عبد الحسين شعبان
الحوار المتمدن-العدد: 2703 - 2009 / 7 / 10 - 09:27
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
يختزل البعض في عالمنا العربي الديمقراطية بالانتخابات حتى وإن كانت شكلية، باعتبارها دليلاً على «تداول السلطة» والمشاركة في العملية السياسية، وإن كانت الانتخابات مسألة مهمة للتحوّل الديمقراطي، إلا أنها ليست مؤشراً لوحدها على سلامة المشاركة السياسية ونجاعتها، وهي وإن كانت تجري في بعض أقطار الوطن العربي بين الحين والآخر، في المشرق والمغرب، إلا أنها على أهميتها وضرورتها لا تحجب حقيقة التشوّه الخلقي إذا جاز لنا التعبير للحياة السياسية، إن لم تكن تسعى لتغليفه وإخفائه، فالحديث عن الديمقراطية يتطلب وجود دولة وقواعد سليمة للمواطنة ومؤسسات حامية وقوانين ضامنة ومساواة وعدم تمييز بين المواطنين، باعتبارهم بشراً وآدميين لهم حقوق وعليهم واجبات.
لكن الدولة في عالمنا العربي غالباً ما يستعاض عنها بالسلطة، حيث تغيب المؤسسات وتتحول الانتخابات إلى مجرد ممارسة روتينية، تتجه فيها الأنظار إلى الطائفية والعشائرية والعصبيات ما قبل الدولة أحياناً، ولعلها ستكون فرصة لتقاسم سلطات الدولة مذهبياً أو إثنياً (نموذج العراق) أو طائفية سياسية (نموذج لبنان) أو عصبيات (نموذج فلسطين– غزة والضفة الغربية)، بحيث تتحكم هذه السلطات في المجتمع، بحكم حيازتها لمصادر النفوذ والقوة، مادياً ومعنوياً، عسكرياً وسياسياً واقتصادياً، وذلك بالتأثير على إرادة المجتمع وناخبيه.
لعل عدم استكمال الدولة لدورتها التاريخية، باتجاه الحداثة، هو أحد أسباب استعصاء الديمقراطية، فالديمقراطية تعبير عن عالم الحداثة وما يفرزه من عقلانية وتمدّن ومواطنة وحريات عامة وخاصة ومؤسسات في إطار دولة لها الحق أن تبسط سلطانها على الجميع دون استثناء، وهنا تأتي الانتخابات لكي تضبط حركة الدولة نحو استكمال تمثيلها على نحو حر ودوري، يستطيع فيه الناخب اختيار من يريد واستبداله عندما يريد وفقاً لقواعد عقد اجتماعي يتم الاتفاق عليه.
ولعل مسألة الديمقراطية لا تتعلق بالسلطات الحاكمة لوحدها، المتحكم الأساسي في المواطن، بل بالمواطن أيضاً، أي بالمجتمع ودرجة وعيه وإدراكه لحقوقه وقدرته على فرض رأيه على الحكام، لكي يحترموا إرادته. وإذا كان المجتمع العربي حتى الآن يعاني من هشاشة البنى والتراكيب وضعف القدرة على الفعل، ومن معوّقات كثيرة تحول بينه وبين الحداثة، فإننا سندرك العقبات والعراقيل التي تقف حجر عثرة أمام عملية المشاركة، لاسيما إزاء قضايا التمدن وتأثير الموروث الاجتماعي والديني أحياناً، على نحو سلبي. «فالدولة» أو ما نطلق عليه ما يفيد معناها تفتقد في الكثير من الأحيان إلى تراث تاريخي- سياسي وثقافي، لمفهوم الدولة التي بدأت تتشكل على نحو متقطع منذ قرن من الزمان، ونعني بذلك مفهومها المعاصر، خصوصاً وأن الماضي كان يقوم على مقاربات مختلفة ابتداءً من الخلافة والأحكام السلطانية والنماذج المملوكة وطاعة أولي الأمر، ولعل البعض لا يزال يتشبث به حتى الآن، بادعاء الانتساب إليه أو إعادة إنتاجه، وإن كان في غير سياقه التاريخي، بدعوى الأصولية والتمسك بالتراث ومناهضة التغريب، مقابل ذلك هناك من يريد -بحجة ولوج عالم الحداثة والديمقراطية- قطع كل صلة بالتراث والماضي، لأنهما يشكّلان كابحاً أمام دخولنا إلى عالم الحداثة والتمدن والديمقراطية.
وإذا كانت الديمقراطية كمفاهيم وحقوق وقوانين ومؤسسات، وبالتالي ممارسات وتطبيقات عملية غير ناجزة أو مكتملة أو محددة لأنها ليست تامة، بل هي عملية مفتوحة تشوبها بعض النواقص وتعترضها الكثير من التحديّات وتعاني من الثغرات حسب كل تجربة، فإن تصحيحها لن يكون بغير سواها، فضلاً عن أخذ خاصيات كل بلد ومجتمع بنظر الاعتبار، حيث لا «موديل» واحداً جامعاً مانعاً يمكن تعميمه أو فرضه أو ادعاء أفضلياته، فالأمر يتعلق بكل تجربة وكل ممارسة وتطور سياسي واقتصادي واجتماعي. ولعل الأمم المتحدة بقرارها الصادر في 4 ديسمبر 2000 كانت قد ذهبت إلى ذلك دون تناسي وجود مشتركات إنسانية تجمع التجارب الديمقراطية، وهي القواعد العامة التي نتحدث عنها.
