الساسانيين الى الفتح الأسلامي في موقعة القادسية عام 637 م.
*****
حول مفهوم القومية
يجدر الأشارة الى ان هناك نوعين مختلفين اساسا من القومية:
1- قومية المواطنة والتي جاءت مع الثورة الفرنسية, أي فكرة الوطن الأم, الذي يعتبر فيه كل السكان الذين يعيشون في أراض محددة مواطنين بغض النظر عن أصولهم العرقية أو اللغوية. فمثلا أن مجيد القادم من الجزائر أو المغرب وألفونسو القادم من أنغولا وتشوان القادم من الصين والساكنين جميعا في فرنسا لهم قومية واحدة وهي القومية الفرنسية, ويقول كل واحد منهم عن نفسه (أنا فرنسي) ليس كأشارة الى البلد الساكن فيه فقط, بل كأنتماء قومي
واذا أخذنا بهذا المفهوم للقومية فما علينا جميعا عربا كنا أم كردا أم تركمانا أم كلدانا أم آشوريين ام سريانا أم أرمنا الاّ أن نسمي أنفسنا (عراقيون) - عراقيون وكفى من دون النظر الى الأصول العرقية أو الدينية او اللغوية. ولكن تأثير الثورة الفرنسية على بلدنا والأقاليم المجاورة كان ضعيفا بسبب هيمنة العثمانيين على المنطقة, وممارستهم لسياسات التمييز القومي والديني والمذهبي, أضف الى ذلك صراعهم الطويل مع الفرس للسيطرة على ولايات بغداد والبصرة. وللأسف استمرت سياسات التمييز القومي والديني والمذهبي في العراق حتى في الفترة التي أعقبت التحرر من التبعية العثمانية, وبالتالي لم تدع أية فرصة لترسيخ مبدأ المواطنة, وما زال التعصب القومي والديني والمذهبي يشكل القاعدة التي تنطلق منها المجموعات المتطرفة في الحرب ألأهلية التي اشتد سعيرها بعد سقوط النظام في نيسان 2003, والتي لا تزال تشكل خطرا على مستقبل بلدنا وعائقا كبيرا أمام تقدمه وأزدهاره.
2- هناك نوع آخر من القومية الذي يرتبط بأعادة توحيد الدولتين ألمانيا وأيطاليا.
ففي النموذج الألماني للقومية يجري التأكيد على العرقية (العرق الآري) وعلى أن هناك شعبا ألمانيا مقسما في عدة دول, وأن ذلك يعد بمثابة مأساة تاريخية كبرى, مما يتطلّب أقامة دولة موحدة تتولى تمثيل هذا القوم وروح هذا الشعب, أي هؤلاء الناس الذين يمتلكون (تأريخا مشتركا, تراثا مشتركا ولغة مشتركة), وأنّه يجب توحيدهم في اطار معين وأن يكون لديهم دولة تعبرعن وجودهم التاريخي. ولتبني هذا النوع من القومية من قبل جماعة ما, يجب عليها أن تؤّلف تاريخا يظهر بأنها من أصل واحد ليس عرقيا وجغرافيا فحسب, بل أيضا كحقيقة ترتكز الى الثقافة والأرادة. وأن الناس الذين يمتلكون أصلا عرقيا مشتركا وينطقون بلغة مشتركة يجب أن تكون لديهم بشكل ما أرادة مشتركة, وأن هذه الأرادة المشتركة يجب التعبير عنها في صيغة دولة خاصة بهم. دولة موحدة.
وعلى ما يبدو تأثر القوميون العرب بأفكار الفلاسفة الألمان من أمثال هايديغر وفيخته, وفي معاني القومية الحماسية والعاطفية وفي التجربة الألمانية, منهم بشكل مكشوف مثل ساطع الحصري, ومنهم بشكل مستور مثل ميشيل عفلق وزملائه.
وبتأثير من هذه الأفكار عمدت مجموعة صغيرة وغير شعبية في العراق عبر الأنقلابات العسكرية الى الأستيلاء على السلطة والأحتفاظ بها بقوة السلاح وبأستخدام القسوة والبطش بكل من يعارض نهجها القومي المتطرف (الشوفيني), وذلك عبر تعبئة المشاعر القومية ومن خلال تضليل الجماهير وحجب أنظارها عن ما يحدث في واقع الحال, من خلال افتعال الأزمات الواحدة تلو الأخرى. جرى كل هذا في بلد متعدد الأعراق والأديان واللغات.
ويبدو واضحا مما تم سرده أعلاه, من أننا في سعينا وراء معرفة قومية شعبنا الكلداني الآشوري السرياني, أقرب الى النموذج الثاني للقومية مع فارق كبير في بعض النواحي. وأبرز هذه الفوارق, هو في أستحالة أقامة كيان سياسي مستقل (دولة) في الوقت الراهن ينضوي تحت لوائها كل أبناء شعبنا الكلداني الاشوري السرياني. ان ما ينبغي التركيز عليه في المرحلة الراهنة هو الأقرار بوجودنا القومي وتثبيت هذا الأقرار وأستحقاقاته دستوريا. ومن جملة هذه الأستحقاقات هو حق أبناء شعبنا في ادارة شؤونهم بالطريقة التي يشاؤون من دون ضغط أو أكراه من هذا الطرف أو ذاك, بما في ذلك أقامة حكم ذاتي أو أدارة محلية أو أي شكل آخر يرتأونه مناسبا, وذلك في المناطق التي يشكلون فيها الأغلبية, وكذلك حقهم في الأختيار الحر لشكل ارتباطهم بالحكومة الأتحادية أو بحكومة أقليم كردستان. أن هذه الأستحقاقات تتطلب منا جميعا رص صفوف أبناء شعبنا وتوحيد خطابنا السياسي والسير قدما نحو وحدة شعبنا المنشودة.
