أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - احمد ضحية - جابر الطوربيد : محمود مدني رؤية نقدية في الدلالة والسياق الرمزي















المزيد.....


جابر الطوربيد : محمود مدني رؤية نقدية في الدلالة والسياق الرمزي


احمد ضحية

الحوار المتمدن-العدد: 825 - 2004 / 5 / 5 - 07:26
المحور: الادب والفن
    


أحمد محمد ضحية أحمد
الروائي محمود محمد مدني , من الروائيين الذين لا يقلون أهمية عن الطيّب صالح . وتعتبر روايته ( جابر الطوربيد ) من أكثر الروايات السودانية تميّزاً في العشرين ستة المنصرمة , وسط حركة روائية سودانية لم تأخذ بعد مسمّى ( الحركة ) تماماً ! لقلة الإنتاج الروائي الكمي والنوعي , لعدم وجود رؤى محددة بوضوح في الحديث الروائي للعديد مما صدر بعده , لولا روايات قليلة هي كتابة لإعادة ترتيب العالم .
صدرت ( جابر الطوربيد ) للمرة الأولى والأخيرة عن الشارقة في 1984م . واستند حديثها الروائي على الأطفال كتيمة أساسية خلال عملية جدلية يتفاعل فيها الأطفال مع مؤسسات التعليم , البنية الاجتماعية والوطن الفوضى .. !
وإذ تنطلق خلال كل ذلك رواية جابر الطوربيد , عبر روح مدني التجريبية المغامرة , بما يجعل مسكوتات النص متعددة ومتباينة ومتنوعة : ومشحون ــ النص ــ بالرؤى المتراكبة والمتجلية في مستوياته المختلفة عن ثنائيات متنازعة كالأضداد ومتفاعلة في آن : الحياة , الموت , الخير , الشر , الانتصار , الهزيمة , المثال , الواقع ,. مروراً بالطفولة /الرجولة وانتهاءً بجدل الحياة / الواقع , لتشكل خلال كل هذه الثنائيات , المأساة في أفدح صورها . ومع ذلك يأتي الانتصار على قهر الطبيعة : الجفاف .. وعلى الموت . موت الطفل المبارك ,وعلى السلطة التي تفشل في اقتلاع الشجرة ( جابر ) من جذورها .. والغزاة والاستبداد , فيشكل الطفل المبارك مرة أخرى في الشجرة , في جابر في رقية ويفيض البحر ليعلن اللقاح ــ فينهزم الجفاف وتبدأ دورة الحياة أكثر حيوية , بموت رمز الفساد ناصر الخزّان ... من أخطر أزمات الفنان المعاصر أنه يعاني الآن أكثر من أيّ وقتٍ مضى , مشكلة التعبير عن موقفه إزاء المجتمع الذي يعايشه , ورغم أن هذه الأمة ليست وليدة اليوم , فقد ظل الفن على مدى العصور محاطاً بأسلاك شائكة من السلطات أو الشعوب أو العقائد الشائعة أو ثلاثتها جميعاً غير أن العصر الحديث قد ورث خبرات كل ما سبقه من عصور في الوقوف من حريّة التعبير موقفاً معوّعقاً لرسالة النص (1) , خاصة في ظل اللحظة التاريخية الروائية التي ظل السودان يجتازها منذ موسم الهجرة 1966 م وحتى الطريق إلى المدن المستحيلة 2000 م مروراً بصباح الخير أيها الوجه اللامرئي الجميل 1997 م .
