أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - في نقد الشيوعية واليسار واحزابها - طارق حجي - من دفاتر طارق حجي القديمة : مسألة الدولة فى الفكر الماركسي.















المزيد.....



من دفاتر طارق حجي القديمة : مسألة الدولة فى الفكر الماركسي.


طارق حجي
(Tarek Heggy)


الحوار المتمدن-العدد: 2611 - 2009 / 4 / 9 - 11:56
المحور: في نقد الشيوعية واليسار واحزابها
    


إيضاح : كتبت هذا النص فى شهر مايو 1973 ؛ وروجع ونقح بعد خمس سنوات قبل أن ينشر لأول مرة بالمغرب فى 1978 عندما كان مؤلفه أستاذا مساعدا بكلية العلوم القانونية والسياسية والإقتصادية بجامعة فاس بالمملكة المغربية - طارق حجي.

مسألة الدولة فى الفكر الماركسى
(عرض ونقد)

تمهيد :

هذا الفصل بحث من قسمين حول مسألة الدولة فى الفكرالماركسى، وبالأخص حول مسألتى نشوء واضمحلال الدولة.
في القسم الأول ـ نعرض وجهة النظر الماركسية في المسألة محل البحث، كما جاءت فى كتابات ماركس وإنجلز ولينين، ثم نورد فى القسم الآخرملاحظاتنا الإنتقادية علي تلك النظرية.

والأمر الذى يهمنا أن نؤكده ـ هنا ـ هو أننا فى ملاحظتنا
الانتقادية التى أوردناها فى القسم الآخر من هذا الفصل ـ لم نكن
نقابل أو نفاضل بين النظرية الماركسية وبين النظريات غير الماركسية، ولكننا كنا نقيم النظرية الماركسية للدولة، من خلال ائتلاف أو
اختلاف نتائجها مع أسسها ومعطياتها، ومن خلال واقع الحال الذى
يتضح من إمعان النظر والتأمل فى (مركز الدولة) فى التجارب الاشتراكية، ولا سيما فى التجربة السوفيتية المعاصرة.

أولاً : عرض النظرية الماركسية للدولة

(1) النظرية الماركسية فى أصل وشكل الدولة :

يتساءل « لينين » فى محاضرته عن « الدولة » الملقاة بتاريخ 11 من يوليو سنة
1919 على طلبة جامعة « سفيردولف » قائلاً : (ما الدولة ؟.. وما جوهرها ؟.. وما
دورها ؟.. وما الموقف الذى بقفة من الدولة حزبنا المناضل من أجل إسقاط
الرأسمالية ؟..).
ثم يستطرد ـ بعد عرضه لما ينبغى أن يكون علية منهج البحث في مسألة الدولة ـ
قائلا :
(ينبغى لنا بادئ ذى بدء أن نعير انتباهنا لواقع أن الدولة لم تكن موجودة على
الدوام، فقد كان زمن لم يكن للدولة فيه وجود، فالدولة تظهر حيث يظهر انقسام
المجتمع إلى طبقات، عندما يظهر المستثمرِون والمستثمَرون).. (فى المجتمع البدائى
عندما عان الناس يعيشون سلالات غير كبيرة، وعندما كانوا فى الدرجات السفلى من
سلم التطور، فى حالة تشبه الوحشية، فى العهد الذى ابتعدت عنه البشرية المعاصرة المحتضرة بضعة ألوف من السنين ـ فى ذلك العهد لا نرى دلائل تنبئ بوجود الدولة،
إنما نرى سيادة العادات).
(وإذا ما نظرتم إلى الدولة من وجهة نظر هذا الانقسام الأساسى، رأيتم أن الدولة لم
توجد ـ كما سبق أن قلت ـ قبل انقسام المجتمع إلى طبقات، ولكن بمقدار ما ينشأ
المجتمع الطبقى، تنشأ الدولة وتتوطد).
(إن الدولة آله لصيانة سيادة طبقة على طبقة أخرى: فعندما كان المجتمع خالياً
من الطبقات، وعندما كان الناس قبل عهد العبودية يعملون في ظروف بدائية، حين
كانت تسود مساواة أكبر، وحين كانت إنتاجية العمل ما تزال منخفضة جداً، وعندما
كان الإنسان البدائى لا يحصل على ما هو ضروري لمعيشته البدائية الخشنة إلا بصعوبة
عندئذ لم يبرز ولم يكن بالإمكان أن يبرز فريق خاص من الناس يفرزون خصيصاً
للحكم، ويسيطرون على بقية المجتمع.
وعندما ظهر الشكل الأول من أشكال انقسام المجتمع إلى طبقات، عندما ظهرت
العبودية، وعندما أصبح بإمكان طبقة معينة من الناس تمركزوا على العمل الزراعى
بأحسن أشكاله أن ينتجوا شيئاً من فائض لم يكن ضرورياً ضرورة مطلقة للإبقاء على
شعلة الحياة في العبد، وكان يقع فى يد مالك العبيد، وعندما توطد بهذا الشكل وجود
هذه الطبقة من مالكي العبيد، ولكي يتوطد ـ لابد من أن تظهر الدولة ) ..
( إن الدولة آلة لظلم طبقة من قبل أخرى )(1).
وفى السطور الأولى من بيان الحزب الشيوعى الذى وضعه « كارل ماركس »
و « فردريك إنجلز » عام 1848 تطالعنا هذه الكلمات : (إن تاريخ كل مجتمع
إلى يومنا هذا لم يكن سوى تاريخ نضال بين الطبقات)(2).
وفى عام 1884 ينشر « فردريك إنجلز » مؤلفَّا يتناول فيه مسألة أصل نشأة الدولة،
يقول فيه : (وهكذا ليست الدولة بحال قوة مفروضة على المجتمع من خارجه، والدولة
ليست كذلك « واقع الفكر التاريخية » « صورة وواقع العقل » كما يدعى هيجل(3)
الدولة نتائج المجتمع عند درجة معينة من تطوره، الدولة إفصاح عن واقع أن هذا
المجتمع قد وقع في تناقض مع ذاته لا يمكنه حله، عن واقع أن هذا المجتمع قد انقسم
إلى متضادات مستعصية هو عاجز على الخلاص منها. ولكيلا تقوم هذه المتضادات
وهذه الطبقات ذات المصالح الاقتصادية المتنافرة بالتهام بعضها بعضاً والمجتمع فى
نضال عقيم ـ لهذا اقتضى الأمر قوة في الظاهر فوق المجتمع، قوة تلطف الاصطدام
وتبقيه ضمن حدود (النظام). إن هذه القوة المنبثقة من المجتمع والتى تضع نفسها، مع
وذلك فوقه وتنفصل عنه أكثر فأكثر هى الدولة)(4).
وفى أغسطس 1917 ينشر « لينين » مؤلفه الأشهر عن الدولة(5). ويأتى الفصل الأول منه بعنوان : « المجتمع الطبقى والدولة »، وفيه يستخلص « لينين » أن الدولة هى
نتاج التناقضات الطبقية المستعصية وأداة لاستثمار الطبقة المظلومة.
من كل هذه العبارات التى أوردناها آنفَّا ـ نستخلص حجر الأساس للنظرية
الماركسية فى أصل نشأة الدولة، وهو انقسام المجتمع إلى طبقات.
فالدولة فى النظرية الماركسية ليست نظاماً بديهياً أو حتمياً ولازماً لوجود الجماعة، فاستقراءات « إنجلز » لتطور المجتمعات البشرية الأولى، تقول : إن (الدولة لم توجد
منذ الأزل، فقد وجدت مجتمعات كانت فى غنى عن الدولة، ولم يكن لديها أى فكرة
عن الدولة وسلطة الدولة، وعندما بلغ التطور الاقتصادى درجة اقترنت بالضرورة بانقسام المجتمع إلى طبقات ـ غدت الدولة ـ بحكم هذا الانقسام ـ أمراً ضرورياً )(6).
وأهم ما صاحب ظهور الدولة ـ عند « إنجلز » إنشاء قوة عامة مسلحة لم تكن
ضرورية من قبل(7). ويسوق « إنجلز » مثاله الشهير بهذا الصدد، فيقول : (وتجاه
الثلثمائة والخمسة والستين ألف عبد ـ لا يؤلف موطنو (أثينا) التسعون ألفَّا غير طبقة
ذات امتيازات. والجيش الشعبى فى الديمقراطية الأثينية كان سلطة أرستقراطية موجهة
ضد العبيد، وكان يعمل على ضمان طاعتهم وخضوعهم)(8).
ولما كان جهاز القمع الجديد ـ الدولة عند « إنجلز » ـ فى حاجة للمال فقد نشأ
نظام الضرائب، وكانت مجهولة تماماً فى ظل النظام القبلى(9). وعن طريق القوة
المسلحة والضرائب أصبح الحكام فوق المجتمع.
الدولة إذن ـ فى المفهوم الماركسى ـ نظام نشأ من الحاجة للسيطرة على الصراع الطبقى، أو هى تنظيم الطبقة المالكة لحمايتها من الطبقة التى لا تملك(10).
النظام الاقتصادي يحدد شكل الدولة :
بما أن الدولة هى النظام الذي يحمى مصالح الطبقة المالكة والمسيطرة، فأن شكل
الدولة ـ دائماً ـ يتحدد وفق طبيعة مصالح هذه الطبقة وبعبارة أخرى : فإن شكل الدولة يتحدد ـ دائماً ـ فى كل عصر، على حسب النظام الاقتصادى السائد فيه.
والتحليل الماركسى للعلاقة بين شكل الدولة وبين النظام الاقتصادى القائم فى ذات
الوقت ـ تطبيق دقيق لنظرية « ماركس » فى التفسير الاقتصادى لحركة التاريخ البشرى
(المادية التاريخية)، فعند قوة إنتاج معينة هناك دائماً نوع مناسب لهذه القـوى من
علاقات الإنتاج، وعند نوع معين علاقات الإنتاج هناك علاقات اجتماعية معينة،
هى الترجمة الحرفية لتلك العلاقات الإنتاجية.
وبتعبير آخر : فإنه عند وجود هيكل أساسى أو تحتى معين (نظام اقتصادى بما يحتوى علية من قوى إنتاج وعلاقات إنتاج)، هناك دائماً هيكل علوى أو فوقى (يشتمل على
شكل العلاقات الاجتماعية، وقواعد الأخلاق والقانون، وسائر النظم والمبادئ والمذاهب والأفكار السياسية والاجتماعية والفنية ..) وهو القرين دائماً لذلك الهيكل الأساسى(11).
واستناداً إلى ما سبق : فقد قال الماركسيون : إن كل مراحلة من مراحل التاريخ،
أو كل مرحلة من مراحل المادية التاريخية ـ يقابلها شكل معين بالذات من أشكال
الدولة : ففى عصر الرق : كانت هناك دولة ملاك العبيد بهدف تدعيم ملكية السادة
للعبيد، وتوطيد سيطرتهم عليهم واستغلاً لهم ولقوى عملهم.
وفى عصر الإقطاع : فإن أهم ما يميز الدولة هو قاعدة حماية الملكية الإقطاعية،
فالدولة وقتئذ لم تكن إلا أداة إخضاع الفلاحين للسادة الإقطاعيين !
وفى النظام الرأسمالى : فإن السيطرة تكون لأرباب الأعمال الرأسماليين، وهدف
الدولة فى ظل هذا النظام ـ أساساً ـ هو تدعيم طبقة الرأسماليين، وتمكينهم من
السيطرة على وسائل الإنتاج، والمحافظة على علاقات الإنتاج البرجوازية وخاصة تلك المتعلقة بقواعد الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج.
أما عندما تقوم (البروليتاريا) بثورتها وتحطم البرجوازية، فإن النظام الاشتراكى
سيؤدى إلى ظهور دولة جديدة تهدف إلى المحافظة على الملكية الجامعية وتكفل
حماية مصالح الطبقة العمالية المسيطرة(12).
من كل ما سلف، يتضح لنا أن النظرية الماركسية تقيم علاقة وثيقة بين وجود نظام
الدولة وبين انقسام المجتمع إلي طبقات، وتستشهد علي صحة ذلك بأنه عندما لم يكن
هناك انقسام طبقى في المجتمع ـ لم تعرف البشرية نظام الدولة، ومن ثم فإن وجود
الدولة مرتبط دائماً بوجود تناقض عدائى بين طبقات المجتمع. وعليه : فإنه إذا ما
وجد مجتمع خالٍ من هذا التناقص فسوف تنعدم الحاجة للدولة (كنظام)(13).
ولما كانت (البروليتاريا) سوف تقوم بثورتها الكبرى لتحطيم البرجوازية ونظامها
الاقتصادى، وما هو مترتب عليه من نظم سياسية واجتماعية وأخلاقية، فإنها سوف تقوم
من ثم ـ وكأول شئ ـ بإلغاء الاستغلال والاضطهاد بصورة إجمالية، وستحطم الطبقات