*****
في المجال الجغرافي
تشير النبذة التاريخية الى أن تسمية بلاد ما بين النهرين هي تسمية أغريقية جاءت في الفترة ما بين القرنين الرابع والثاني ق.م وكانت تشمل بلاد سومر وأكد (بابل) وآشور, وأن لا حدود طبيعية تفصل بين بلاد سومر وبلاد بابل. بينما هناك خط جغرافي فاصل بين بلاد بابل وبلاد آشور, وهذا الخط الفاصل يمر تقريبا من هيت على الفرات الى سامراء على دجلة. وهذا بحد ذاته كافيا للقول بأن جميع البلدات المسكونة من قبل من نسميهم بالكلدان أو الآشوريين أو السريان في العراق الحالي تقع في بلاد آشور التاريخية ( يستثنى من ذلك الكلدان والآشوريون والسريان الساكنون في بغداد والبصرة والناصرية والحلة وديالى والأنبار وغيرها من المدن العراقية الأخرى) والذين في أغلبيتهم نزحوا من البلدات المذكورة الى هذه المدن في القرنين الماضيين, أي القرنين التاسع عشر والعشرون. أذ لم يتبقى من مسيحيي بغداد ومدن الوسط والجنوب الاّ بضعة عوائل بعد آخر هجمة شرسة تعرض لها المسيحيين في زمن تيمورلنك (للمزيد راجع كتاب " الكلدان في التاريخ" للمؤلف حبيب حنونا).
في مجال التاريخ
وكما أشّرنا قبل قليل, ان أحد العناصر الأساسية للقومية هي أن تؤّلف لنفسها تاريخا.
مما سبق يتبيّن صعوبة حصر هذا الأرث التاريخي المجيد بدويلة في الشمال او الوسط او الجنوب بسبب كثرة الغزوات والفتوحات (الأحتلالات) في العراق القديم وبسبب تعاقب الدويلات الواحدة تلو الأخرى وانتقال الخبرات والتجارب من مملكة الى أخرى, حيث ينتهي كل احتلال بترك بصمات الدولة المنتصرة على الدولة المغلوبة, والتداخل والتمازج في اللغات والعادات والتقاليد والأعراف والمعتقدات. ويمكننا القول بأختصار عن تأريخنا بانّه سلسلة متتابعة ومتداخلة من الأحداث العظيمة بحيث يصعب الفصل بين حلقاتها المتصلة. وهذا التاريخ ليس أرثا لنا لوحدنا نحن الذين نسمي أنفسنا بالكلدان أوالآشوريين أوالسريان, بل هو أرث لجميع العراقيين وذلك منذ أن جرت تسمية بلاد ما بين النهرين بالعراق. ان ما يميّز نظرتنا الى هذا التاريخ عن باقي أشقائنا من العراقيين, هو أننا نرى فيه عزتنا واقتدارنا ورفعة مقامنا وعطائنا المذهل للحضارة الأنسانية, وبأننا من الذين وضعوا أسس هذه الحضارة, في حين يركز الكثير من العراقيين على الحضارة العربية الأسلامية, وهي حضارة لا يستطيع ألاّ الجاحد نكران منجزاتها واسهاماتها في تطور الحضارات الأخرى التي تلتها.
لكن الحضارة العربية الأسلامية ليست حضارة عراقية بحتة, بل هي نتاج جهد جماعي وتلاقح عدة حضارات منها حضارة وادي الرافدين ووادي النيل والحضارة الفارسية والحضارة الرومانية وتأثيراتها في شمال أفريقيا. وقد ساهمنا نحن الكلدان والآشوريون والسريان بقوة في وضع أسس هذه الحضارة ورفع شأنها عبر الترجمة من اللغات القديمة ومنها اللغة السريانية الى اللغة العربية. ولذلك فنحن كنا ولا نزال جزءا من هذه الحضارة والتي بدورها هي جزءا من حضارات الشرق القديم والجديد. بأختصار لا ترجع كل هذه الحضارة ألينا لوحدنا نحن العراقيين بالرغم من أننا كنا بؤرتها ومركز ثقلها. أما الميزة الأخرى لهذه الحضارة فهي التواصل أي حلقة الوصل بين الحضارات الي سبقتها والحضارات التي أعقبتها, أي أنها ليست حضارة مؤسسة كالحضارة الفرعونية وحضارة ما بين النهرين.
ومن المهم هنا أن نقر جميعا بأن الكلدان ليسوا طائفة دينية كما يدّعي الذين يتعصبون الى التسمية الآشورية, بل هم أقوام سكنوا في بلاد سومر وأكد, وألّفوا عدة ممالك في الجنوب بألأضافة الى الدولة الكلدانية وعاصمتها بابل في زمن الملك نبوخذ نصر الثاني والتي اشتقت تسميتها من قبيلة (كلدو) كبرى القبائل الآرامية التي نزحت عبر الفرات واستقرّت في منطقة الفرات الأوسط في القرن السابع ق.م. أن خلاء مساحات واسعة من هذه الأرض من وجود الكلدان يعود سببه الى الأضطهادات المتكررة لهذا الشعب منذ انهيار امبراطوريته عام 570 ق.م. بسبب تشبثه بانتمائه القومي والديني والمحاولات المستمرة لصهره وطمس هويته التاريخية والحضارية. وهنا أورد بعض المقتطفات التي تشير الى بعض هذه الأضطهادات من كتاب " الكلدان في التاريخ " لمؤلّفه الأستاذ والمهندس حبيب حنونا:
ففي زمن الملك الفارسي (شابور الثاني) (339 – 379 م) أعلنت حربا شعواء على المسيحيين دامت أربعون عاما راح ضحيتها أكثر من 300000 شهيد بحجة موالاتهم للأمبراطورية الرومانية وخاصة بعد أعتناق الملك قسطنطين العقيدة المسيحية, وأعتبارها الدين الرسمي للدولة. وقد أضطر الكثير من سكان السهول- (وغالبيتهم من الكلدان) الى الهرب الى المناطق الجبلية والى مناطق غربي الفرات في سوريا ولبنان وجزيرة قبرص. حيث كان نهر الفرات الحد الفاصل بين الأمبراطورية الفارسية والأمبراطورية الرومانية. وقد استمرت معاناة المسيحيين من الأضطهادات الفارسية حوالي قرنين من الزمان.
وفي حدود 700 م شنّ والي العراق آنذاك الحجاج بن يوسف الثقفي حملة أضطهاد كبرى على المسيحيين, أضطر الكثير منهم الى أعتناق الدين الأسلامي تخلّصا من الجزية, وأضطر الآخرون للهرب واللجوء الى القرى الشمالية وأستقر العديد منهم في منطقة الخابور.
