أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حمادي بلخشين - مأساة حارث بتروفيتش فصل من رواية















المزيد.....



مأساة حارث بتروفيتش فصل من رواية


حمادي بلخشين

الحوار المتمدن-العدد: 2668 - 2009 / 6 / 5 - 07:16
المحور: الادب والفن
    


حارث بيتروفيتش شاب بوسني في الثلاثين من العمر جىء به الى النرويج بعيد اجتياح الصرب مدينه ساراييفو .
كان يحمل ضميرا معذبا و ذكريات دامية و جروحا لا تندمل...كان يدخن بشكل مريع.
ـــ في النرويج فقط بدات ادخن .

ــ كان يوم أحد حين وقعت مأساتنا العائلية ... صرفت معظم ذلك اليوم و أنا أساعد ابن عمي بيرم في اعمال بناء حظيرة اضافية في مزرعته... حين اتضح لنا تسرعنا في اتخاذ قرار انجاز العمل بمفردنا، كان الأمر لا يحتمل التراجع ... كان خليط الرمل و الإسمنت قد اصبح جاهزا، و لم يكن في امكاننا تأجيل وضعه في مكانه ... اصبح بيرم عصبيا .. لامني كثيرا على تخلف صديقي فيكتور الذي وعد بالحضور و لم يفعل. رغم انني وعدته بأجر مضاعف .

ـــ ابن العاهرة . لقد شغله السكر .... اخطأت حين اعتمدت عليه ....ساصرفه عن العمل ".
كنت ادرك ان بيرم غير جاد في تهديده ... فقد حاول أكثر من مرة طرد فيكتور، لكن والدي كان يجبره على التراجع ...بيرم يحترم والدي كثيرا، لأنه عمه و صهره .

حين عدت الى البيت، كان الظلام مخيما على قريتنا الصغيرة، كنت افكر في شيئين.. الأكل حتي قبل الإستحمام ... لم آكل شيئا طوال اليوم .. البيتزا التي احضرتها لنا "عبادات" ابنة بيرم كانت معدة بلحم الخنزير، حتى البيتزا الأخرى التي اشتراها بيرم لعشائه كانت من نفس النوع . بيرم سيقضي هذه الليلة وحيدا، زوجته ذهبت الى سراييفو مع زوجتي لحــفل عرس ... ستبيتان هناك. غدا اذهب لإحضارهما معا .... حين لا حظ بيرم خيبتي قال وهو يتناول أول قطعة من البيتزا :
ــ لا تكن متعصبا، قل باسم الله ثم كل.
اصررت على الامتناع . سألني و هو يفتح زجاجة الكولا:
ــ بحق السماء، مالفرق بين خنزير وبقرة ؟ أليس الخنزير ايضا من مخلوقات الله؟ .
بيرم يدرك جيدا انني ابعد ما يكون عن التزمت .. .رغم انني غير متدين، فالتدخين والخمر و لحم الخنزير ، بالنسبة لي بمثابة خطوط حمراء... لأسباب صحية لا غير، لم تكن جهنم التي اعدها الله لتاركي الصلاة هي التي تخيفني، بل سرطان الجنجرة و الرئتين، و تليـّــف الكبد، و الدودة الشريطية القاتلة التي يحتوي عليها لحم الخنزير .

ــ الخنزير حيوان لا يغار على انثاه، و من داوم على اكل لحم الخنزير، اصبح مثله ، لا يغار على انثاه ... و من اكل لحم الدجاج اصبح جبانا.
ـــ و من اكل لحم الذئب ؟ .
ضحك ابي ثم قال :
ـــ اصبح الماريشال تيتو .
ــ و من داوم على اكل لحم الحمار؟
ــ اصبح مثل ولد اسمه حارث !
حدثني ابي كثيرا عن المذابح التي ارتكبت ضد المسلمين في عهد الماريشال تيتو، اعلمني ان الماريشال اللعين قتل 400 الف من المسلمين .