فإذا كانت لوقت طويل صناعة اللحظة قد ارتبطت بالطيب صالح , إبراهيم اسحق , عيسى الحلو وآخرين مثلوا مع الأستاذ محمود محمد مدني أعمدة مهمة في تاريخ الرواية السودانية وحاضرها . لحظة استمرت بشروط جديدة فيما أثمرته للحظة أخرى يمثلها بلا شك إبراهيم بشير , أحمد حمد الملك , أبكر آدم إسماعيل وآخرين .. فاللحظة الأولى لم تستكمل حديثها الروائي , هي لحظة مهمة تفرض علينا التوقف عند امتداد ديناميكيتها وتبين آثارها على اللحظات اللاحقة التي تخللتها أو تعدتها ... ولهذا عندما نقرأ جابر الطوربيد , نضع في اعتبارنا تعدد مستويات الحديث الروائي ,,, بتعدد لحظاته في جيل مدني عموماً جيل الستينيات . فبينما كشف لنا الطيب صالح عن القوانين الدقيقة التي تحكم في الشمال من خلال تكوين القرية للوجدان الثقافي لإنسانه . مضى إبراهيم اسحق للكشف عن الغرب , بينما اهتم عيسى الحلو بالتعبير عن المثقف المأزوم والمهزوم . وهذه اللحظات المهمة بصرف النظر عن الفواصل الزمنية , بينما طالت أو قصرت تقودنا للحديث عن جابر الطوربيد كمثال لمحاولة اكتشاف الذات خلال التاريخ في أكثر جوانبه ( عرفنا ) !
فعندما كتب الطيب صالح موسم الهجرة إلى الشمال لم تك ( الشمالية ) هي ذاتها كما هي الآن ومع ذلك هي الآن لحد كبير كما لحظة الكتابة فيها وعنها .. من الناحية المتعلقة بقوانين البنية الاجتماعية وعلاقاتها بعوامل التردي والحرب والهجرة والنزوح والاغتراب والأمية الأبجدية وال ثقافية والجفاف والتصحر إلخ ...
ومع ذلك لم تفلح هذه الهزات في تغيير بطيء وضئيل , فالزمن يبدو ثابتاً والتغيرات سطحية ليست عميقة فعلى مستوى السلوك لم يحدث التغيير نتاج قرار اجتماعي , كما أن التغييرات العمرانية ليست نتاج نمو اقتصادي وكذا المؤسسات ليست نتاج مؤسسية وحاجات مجتمع بقدر ما هي نتاج قرارات سياسية لانقلابات مدنية أو عسكرية بالتالي مؤسسات فوقية لأغراض ايديولوجية ودعائية فما تم منذ لحظة الستينيات وحتى الآن نتاج لمثل هذه الأشياء وأشياء أخرى معقدة ومتشابكة عديدة اسمها المشترك ( التخريب للإنسان ) إلى حد كبير تقف وراءها أحاسيس العجز لأسباب مختلفة , وربما يكون أحدها الفشل لحظة التخريب , دون توظيف ايديولوجي .. ومع ذلك تظل اللحظة ذاتها تعيد إنتاج نفسها مستمرة ومستعمرة للروائي .. فهي لحظة المستعمر الذي يرتدي ثوباً وطنياً , والوطن المهدم وتنمية الإنسان التي لم تنجز رغم تقادم العهد وهي لحظة الهجرة لإشباع الرغبات الناتجة عن الحرمان والتطلعات الناتجة عن الاستلاب والغربة في الوطن وعن الذات .
وعلى قلة الروايات السودانية المنشورة , نجدها بشكل أو بآخر تلامس هذه الجراحات التي أصبحت كالقوانين التي تتحكم في فضاء الكتابة في السودان , والتي غالباً تبدأ بالهروب إلى الريف كوعي برئ وبدائي لتمر بأزمات المثقف لتلتقي بسؤال الهوية ( التاريخ / وعي الذات ) وسؤال الذات يجد ما يبرره في فضاء الحالة الإبداعية السودانية ( إذا كان الماضي بالنسبة للجميع (2) ) وعلى هذا الأساس يمكن النظر إلى جابر الطوربيد , كتأرخة روائية تنزع عبر الماضوية للبحث عن الأصالة والهوية الخاصة بالأنا المدفوعة بوطنية حماسية ( إن المثاقفة أو التغريب كمحط عناية جماعة وبنقد أخرى وصورة المستعمر والمستعمر اللتين تتعرضان لمواجهة حادة مسودة الوعي الممكن الغارق في المثالية (3) ) كل ذلك تعبير عن الأزمة الحضارية في الإبداعي في أعلى مستوياتها الجمالية إلحاحاً على التاريخ المجيد للشعب . ومن السمات المميزة لهذه اللحظة عموماً التي نراها خلال جابر الطوربيد ( دائرية الزمن ) فحرب الجراد تنتهي لتبدأ مرة أخرى وهكذا دواليك , ومع ذلك ثمة انتصار في ختام الرواية على المستعمرين / الغزاة ... الذين يريدون تحويل مجرى النيل .. هذا الانتصار يتحقق عبر بعث جابر كمخلّص ومُنقذ وعبر أدوات المعرفة ومؤسساتها ــ الأطفال , المدارس , الأمل الذي يزرعه الكاتب منذ البداية ويجعله يتنامى بكل ما لمفردة مدارس محتوى معرفي يتعلق بالعالم الذي يحكي عند الرواة رغباتهم في البطولة والتاريخ المجيد لشعبهم .