وفي عام 780م وفي خضم الحرب بين العرب والروم. شنّ الخليفة المهدي (775 – 785 م) حملة ضالمة على المسيحيين, أذ سنّ بحقهم قوانين مجحفة حدّت من ممارسة شعائرهم الدينية وأنتقصت من كرامتهم. كل ذلك بسبب شكوكه في ولاء المسيحيين للروم, وأتهامه لهم بالتعاطف معهم, مما أضطر الكثيرون منهم للهرب والألتجاء الى المناطق التي كانت خاضعة لحكم الروم في سوريا وتركيا مثل ديار بكر ونصيبين والرها وغيرها, كما أدّت الى أسلمة الكثيرون منهم.
وحينما تولّى السلطان المغولي (غازان) (1295 – 1303 م) الحكم في بغداد حلّ كابوسا رهيبا على أهل الذمة قاطبة, أذ صمّم هذا الخان أن يقتلع جذور المسيحية في مملكته من أساسها. فأمر بهدم الكنائس وأزالتها من جذورها, ومنع أقامة االصلوات والأحتفالات وقرع أجراس الكنائس. كما أمر بقتل جميع رؤسائهم وكهنتهم. وقد حذا الخان المغولي (خربندا خان) حذو سلفه غازان, أذ أصدر أمرا عام 1306 م يقضي:
"على كافة المسيحيين القاطنين في البلاد أما أن يعلنوا أسلامهم أو أن يدفعوا الخراج. ويدمغوا في وجوههم علامة مميزة, تقتلع لحاياهم, وتوضع علامة سوداء على أكتافهم".
وأستنادا الى مخطوطة كتبها الراهب يوحنا: أن المسيحيين تحمّلوا كل تلك الأهانات, دفعوا الضرائب وبقوا على دينهم. وعندما رأى خربندا أن هذا لم يجد نفعا مع المسيحيين أصدر أمرا بخصي المسيحيين وأن تقلع أحدى عيونهم في حالة عدم قبولهم الأسلام. ونتيجة لتلك القوانين المجحفة والهمجية أضطر كبار القوم وغالبية المسيحيين للنزوح الى جبال تركيا وأيران. وكادت بغداد والمدائن وكشكر(واسط) ومدن أخرى تخلوا من المسيحيين.
ثم جاءت كارثة الكوارث على يد تيمورلنك يوم أحتل بغداد عام 1400 م وعمل السيف في رقاب أهلها دون تمييز. يقول رافائيل بابو اسحق في كتابه " تاريخ نصارى العراق":
أما النصارى فكانت حالتهم يرثى لها. فقد تبدد جمعهم وهربوا لاجئين الى القرى والجبال النائية خوفا من القتل والذبح. وأصبحت مقاطعة نصيبين معقلا من معاقل المسيحية بجانب أبرشيات الموصل والتي عاشت فيها الكنيسة ألى الآن بسبب من تبقوا هنالك من المهاجرين الذين هربوا من غزوات المغول ومذابح تيمورلنك. وفي نهاية القرن السابع عشر فقد خلت بغداد من المسيحيين الاّ من نزر يسير.
*****
الأصول العرقية
أما البحث في الأصول العرقية لأبناء شعبنا الكلداني الآشوري السرياني فهو معضلة حقيقية, نظرا لأستمرار الهجرات البشرية ذات الأعراق المختلفة الى بلاد ما بين النهرين القديمة. فبالأضافة الى السومريين الذين نجهل موطنهم الأصلي والسوباريين سكان بلاد آشور الأصليين, هناك هجرات الساميين والآموريين والأشكوزيين والحوريين والحثيين والآراميين واليهود والأغريق والمغول والعرب وغيرهم.
ان انتصار الملوك الأشوريين في حروبهم مع الدويلات والممالك المجاورة لهم, واتخاذهم سياسة التهجير والترحيل للأقوام التي غزوها, ونقل عشرات الآلاف لا بل مئات الآلاف من الأسرى من مناطق سكناهم الى مراكز نفوذ دولتهم, وتسخير طاقات هؤلاء الأسرى في تشييد المشاريع الكبرى لأمبراطوريتهم, يجعل كل هذا البحث في الأصول العرقية للآشوريين والكلدان والسريان ونقاء عرقهم أمرا في غاية التعقيد. أضف الى ذلك عدم توفر معلومات كافية عن انثروبولوجيا الأنسان العراقي القديم. وقد أفضت هذه السياسة الى اختلاط الكلدان والآشوريين وانصهارهم في بودقة واحدة عبر قرون عديدة, فأمتزجت دمائهم وتوحدت ثقافاتهم وعقائدهم وتقلصت الهوة بينهما وأصبحوا شعبا واحدا بكيان حضاري متميز.
اللغة
ان اصل اللغة التي ننطق بها جميعا هي واحدة من لهجات اللغة الأكدية والتي بدأ تدوينها بالخط المسماري منذ 2500 ق.م ومنذ مطلع الألف الثاني ق.م تفرّعت اللغة الأكدية الى لهجتين رئيسييتين هما البابلية والأشورية. وفي الفترة ما بين القرن العاشر والقرن الثامن ق.م ازدادت هجرة الأقوام الناطقة بالآرامية القديمة الى بلاد ما بين النهرين وازداد تأثير اللغة الآرامية على الآشورية القديمة. وما بين القرن الأول ق. م والقرن الثاني الميلادي (حين كنّا جميعا كلدانا أم آشوريين تحت حكم الفرس) تفرّعت الآرامية القديمة الى فرعين رئيسيين هما الآرامية الشرقية والآرامية الغربية واحتوى كل منهما على عدة لهجات. أن لغتنا الحالية المسماة بالآرامية الرهوية (سريانية الرها) ليست سوى واحدة من لهجات الآرامية الشرقية.
الدين
أشرنا قبل قليل الى فترة حكم الفرس الفرثيين ( 138 ق.م -227 م) والتي اتسمت بكثرة حروب الفرس الفرثيين مع السلوقيين والرومان وخصوصا في تخوم مدن أنطاكية وحرّان ونصيبين وغيرها.