ذات مرة ، حين لاحظ ابي اهتمامي المبكر بالنساء ... قال لي:
ـــ يبدو ان حالتك استعجالية، سازوجك في اول فرصة
. ثم اضاف :
ــ ابدأ أولا بحيـازة النصف الأول من دينك، لعلك تغلب شيـــطانك فتكمل النصف الآخر، لأموت بعد ذلك مطمئنا!
كان قد علمني منذ الصغر حديث الرسول" من تزوج فقد ملك نصف دينه "
قلت مازحا :
ــ زوجني امراتين، لأكمل كل ديني و اطمئن عليّ من الآن !
لم يبتسم ابي، كنت جرحا في قلبه ، هكذا كان يقول لي.
لا لشيء الا .بسبب تركي الصلاة .
ــ اذا كان ابن الإمام لا يصلي، فمن يصلي في هذا البيت اللعين؟ .
منذ بلغت العاشرة كان ابي يبدي تذمره مــن تـركي الصلاة ...كان يفضي بــــشكواه الى كل زائر يحلّ ببيتنا . و حين يعتذر لي الزائر باني شخص مهذب كان يردّ دائما :
ـــ لا اريده مواطنا صالحا فحسب، اريده مسلما .

لم اكن اصوم ألا في مخيلة ابي و امي و أختي التي تـكبرني بست سنوات ، و حين تزوجت شاركتني زوجتى عادة الإكل خفية في شهر الصيام .

فور انتهائي من الخدمة العسكرية زوجني ابي فتاة اخـــترتها. الزواج لــــم يضمن لي نصف ديني، بل ضاعف اهتمامي بالنساء، فتــح لي ابوابا كنت اجهلــــها . لم اكن أفوت فرصة العلاقات العابرة اذا كانت في منتهى السرية، و كان مزودا بكندوم .

فور دخولي البيت طلبت من والدتي احضار الطعام، اعلمتني ان والدي سيكون بيننا بعد عشرين دقيقة ، لم اكن في حاجة الى سؤالها عن مكانه ... كنت اعلم انه في مسجد القرية يؤم المسنين من امثاله .

ـــ المصلوّن في قريتنا، مثل مجلس السوفيات الأعلى، اصغرهم في السبعين .
هكذا علق بيرم ذات مرة .


كنا نتندر على رواد مسجد قريتنا، كان بمثابة مأوى للعجز لا يرتاده غير اصحاب الأولوية على قائمة انتظار الموت.... البوسني لا يصلي الا بعد سنوات من حصوله على التقاعد أو بعد عودته من الحج،. لم يعد يربطنا بالإسلام غير ختان الأطفال و حج الشيوخ .

ـــ حارث، يمكنك ان تأكل قليلا في انتظار قدوم والدك....نصف ساعة على الأكثر .
ثم بما يشبه الإعتذار :
ــ أنت تعلم جيدا ان اجتماعنا وقت الطعام مقدس لديه .
ــ وانت تعلمين ايضا مشكلة معدتي، فأنا لا استطيع ان آكل بين وجبتين ، ساستحم في انتظار قدومه .

حين اتجهت الى نافذة الحمام كي اغلقها، كان صوت المؤذن يصلني من بعيد .

لقد اساءت والدتي التقدير،هكذا حدثت نفسي، وانا انزع ثيابي "بعد عشر دقائق فقط سيكون والدي بيننا "....لم يستغرق استحمامي سوى ست دقائق ، كان مـجرد ازالة للعرق و التراب، حين خرجت، كانت والدتي تضع آخر الصحون .

ــ رباه ، هل نسيت شيئا ؟
القيت نظرة سريعة على المائدة ثم قلت لها.
ــ نعم لقد نسيت شيئا هاما ... الا اذا كنت مصممة على إعادة غسيل فستانك الذي يبدو لي نظيفا
ابتسمت والدتي، صكت وجهها ثم ذهبت الي المطبخ لإحضار بعض المناديل
كان ابي يصر على وجود منديل قماشي على مائدة الطعام ، كان يكره المناديل الورقية .
كان من عادة ابي اذا افتقد المنديل ان يسأل والدتي و شقيقتي :
" من منكما جهز المائدة ؟ لتتقدم فورا"
كانت امي أو شقيقتي تتقدم منه بحذر وهي تتطلع الي محتويات المائدة، كل منهما كانت تدرك ان والدي سيستخدم فستانها كبديل عن المنديل المفقود !
لأجل ذلك كانتا تحضران المنديل بمجرد سؤاله عمّن جهز المائدة ؟!.
فيما كانت والدتي مشغولة بوضع المناديل على الطاولة، سمعنا ثلاث طلقات رصاص .
اقتربت من النافذة للإستطلاع ادرت المزلاج :
حذرتني :
ـ لا تفتح النافذة ، تذكر انك خرجت من التو من حمّامك... ستصاب بالتهاب في حنجرتك .
كنت اعيد اغلاق النافذة حينا سمعتها تقول :
ــ لا شك أنهم قد شرعوا مبكرا في مطارة الكلاب الضالة .
كانت ساعتنا الحائطية القديمة تشير الى السادسة و عشر دقائق .
لم أتخيل قط ان انتماءنا الديني قد اعفى الكلاب الضالة من المطاردة في تلك الليلة المشئومة، لنكون بدلها على رأس المطاردين .
طلبت من والدتي سروالا و قميصا نظيفين، دخلت الى غرفتي . خلعت روب الحمام و لبست السروال. حين ادخلت راسي في جيب القميص، قدرت ان الوقت مناسب للخروج الى قاعة الجلوس، حين خطوت اول خطوة خارج غرفتي، و قبل ان اكمل انزال القميص لأستر بطني و ظهري، فوجئت بباب شقتنا يفتح بقوة، ثم شاهدت ابي يقذف منه ليسقط ارضا قبل ان افيق من صدمتي، كانت غرفة الجلوس تغص بمجموعة من المسلحين، كانوا يرتدون ثيابا مرقطة، لم اعرف منهم غير جارنا فيكتور!.