المستغلة كافة، وستنقل السيادة إلى قبضة الطبقة العاملة، ولما كان هذا سيؤدى فى
النهاية إلى زوال انقسام المجتمع إلى طبقات فإن الحاجة القديمة لنشوء الدولة سوف
تختفى، وعندئذ يختفى بالضرورة نظام الدولة.
ولكن هذا لن يحدث مرة واحدة ـ بصورة فجائية ـ إذ أن آثار الاستغلال الذى قام
بين البشر عشرات القرون، يحتاج إلى فترة انتقال تعقبها ـ فيما بعد ـ (مرحلة الشيوعية العليا)، حيث تضمحل الدولة نهائياً. وخلال فترة الانتقال هذه يكون هناك شكل فريد
للدولة، هو (الدولة الاشتراكية).
(2) النظرية الماركسية فى اضمحلال الدولة :
رأينا ـ فيما سبق ـ أن للماركسيين نظرة خاصة فى نشأة وطبيعة الدولة :
خلاصتها أن الدولة ليست نظاماً طبيعياً أو حتمياً ملازماً أو مرادفاً لوجود الجماعة
البشرية، وأن نشوة الدولة إنما هو أمر اقتران البشر للملكية الخاصة : فعندما
عرف الإنسان الملكية الخاصة حدث أول انقسام فى المجتمع إلى طبقات، فوجدت
لأول مرة طبقة مالكة تستغل طبقة أخرى لا تملك شيئا غير قوة عملها، ومن حاجة القلة المستغلة لكبح جماح الغالبية والسيطرة عليها وإبقاء (النظام) على ما هو
عليه ـ نشأت الدولة.
وكان أهم ما صاحب نشوء الدولة ـ فى التنظير الماركسى ـ وجود قوة مسلحة
للقهر والجبر، هى الجيش.
كما رأينا أن الماركسيين يربطون ـ دائماً ـ بين الأوضاع الاقتصادية السائدة وبين شكل الدولة.
ثم نأتى ـ هنا ـ لأهم مسائل النظرية الماركسية للدولة، وهى المتعلقة بمصير أو
بمآل (نظام الدولة) فالماركسيون يرون أنة بما أن نظام الدولة ليس نظاماً طبيعياً فى
شئ، وأنه ـ فقط ـ محض قرين لانقسام المجتمع إلى طبقات مستغِلة وأخرى مستغَلة،
وأن الأوضاع الاقتصادية المعاصرة هى ـ نفسها ـ التى تُعد للمرحلة اللاحقة بمعنى أن الرأسمالية (كنظام) هى التى خلقت (بروليتاريا) واعية، وهى نفسها التى تدفعها
بتناقضاتها الأساسية والحتمية إلى الثورة البروليتارية. وكنتيجة لكل ذلك، فإن
(البروليتاريا) عند قيام الثورة سوف تقضى ـ تماماً ـ على انقسام المجتمع إلى طبقات،
وذلك بقضائها أولاً ـ وقبل أى شئ ـ على الاستغلال ذاته.
عندئذ، عندما يخلو المجتمع البشرى من الاستغلال، عندما يخلو من وجود طبقة
مستغِلة وأخرى مستغَلة ـ سيزول المبرر الأساسى ـ والوحيد ـ لوجود الدولة، وهو كونها ناشئة عن الحاجة للسيطرة على صراع الطبقات.
وفى هذا يقول « إنجلز » : (تأخذ البروليتاريا سلطة الدولة، وتحوّل وسائل الإنتاج
فى بادئ الأمر إلى تلك الدولة. ولكنها تقضى بذلك علي نفسها بوصفها بروليتاريا،
تقضى بذلك على كل الفوارق الطبقية وجميع المتضادات الطبقية، وعلى الدولة فى
الوقت نفسه بوصفها دولة. إن المجتمع الذى وجد ولا يزال، والذى يتحرك ضمن
المتضادات الطبقية كان بحاجة إلى الدولة؛ أى إلى منظمة الطبقات المستثمرة للإبقاء
على ظروف إنتاجها الخارجية، وإذن بوجه خاص لتبقى الطبقة المستثمرة فى ظروف
القمع الناجمة عن أسلوب الإنتاج القائم (عبودية، قَنَانَة، عمل مأجور). لقد كانت
الدولة الممثل الرسمى للمجتمع بأكمله، بمركزه في جسم منظور، ولكنها لم تكن كذلك
إلا بمقدار ما كانت الدولة تلك الطبقة التى كانت وحدها تمثل فى عصرها ـ المجتمع
بأكمله : فى العصور القديمة كانت دولة مالكى العبيد ـ مواطنى الدولة، وفى القرون الوسطى كانت دولة الأعيان الإقطاعيين، وهى فى زمننا دولة البرجوازية.
وفى النهاية، عندما تصبح الدولة حقاً ممثل المجتمع بأكمله ـ حينئذ ـ تجعل نفسها
بنفسها أمراً لا لازوم له. وعندما لا تبقى أية طبقة اجتماعية ينبغى قمعها، وعندما تزول
مع السيطرة الطبقية والصراع فى سبيل البقاء الفردى، هذا الصراع الناجم عن الفوضى الراهنة فى الإنتاج، تلك الاصطدامات وأعمال الشطط الناتجة عن هذا الصراع، لا يبقى
هناك ما ينبغى قمعه، ولا تبقى أيضاً ضرورة لقوة خاصة للقمع : الدولة.
وأول عمل تبرز فيه الدولة حقاً بوصفها ممثلاً للمجتمع بأكمله، تملك وسائل الإنتاج
باسم المجتمع، وهو فى الوقت نفسه آخر عمل تقوم به بوصفها دولة. وعندئذ يصبح تدخل الدولة فى العلاقات الاجتماعية أمراً لا لزوم له فى ميدان بعد آخر، ويخبو من نفسه !
وبدلاً من حكم الناس ـ ينشأ توجيه الأمور وإدارة عمليات الإنتاج.
الدولة لا تلغى إنها تضمحل:
وعلى هذا الأساس ـ ينبغى أن ينظر لعبارة (الدولة الشعبية الحرة). هذه العبارة التى
كان لها حق البقاء بعض الوقت للتحريض، ولكنها باطلة فى آخر التحليل من وجهة
النظر العلمية. وعلى هذا الأساس ينبغى أن ينظر أيضاً لمطلب من يسمون بالفوضويين
القائل بإلغاء الدول بين عشية وضحايا(14).
كانت هذه كلمات « إنجلز » ومنها من كتابات أخرى عديدة له ولماركس وللينين
من بعد ـ يتضح أن نظرة الماركسيين لمصير أو مآل نظام الدولة تخالف ـ تماماً ـ نظرة الفوضويين : فالدولة ـ كنظام ـ تضمحل ولا تلغى عند الماركسيين، أما الفوضويون فيقولون بأن الدولة عنصر أساسى فى إذلال الفرد، لذا يحب إلغاؤها.
الماركسيون ـ إذن ـ يفرقون بين أمرين : بين إلغاء الدولة واضمحلالها. فالدولة ـ كنظام ـ لا تلغى، إنما الدولة البرجوازية ـ كنمط ـ هى التى تلغى مرة واحدة بقيام
الثورة البروليتارية، حيث تنشأ الدولة الاشتراكية التى تأخذ ـ مع رسوخ الاشتراكية
والتطور صوب الشيوعية ـ فى الاضمحلال.
فعندما تقوم (البروليتاريا) بثورتها فإنها تقضى على كل ما هو برجوازى، ومنه نظام الدولة البرجوازية بأسره، بكل ما فيه من تناقضات، وبخاصيته الجوهرية كنظام لحماية مصالح المستغلين وكبح جماح المستغَلين.
وعندما تستولى البروليتاريا على السلطات فإن المجتمع لا يتحول بين ليلة وضحاها
إلى الشيوعية، فالمجتمع لا يزال يحمل فى سائر أرجائه ـ الاقتصادية والاجتماعية
والخلقية والفكرية ـ ملامح المجتمع البرجوازى القديم، كما أن البروليتاريا تكون ـ ما
تزال ـ فى حاجة الى توطيد الاشتراكية، وإلى مدة من الزمن تصفى خلالها بقايا النظام
القديم .
لذلك، فإن نظام الدولة يبقى، لكن الدولة الاشتراكية الجديدة، تختلف ـ تماماً ـ فى
أساسها وفى وظائفها، والدولة البرجوازية : تعمل على المحافظة على الاستغلال وكبح المستغَلين من أجل مصالح الأقلية المستغِلة. أما دولة البروليتاريا فإنها تعمل على
القضاء على الاستغلال، وعلى آثار الدولة البرجوازية القديمة لمصلحة الأغلبية من
الشعب وضد الأقلية المستغِلة من الملاك والمستثمرين. فلابد ـ إذن ـ للبروليتاريا من
سلطة الدولة(15) لقمع البرجوازيين، ولترتيب الاقتصاد الاشتراكى.
لكن البروليتاريا لا تبدأ بالاستيلاء على جهاز الدولة البرجوازية لإدارته، ولكنها
تستولى عليه ـ بالثورة ـ لتحطمه وتكون دولة مختلفة ـ تماماً ـ هى الدولة الاشتراكية.
فلابد إذن ـ كما يقول كارل ماركس ـ من الاستفادة الكاملة من تجربة (كوميونة
باريس)(16)، وذلك بعد الاكتفاء بالاستيلاء على السلطة، إذ لابد ـ فى اعتقاد ماركس ـ من المبادرة بتحطيم جهاز الدولة البرجوازية المنهزمة تماماً، بالقضاء أولاً على البيروقراطية
فى مجال الإدارة والوظائف، وذلك بتقرير المساواة بين العمل اليدوى والعمل الذهنى،
وجعل الموظفين خدماً للمجتمع لا أسياداً له، وإلغاء مبدأ تقسيم العمل، ثم الاستعاضة
عن الجيش الدائم بالشعب المسلح، ثم إلغاء البرلمانات التمثيلية بتحويلها إلى
مؤسسات شعبية حقيقية وعاملة (17 , 18).