ففي هذه الأثناء تقدّم رسل السيد المسيح نحو الشرق مبشرين بالديانة الجديدة. ورأى أجدادنا في دعوة المسيحية الى المحبة والسلام والى الخلاص من الخطيئة, خلاصهم أيضا من عبودية الفرس والرومان وأضطهاداتهم المتكررة لقرون عديدة. فكانوا من أوائل الأقوام في المنطقة من الذين دخلوا في الديانة المسيحية. وأسسوا بعد فترة كنيسة خاصة بهم هي كنيسة المشرق .
وبسبب غياب سلطتهم السياسية الممثلة بالدولة القومية منذ القرن السادس قبل الميلاد وحتى القرن الأول الميلادي وما عانوه من أقصاء وتهميش في شتى نواحي الحياة, أندفعوا بقوة وبكل وجدانهم نحو مؤسستهم الحديثة (كنيسة المشرق) متخذين من انتمائهم أليها هوية جديدة لهم ولكنها هذه المرة بطابع ديني صرف. ولكي يميزوا أنفسهم عن باقي الأقوام المجاورة سموا أنفسهم بالمسيحيين المشرقيين كما سموا أنفسهم بالسريان بسبب استعمال اللغة السريانية في الطقوس الدينية والتدوين والكلام.
وكما ذكرنا سابقا أن كلمة السريان تعني الناس الساكنين في آسوريا (آشوريا) ولها مدلول جغرافي تاريخي قومي. فهي جاءت كتحريف لكلمة آسوريايي وهي التسمية التي أطلقها الأغريق على الآشوريين في القرون الثلاثة الأخيرة من حكم امبراطوريتهم. ولكن هذه التسمية ذات المدلول القومي أخذت بالأستخدام تفقد تدريجيا مغزاها القومي وتتخذ طابعا دينيا أكثر فأكثر ومن ثم طابعا دينيا صرفا فيما بعد.
فمثلا أعتاد الناس القول عن سركيس الذي هو مجرد مسيحي بأنه سورايا. ولكن هذا أستخدام خاطىء أذا ما كان سركيس هذا أرمنيا أو جورجيا أو يونانيا, ولا يجوز القول عن سركيس هذا بأنه سورايا ألاّ اذا كان سركيس كلدانيا أم آشوريا أم سريانيا (وأكثر تحديدا ألاّ اذا أجاد سركيس لغة الأم السريانية أو احدى لهجاتها). فأذا كنّا نقصد ديانة سركيس وليس قوميته علينا أن نسميه مشيحايا (مسيحي).
من هذا المثال البسيط يتبين لنا قوة وفصاحة استخدام كلمة سورايا (وجمعها سورايي) ذات الدلالات المتعددة التاريخية والجغرافية والعرقية واللغوية والدينية للتعريف بهوية سركيس كسورايا وتميّزه عن باقي أقرانه بألأسم والذين هم من أصول عرقية أو قومية أخرى.
وحول الدين نعلم جميعا أن المبادىء الأساسية للديانة المسيحية واضحة ولا خلاف حولها. ولكن كأية عقيدة جديدة دينية كانت أم فكرية أم سياسية لا تخلوا من اثارة الجدل حول هذه النقطة المحورية أو تلك من بين هذه المبادىء, كما يتطلب الأمر غالبا الى ايجاد تفسير منطقي لها, فينبري الفلاسفة والعلماء والمختصين لأيجاد الأجابات المقنعة على الأسئلة المطروحة. وهكذا كان حال كنيسة المشرق أيضا. فقد أنشغل فلاسفة الكنيسة في البحث في موضوع القديسة مريم العذراء (وسر التجسد والفداء) وفي فترة لاحقة اختلفوا فيما بينهم حول مبدأ الطبيعة الواحدة للسيد المسيح. وقد أدّت هذه الأجتهادات الى أيجاد تفسيرات مختلفة نتج عنها عدة انقسامات وظهور المذاهب المسيحية المعروفة الآن. لا أود الخوض في تفاصيل هذه الأنقسامات وأسبابها, لأن هذا شأن كنائسي بحت ولا حاجة لأدراجه هنا, بل أكتفي بالتنويه الى الدور الكبير والخطير الذي لعبته الأهداف الدنيوية والمصالح الشخصية وشهوة السلطة, الى جانب االصراع الدائر بين الفرس والرومان للهيمنة على المنطقة, في تعميق هوة الخلاف وزيادة حدة الأنقسامات.
وللأسف تستمر حالة الأنقسام هذه الى يومنا هذا على الرغم من تعرض رعايا الكنيستين الى العديد من النكبات والكوارث والمحن, نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر حملة الأبادة الجماعية لرعايا كنيسة المشرق الآشورية على يد الأتراك أبان الحرب العالمية الثانية والتي راح ضحيتها ما يزيد على 350000 في اقليم هكاري والمناطق المجاورة, ونكبة سميل في آب 1933 التي وصل عدد القتلى من 5 الى 6 آلاف أنسان كما تجاوز عدد القرى المهدّمة 95 قرية . ولم تفلح كل الجهود الخيرة التي بذلها الطرفان في توحيد شطري كنيسة المشرق الكلدانية والآشورية بسبب الشروط التي يفرضها هذا الطرف على الآخر. وغالبا ما تتدخل جهات أجنبية لتعيق التقارب وتقف حجر عثرة في طريق تحقيق الوحدة المنشودة.
ومع ذلك ظلّت كنيسة المشرق عبر مسيرتها الطويلة هي الحاضنة الرئيسية لكل من آمن بالمسيحية من الأقوام والملل التي سكنت بيت نهرين (العراق – سوريا شرقي الفرات – جنوب شرقي تركيا – غرب ايران) سواء كان كلدانيا, آشوريا, آراميا, فارسيا أم من أي قوم آخر. أي أنها كنيسة جامعة شاملة لاتختص بقومية معينة دون غيرها ولا تفضل هذه الملة على تلك. فالأنتماء العقائدي كان دوما ينبوع المحبة والرجاء و القوة الكامنة في مواجهة الأخطار وتحدي الصعاب.
*****
الطوائف المسيحية وخصائصها
أدت الأنقسامات التي تحدثنا عنها في كنيسة المشرق الى تكوين عدة طوائف مسيحية في العراق ومن أبرزها الكلدان والآشوريون والسريان بشقيهم الكاثوليكى والأرثودوكسي. أن ما يجمع بين هذه الطوائف هو أكثر بكثير مما يفرّق بينها. ولكن لدى كل طائفة من هذه الطوائف بعض الخصائص التي تميزها قليلا عن غيرها.