كانت علاقتي بفيكتور عادية... كان وحيد ابويه، و كان يكبرني بسنتين ... كانت تربطني به علاقة كنت اظنها وثيقة الى حد تلك الليلة المشئومة، كان رفيق صباي و زميل دراستي، وكان كثيرا ما يلجا الي بيتنا كلما طرده والده السكير، لينام في غرفتي حتى صباح اليوم التالي، كانت والدتي شديدة العطف عليه.... حين كان صبيا، كانت تزوده بملابسي القديمة... كان والد فيكتور بخيلا ولا يكاد يفيق من سكره، و حين افلست تجارته وجد مشنوقا في غرفته .... حين كبرنا اصبحت و ما زلت، اشارك فيكتور مغامراته النسائية ، كان فيكتور يستغل غياب والدته عن البيت لجلب النساء المشبوهات. لم اذكر انني آذيت فيكتور مرة واحدة ، كل ما عابه علي قبل اربع سنوات انني خلصت فتاة صربية كان قد شرع في اغتصابها... كنت وحيدا في البيت، حين سمعت صراخا في الخارج ثم طرقا عنيفا على باب منزلنا، حين خرجت، وجدت جاراتنا الصربيات يشرن الى نافذة فيكتور.. هن ايضا اخرجهن من بيوتهن صراخ الفتاة .. كان ينبعث من بيت فكتور صراخ فتاة ، كان لا بد لي ان اتحرك، صعدت السلالم الخشبية و طرقت عليه الباب و رجوته ان يترك سبيل الفتاة ...عرفت هوية الفتاة حين رايت دراجتها تحت السلالم الخشبية .. كانت دون سن الرشد، وكان والدها ضابطا كبيرا... كثيرا ما حذرت فيكتور من مثل تلك المغامرات الطائشة.
حين طرقت باب شقته، امرني بالإنصراف فورا ، حين اصــررت .. اعلمني ان الـــفتاة في طريقها الى الخارج ، قبل ان ينهي كلامه ازيح جزء من ستائر النافذة اطلت الفتاة .
ناشدتني : " انتظرني لا تغادر.. سانزل الآ ن مباشرة "
لم تكمل الفتاة جملتها، حين انطلقت منبهات سيارة الشرطة...كانت قادمة من بعيد .
حينما اقترب صوت السيارة اطل فيكتور من النافذة ثم قال لي :
ــ يا بن العاهرة، أعلم انك استدعيت الشرطة .
قلت له :
ـــ انا آخر من خرج من الجيران، و ليس في بيتنا هاتف، فكيف استدعي الشرطة ؟!
لم يبق امامي سوى بضع درجات من السلم الخشبي، حين توقفت سيارة الشرطة امام الييت، و نزل منها اربعة مسلحين توجهوا مباشرة الى شقة فكتور ... بلغنا صياح فيكتور و احتجاجه ، بعد أقل من دقيقتين انزلوه مكبلا .

قبل ان يشحن في سيارة الشرطة، بحث عني في الجمع الحاشد، و حين استقرت علي عيناه، قال متوعدا :
ـــ حارث ايها اللعين، سانتقم منك، تذكر هذا جيدا .