ووفقاً لتطور شخصية جابر الطوربيد كشخصية منبثقة عن الفضاء التاريخي لسنار القديمة وصيرورتها إلى لحظة قيادة الحرب ضد الجراد بما كان يمكن أن نطلق عليه إسقاط الحاضر في الرواية على صيرورة المستقبل , بما يقدم فلسفة منبثقة من صميم التكون الحضاري والثقافي ومحتوياته المعرفية التي تعود إلى زمن بعيد ( العديد من الآمال تقول لنا بحاجة الإنسان الدائمة إلى التعرف على تاريخه , مهما اختلف الناس في تفسير أحداثه (4) بما لا يخلو في الحاضر من ضرورة استمرار شروط المقاومة من عناصر الماضي الإيجابية , باعتبارها المعادل الموضوعي الذي تفتقده خلال الضياع وسط حصار المفاهيم المتباينة والتي لم تنتج أو تتباين في سياقنا الحضاري ( ولعل الأفكار الفنية الثلاثة : الحلم الخيال والمستحيل أكثر الأدوات التعبيرية قدرة على نسيج الأسطورة الرومانسية ,فالحلم الرومانسي ليس تفسيراً للأحداث أو تغييراً للمواقف وانما هو تجسيد موازٍ لها , أي أنه بمثابة المرآة ( الحاضرة ) لكل ما يدور في العالم الرومانسي .. إن الحلم هنا لا علاقة له بالفلاش أو التداعي الذهني , فهو ليس من أدوات التعبير عن الماضي , بل هو من عناصر الحضور . أما الخيال فهو ليس من عالم الوهم إلا إذا اعتبرنا الوهم من عناصر الواقع الرومانسي (5) ) وغير الجانب الرومانسي المحفوفة به شخصية جابر الطوربيد , نجدها في جوانب أخرى دائمة الحركة dynamic والإدراك دون اعتبار حتى لمناخات سنار القديمة بحكاياتها وأولائها وصالحيها , إذ نلاحظ على استجاباته ( السرعة , والقدرة العالية على التأثير ( بنتك حوصة زوجة لي على سنة الله ورسوله ) .. ( والجمعة القادمة يا عمّي تكمل إجراءات الزواج انني أكاد أسمع غرغرة طفلي , ولدي ... ألا تسمعها مثلي ؟! يا لهذا الهناء ) ... انصرف جابر الطوربيد , ذلك اليوم أصيب محمد أحمد مخارق بالحمّى ( ... ) وعندما فرغ جابر الطوربيد من التمتمة , أخذ جابر يعصر ثديه الأيمن حتى غطى نصف الإناء , بعد ذلك أخذ جابر الإناء وأجلس الشيخ الذي كانت الحمي قد أكلته تماماً وطلب منه أن يشرب ( ص 10 من الرواية ) وفي اتجاه آخر من هذا الجزء نلاحظ التوليد الذي قام به محمود محمد مدني , إذ ولد عن مناخات الطبقات ما ينفي حكاية مثل الهميم وإدريس الأرباب , إلخ ... إذ أعاد إنتاج هذه الحكايات على نحو كولاجي وصيّرها بديلاً لها وهذا ينطبق على اللغة المستخدمة أيضاً . إذ لا تخلو من علاقات استبدادية ( parachgmatiques ) جف ريق الغزالات الجميلة / نشف / يبس .. وفي المنتهى يزاوج بين العقرب والنهر / العطش / اليباس ... وهذه العلاقات يتحدد فيها الحاضر بغياب الآخر ( الغائب ) .. وهذي بذلك تنسجم تماماً مع فكرة غياب جابر في حضور المبارك.