فالآشوريون (آثورنايي) من اتباع كنيسة المشرق الآشورية سكنوا في أغلبيتهم في المناطق الجبلية مثل أقليم هكاري وأورمية وتخومهما. وكان الشعور القومي لدى أبناء هذه الطائفة أكثر محسوسا مقارنة بالطوائف الأخرى. ويعود هذا في نظري الى عدة أسباب منها:
1- وجود قائد روحي ودنيوي على رأس الرعية ممثلا بشخص البطريرك مار شمعون مع مجموعة من المستشارين يلتف حولهم أبناء الأمة, وأليهم يرجع اتخاذ القرارات الحاسمة والمصيرية (أي مركزية القرار).
2- أن الطبيعة الجبلية الوعرة والسكن في أماكن شبه محصنة بحيث يصعب على الأعداء اقتحامها ساعد على التصدي ومقاومة الهجمات العدوانية للأقوام المجاورة, وأن كثرة هذه التهديدات والأعتداءات أجبرتهم على تشكيل مجموعات من المحاربين الأشداء من الذين يهابهم الجيران لحماية أنفسهم.
3- أن وعود الأنكليز وأغراءاتهم بأنشاء وطن قومي (حكم ذاتي) لهم في أرضهم التاريخية (بيت نهرين) مقابل دعم الآثوريين لجهود الأنكليز الحربية ضد تركيا العثمانية ضاعف من مشاعرهم القومية, وظلت هذه المشاعر جياشة حتى نكبة سميل في ثلاثينيات القرن الماضي.
هذه الأسباب وغيرها هي التي جعلت من الآشوريين (الآثوريين) مجموعة متماسكة وموّحدة, حافظت على نقاء اللغة والعادات والتقاليد حاملين الهمّ القومي أكثر من الطوائف الأخرى.
أما الأمر عند الكلدان والسريان فهو مختلف تماما. فهم يسكنون في غالبيتهم المناطق السهلية وبصفة خاصة سهل نينوى وكذلك بجوار المدن الكبرى كالموصل ونوهدرا وزاخو وأربيل والسليمانية. وقد نزحت في القرنين الماضيين أعداد غفيرة منهم الى مدن بغداد والبصرة وكركوك وبعقوبة وغيرها.
فما يميّز الكلدان والسريان هو حضور للقيادات الروحية وغياب للقيادة الدنيوية الموحدة. ومن ناحية أخرى فرضت الطبيعة السهلية عليهم التعامل مع جيرانهم من العرب والأكراد والتركمان والشبك بروح الأنفتاح والشراكة. وأن انتشارهم الواسع في المدن الكبيرة قد أتاح لهم فرصا ثمينة في التعليم والتوظيف وفي قطاعات التجارة وأدارة الأعمال والفندقة وغيرها. وفي ظل التعايش السلمي مع مواطني المدن الكبيرة نما لديهم الأحساس بالمصير المشترك, وأصبح همّهم الرئيسي هو همّ المواطن العراقي اليومي, وصاروا يركزون على المواطنة وحقوق المواطن وحرية واستقلال البلد أكثر من الهمّ القومي. حيث كان العراق حينذاك يرزح تحت التبعية العثمانية وبعد ذلك تحت الأنتداب البريطاني. فأنخرط العديد من مثقفيهم وشبابهم وكذلك من أبناء الأثوريين بقوة وعزم في الحركة السياسية الوطنية العراقية والمناهضة للأستعمار منذ ثلاثينيات القرن الماضي وخاصة في صفوف الحزب الشيوعي العراقي. أذ كان نضال الشيوعيين العراقيين من أجل الحرية والأستقلال والمساواة والتآخي بين القوميات يلهم مشاعر المسيحيين من كل الطوائف ويمنحهم الأمل برفع جزءا من الحيف المسلّط عليهم لقرون عديدة. كما كان الحزب الشيوعي العراقي أملهم في الخلاص من الأضطهادات الثلاثة الطبقية والقومية والدينية. ومن هنا يأتي سر أندفاع النخبة المثقفة من الكلدان والآشوريين والسريان نحو الحزب الشيوعي وتبوأ مراكز قيادية فيه منذ بدايات تأسيسه في الثلاثينيات. وفي فترة المد الجماهيري اليساري (ويسميه البعض المد الأحمر) الذي أعقب انتصار ثورة 14 تموز 1958 أصبحت بعض البلدات المسيحية بكاملها محسوبة على الشيوعيين.
أن الشيوعيين من الكلدان والآشوريين والسريان ليسوا أقل أحساسا واهتماما من غيرهم من أبناء شعبهم بقضيتهم القومية. ان بذرة القومية كامنة في كل فرد وهي جزء موروث يدخل في تركيبة كل شخص, ولكن ما ينبغي على الفرد فعله هو كبح جماح تطرّفها والتعايش مع القوميات الأخرى بسلام ووئام وعلى أساس المساواة التامة في الحقوق والواجبات. أن أغفال هذا الأمر وأطلاق العنان للمشاعر القومية الجياشة, قد يؤدي الى تنامي الفرقة وألى انقسامات ونزاعات وحتى ألى حروب بين أبناء الشعب الواحد أو بين شعوب الدولتين المتجاورتين. وحتى لانذهب بعيدا نسوق بعض الأمثلة من واقع بلدنا العراق.
فبسبب تطرّف العروبويين في العراق من قوميين وناصريين وبعثيين لصالح العروبة وأنكارهم للحقوق القومية للشعب الكردي ونضالاته المشروعة في أقامة الحكم الذاتي وحق تقرير المصير, وكذلك لحق القوميات الأخرى في الحقوق الأدارية والثقافية, نشبت حرب أهلية طاحنة في خمسينيات القرن الماضي ولم تتوقف الاّ بمساعدة التدخل الأمريكي لصالح شعب كردستان العراق بعد انتفاضة آذار 1991. ولا تزال تداعيات هذه الحرب تلقي بظلالها على واقع العراق الراهن وعلى مستقبله. وبعد حصول الأكراد على حقهم في الفيدرالية, نشهد هنا أو هناك وبين حين وآخر وعلى خلفية التعصب القومي أيضا بعض الأحتكاكات المباشرة وغير المباشرة بين الكرد والتركمان أو بين الكرد والعرب, وأخشى أن يؤدي التطرّف القومي لدى بعض المسؤولين الكرد ولدى بعض القوميين المتطرّفين من أبناء شعبنا الى حدوث أزمات ونزاعات في المستقبل داخل حدود الأقليم. أما على صعيد الخارج فالأمثلة كثيرة كالحرب الأهلية في السودان وفي جنوب أفريقيا ورواندا ودول أفريقية وأسيوية كثيرة.