بعد اقل من سنتين خرج فيكتور من سجنه ... لم اعلم بخروجه، إلا حين فوجئت به يطوقني بذراعيه، قبل ان يشكرني على الخدمة الجليلة التي اسديتها له، حين صعدت الى شقته.
ـــ لو تأخر صعودك بضع ثوان، لقبض عليّ متلبسا .
حين التقى بي مرة اخرى ، اعلمني أن زوجة جارهم جوزيفتش هي التي تولت استدعاء الشرطة.


حين احتاج بيرم الى عمال اضافيين في مزرعته، اخبرت فيكتور .. رغم ادائه السيئ ... اردت ان اشغله بالعمل عن العربدة و ازعاج الجيران.
الآن فقط ادركت، أن تخلف فيكتور عن موعـده، كان بسبب انشعاله بالإعداد لحملته الصليبية !

امرنا اكبر المسلحين سنا بالألتفات نحو الجدار و رفع أيــــدنا فوق رؤوسنا، شرعت والدتي في البكاء، قلت لفيكتور متوسلا:

ــ ابي شيخ كبير، ووالدتي مريضة... أرجوك ...
لم يدعني اكمل :
ــ سنجعلهما يستريحان الي الأبد .
ــ فيكتور.... نحن جيران وفي النهاية ابناء وطن واحد، هذا لا يصح .
حين لم يجب فيكتور ، زمجر احدهم مكانه:

ــ سنعيد الأمور الى نصابها، فلا مكان هنا للمسلمين بعد اليوم .
ــ نحن لم نقدم من اثيوبيا ؟ نحن بوسنيين مثلكم و هذه ايضا بلدنا.
صاح اكبرهم سنا بصوت يشبه النباح :
ــ كان ينبغي على جدك أن يلتحق بالجيوش العثمانية حين غادرت البوسنة منذ زمن طويل: و لكن يبدو ان الفرصة فاتتكم . على كل حال لن نحرمكم قبورا هنا.
حين رايت اقصرهم قامة يجرّ والدتي الى حيث القي والدي، اندفعت نحوه حتى اخلصها من قبضته، ظننت ان ما يقومون به مجرّد ارهاب قد يحملنا على مغادرة القرية، بلغتني قبل مدة اشاعات عن نية الصرب اجلاء المسلمين عن البوسنة، و لم اكن اتصوران ذلك الإجلاء سيكون عن الحياة ايضا. قبل ان اصل اليه سمعت دويّ طلقتين، رغم قرب المسافة التي تفصلني عن الرامي، ضلت الرصاصتان طريقهما، اصابت احداهما كتفي الأيسر لتحدث به خدشا . قبل تستقر على باب المطبخ فيما طاشت الأخرى لتحطم صورة عائلية، كان يبدو على الرامي انه يطلق النار لأول مرة في حياته .
قبل ان التفت ورائي احسست بقبضة تلتف حول عنقي، ثم ضربة شديدة على مؤخرة راسي. لم اشعر بعدها بشيء ... خيل الي سماع صوت اطلاق نار في مرتين متقطعتين.. بعد مدة اصبحت تصلني اصوات قهقهات، و نكات بذيئة مختلطة بأصوات ملاعق ترتطم بالصيني ..
حين فتحت عيني كان خمسة من افراد المجموعة يجلسون حول المائدة التي جهزتها والدتي لعشائنا، كانت الساعة الحائطية تشير الى السابعة وخمس دقائق ، ادركت انـــني غبت عن وعيي خمسين دقيقة.


لم استطع رفع راسي من الأرض ، كنت مستلقيا على بطني و يداي موثــقتان وراء ظــهري. كنت احس بالم رهيب في مؤخرة راسي :

شرعت اجول بعيني في نواحي الغرفة بحثا عن والديّ، لم ار ايّ منهما... لم استطع تغيير وضعي لأتمكن من مجال اوسع للرؤية. حين لا حظ احد الصرب رجوعي الى الوعي نظر الي ثم ربت على بطنه و قال :