أما استعصاء الديمقراطية عربياً في الوقت الحاضر، فهو يتعلق أولاً بطبيعة تشكّل الدولة الوطنية الحديثة، التي قامت على خلفيات قبلية- عشائرية أو عسكرية، ولعل هذا الأمر يتعارض مع طبيعة الدولة المدنية، التي تقوم على حامل «دولة القانون والمؤسسات»، وفي حالتنا فقد أكلت السلطة «الدولة» وابتلعت المجتمع المدني، وذلك بالتغوّل عليهما واحتكار المال والسلاح والقانون والإعلام بيدها، الأمر الذي شكّل عائقاً أمام ما نطلق عليه «الشرعية الدستورية»، بغياب دساتير أو وجود بعضها لتكريس سلطة الحاكم وليس سلطة القانون، وبهذا المعنى كانت انتخابات بعض البلدان حائرة أو حتى صاغرة أمام إعادة إنتاج السلطات ذاتها، طالما غابت المؤسسات والحريات والمساواة، وهي المرتكزات الحقيقية للتحول الديمقراطي.
أما الاستعصاء الثاني فإنه يتعلق بتدني مستوى التنمية والتطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، الأمر الذي يقف عقبة أمام نشر الوعي الحقوقي والثقافي، بأهمية الحقوق والحريات الديمقراطية. وإذا كانت بعض البلدان قد دخلت «صومعة» الديمقراطية بكل ما تعنيه من دلالات، رغم عدم توفر مثل هذا الوعي الكافي أو البيئة الثقافية الحاضنة -ويمكن ذكر تجربة الهند- إلا أن وجود الوعي وتنشئته مسألة مهمة لضمان مشاركة سياسية فاعلة، وعدم الخضوع لاعتبارات طائفية أو مذهبية أو عشائرية أو مالية تحدّ أو تعوّق من الممارسة الديمقراطية الحقيقية، بما فيها الانتخابات التي يتم التأثير فيها للأسباب والاعتبارات المذكورة.
وإذا كانت الديمقراطية تتطلب الحداثة وتأكيد مبادئ المواطنة والمساواة ركني الدولة العصرية، فإن البنية الاجتماعية والثقافية السائدة تعيق الاندماج الاجتماعي، طالما ظلّت المعايير المذهبية والإثنية والدينية والعشائرية هي المتحكمة، يضاف إلى ذلك سوء توزيع الثروة وظاهرة انتشار الفقر ونقص التعليم وتفشي الأمية والنظرة الدونية إلى المرأة والموقف القاصر من الأقليات، وهذه كلها تشكل عقبات وتحديات أمام الديمقراطية.
وإذا تحدثنا عن الاستعصاءات الداخلية فهناك استعصاءات خارجية أيضاً، منها محاولات فرض الهيمنة والاستتباع بحجة التغيير الديمقراطي أو فرض خطط الإصلاح، وكذلك الحصارات الدولية على الشعوب (نموذج العراق الذي عانى منه 13 عاماً، وغزة التي تعاني منه منذ أكثر من سنتين)، إضافة إلى العدوان والاحتلال، وهذه كلها تسهم في إعاقة الديمقراطية والتنمية من جهة، وفي الوقت نفسه تثير الشك بجدواها وحقيقة القوى التي تقف خلفها، أو التي تدعو إليها، لاسيما على المستوى الدولي، خصوصاً وهي ذاتها التي تتنكر لحقوق الشعوب وحرياتها، الأمر الذي يباعد أحياناً بين دعاتها خارجياً وبين دعاتها داخلياً أو المستفيدين منها، ولعل ذلك أحد مفارقات استعصاء الديمقراطية.
وقد ربط الكثير من التيارات الفكرية والسياسية في السلطة أو من معارضاتها أحياناً، سلباً أم إيجاباً، المطالبات بالإصلاح والتغيير، بمشاريع الشرق الأوسط الكبير والشرق الأوسط الجديد، وبغيرها من المشاريع، وبين مطامح بعض القوى الكبرى في فرض هيمنتها على المنطقة بالضد من مصالح شعوبها، ولكن بغض النظر عن مبررات ودعاوى هذا الفريق أو ذاك، فالإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والديني في العالم العربي، أمرٌ لا غنى عنه للتنمية ولتقدّم المجتمع.
إن تجاوز الاستعصاء الديمقراطي عربياً يتطلب أولاً وقبل كل شيء الإسهام في اكتمال دورة الحداثة، بإعادة بناء الدولة، ورد الاعتبار للمؤسسات في إطار العقلانية، واحترام المواطنة المتساوية، وحريات وحقوق المواطنين، الذين بإمكانهم إعطاء التحول الديمقراطي معناه!! بالاستفادة من البيئة الدولية المشجعة والظروف الموضوعية التي يمكن استثمارها على أحسن وجه!!
#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