إذن : نظام الدولة فى التنظير الماركسى لا ينتهى بقيام الثورة البروليتارية، وإنما
الذى يتحطم وينتهى هو نظام الدولة البرجوازية، على حين أن الدولة الاشتراكية تأخذ
فى إرساء الاشتراكية وتصفية آثار الاستغلال والاستثمار، فتلغى ملكية الأفراد لوسائل
الإنتاج، وتصبح بأكملها ملكاً لجموع الشعب.
فى ظل الدولة الاشتراكية هذه لا يسود المبدأ الشيوعى (من كل على حساب طاقته،
ولكل على حساب حاجته)، وإنما يسود المبدأ الاشتراكى (من كل على حساب طاقته،
ولكل على حسب عملة)، فالأخلاق الشيوعية لم تَنْم بعد وتتأصل فى نفوس الأفراد بما
يكفى.
ونظراً للتطور والانتقال الحادثين بالمجتمع فإن نظام الحكم يكتسى إبان هذا التطور
أو تلك المرحلة بطابع ديكتاتورى يمثل فى ديكتاتورية البروليتاريا (ديكتاتورية الطبقة
العاملة)، وذلك كى يكون بمقدور هذه الطبقة إعادة التنظيم الاقتصادى للمجتمع.
على أن هذه الديكتاتورية لا تعنى قيام حكم الفرد أو حكم الأقلية ! لأنها ديكتاتورية
الأغلبية العظمى العمالية ضد البرجوازية المستغلة، فهى لأول مرة فى التاريخ
(ديكتاتورية الأغلبية ضد الأقلية).
وأهم الوظائف المنوط بالدولة البروليتارية الاضطلاع بها هى تصفية البرجوازية
والإعداد للمجتمع الشيوعى، عن طريق التنظيم الاقتصادى من جهة، وعن طريق بث
الأخلاق الشيوعية فى الأفراد من جهة أخرى.
وخلال تطور المجتمع الاشتراكى، وخلال عمل البروليتاريا فى التمهيد للشيوعية،
فإن الاضمحلال يحدث تدريجياً، وحيث يأخذ نظام الدولة فى الأفول حتى ينتهى
التطور إلى إيجاد المجتمع الشيوعى الكامل أو يطلق علية التطور الأعلى الشيوعى.
وعندما يبلغ التطور حد الشيوعية، ويضمحل نظام الدولة تماماً، باضمحلال الحاجة
لوجودها ـ سيوجد من ناحية أولى نظام جديد لا يعرف تقسيم العمل، وستزول كل تفرقة
بين العمل الفكرى والعمل اليدوى، ولن يوجد أى تعارض أو تضاد بين الأفراد من
الناحية المادية، فالكل يحصل على ما يشبع حاجاته، وسيوجد نظام جديد فى الإدارة
الذاتية للأشياء.