*****
الخلاصة
أقر دستور أقليم كردستان العراق في شهر حزيران الماضي تسمية شعبنا "الكلدان السريان الآشوريون". وهي تسمية
مكونة من ثلاثة أسماء للدلالة على قوم ينبغي أن يكون له مسمى واحد. وعبّر الكثير من أبناء وبنات شعبنا عن فرحهم الغامر لهذا الحدث البارز. لكن دعونا ندقق في الأمر لكي نرى أن كان هذا الفرح مبرّرا فعلا.
أن رفع الواوات عن التسمية السابقة يعد خطوة متقدمة نحو ترسيخ القناعة لدى أبناء شعبنا بأننا شعب واحد. ولكن لم أقرأ ولم أسمع بقوم يعرّف بثلاثة أسماء مختلفة. أن أسباب هذه التسمية معروفة, وهي ايجاد حل وسط للمواقف التي تتسم بالتعصب والتزمت, وعدم أبداء المرونة من قبل أصحاب القرار في هذا الشأن عند كل من الكلدان والآشوريين والسريان للأتفاق على تسمية موحدة. وهذا يتطلب منا الآن أن كنّّا واعين لمصيرنا ومستقبل أجيالنا, أن نفكر جديا لأيجاد مثل هذه التسمية وبعيدا عن التعصب والأستحواذ والتهميش. علينا أن نفكّر بمصلحة شعبنا وملايينه المنتشرة في مختلف بقاع العالم, وليس بأشباع رغبة صعلوك متطرّف في السياسة بسبب قراءتة الميسورة للتاريخ, أو التأثر بالخطاب الحماسي والعاطفي لهذا السياسي أو ذاك الذي يبتغي من وراء خطابه الأنتفاع وجني مكاسب شخصية في المرحلة الأنتقالية الحرجة التي تمر بها البلاد, أو السير وراء رجل دين يسعى الى توسيع مملكة كهنوته حتى وأن كان على حساب مصلحة شعبة, وذلك بأصراره على تمزيق أواصر شعبه ولحمته وتقسيمه الى ثلاثة كيانات قومية صغيرة هزيلة غير قادرة على تحدي الصعاب ومواجهة أخطار المستقبل.
لقد تعلّمنا في مدارسنا ومنذ نعومة أظافرنا أن " في الأتحاد قوة وفي الفرقة ضعف ". فعلام الأصرار على تقسيم هذا الشعب ألى عدة قوميات وأضعافه؟ ألا يكفي ما حلّ به من نكبات وكوارث ومآسي بسبب لامبالاتنا وغياب وحدتنا ويباسة رأسنا وغلاضة تفكيرنا؟ كونوا على يقين, لا سمح الله, أذا ما تعرّض شعبنا لنكبة جديدة أو هجمة شرسة, فلن يكون هناك أحد منّا في منأى من عواقبها, وسيكون وصول الأعداء أليكم وأقتحام بيوتكم أسرع بكثير مما يحصل الآن يا أيّها المتزمتون. كفى فرقة, كفى انقسامات, كفى نزيفا لدماء أبنائنا. أن أي انقسام جديد على صعيد الشعب سيوّلد جروحا أضافية ويزيد من آلامنا وأوجاعنا. علينا جميعا الآن السعي لردم الهوة الحاصلة وتضييق الخناق على الفرقة ورص صفوفنا ولم شملنا واستعادة وحدتنا التاريخية والقومية والدينية.
أن أهم خطوة نحو تحقيق هذه الأهداف العظيمة هو في الأتفاق على التسمية القومية الموحدة لشعبنا. والتي ستؤدي بدورها الى أندماج العديد من الجمعيات والأحزاب والمنظمات, فتتظافر الجهود وتغتني الخبرات وتتقوى الأحزاب, وفي ذلك كلّه فائدة لها وللشعب بأسره.
من كل ما جرى تناوله في هذا المقال نرى أن الكلدان والآشوريين والسريان هم ثلاث مكونات متداخلة فيما بينها, وتشترك في جملة عناصر أساسية في التركيبة القومية لشعبنا وتكوّن بمجموعها كلا واحدا وهو شعبنا. أّذ ساهم كل مكون منها في صياغة هوية شعبنا وطبعها بطابع مميّز.
فمن الناحية الجغرافية يعيش الجميع في أقليم أشور التاريخي بأستثناء ساكني المدن الكبرى مثل بغداد والبصرة وغيرها والذين هم في غالبيتهم من نازحي الأقليم نفسه.
أما من الناحية العرقية فلا يوجد نقاء عرقي. بل نحن خليط من كل الأعراق (من السومريين والآموريين والأكديين والسوباريين والآشوريين والآراميين والحثيين والكميريين واليهود والفرس والسلوقيين والرومان والمغول والعرب), ولكن كثرة هجرات الآراميين الى بلاد ما بين النهرين بما في ذلك اقليم آشور في القرون الثلاثة الأخيرة من عهد الأمبراطورية الآشورية تجعل من العرق الآرامي أكثر أنتشارا.