وما نلاحظه على الأبنية القاعدية intra stractures : الدلالات significations والأبنية الفوقية . الدوال في هذا المضمار , أن حكايات الأولياء والصالحين كما وردت في كتاب الطبقات ( وإن كانت وردت في تصورها الذهني / المرجع . فإن الدال عليها ما قدم من إشارات مختلفة مطابقة لها كما في المرجع / الطبقات ) بحيث أعطت ما نحن بصدده من مدلولات خاصة بالتاريخ والناس والكون والأشياء , وبالإحالة لديماس ( وبما كان التاريخ مشجباً عظيماً لكي تعلق عليه كافة أشيائنا ) بالتالي ( الماضي لم يكن أداة تعبير عن قضية أكثر شمولاً من الماضي , وإنما كان الماضي مجرد ملجأ يحتمي به الأديب من مشكلات الحاضر وأزماته , إن معالجة الماضي القريب شيء بالغ الأهمية , بالنسبة للأجيال التي لم تعايشه بكل ضراوته وعفويته (6) ) ..
مكي إدريس العطشان , والعطشان هذا لا علاقة له بذلك الجفاف وانما انحدر إليه من عط ش جده الأكبر لعجيزات النساء النصف أيام كان اللحم أرخص من التراب ( ص (28) من الرواية )
العطشان : علاقة ندرك فيها معاني الظمأ والجفاف , إلخ ..
الجفاف : علامة ندرك فيها معاني القحط والمحل والجوع , إلخ ..
المدلول الرسالة الحقيقيّة لنص .
الدال : علامة النص .
المرجع : الطبقات .
وإذا عدنا مرة أخرى للعلاقات الاستبدادية نلاحظ صياغة المألوف من لغتنا اليومية على محور صرفي فصيح : ( جاء الطوربيد مشغولاً مع ابنه ( ص 28 من الرواية ) ( مطر كأنه مصفى من ثاني وثالث وعاشر أوكسيد الكربون .. وهشاشة التهجين (ص 3 الرواية ) وبذات المستوى التوليف في الجملة الصرفية للمفردة العامية بحيث لا نلحظ إنها لغة مؤلفة ( دارجة / فصحى ) ( منذ أن شالت السحابة الصبية الأولى وهو يعلم أن النهر فعلها ) واللغة المؤلفة هي ( لغة الخرطوم ) لغة الخلاصة المثقفة من سكان السودان الذين تركوا بواديهم القبلية وتوطنوا هنا وقد أضفى عليهم موقعهم العاصمي سانحة نادرة من التعرض لتيارات الحضارة الوافدة عبر شريط النيل والمستقرة نهايته لديهم . هي لغة قاعات الدرس , ولغة مقابلات الإذاعة والتلفزيون وجعجعة السوق العربي , كما يقول إبراهيم اسحق في أحد الحوارات معه . وفي مستوى آخر تتفتح اللغة عن إمكانياتها وطاقتها الشعرية كلها لتعبر عن مأساتنا الاجتماعية ( ضاقت حلقة الرجال الجراد على رقية بنت حمد النحلان حتى أحست بالرائحة الزنخة تخترق خلاياها .. ارتجفت سرة الماء وقبضت الأيدي الأظافر الوسخة الطويلة على الجسد الرقيق الصغير , راقت صفحة النهر , وقع ثور الساقية على الأرض من التعب وكثرة الدوران وهجم ثعبان أسود ذو أظلاف على عش القمرية الوحيدة التي تبعت من عهد اليوم القديم . مزق الرجال الجراد لحم الجسد الرقيق الصغير لرقية بنت حمد النحلان فاختلط الشعر بالدم , بالتراب , بالمخاطر , بالعرق , بالشوك . وبما تبقى من الثياب همد كل شئ الرغبة في كل شئ نام الثعبان الأسود ذو الأظلاف في عش القمرية وفي أعلى النهر كانت مجموعة من التماسيح تعبث بجثث آدمية متعفنة , مجهولة وعندما غادر الرجال الجراد ضفة النهر لم يتركوا سوى جثة رقية بنت حمد النحلان عارية مثقوبة كأنها ضربت بمدفع رشاش , وبالقرب منها ثيابها الطفولية البسيطة (ص 77 من الرواية).