ثانياً : نقد النظرية الماركسية للدولة

يقيم الماركسيون نظريتهم فى الدولة على أساس أن الدولة نظام غير طبيعى أو
حتمى أو مرادف لوجود الأفراد معاً فى هيئة جماعة، وإنما هو نشأ عندما ظهر
الشكل الأول من أشكال انقسام المجتمع إلى طبقات. أما قبل ذلك فقد عرف البشر
عهداً لم يكن لنظام الدولة فيه وجود.
والذى يسترعى انتباهنا ـ فى هذه الجزئية ـ هو أن الماركسيين يقولون من جهة
بنظريتهم فى (المادية التاريخية)، حيث يفسرون جميع الظواهر تفسيراً مادياً اقتصادياً، ثم
يأتون فى نظريتهم فى الدولة ليقولوا بوجود عهد لم يكن لنظام الدولة فيه وجود، بل
كان هناك نظام القبيلة الذى يقوم فيه شيخ القبيلة بتسيير الأمور وفقاً لسيادة العادات.
ونعود لنقول : بأن الذى يسترعى انتباهنا ـ في هذا ـ هو تفسيرهم لمركز شيخ
القبيلة وسر نفوذه تفسيراً أدبياً وأخلاقياً قائماً على سيادة العادات.
فما الذى تعنيه العبارة التالية : (ففى المجتمع البدائى لا نرى دلائل تنبئ بوجود
الدولة، وإنما نرى سيادة العادات(19).

-1-
أما أن نقول : إنها تعنى اعتبارات أخلاقية وأدبية معينة، بمعنى أن (شيخ القبيلة)
لم يكن يمثل سلطة دولة، ولم يكن يستند فى شياخته تلك إلى اعتبارات مادية اقتصادية
(حيث لم تكن هناك طبقات)، وإنما كان يستند فى شياخته للقبيلة على اعتبارات
أخرى ـ غير اقتصادية ـ مثل كبر السن، أو كثرة الذرية والتجربة والحنكة، أو رجاحة
العقل بالتجربة العملية.
وإما أن نقول : أن هذه العادات ـ هى الأخرى ـ قد نشأت ورتبت على أساس من الظروف والأوضاع الاقتصادية، بأن يكون نفوذ أو مركز شيخ القبيلة راجعاً لكونه كبير
أثرى عائلات القبيلة أو صاحب اكبر حجم من أنشطتها الاقتصادية.
ولا ريب أننا لو سلمنا جدلاً مع الفكر الماركسى بأنه فى عهود سحيقة لم يكن
للدولة وجود، وإنما كان شيخ القبيلة يسير الأمور على أساس من العادات المستقرة
أقول : لو سلمنا جدلاً بهذا ـ فمن المستحيل أن يفسر (مركز) شيخ القبيلة إلا بأحد
التفسيرين الآنف الإشارة إليهما : إما تفسير لا يرجع مركز شيخ القبيلة لتميزه
الاقتصادى وانتمائه للطبقة المسيطرة اقتصادياً، وإما تفسير يرجع هذا المركز لاعتبارات اقتصادية. والفكر الماركسى ـ فلسفياً ـ فى مأزق لا مخرج له منه فى الحالتين :
ففى الحالة الأولى : ينقض أساساً لا تحتمل الماركسية أن يُنقض، إذ إننا بتفسيرنا
لمركز شيخ القبيلة تفسيراً غير اقتصادى ـ ومن ثم غير مادى ـ نكون قد أحدثنا صدعاً
لا يرأب فى الأساس الفلسفى للماركسية، وهو (المادية التاريخية)، إذ قد عزونا ظاهرة
فى المجتمع (هى مركز شيخ القبيلة) لاعتبارات غير اقتصادية، ومن ثم غير مادية، ومن
ثم أدبية(20).
وفى الحالة الأخرى: نكون قد فسرنا (مركز شيخ القبيلة) تفسيراً اقتصادياً وطبقياً،
ويكون النظام الذى كان سائداً (على سيادة العادات) شكلاً بسيطاً أوليًّا من أشكال
الدولة، حيث على رأس القبيلة (شيخ) يسير الأمور، استناداً لاعتبارات اقتصادية، ومن
ثم طبقية.
وفى هذه الحالة ـ الأخيرة يكون الاحتجاج بأن البشرية قد عرفت عهداً ـ أو حقبة

من الزمن ـ لم يكن للدولة فيها وجود، قول واهن يفتقد التأصيل المقنع.
وكنتيجة لكل ما سلف ـ وبه ذاته ـ يسوغ لنا أن تقرر أن الإقرار الماركسى ـ الذى
لا يقبل الانفصال ـ بين وجود الدولة (كنظام) وبين انقسام المجتمع إلى طبقات، هو
إقران لا أساس له من الصحة.

- 2 ـ

حتى لو سلمنا ـ جدلاً ـ أن المعطيات التى تقولها الماركسية فى مسألة أصل
الدولة صحيحة ومنطقية ـ فإن هذا لا يعنى بحال من الأحوال الانتهاء إلى النتائج التى
رتبها «ماركس» و «إنجلز» و «لينين» على هذه المعطيات: فمن غير المنطقى ـ
فى اعتقادنا ـ أن تقول مع «ماركس» : إن الدولة قد نشأت لوجود الاستغلال وانقسام
المجتمع إلى طبقات، إذ عندما يزول انقسام المجتمع إلى طبقات سيزول نظام الدولة.
وكأن مربع «أرسطوطاليس» هو منطق الأمور الأوحد.