ــ وليمة فاخرة ... اليس كذلك .... لم يكن ينقصنا الا الخمر.
اضاف آخر:
ــ كنا نجهل انها آخر ما سنعثر عليه في بيت إمـــام.... على كل حال ســــيتولى فيكتور أحضار بعضها.
ثم وهو يرفع صوته :
ـــ فيكتور، لقد أفاق جارك أخيرا .
سمعت خطوات تقترب مني ثم احسست بيد ترفعني من الأرض، و تقلبني على ظهري ... وصلني صوت فيكتور :.
ــ اخبرني حارث ، اين اجد المال ، لقد فتشت عنه في كل مكان ؟
كان فيكتور قد خرج فورا من غرفتي متبوعا بشخص آخر .
كان يشغلني امر والدي عن اجابة فيكتور ... حينما صرت على ظهري احسست ان رجلي قد ارتطمت بشيء صلب
كان الرجل الذي يصاحب فيكتور يصيح "
ـــ اين المال يا ابن العاهرة ؟ هيا اخبرنا .
قبل ان اجيبه تمكنت بصعوبة من الإتكاء على جنبي الأيمن، لأصدم برؤية ابي...كان يــرقد الى جواري،عيناه مفتوحتان وخده الأيسر غارق في بركة من دماء.
حين لا حظ فيكتور محاولة اعتمادى على يدي اليمني لأتمكن من مجال رية اوسع قال لي"
ـــ لا تتعب نفسك لقد لقيت امك نفس المصير، انها في المطبخ .. لم اجحد معاملتكم الحسنة لنا طوال 25 سنة ... رصاصة في الراس دون الم ، لا شك أنهما الآن في الجنة .
شرعت في البكاء .. كانت الصلة التي تربطني بهما وثيقة جدا.
قال لي احدهم وهو يشعل سيجارة:
ـــ لا شك انك ستشكر فيكتور كثيرا على المعاملة الإستثنائية التي تلقهاها العجوزان . كما ستشكره أكثر لأنه وهب لك فرصة حياة جديدة.... ولكن خارج البوسنة النصرانية .
ركلني آخر وهو يحتجّ :
ــ و لكن ليس قبل أن يدلنا عن مخبأ المال
ثم وهو يركلني مرة اخري :
ــ ايها الكلب المحمدي انطق... بسرعة ... اخبرني فيكتور انك تسلمت راتبك الشهري، قبل اقل من اسبوع .
لم يكن فيكتور يحتاج أكثر من التوجه الى خزانة ملابسي لأحضار المال الذي دللته عليه.
القى بحزمة الأوراق المالية فوق الطاولة، ثم التفت نحوي :
ــ رغم اصرار رفاقي على اعدامك ، فسوف امنحك فرصة للنجاة. لم انس قط اننا جيران .
ــ و لكنك نسيت ذلك و انت تقتل والديّ .
ـــ حارث بيتروفيتش.... ارجوك كن واقعيا، لن يتحمل العجوزان مشقة التـنقل في ليلة شتوية كهذه ،بالإضافة الي انعدام فرصة نجاتهما من ذبح مؤكد .

ساعدني فيكتور على النهوض ...اعطاني مهلة دقيقتين حتى أغادر البيت، دون ان احمـــل معي شيئا، حتى حذائي لم اتمكن من اخذه .
نبح اكبرهم سنا:
ـــ بعد نصف ساعة سنقوم بدورية، لن تجد فيكور بجانبك لوعثرنا عليك في طريقنا .
طلبت رؤية والدتي ، لم يسمح لي بذلك... .
حين مررت بالباب تغاضى عني فيكتور وهو يراني اتناول معــــطفي المـــعلق، حين احتج رئيس المجموعة، ردّ عليه فيكتور:
ــ تذكر انك وهبته لي، ثم مالفرق بحق السماء بين الموت بردا أو برصاصة في الراس
... سمح لي بالخروج .
... نصحني فيكتور بسلوك الطريق الغابي و أن لا احاول الظهور على الطريق الرئيسي قبل ان اجتاز الباب . اخبرني همسا ان تسع دوريات تقوم بزيارات مماثلة لكل بيت مسلم في قريتنا ... حين توسلت اليه ان يخبرني عن مصير والدتي:
صرف عني وجهه ثم قال:
ـــ اطلقنا عليها النار قبل والدك و ماتت على الفور دون ان تـنبس بكلمة واحدة .
ثم اضاف في شبه اعتذار:
ـــ لم تتعذب ... كانت ميتة سهلة .
ثم تابع :
ــ خلصت والدك من تعذيب رهيب يعقبه... لقد شتم رادوفان.. قائدنا ... رادوفان أغضبه كثيرا رفض والدك حمل الصليب، و حين طلب منـــه ان يردد: اشهد ان عيسي بن الله اجابه : اشهد انك ابن عاهرة ... اعــتقد والدك انك قتلت . لأجل ذلك كـــان يائسا وعنيفا لم يكن يخشى ضياع اي شيء، أصرّ رادوفان على ذبحه، منــعته من ذلك ، هــــددته بتبليغ قيادتنا بانه صفى صربيا لأسباب شخصية بحتة، حين كنا في طريقنا الي بيتكم ... فيـــما كنا نتجادل حول مصير والدك، تلقى رادوفان مكالمة من هاتفه الجوال، انتهزت فرص خروجه من الغرفة واطلقت النار على والدك . طلقة واحدة في الراس ... . لم يتعذب هو ايضا ..
خدمة اخري ساسديها لك: لا تأمل بوجود مكان آمن قبل عشر كيلومترات، ستصادف في القرية المجاورة ضيوفا غير مرغوبين . حظ سعيد .