ولا تتوقف اللغة عند هذا الحد في التعبير عن إمكاناتها الشعرية , بل عن جوهر الحدث نفسه بما مثلته اللغة كدلالة حافة على الجنس في اكثر مستوياته عنفاً ... الاغتصاب ... بحيث نشعر بالطبيعة حولنا كلها متهتكة على ضوء تلك الأحاسيس التي تشغلها لحظة انتهاك لوليتا / فلاديمير نابوكوف . وليست جثة رقية بنت حمد النحلان فقط . بل الهتك كفعل عنف ضد الإنسان متجاوزاً سياقه الجغرافي والتاريخي المحدود إلى الكوني المستمر المرتبط بالأشياء حوله , والعالم والمأساة الاجتماعية ( أحد عناصر هذا التخلف الرهيب ) ( مأساة المجتمع تنحصر في أشكال العلاقة الإنسانية بين الأفراد والطبقات والعصور ولكن مأساة الحضارة هذه تتجاوز الأسوار , تتخطاها إلى معالم الوجود الإنسانية الأكبر في كفاح الإنسان البطولي لاكتشاف سر الأسرار , لاكتشاف معنى حياتنا (7) ) إذ كانت حكاية حمد النحلان بمثابة مسلمة في الطبقات فهي على مستوى التوظيف الروائية في جابر الطوربيد , أعيد إنتاجها في علاقات استبدالية جمالية .
إن إستنهاض محمود محمد مدني لقيم الماضي , بعد هدمها وإعادة بنائها على نحو ملائم لحاضر في سبيل مقاومة الرجال الجراد , كقضية أساسية مطلوبة في رسالة النص , وكقضية تشترطها معاناة ( مناخنا الحضاري ويلات البتر والتمزق أو ما يمكن تسميته بمركب الانفصال التاريخي في عصر العطاء العظيم , كما يعاني ويلات التخلف الحضاري المرعب وغياب التقاليد الديمقراطية في أسلوب الحكم والقهر الإستعماري الرهيب ــ فإن عناصر الإيجاب متمثلة في الهبات الثورية ومحاولة الانبعاث الفكري والأدبي والفني تجد نفسها محاصرة في مأزق تاريخي لا تحسد عليه (8) .. ) ومع ذلك بمعنى جابر الطوربيد كمغامرة جمالية معقدة في العقل والوجدان .. وبالإنتقال إلى سيرة جابر الطوربيد نفسه , نجد أنها لا تخلو من مأساوية , كأسطوريته المحاصرة بثنائية الغياب ... الحضور , عبر الإحالة لإلتواءات الدلالة بما تتبدى عنه من تعبئة لنص بكل ما يرتبط بالجغرافيا والتاريخ كما رسمهما ذلك العقل التحتي الذي يستمد نظم إشتغاله من العرفان والحكايات الشعبية كأحد
عناصر البنية الإجتماعية الفاعلة أو الرموز العقددية الأخرى ... فحائط المبكى جزء من جراحات التاريخ العقدي ( الكتابة الأدبية مثل الفن الحديث برمته , تنطوي في آنٍ على استلاب التاريخ وعلى حلم التاريخ , فهي بصفتها ضرورة تشهد على تمزق اللغات المتصلد بتمزق الطبقات وبصفتها حرية تكون هي وعي هذا التمزق والجهد نفسه الطامح إلى تجاوزه ولأن الكتابة تحس نفسها بإ ستمرار مذنبة بعزلتها الخاصة فإنها تكون أيضاً مخيلة متلهفة على تحقيق سعادة من الكلمات فتهرع نحو لغة تحلم بها , ستجسد طراوتها بنوع من الإنبثاق المثالي , إكتمال عالم آدمي جديد , حيث لن تكون اللغة بعد مستلبة (9) لذلك عندما يبكي جابر الطوربيد على الحائط , لا يعبر عن حالة جنون ولا عن تلك الحالة التي إعترت النحلان كما كان في الطبقات فهزئ منه الناس , بل عن