أما تأريخنا فهو ليس ملكا لمكوّن معين. فقد حكم أقليم آشور, لا بل العراق القديم كله أربع أمبراطوريات عظيمة وهي الأمبراطورية الأكدية تحت قيادة سرجون الأكدي, والأمبراطورية البابلية الأولى أيام الملك حمورابي, وألأمبراطورية الآشورية, والأمبراطورية البابلية الثانية (الدولة الكلدانية) أيام الملك نبوخذ نصر الثاني. وبعد زوال آخر كيان سياسي مستقل لأمتنا, حكمت بلاد آشور (والتي هي معقلنا الجغرافي) من قبل الفرس والسلوقيين والرومان والعرب والمغول والأتراك العثمانيين. وبعد هذا كلّه كيف لنا أن نقول أننا من أتباع أو بقايا هذه الدولة أو تلك. فأن قلنا نحن آشوريون ومن بقايا الدولة الآشورية فهذا يصح جغرافيا ولكن لا يصح سياسيا وثقافيا لأن أقليم آشور بكامله أصبح تابعا للدولة الكلدانية زهاء القرن الواحد, كما لا يصح سكانيا أيضا بسبب حملات الترحيل الضخمة التي قام بها الملوك الآشوريون بعد الأنتهاء من غزواتهم وخاصة من بلاد بابل, وكذلك بسبب هروب مسيحيي مدن الوسط مثل بغداد وكشكر(واسط) والمدائن, والذين يعتبرون من بقايا الدولة الكلدانية, الى أقليم آشور نتيجة تعرّضهم لحملات ابادة منظمة ولمرات عديدة. وأن قلنا عن أنفسنا بأننا كلدانا لأننا بقايا آخر كيان سياسي عراقي مستقل, فهذا يصح نظريا من الناحية السياسيه ولكنه يفتقر الى الحجة من الناحية القومية. لأن القبائل الآرامية (كلدو وسوخو وقبيلة الأخلامو) والتي تشكل أصل الكلدانيين في بابل قد سكنت في منطقة الفرات الأوسط ووسط وجنوب العراق. وقد أصبح سكان هذه المناطق عربا, ولم يعد أحدا منهم يسمي نفسه اليوم كلدانيا, الاّ حين يدور الكلام عن التاريخ القديم للمنطقة. أن ربط كلدان اليوم بالدولة الكلدانية هو أمر مناف للحقيقة ولا يجوز تصديقه. فأن بلدات كبيرة ومهمة مثل تلكيف وألقوش وتللسقف وكرمليس وعينكاوة ودهوك وباقوفا وباطنايا ومانكيش وغيرها كلّها آشورية الأصل, وكان سكانها جميعهم من النساطرة, وظلّت آشورية نسطورية لحين دخول أهلها في الكثلكة في القرون الثلاثة الأخيرة, فأصبح أهاليها منذ هذا التاريخ يسمّون أنفسهم بالكلدان. وأنا واحد من هؤلاء القوم. ثم ماذا لو أن فاطمة من الديوانية أو جعفرا من كربلاء أختارا الكلدان كقومية لهما بدلا من العربية وبقيا على أسلامهما, هل يجوز أعتبارهما من الكلدان؟ أو من شعبنا الكلداني الآشوري السرياني؟
أن هذا السؤال يبيّن مدى أهمية الديانة المسيحية كصفة مميزّة قوية لهويتنا القومية ولكن شرط الديانة هو ضروري ولكن ليس كافيا. فمثلا جاك من فرنسا ومكسيم من روسيا كلاهما مسيحييان, فهل يجوز أعتبارهما من أبناء شعبنا؟ بالتأكيد كلا. والسبب أولا لأنهم ليس لديهم تاريخا مشتركا معنا. وثانيا لم يسكنوا آسوريا (بلاد آشور) وثالثا لا يتكلّمون لغتنا.
*****
نستنتج من كل ما تقدم أن أفضل تسمية قومية موحدة جامعة وحيادية لشعبنا في الظرف الراهن هي مفردة (سورايي) ذات الدلالات الأربع الجغرافية والتاريخية والدينية واللغوية. وتعتبر الديانة المسيحية ولغتنا الآرامية (السورث) من أهم الخصائص التي تميّزنا عن سوانا من أشقائنا العراقيين من العرب والكرد والتركمان وغيرهم في عراق اليوم. وتعرّف المفردة كما يلي:
سورايي - " هم سكان بلاد ما بين النهرين التاريخية (العراق حاليا), والذين اعتنقوا الديانة المسيحية في القرون الأولى الميلادية, ويتكلمون اللغة السريانية والتي هي احدى لهجات الآرامية الشرقية, ويتخذون من سومر وبابل وآشور تاريخا وتراثا لهم."
وبصدد هذه التسمية لدي الملاحظات التالية:
1- ربما يردّ قارىء ما عليّ ليقول لي " أنّك لم تكتشف لنا أمريكا " فهناك الكثيرون ممن سبقوك في طرح هذه الفكرة. والحق هذا ليس صحيحا البتة. فمنذ أن أصبح شمال العراق منطقة آمنة وتحت حماية القوات الدولية بعد انتفاضة آذار 1991 , بدأنا نبحث في هذا الموضوع. وكان أول لقاء لنا نحن الثلاثة, أنا والأستاذ داود كوركيس (أبو كارل) والمهندس نبيل البازي قد جمعنا بشقتي في موسكو في صيف 1991. وفي هذا اللقاء بحثنا في موضوعة التسمية القومية لشعبنا وأتفقنا نحن الثلاثة على هذه التسمية (سورايي), حيث كان الجدل حينذاك قائما حول هذا الموضوع في أوساط المثقفين والسياسيين الكلدو– آشوريين. وأزداد الجدل حدة على أثر نشر مجلة الثقافة الجديدة في أيار 1992 مقالة بعنوان (الكلدان: مذهب أم قومية) موقعة بأسم مثقفون آشوريون. وفي زيارة لاحقة لي ألى السويد حيث يسكن الصديقان العزيزان داود ونبيل, ألتقينا نحن الثلاثة ثانية في شقة الأستاذ داود في لينشوبنغ, وأكدّنا من جديد على أفضلية هذه التسمية حرصا منا على الأخطار المحدقة بشعبنا من جراء التقسيم.
2- في اختيار التسمية الموحدة علينا أن نأخذ في الحسبان أن أكثر من 40 % من أبناء شعبنا يعيشون في الخارج, وجلّ هؤلاء لايفكرون بأنهم قدموا من سومر أو من بابل أو من آشور بقدر ما يشعرون بأنهم مسيحييون من بيت نهرين (مسيحييون عراقيون) ولهم لغتهم الخاصة بهم وهي اللغة الآرامية والتي نسميها (السورث) ويسمون أنفسهم سورايي. وحين يقول أحدهم عن نفسه أنا كلداني أو أنا آشوري فهو في الغالب يفعل هذا لكي يميّز أنتمائه الى أحدى كنيستي المشرق - كنيسة الكلدان أو كنيسة المشرق الآشورية.