قبل ان يغلق الباب، ذكرني فيكتور بمهلة النصف الساعة التي منحت لي ... حينا تعودت عيناي على الظلام رايت جزمة بلاستيكية عالية الرقبة اعتاد والدي استعمالها عندما تغطى الأوحال الطريق.. لبستها .. قبل ان اغادر المكان جمعت بعض ثياب الغسيل التي نشرتها والدتي في الصباح، كنت متأكدا اني ساحتاج اليها ، حين خرجت من حدود قريتنا كان النهر على يساري و الغابة على يميني .. حين لا حظت وقوف سيارت امام بيوت المسلمين، غادرت الطريق الرئيسي ....ثم توغلت في مسلك غابي ضيق .


كان البرد مميتا، و الليل شديد الظلمة، وكنت ارجو ان أ فيق من الكابوس ، كنــت جائعا و دامي القلب . حين قطعت قرابة ميلين توقفت سيارة كبيرة كانت قادمة من سراييفو امام اول جسر قبل قريتنا . قفز منها ثمانية رجال مسلحين توجهوا فور نزولهم الى مؤخرة الشاحنة ثم شرعوا في انزال الركاب ... كان اكثرهم نساء و اطفالا كانوا حوالي خمسين شخصا .. كان صراخ الأطفال، وعويل النساء يشق سكينة الليل، النساء كن فوق الأربعين من العمر.. كن مطلقات السراح، اما الرجال فكانت ايديهم موثقة وراء ظهورهم . فور تجميعهم امام الجسر، سمعت صوت القائد يامربفصل الرجال عن النسـاء و الأطفال، و تخصيص احد افراد المجموعة لحراستهم .. بعد ذلك أمر القائد بالقاء الأطفال دون سن الخامسة في النهر. اخذت النساء يصرخن و يتوسلن ، في حين شرع الرجال الذين اجبروا على الجلوس على ركبهم يرفعون عقيرتهم بالتكبير... انفلت ثلاثــة منهم و توجهوا لتخليص الأطفال من قبضة الوحوش الصربية... سرعان ما حصدتهم نيران الحارس الموكل بهم ،بعد ذلك أمر قائد المجموعة باطلاق الرصاص على رجلي كل اسير من الرجال لمنعه من التحرك ... رغم الجراح ، كان التكبير يرتفع عاليا. بعد ذلك اصدر القائد أمرا بالشروع في ذبح النساء والأطفال الذين هم فوق الخامسة . كان أكثر من نصف النساء قد اغمي عليهن .. كن يلتقطن من الأرض كاكياس فارغة ليتم ذبحهن . تمنيت لو استيقظ من الكابوس... نسيت الجوع و البرد و الم مصابي بوالدي، رايت سيدة محجبة تركع تحت رجلي قائد المجموعة و تتوسل اليه ان يوفر ابنتها الصغيرة . ركلها برجله ... تجاوزها ، حين تمسكت ببنطلونه استل حربة من حزامه و جثم فوقها و اخذ يوجه لها طعنات في اماكن غير قاتلة، كان بقصد تعذيبها دون شك ، حينما عضته من ربلة ساقه، قام بذبحها ... كانت استغاثة المرأة و هي تذبح تقطع نياط القلب..في تلك اللحظة إفتقدت رحمة فيكتور... تذكرت قول احد القتلة ــ" سوف تشكر فيكتور كثيرا على المعاملة الإستثنائية التي تلقاها العجوزان "


كان الرجال الذي اجبروا على الجلوس على ركبهم يرفعون اصواتهم بالتكبير. و كلما ازدادت الركلات التي كانت تنهال عليهم من قبل الحارس الموكل بحراستهم كانت وتيرة التكبير تتصاعد من حناجرهم .