إن المدية (السكين) قد عرفت ـ أول ما عرفت ـ لعلةٍ ما وطيدة الصلة بالصيد
والدفاع عن النفس، ولكن بلا أدنى شك فإن (عللاً) أخرى قد أضيفت ـ على مر
الزمن ـ إلى تلك العلة الأولى كمبرر للاستمرار في أهمية السكين.

وربما تكون العلة الأولى قد زالت ـ أو ضعفت أهميتها وتقلصت إلى حد بعيد جداً
الآن ـ لكن (العلل المضافة) قد أبقت الحاجة للسكين التى تبرز وظيفتها الأولى ـ
حالياً ـ فى منزل عصرى بشكل جد مختلف عن وظيفتها القديمة فى قبضة إنسان كان
يعيش فى العصر الحجرى.

المسألة الآن: هل يوافق الماركسيون على هذه الحقيقة البديهية، والتى تقول بأن
الشئ قد يوجد لسبب ما، لكنه يظل قائماً ومستمراً لأسباب أخرى تصبح بمرور
الوقت وبمقتضى قوانين التطور هو مبرر الوجود (الآنى) وعلته، أكثر مما هى علة النشأة
الأولى؟

المنطق يفرض عليهم الموافقة، فإذا لم يذعنوا لهذا المنطق أقمنا البنية على صحة
دعوانا بمنطق من أقوالهم، لا يملكون أمامه رفضاً:
يقولون ـ منذ عهد ستالين حتى الآن ـ إنه وإن كانت علة وجود الدولة تكمن فى
الانقسام الطبقى الحادث بالمجتمع ، نرى الدولة السوفيتية الحالية لا تضمحل، برغم
انتهاء الاستغلال، والطبقات بالمجتمع السوفيتى وذلك لأن (التطويق الرأسمالى)
المحيط بالدولة السوفيتية يفرض باستمرار جهاز الدولة السوفيتية القوى فى الوجود، حتى
تعم الاشتراكية ظهر الغبراء.
فما معنى هذا سوى أن علة نشوء الدولة (الملكية الخاصة فالانقسام الطبقى)
قد تلاشت، إلا أن الشئ (وهو نظام الدولة في الاتحاد السوفيتى هنا) يظل موجوداً
استناداً لعلل أو مبررات أخرى، غير علة النشأة التى تلاشت. ما معنى هذا إلا
التسليم بصحة زعمنا، أن (علة الاستمرار) قد لا تكون دائماً وليس بالضرورة (علة النشأة الأولى).
التسليم ـ إذن ـ بصحة هذه المقولة حتمية منطقية، إلا أنة فى حالة التسليم ـ الذى
لا مفر منه ـ بصحة هذه المقولة ـ يمكن أن يبرز السؤال المنطقى التالى :
إذا كان ظهور الملكية الخاصة، وما ترتب علي ذلك من انقسام المجتمع إلى
طبقات ـ بعضها يستغل البعض ـ هو مبرر أو علة النشأة الأولى لنظام الدولة، ليكفل للطبقات المستغِلة استمرار نظام وضعيتها الممتازة علي حساب الطبقات المستغَلة، فما
(العلة الأساسية لاستمرار نظام الدولة) بعد تلاشى (علة النشأة الأولى) بالقضاء على الاستغلال والتميز الطبقى فى مجتمعات اشتراكية؟
فى الإجابة على هذا السؤال أقول : إنه حتى فى المجتمعات الاشتراكية، وحتى
بالتسليم ـ جدلاً ـ بانتهاء الاستغلال وانتهاء انقسام المجتمع إلى طبقات متناحرة،
فأن (علة) تظل قائمة موجبة لاستمرار نظام الدولة، أما تلك (العلة) أو ذاك المبرر
فيمكن فى التنسيق والتخطيط الاقتصادى والاجتماعى.
ففى اعتقادنا ـ أن إلغاء الاستغلال لا يمكن أن يؤدى إلي نهاية الدولة كنظام، لكنه
سوف يؤدى ـ فقط ـ إلى زوال (دولة الاستغلال).
وفى اعتقادنا أيضاً ـ أن العلة الرئيسية لاستمرار نظام الدولة عند ذاك تكمن فى أن ظروف الإنتاج الاقتصادى المعاصرة، سواء فى مجالات الصناعة أو الزراعة أو فى أى
مجال آخر، بالإضافة إلى أوجه النشاطات الأخرى اجتماعياً وصحياً وتعليمياً وثقافياً
وإدارياً ـ هى التى تجعل من نظام الدولة، بل ومن وجود نظام قوى للدولة حاجة
وضرورة لا غنى عنها مطلقاً، إذ لا يمكن فى عصر كالذى نعيش فيه تخيل جريان أمور الإنتاج والخدمات الإنسانية الرئيسية، دون تخطيط مركزى واع، وتنسيق عام وشامل !
وفى رأينا : أن هذا هو أكثر الانتقادات التى يمكن أن توجه للتصور الماركسى
للمرحلة الشيوعية العليا فعالية.
لماذا ؟
لأن الماركسيين يقولون : إن الشيوعية الحقيقية القائمة على أساس من المبدأ
الشيوعى الرئيسى (من كل بحسب طاقته، ولكل بحسب حاجته)، لا يمكن أن توجد إلا
إذا بلغ التطور الاقتصادى حداً من الوفرة الاقتصادية يسمح بالإشباع التام للأفراد كافة.
والأكيد أنه كمل لا يتصور ـ إطلاقاً ـ بلوغ هذا الحد من الوفرة الإنتاجية بدون تخطيط مركزى واعٍ لمصادر الطاقة والإنتاج في المجتمع (فى الطور الاشتراكى) ـ فإنه من غير المتصور استمرار هذه الوفرة فى الطور الشيوعى بدون تخطيط وتنسيق عام وشامل،
وهذا يقتضى وجود نظام الدولة بالضرورة.