3- نحن لسنا أول شعب يجد له تسمية جديدة. فالكرد الحاليين هم من أحفاد الميديين. ويقول الصديق العزيز الدكتور مؤيد عبد الستار رئيس برلمان الكرد الفيليين في الخارج, بأن الكرد الفيليين هم من أحفاد العيلاميين. لكن الأكراد لم يسمّوا أنفسهم اليوم (ميديون أو عيلاميون) بل بلوروا لهم هوية قومية جديدة بانت معالمها في القرون الثلاثة الأخيرة. والشبك الذين قدموا من أيران ومناطق أخرى لم يسمّوا أنفسهم بألأقوام التي ينحدرون منها. واللبنانيون لايسمون أنفسهم (فينيقيون) والأيطاليون لايسمون أنفسهم بالرومان والسويديون والدنماركيون لا يسمّون أنفسهم بالفايكنغ والأمثلة على ذلك كثيرة.
4- علينا أن نغيّر في ذهنيتنا والتي هي جزء من ذهنية الأنسان الشرق- أوسطي عموما, والمتمثلة بالتشبث في الماضي ألى حد التقديس وأحيانا الى حد القرف, والشك والريبة والخوف من كل طارىء جديد تحت ذرائع مختلفة, مثل ضياع الهوية ومنظومة القيم وغيرها. ووصل الحال بنا الى حد تسخير كل ما يفرزه الحاضر والمستقبل من حقائق ومعارف لخدمة هذا الماضي الذي يجري تقديسه, سواء كان تاريخا أم قومية أم دينا أم مذهبا.
أن للزمن بعد واحد فقط وأتجاه واحد فقط, يبدأ من نقطة البداية ويسير نحو اللانهاية. أي أن الزمن يسير من الماضي نحو المستقبل وعبر الحاضر, وهذا يفرض علينا الأستفادة من تجارب وخبرات الماضي الغنية لبناء المستقبل وليس العكس, أي لا لجر الحاضر والمستقبل وملائمة حقائقهما لرغبات الماضي. وهنا أتساءل عموما, والكلام لايقتصر على أبناء شعبنا من الكلدان والآشوريين والسريان فقط, بل موّجه لكل أبناء جلدتي من العراقيين والذين أحبهم وكرّست جانبا من حياتي في الدفاع عن حريتهم ونصرة قضاياهم وتطلعاتهم :
ماذا أفعل بذهنية تأسرني وتشدني الى الماضي ولا تبالي بمستقبلي ومستقبل أولادي وتدير ظهرها (سواء عن قصد أو من دونه) على كل ما يحصل في العالم من تقدم في العلوم والآداب والفنون والرياضة؟ وماذا أفعل بذهنية وقيم قبلية أوصلتني اٍلى أسفل السلّم في التطور الحضاري بعد أن كنت واحدا من روّاد هذا التطور؟
يحدث كل هذا بسبب أنجرارنا الى الماضي وأجترار منجزاته, وغياب أستراتيجية علمية ترشدنا للأنتقال ألى مصافي الدول المتقدمة, وكذلك بسبب تخوّفنا وتوجسنا من أي جديد قادم مع فقداننا لروح المغامرة.
أن جيلنا والذي يمكنني وصفه بجيل الأخفاق في بناء الدولة العراقية الديمقراطية وفق النماذج العصرية ملزم اليوم أن يساعد الجيل الجديد الناشىء, والذي نعوّل عليه كثيرا, بأن يأخذ بيده ويوجّهه ليفكر في المستقبل أكثر من أن يبقى أسير الماضي.
هكذا فعلت أوروبا وأمريكا وروسيا من قبل. وهكذا تفعل الصين والهند وكوريا الجنوبية وجنوب افريقيا والبرازيل اليوم. ومن له عقل فليمعن ولو قليلا في التفكير !!!
د. شابا أيوب
الدانمرك - 24 تموز 2009







#شابا_ايوب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التيار الوطني الد يمقراطي هو الخاسر الاكبر في االأنتخابات ال ...
- المسيحيون العراقيون وطنيون صادقون ودعاة حضارة


المزيد.....




- فيديو يُظهر ومضات في سماء أصفهان بالقرب من الموقع الذي ضربت ...
- شاهد كيف علق وزير خارجية أمريكا على الهجوم الإسرائيلي داخل إ ...
- شرطة باريس: رجل يحمل قنبلة يدوية أو سترة ناسفة يدخل القنصلية ...
- وزراء خارجية G7 يزعمون بعدم تورط أوكرانيا في هجوم كروكوس الإ ...
- بركان إندونيسيا يتسبب بحمم ملتهبة وصواعق برد وإجلاء السكان
- تاركًا خلفه القصور الملكية .. الأمير هاري أصبح الآن رسميًا م ...
- دراسة حديثة: لون العينين يكشف خفايا من شخصية الإنسان!
- مجموعة السبع تعارض-عملية عسكرية واسعة النطاق- في رفح
- روسيا.. ابتكار طلاء مقاوم للكائنات البحرية على جسم السفينة
- الولايات المتحدة.. استنساخ حيوانين مهددين بالانقراض باستخدام ...


المزيد.....

- الرغبة القومية ومطلب الأوليكارشية / نجم الدين فارس
- ايزيدية شنكال-سنجار / ممتاز حسين سليمان خلو
- في المسألة القومية: قراءة جديدة ورؤى نقدية / عبد الحسين شعبان
- موقف حزب العمال الشيوعى المصرى من قضية القومية العربية / سعيد العليمى
- كراس كوارث ومآسي أتباع الديانات والمذاهب الأخرى في العراق / كاظم حبيب
- التطبيع يسري في دمك / د. عادل سمارة
- كتاب كيف نفذ النظام الإسلاموي فصل جنوب السودان؟ / تاج السر عثمان
- كتاب الجذور التاريخية للتهميش في السودان / تاج السر عثمان
- تأثيل في تنمية الماركسية-اللينينية لمسائل القومية والوطنية و ... / المنصور جعفر
- محن وكوارث المكونات الدينية والمذهبية في ظل النظم الاستبدادي ... / كاظم حبيب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير - شابا ايوب - الكلدان الآشوريون السريان - شعب واحد بثلاث تسميات