كان حارث بتروفيتش يبكي بمرارة ، وهو يقص علي ما رآه ليلته تلك :
ـــ وددت لو ان فيكتور قتلني، ووفر علي شهود تلك الفظائع، كان الواحد من هؤلاء الجزارين يمسك المرأة أو الطفل من خلفه ثم يدنيه الى حافة الجسر حتى يلصقه بالجدارثم يمسك شعره بيسراه قبل ان يذبحه بيمينه كي يتركه يسقط متخبطا في دمائه...ثم يتجه الي الضحية الموالية التي تستقبله بالإستعطاف و العويل ... لم يرحموا صغيرا و لا كبيرا ... كانت طريقة القتل واحدة لا تتغير، يبدوا انهم تدربوا عليها جيدا، لم اكن اتصور ان تلك الأشياء يمكن ان تقع في غير أفلام الرعب. حين انتهوا من النساء و الأطفال، توجهوا الى الرجال، كانوا عشرة أو يزيدون قليلا... تولوا بطحهم ثم انزال سراويلهم . كانت ايدي الأسرى موثقة وراء ظهورهم، حتى تلك اللحظة لم يكفوا عن التكبير.. اثنان من الصرب كان يمسكانه من يديه وآثنان من رجليه، قبل ان يقوم الخامس باستئصال ذكره و خصيتيه بعد ذلك يتركونه يتخبط في دمائه .. كان الصراخ الذي يصدرونه مرّوعا. حين انتهوا من آخرهم ، مالوا الى الرجل الأول فذبحوه، ثم الثاني و هكذا . حين اتموا العملية، جلسوا يدخنون و يتبادلون النكات البذيئة ، قبل انصرافهم، القوا بكل الجثث في النهر.

ــ كانت قدماي قد تجمدتا من البرد ، لففتهما بقميصين من غسيل، امي ثم وصلت مسيري نحو سراييفو ... خلال الست ساعات الموالية، تكرر مشهد المذبحة ست مرات، كانت المذابح تتم على الجسور و بطريقة واحدة، باستثناء مرة واحدة القي فيها كل الأطفال في البحر، و لكن قطعت فيها
جميع اثداء النساء ومذاكير الرجال . في المرة الرابعة لم يتم انزل الجميع دفعة واحدة .انزل الأطفال اولا ثم النساء و اخيرا الرجال . في المرة الخامسة، جيء بالرجال فقط .أما في المرة الإخيرة فقد جيء بالنساء لوحدهن .


ها هي وحوش الصرب تستفيد من تجارب ذبح المسلمين، فتتدارك الخلل فور تفطنها اليه ، كي لا تقع في نفس الخطأ مرتين،..هذا جيد، سجل عندك " لتنفيذ هولوكست دون ازعاج، يجب قبل كل شيء أن تفصل بين الضحايا : الرجال لوحدهم، والنساء لوحدهن و الأطفال لوحدهم ... اللعنة على السلفية العمياء ... لم يكفها مرور 1400 سنة من التجارب الفاشلة و المغموسة بالدم كي تدع عبادة الحاكم الفرد، و تلقي بالمستبدين في الحاوية... يعد احمد بن حنبل صنم السلفية الأول كما يعد مهندس خريطة طريق الآلام التي نسير وفقها منذ اكثر من 1250 سنة...لم يكفه سكوت المسلم عن فساد حاكمه... حتى اشترط عليه حبه في السرّ!!!
ـــ ايها الملحد من انت حتى تتطاول على احمد بن حنبل؟". لم اهتم بثورة كريم حامد اجبته بهدوء:

ــ لست ملحدا ..أنا مسلم اقتدي باصحاب محمد و بابي حنيفة العظيم ...لأنه يمثل اسلام محمد .
كان ابو حنيفة مستنيرا و شجاعا... لم يكن يقبل اي حديث يروى عن محمد قبل عرضه على ما جاء في القرآن ... لأجل ذلك اصبح مكروها لدي السلفية ... رفض ابو حنيفة تولي اي منصب حكومي...كان يقول: لو كلفني الحاكم باحصاء الحجارة لبناء مسجد فسارفض فورا..حين علم بوجود حركة تمرد ساعد افرادها بالفتوى و المال... لأجل ذلك سجن ثم قتل .