حالة أعمق بكثير , حالة تعبر عن فداحة المأساة / التمزق ... ولاشك أن لكل موقف داخلي معادل موضوعي , يربط اللحظة الداخلية ويرتبها إلى جانب شقيقاتها في الواقع الموضوعي , ليتحدد المجرى العام لحياة جابر الطوربيد والحركة الجدلية للدلالات الصريحة والمضمرة والإيحاءات المنصهرة في تفاعل اشرية حادة , متضادة وغير مصرح بها لغاية محددة تتمثل في الرؤى بين لغة مدني الشاعر واحتمالات لغة النص الموازي , بإيجاد طريقة ثالثة ( غير تلك الضاربة في التقليد أو الضاربة في المحاكاة , لهذا فهو يصارع خطيئته وينزع نحو الممكن عاكساً للهزيمة والأمة والصراع داخل تجريبه الفني أنه يمثل الخاطئ كما يمثل الحقيقة , حقيقة الفشل وحقيقة الإنتصار (10) .. ) كما تتجلى النقوش التي على الماء في مشتهل الرواية .. ( هنا تصبح الكلمات مجرد نقوش على الماء ــ عاد الرعب والخوف جثم تجاه حائط المبكى يبكى : قول لي مجنون .. ) وفي هذا الفضاء الرؤيوي الستبطن لإثواءات واسقاطات بعضها تاريخي وبعضها ذو ارتباطات عقدية يتجلى ماهو شاعري صوفي حميم , كحضور انساني للنص . يشكل مما هو متراكم من دلالات واشارات فاتحاًَ الفضاء على المأساة الإنسانية العميقة ( الطافح ) بها النص والغامضة غموض الأقدار .. فمن هذه الدرامية المستفزة لأبعاد المخيلة واحتمالات اللغة وميكانيزمات السياق التعبيري الرمزي في جدليته المعتمرة / المستمرة تتسبح أسطورة جابر الطوربيد كآخر الأساطير المأساوية الحية , كمعادل مضوعي للطريقة الثالثة في إطار معالجة التاريخ الذي يعيش أزمة المؤسسات والمجتمع لأنه شفوي إرشيفي مزيف رسمياً . كما أنه عمل مكتوب من مستعمر وهو بالتالي في حالة ولادة يحمل في داخله كل مخاطر التاريخ ولهذا يجد مدني نفسه مضطراً لإفتراض طريقة ثالثة عبر عنها جابر الطوربيد ( يا عمي الشيخ أنت تعرف ان نظر المحب للمحب سلام والصمت بين العارفين كلام . تلعثم الرجل حتى تبين له أن القابض على ذراعه هو جابر الطوربيد . ما الأمر يا جابر , هل اصبت في عقلك ؟ لا لم أصب وانما اصبت في سلسلتي الفقرية ( ص 7 من الرواية ) يا عمي الشيخ أنت تعلم ... تلعثم الرجل .. ــ ما الأمر يا يا جابر ؟ ... ( .. ) حسناً أوجز فأنا لاحق بالصلاة .. ) واذ تتفجر المفردة عن محمولاتها المعرفية والأيديولوجية وذلك النوع من الأحاسيس المربكة ... لما لا يحتمل فيها ــ المفردة ــ من حرقة , إذ تتفاعل تنشطر من مجرد مفردة صمت للعارفين إلى ما تبدى عنه من عالم يتجاوز حدود الصمت الذي يضمر الود والإرهاق الحميم غلى تلك الرعشة الحميمة والحارقة في السلسة الفقرية , كاشفاً ــ الخطاب لم يختزنه مباشرة عن جابر الطوربيد , كشخصية اسطورية تعمل في تاريخ مفترض .. ( جابر الطوربيد بدأ يتمم ببعض الكلمات ) كان كمن يخاطب كل الأزمنة والأمكنة وكل الناس والبيوت والأشجار والأنهار الجارية والتي جفت والنار والزيتون والجبال والسهل والأرحام والغناء والدوبيت والقوافل التي ضلت طريقها