-3-
يقول التصور الماركسى بأن الطبقة العمالية (البروليتاريا) عندما تستولى على كل
السلطات وتحطيم جهاز الدولة البرجوازية القديم ـ فإن المجتمع سيمر بمرحلة انتقال
بين الدولة البرجوازية والشيوعية، مرحلة تأخذ البروليتاريا فيها فى تصفية آثار
البرجوازية المنسحقة.
وفى هذا يقول « كارل ماركس » فى مقاله (اللامبالاة السياسية) : (إذا أقام العمال
فى مكان ديكتاتورية البرجوازية ديكتاتوريتهم الثورية لكيما يحطموا مقاومة البرجوازية
ـ فإنهم يعطون الدولة شكلاً عابراً).
وفى المعنى نفسه يقول « فردريك إنجلز » : (ولما كانت الدولة عبارة عن مؤسسة
ذات طابع عابر فحسب، يتأتى استخدامها فى النضال، فى الثورة، لقمع الخصوم بالقوة،
فإن الحديث عن الدولة الشيوعية الحرة مجرد لغو، فما دامت البرليتاريا بحاجة إلى
الدولة فهى تحتاج إليها من أجل الحرية، بل من أجل قمع خصومها، وعندما يصبح
بالإمكان الحديث عن الحرية، عندئذ تزول الدولة لوصفها دولة )(21).
وفى المعنى نفسه يقول « لينين » : (أول عمل تبرز فيه الدولة حقاً بوصها ممثلاَ
للمجتمع بأكمله ـ تملّك وسائل الإنتاج ـ إنما هو فى الوقت نفسه آخر عمل تقوم به
بوصفها دولة، وعندئذ يصبح تدخل الدولة فى العلاقات الاجتماعية أمراً لا لزوم له فى
ميدان بعد آخر، ويخبو من نفسه. بدلاً من حكم الناس ينشأ توجيه الأمور وإدارة عمليات الإنتاج)(22).
هذه فقرات كاملة من « ماركس » و «إنجلز» و « لينين»، حول مسألة
اضمحلال الدولة، أو بتعبير أدق حول بدء فقرة الانتقال منذ استيلاء البروليتاريا على
السلطة، وهى فترة تأخذ فيها البروليتاريا على عاتقها ـ كما أٍسلفنا ـ مهمة تصفية آثار البرجوازية، كما يأخذ ـ إبانها ـ نظام الدولة ذاته فى الاضمحلال تدريجاً، حتى يزول
تماماً وتحل محله الإدارة الشيوعية لعمليات الإنتاج.
وبغض النظر عن الغموض والتعميم ـ غير العلميين ـ فى عبارة (الإدارة الشيوعية لعمليات الإنتاج) حيث يخيل إليهم أن أمور الإنتاج فى مجالات الصناعة والزراعة وما
يحيط بها من عمليات وعلوم ودراسات ستسير فى الطور الشيوعى سيراً ذاتياً ! دون
إدارة أو تخطيط من قبل سلطة ما !
نغض النظر عن هذه «اليوتوبيات » ونحصر نقدنا هنا في مسألة نطرحها
بالسؤال التالى :
إذا كان هذا هو التنظير لوضع الدولة وماَلها منذ استيلاء البروليتاريا على السلطة
بعد قيامها بثورتها ضد البرجوازية، فما مدى الاتساق بين هذا التنظير الوارد فى
مؤلفات الماركسية الأساسية، وبين الواقع العملى صاحب ظهور أول دولة ماركسية
فى التاريخ بعد نجاح الثورة البلشفية في أكتوبر 1917 ؟
فى رأينا أن ما حدث فى النقيض بالضبط : فمراجعة الدراسات التى عملت على
الواقع السوفيتى بعد ثورة 1917 حتى الآن(23) ـ تثبت أن ما حدث من تطورات فى مركز الدولة ـ كنظام ـ فى الاتحاد السوفيتي، إنما هى تطورات نحو تزايد أهمية وقوة ومتانة مركز الدولة وسلطانها وهيمنتها وامتيازاتها فى سائر أوجه الحياة المختلفة.
إن تعاظم نظام الدولة ـ لا اضمحلاله ـ فى الاتحاد السوفيتى، وكذا فى سائر بلدان
الكتلة الاشتراكية، والإمعان فى قوة جهاز الدولة وسلطات وامتيازات هذا الجهاز، حقيقة
لا يجرؤ باحث على إنكارها أيًا كانت اتجاهاته الفكرية أو السياسية. ولعله من المفيد
هنا أن نورد كلمتين : إحداهما لعقلية سياسية شيوعية، والأخرى لعقلية سياسية تمثل
اليمين الأوروبى الوسط، ولكنهما ـ أى العقليتين ـ تقرران ما ذكرناه نفسه عن عدم
وجود أى بوادر لاضمحلال الدولة السوفيتية ولبروز الإدارة الذاتية للأشياء، وإنها ـ
على النقض ـ تأكيد وتركيز وتقوية لسلطان جهاز الدولة فى كل المجالات.
يقول «سانتياجو كاريّو » الأمين العام للحزب الشيوعى الاسبانى : (فى وقت
لاحق : كتب لينين نفسه أكثر الانتقادات حدة ضد تلك البيروقراطية وأخطارها.
وبعبارة أخرى فإنه من الدولة البروليتارية المثلى التى كان يتخيلها كدولة تحل فيها
البروليتاريا المسلحة والميليشيا الشعبية والموظفون الذين ينظر إليهم على أنهم
(ماسكو دفاتر) ويتقاضون أجور عمال ويخضعون لنظام الاستدعاء، محل البيروقراطية والجيش النظامى وتنظيمات القمع الخاصة ـ من هذه الدولة لم تبق لمحة يمكن رؤيتها