خجلت كثيرا حينما تفطنت الي ان حارث بتروفيتش، توقف عن سرد معاناته ، و اخذ يتطلع الي بشيء كبير من خيبة الأمل... اعتذرت عن شرودي الذي لم يكن يقبل التبرير .

بعد ان سرد علي احداثا دامية اخرى ، رجوته تأجيل سرد معاناته لفرصة اخرى بعدما وجدت نفسي انخرط معه في بكاء حقيقي هاته المرة... حين فرغت من البكاء، كفكفت دمعي،ثم لعنت السلفية التي كانت المسبب الحقيقي للمذابح المستمرة التي استهدفت المسلمين .

لولا الغباء السلفي الذي منح شرعية البقاء للحاكم الوراثي و الإنقلابي... ثم برر باحاديث نبوية كاذبة مصادرة حق المواطن المسلم ، في اختيار حاكمه و نقده وعزله . ولولا توصيات السلفية بضرورة ادارة المسلمين لخدودهم اليسرى بعد لطم خدودهم اليمنى.
لولا السلفية الحمقاء، لما رخص دم المسلم في كل بلاد الدنيا و لما اصبح المسلمون ايتاما ، بلا كيان سياسي يتبني قضاياهم و يدافع عنهم في المحافل الدولية. ولولا السلفية الحمقاء لما اصبحت بلاد المسلمين مسلخا حقيقيا تنتهك فيه حقوق الإنسان ولما اصبحنا في نهاية المطاف . و نحن الذين اراد الله لنا ان نحمل مشعل تحرير كل البشرية عبيدا لجنرالاتنا الحاكمين و نهبا لسكاكين الصرب و الهندوس المتعصبين .

ـــ اللعنة على السلفية.
رفع حارث بتروفيتش راسه ... سألني وهو يمسح دمعة :
ـ ما السلفية ؟
ــ عاهرة عجوز، ساحدثك عنها فيما بعد .
ــ تونسية ؟
ــ ليتها كانت كذلك .. ... بل متعددة الجنسيات !

( مآذن خرساء2/48)



#حمادي_بلخشين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مائدة من السّماء !( فصل من رواية)
- إصرار (قصة قصيرة)
- حداد ( قصة قصيرة )
- إستياء ! ( قصة قصيرة جدا)
- مقدمات ( قصة قصيرة جدا)
- لماذا استحق قاضي قضاة فلسطين اللعن (خبر و تعليقان)
- إستهانة القرضاوي بعقول المسلمين
- ضرورة محاكمة القرضاوي وعصابته الإخوانية كمجرمي حرب
- أقبح فتوى في تاريخ الإسلام أصدرها الكاهن الإخواني جوزيف القر ...
- الإقتصاد الإسلامي- قمّة و عن يمينها و يسارها منحدران-
- المقامة البورقيبيّة 2/2
- المقامة البورقيبيّة1/2
- خاطرة
- النمل يرفض شراء بن حنبل بوزنه روث بقر !!!
- إمرأتنا ما قبل التسونامي السلفي
- في اسرائيل ينزع حاسوب الرئيس، و في بلادنا لا نستطيع نزع فرّو ...
- المتنبي وواحد ارمني ( على هامش الإنتخابات الأمريكية)
- حلم جحا يكرر نفسه
- لا لدين الملوك ( السنة) ولا لدين الكاهن (الشيعة)
- حدث ذات سكر ملكي


المزيد.....




- فنانون أيرلنديون يطالبون مواطنتهم بمقاطعة -يوروفيجن- والوقوف ...
- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...
- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ
- روسيا.. إقامة معرض لمسرح عرائس مذهل من إندونيسيا
- “بتخلي العيال تنعنش وتفرفش” .. تردد قناة وناسة كيدز وكيفية ا ...
- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...
- الإعلان الثاني جديد.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 الموسم ا ...
- الرئيس الايراني يصل إلي العاصمة الثقافية الباكستانية -لاهور- ...
- الإسكندرية تستعيد مجدها التليد
- على الهواء.. فنانة مصرية شهيرة توجه نداء استغاثة لرئاسة مجلس ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حمادي بلخشين - مأساة حارث بتروفيتش فصل من رواية