والتي وصلت وكل خطوط الطول والعرض . كلام يصل عصفور الكناري بسمكة القرش في دورة وميضة خاطفة ( ص 9 من الرواية ) وهكذا رغبة جابر هي رغبة الطبيعة ذاتها في تفاعلها وتفاعل كائناتها , رغبة الجغرافيا في الإلتئام فما جرده مدني من رموز طبيعيه في سياقها الرمزي تشير للخصب والنماء , الخصب بما يعطي دلالت تعبر عن القضية المطلوبة ( النماء ) . بدءً بتماهي الخصب في الطبيعة كرمز وإنتهاءً به كفعل إنساني . وإذا يحيل مدني مفهوم الإنزياح على الأمكنة والأزمنة بإعطائها ذاكرة لتجربة الخصب مطلقاً ولفعل الحصب في ذات الوقت على مستويات متعددة تتفتق عنها الدلالة الإيمائية إذ تصل الأرحام بالغناء والدوبيت والقوافل التي ضلت طريقها تنتظر الوصول إلى حيث يتلفت القلب لحبيب يقتله الشوق والإنتصار .. ضلت طريقها بكل ما للمتاهة من رعب وإذكاء للإحساس بالضياع يحيل للإمتلاء اللاشعوري برغبة الحياة وغريزة البقاء . بالتالي الوصول والتواصل . هذه الرغبة / الغريزة التي تجعل المستحيل ممكناً إذ تصل تصل عصفور الكناري بسمك القرش فهي إرادة الإستمرار قبل كل شئ . إرادة جابر الطوربيد .



هوامش :
1ــ غالي شكري , معنى المأساة في الرواية العربية . دار الآفاق الجديدة , بيروت ص 17 .
2ــ سعيد علوش , الرواية والآيديولوجيا في المغرب العربي , دار الكلمة , بيروت , ص 10 .
3ــ المصدر نفسه .
4ــ غالي شكري , مصدر سابق , ص 111.
5ــ نفسه , ص 118 .
6ــ نفسه , ص 154 .
7ــ نفسه , ص 153 .
8ــ نفسه , ص 111 .
9ــ هبرماس , القول الفلسفي للحداثة ترجمة فاطمة الجيوشي , دمشق 1995 م ص 110 .
10ــ غالي شكري , مصدر سابق , ص 111 .



#احمد_ضحية (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حكومة الخرطوم والاصرار على الابادة فى دارفور
- تحول السلطة : بين العنف والثروة والمعرفة
- عام على احتلال العراق : لقد ظل حذاؤك وراسى .. فتذكر سيدى الج ...
- اغنية لطائر الحب والمطر..........قصة قصيرة
- تشكيل العقل الحديث
- هوامش على دفتر التحولات ..........دارفور والبلاد الكبيرة ... ...
- المقدمات التاريخية للعلم الحديث...
- النوة.......... قصة قصيرة
- دار فور: ما لا يقتلنى يقوينى 4_4
- نافذة للحنين نا فذة للشجن ....قصة قصيرة
- القاص السودانى عبد الحميد البرنس : الطيب صالح لو عاش فى السو ...
- القاص السودانى عبد الحميد البرنس: الهيئة المصريه احتفت بالتج ...
- على خلفية القرالر 137 فى العراق - الاسلام السياسى قنبلة موقو ...
- دار فور : ما لا يقتلنى يقوينى3_4
- عثمان علي نور / رائد القصة القصيرة في السودان
- دارفور ملا يقتلنى يقوينى 2_4
- كل ما لا يقتلنى يقوينى 1--4
- دار فور: حرب تلد أخرى........
- منال - قصة قصيرة ...
- في ذكرى الأستاذ محمود محمد طه


المزيد.....




- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - احمد ضحية - جابر الطوربيد : محمود مدني رؤية نقدية في الدلالة والسياق الرمزي