بعد أكثر من خمسين سنة فى السلطة. وإنما فى محلها ـ فوق المجتمع ـ جهاز
دولة قوية قد يكون أى شئ إلا الحكومات الرخيصة النفقات (التى كان يحلم بها
لينين) !
فإذا كانت كل الدول أدوات لسيطرة طبقة أخرى، وإذا لم يكن فى
الاتحاد السوفيتى طبقات متطاحنة ولا حاجة موضوعية لقمع الطبقات الأخرى فعلى
من ـ إذن ـ تمارس تلك الدولة سيطرتها؟) (24).
وفى الموضوع نفسه كتاب « فاليرى جيسكار ديستان » رئيس الجمهورية الفرنسية
فى كتابة (الديمقراطية الفرنسية) يقول : (وتشاء سخرية التاريخ باسم هذا المفهوم
المتفائل وفى سبيل إقامة مجتمع دون دولة أن تقوم فى بقعة واسعة من الكون سلطة هى
أكثر أشكال السلطة مركزية فى عرف الإنسانية. غير أن هذا الواقع لا يحل المشكلة،
لوجود نظريات خيالية وهمية ستعلب دوراً فى المستقبل ولو ناقضتها الحقائق. وليس
الأمر كذلك فى هذا الموضوع، فإن مفهوم الطبيعة البشرية الذى ترتكز عليه هذه
العقيدة تكذبه معطيات دراستنا لعمل الإنسان(25) الحديث العهد، فليس الإنسان كائناً
بريئاً وديعاً يعيش فى القطاف، وتكلل هامته الزهور، ولا يصرفه عن أقامته علاقات
الأخوة إلا قيام مجتمع شاذ، وإنما هو كائن غير قادر على تحقيق الأفضل بنسبة قدرته
على تحقيق الأخطر، إذا تملكته عوامل الرغبة والحقد والجهل، وهو حريص على
السعى وراء التملك والسلطة. أولا نرى كم أن مجموعات الحيوانات فى قمة التنظيم
المرتبى الدقيق؟ وكم أنها تدافع علي مقتنياتها بالأظفار والأنياب !
أن المجتمع التعددى(26) فى حاجة إلى مؤسسات سياسية، واضمحلال الدولة لن
يؤدى الى زوال السلطة وإنما إلى حصرها. والسلطة العامة وحدها قادرة على حمايتنا
من تجاوزات السلطة الخاصة المتفردة)(27).
ومن يدرس المناقشات والخلافات الفقهية التى دارت فى الاتحاد السوفيتى حول مسألة الدولة وخاصةً في الفترة من 1936 إلى سنة 1954 يدرك بوضوح حقيقة ما ذكرناه
عن تعاظم شأن الدولة ـ كنظام ـ الاتحاد السوفيتى بعد ثورة سنة 1917، فهذا
التعاظم هو الذى ألجأ الكتَّاب الرسميين السوفيت منذ عام 1934 حتى نهاية حكم
« ستالين » (جوزيف ف. دجوجا شفيللى) إلى الترويج لنظرياته فى استحالة حدوث اضمحلال جهاز الدولة السوفيتية طالما بقى الحصر أو التطويق الرأسمالى يحيط
بالدولة السوفيتية( 28 ، 29 )، بل انه (يجب أن تدعم الدولة وتتقوى) وهذا ما أعلنه
« ستالين » بالحرف الواحد فى المؤتمر الثامن عشر للحزب الشيوعى السوفيتى بتاريخ
10 مارس 1939، ثم جاء « نيكيتا خروتشيف » من بعدة ليهاجم بشدة سياسة سلفه
الإرهابية والعنيفة والمستبدة، ثم ليبسط نظريته فى اضمحلال الدولة على أسس جد مخالفة لكل ما قال به « ستالين ».
ملاحظه : يراعى أن نيكيتا خروتشيف كان قبيل وفاة « ستالين » بأعوام قليلة قد
وقف فى عيد ميلاد « ستالين » السبعين يقول بالحرف الواحد : (إن ملايين الأشخاص
يلتفون حول الرفيق ستالين بإخلاص وحب عميقين، لأنة هو مع « لينين » الذى أقام
الحزب البلشفى الدولة الاشتراكية، ولأنة أثرى النظرية الماركسية ـ اللينينية ورفعها
إلى مستوى جديد وعالٍ ! المجد لأبينا المحبوب ولسيدنا العبقرى الذى يقود الحزب
والشعب السوفيتى، والشعب العامل فى العالم أجمع : الرفيق « ستالين ».
وبغض النظر عن هذه الملاحظة، وعند وجود الاتساق بين الرأى (القول) والمسلك
(الفعل)، فإن « خروتشيف » قد بدأ ـ منذ منتصف الخمسينات ـ يعلن فى مناسبات
مختلفة أن (ديكتاتورية البروليتاريا) لم تعد ضرورة(30)! وفى المؤتمر الثانى والعشرين
للحزب الشيوعى السوفيتى (1961) أعلن « خروتشيف » أن تغيرات جذرية يجب أن
تطرأ على تطور الدولة : فبانتصار الاشتراكية أصبحت « ديكتاتورية البروليتاريا »
منظمة سياسية لكل الشعب. وبناء على هذا أعلن « خورتشيف » انتهاء « ديكتاتورية البروليتاريا »(31) وحلول دولة (كل الشعب) فى محلها، كما قال : (أن ديكتاتورية
البروليتاريا) ليست هى التى ستضمحل، ولكنها (دولة كل الشعب).
والحقيقة أن هذا الارتباط يثبت عندنا أن الواقع السوفيتى قد برهن ـ وبرهان التجربة أصلب البراهين ـ على أن (اضمحلال الدول) مسألة موضوع شك كبير.
فمن ناحية فإن جميع كتابات (ماركس) و (إنجلز)، وأن كانت تذكر أن الاضمحلال
لا يتم مرة واحده، ولكنه يحدث تدريجياً عقب استيلاء البروليتاريا على السلطة،
واضطلاعها بمهمة تصفية الاستغلال والقضاء على الطبقية ـ تقول هذه الكتابات بأسرها : أن الاضمحلال يبدأ فعلاً منذ اللحظة التى تستولى فيها « البروليتاريا » على السلطة
محطمة ـ بذلك ـ جهاز الدولة البرجوازية القديم.
ويكفى أن نذكر بعبارة « إنجلز » التى أوردناها من قبل، والتي استعملها ـ بصياغتها نفسها ـ «لينين» فى (الدولة والثورة) : (وفى النهاية، عندما تصبح الدولة حقاً ممثلة
للمجتمع بأكمله، عندئذ تجعل نفسها بنفسها أمراً لا لزوم له .. وأول عمل تبرز فيه
الدولة حقاً بوصفها ممثلة للمجتمع بأكمله ـ تملك وسائل الإنتاج باسم المجتمع ـ
أنما هو الوقت نفسه آخر عمل تقوم به بوصفها دولة)(32).
وخلاصة ما نريد أن نقوله الآن : أن كتاب « ماركس » و « إنجلز» و « لينين »
فى هذه المسألة لا تشير أبداً الى وجود مرحلة ساكنة « ستاتيكية » بين استيلاء
البروليتاريا على السلطة وبين بدء الاضمحلال.
فالربط ـ عند ماركس وإنجلز ـ وثيق للغاية بين (وجود الدولة) كنظام، وبين وجود الطبقات والاستغلال وعدم المساواة. ولا شك أن الفهم الشمولى للماركسية، يحتم هذا
الربط.
وبما أن « البروليتاريا » ستبدأ من اليوم الأول فى خوض غمار حرب لتصفية آثار الاستغلال والطبقية وعدم المساواة ـ فإن الاضمحلال لابد أن يبدأ من هذه التصفية :
لحظة بلحظة، وخطوة بخطوة : فكل إنجاز فى طريق إنهاء الاستغلال إنجاز ـ فى
المقابل ـ فى طريق الاضمحلال لجهاز الدولة كنظام.
ومن هنا يتضح للقارئ مؤدى قولنا : إن هناك علاقة عكسية بين (إنهاء الاستغلال)
و (بقاء الدولة كنظام). ومن هنا يتضح أيضاً معنى قولنا باستحالة التوفيق بين الفكر الماركسى فى هذه المسألة وبين وجود مرحلة (ستاتيكية) لا يسير فيها الاضمحلال
قدماً صوب النهاية، وفى أفول نجم الدولة كنظام، برغم تقدم عملية إنهاء الاستغلال
والطبقية وعدم المساواة.
ويكفى أن نتذكر هنا، تلك السخرية اللاذعة التى صبها « ماركس » على دعاة
(الدولة الشعبية الحرة) إذ رفض ـ بشكل بات ونهائى ـ تصور وجود (الدولة)عند
وجود صراع الطبقى.
فقد كتب «كارل ماركس» فى نقده لبرنامج غوته، وفيما وجهه من نقذ لاذع
لفرديناند لاسال (1825-1864) الذى كان هو نفسه من تلاميذ «ماركس»، عندما
تحدث ـ لاسال ـ عن دولة الشعب، أقول كتب « ماركس » :
(إنه من التناقض التحدث عن دولة شعبية حرة، فما دامت (البروليتاريا) بحاجة إلى
الدولة فإنها لا تحتاج إليها من أجل الحرية، حتى تزول الدولة بوصفها دولة).
وقد تناول « إنجلز » المسألة نفسها فى رسالته الى (بييل)، وربما عبارات ماركس
نفسها(33).
والجدير بالذكر أن الماركسية المعاصرة تقع ـ هنا ـ فى (فخ فكرى) واضح : فلو
أن الاستغلال والطبقية وعدم المساواة والتناحر قد انتهت من الاتحاد السوفيتى ـ كما
قال بذلك « خروتسيف » فى إعلانه إنتهاء ديكتاتورية البروليتاريا ـ فما علة بقاء نظام
الدولة ـ الآن ـ فى الاتحاد السوفيتى ؟.. هل هى علة ستالين القديمة بوجود خطر
التطويق الرأسمالى، أم هى علة الماركسية الارثوذكسية، وأعنى التناحر الطبقى ؟..
وإذا كان الجواب بالقول الأول فإننا نعلق عليه بالقول التالى : يمكن إذن أن ينعدم الاستغلال الإنسانى فى مجتمع، وبرغم ذلك يوجد نظام الدولة لسبب أو لأسباب خارجية
عن المجتمع، تكمن هنا فى التطويق والعداء الرأسماليين. وهذا يتعارض بوضوح مع
الفكر الماركسى الارثوذكسى، إذ يؤكد « إنجلز » ـ كما اشرنا من قبل ـ أنه (ليست
الدولة بحال قوة مفروضة على المجتمع من خارجة) وعلى أن (الدولة هي إفصاح عن
واقع أن هذا المجتمع قد وقع فى تناقض مع ذاته لا يمكنه حله).
وإذا لم تكن الإجابة بعلة « ستالين »، فإننا نكون بصدد احتمالين لا ثالث لهما :
إما أن مرجع بقاء الدولة السوفيتية المعاصرة هو الاستغلال والطبقية القائمان فى
الاتحاد السوفيتى : وهو قول يؤدى لإدماغ ما يعلنه السوفيت عن قضائهم على
الاستغلال الإنسانى بالكذب وتشويه الحقائق، كما يثبت أن التجارب الاشتراكية قد
أخفقت فى كفالة مبرر وجودها الأساسى.
وإما أن الاستغلال قد انتهى وانتفى بالفعل من المجتمع السوفيتى، وعندئذ يكون
نظام الدولة لا يظل موجوداً ـ فى شكل بالغ القوة ـ برغم انتفاء الاستغلال الإنسانى فى

المجتمع السوفيتى، وبرغم انتهاء التطويق الرأسمالى (كما أعلن خروتشيف وكما تعلن
سياسة الوفاق الراهنة). ويعنى كل ذلك أن التنظير الماركسى لا أساس له من الصحة،
إذ يثبت بطلان الادعاء بالتلازم والاقتران بين (الاستغلال والطبقية) وبين (نظام الدولة).
وفى اعتقادنا ـ بعد كل ما سلف ـ أن مركز الدولة (كنظام) فى الاتحاد السوفيتى
قد ازداد قوة ورسوخاً. وقد علل « ستالين » ذلك بوجود التطويق الرأسمالى، ولكن
« خروتشيف » رفض نظرية ستالين هذه وأعلن كما أسلفت ـ أنتهاء « ديكتاتورية البروليتاريا »، كما أعلن قيام (دولة كل الشعب) التى ستأخذ هى ـ لا يكتاتورية
البروليتاريا ـ فى الاضمحلال.
والنقد الذى يوجه إلى فكرة (دولة كل الشعب) يتلخص ـ فى رأينا ـ فيما يلى :
أولاً : يرى كل فقهاء النظم السياسية والدستورية المعاصرين ـ أنه من الناحية العملية
لم يحدث أى تغير فى الدولة السوفيتية، وأن المسألة برمتها مجرد مناقشات، وشعارات
تأخذ محل شعارات أخرى، فالنظام السياسى والإدارى نفسه والأجهزة والسلطات
والمؤسسات نفسها، والعلاقات التى كانت فيما بينها تحت تسمية « ديكتاتورية
البروليتاريا » نفسها هى ـ هى نفس النظم وذات الأجهزة والسلطات والمؤسسات والعلاقات القائمة الآن تحت التسمية الخروتشفية الجديدة (دولة كل الشعب).
وآخراً أن (دولة كل الشعب) فكرة تناقص ـ تماماً ـ قول « كارل ماركس » باستحالة
وجود الدولة عند انعدام التناقض الطبقى : فالدولة لا توجد ولم توجد إلا من خلال
الحاجة للسيطرة على التناقض الطبقى. وقد أعلن السوفيت أنفسهم في المؤتمرين
الحادى والعشرين والثانى والعشرين للحزب الشيوعى السوفيتى انتهاء التناقض الطبقى
تماماً فى الاتحاد السوفيتى، وتحول الشعب برمته، الى طبقة واحدة هى الطبقة العمالية
(البروليتاريا).
والرد ـ مرة أخرى ـ أنه إما أن الاتحاد السوفيتى ـ على نقيض تصريحاته الرسمية ـ لا يزال يعج بالتناقضات الطبقية، وإما أن فكرة « ماركس » فى الرباط بين وجود نظام
الدولة، ووجود التناقض أو التضاد الطبقى وعدم المساواه ـ فكرة خاطئة.
إن كل ما يحدث فى الاتحاد السوفيتى الآن ـ فى اعتقادنا ـ ليس أكثر من محاول
للمجمع بين المركزية واللامركزية الإدارية : المركزية فى أمور معينة كالتخطيط والتنسيق العام، واللامركزية فى مجالات التنفيذ. ولا نعتقد أنه بالإمكان حدوث أى خلط بين
الأمرين : اللامركزية الإدارية واضمحلال الدولة.
والحقيقة ـ فى رأينا أن الاتحاد السوفيتى يمر الآن بمرحلة تثبت أنه من الممكن
دائماً ـ بل هذا فى اعتقادنا هو مآل تطور الفكرة الإنسانية(14) ـ أن يقضى الإنسان على الاستغلال والتناقض الطبقى، وأن يوجد مع ذلك نظام دولة دقيق لتوجيه الأمور
والتنسيق بينها.

ــــــــــــــــــ
1- لينين : الدولة، المختارات، المجلد الثالث، الجزء الأول، دار التقدم، موسكو 1967، ص :
343 – 365 .
2- ماركس ـ إنجلز : بيان الحزب الشيوعى : دار التقدم، موسكو، 1968، صفحة 31.
3- المقصود هنا نظرية « هيجل » الواردة فى كتابه ( أسس فلسفة الحق ) الصادر عام 1821.
4- فردريك إنجلز: أصل العائلة والملكية والدولة ـ بمناسبة أبحاث لويس هنرى مورجان
( Morgan )، دار التقدم ، موسكو (بدون تاريخ)، ص : 224 – 225.
5- لينين : الدولة والثورة ـ تعاليم الماركسية حول الدولة ومهمات البروليتاريا فى الثورة، دار
التقدم، موسكو.
6- إنجلز : أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة، المرجع السابق، صفحة 229.
7- د. حسام الدين كامل الأهوانى : النظرية الماركسية للقانون وتطبيقها فى الاتحاد السوفيتى
(دروس لطلبة الدكتوراة بكلية الحقوق بجامعة عين شمس بالقاهرة : 1971- 1972 ، صفحة 50).
8- إنجلز : المرجع السابق، ص :255 – 226.
9- إنجلز : المرجع السابق، صفحة 226.
10- د. الأهوانى : المرجع السابق، صفحة 51.
- كول (جـ.د.هـ) معنى الماركسية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1972، ص :
18-23.
- لينين : ماركس ـ إنجلز ـ الماركسية، دار التقدم، موسكو، ص 19 - 22.
11- فى العلاقة بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج راجع : فلاديسلاف كيللة وماتفن كوفالسون :
المادية التاريخية – دراسة فى نظرية المجتمع الماركسية، دار التقدم، موسكو، 1976، الصفحات
من 50 إلى 63 ، ومن 95 إلى 109. وعن فكرتى البناء الأساسى (التحتى) والبناء الفوقى (أو
العلوى ) انظر : كيللة وكوفالسون : المرجع السابق، الصفحات 63 – 73. وفى المفهوم المادى =
= أو الاقتصادى للتاريخ بوجه عام راجع
A.Afanasyev : Marxist Philosophy . Progress Publishers , Moscow 1968, pp. 177 – 188 .
12 – د. الأهوانى : الرجع السابق صفحة 56 .
13- د. أحمد جامع : المذاهب الاشتراكية، الطبعة الأولى، 1967، ص 328.
14- فردريك إنجلز : الاشتراكية الطوباوية والاشتراكية العلمية، المرجع السبق ص : 126 – 128 .
15- د. الأهوانى : المرجع السابق، صفحة 64.
16- المقصود هنا (كوميونة باريس)، وهى الحكومة التى دامت 72 يوماً من 18 مارس إلى 28 مايو
1871، والتى يعتبرها الماركسيون أول حكومة لدكتاتورية البروليتاريا فى التاريخ، وقد خصها
« ماركس » بدراسة وافية، من وجهة النظر الماركسية، راجع:
كارل ماركس : الحرب الأهلية فى فرنسا، دار التقدم، طشقند، 1976.
17- ماركس : الحرب الأهلية فى فرنسا، المرجع السابق ،ص 67 – 68.
18- فى كل التجارب الاشتراكية المعاصرة، سواء فى الاتحاد السوفيتى أو فى بلدان أوروبا الشرقية أو
بعض بلدان العالم الثالث ـ لم يتحقق أى شئ من ذلك : فالبيروقراطية العاتية تعم مجال الإدارة
والوظائف العمومية، والتفرقة بين العمل اليدوى والعمل الذهنى لا تزال قائمة، وتقسيم العمل ـ بل
والإمعان فى التخصص ـ مازال هو السائد. والجيش النظامى لا يستعاض عنه بفكرة الشعب المسلح.
حتى التمثيل النيابى قائم فى كل البلدان الاشتراكية، وإن كان بأشكال خاصة.
19- لينين : المرجع السابق، صفحة 349.
20- من المعروف أن حجر الأساس في المذهب الماركسى برمته هو (الفلسفة المادية)، والتى
تعنى ـ باختصار شديد ـ أن كل الظواهر والنظم والعلاقات فى الحياة يجب أن تفسر بعيداً
عن أى مبررات أو أسباب (معنوية) أو (أدبية) أو (فكرية) محض، فكل ما فى الحياة يرتكن
إلى أساس مادى صرف: فالعادات والتقاليد والأديان والأشكال المتنوعة للثقافة والآداب،
وأشكال نظم الحكم لا تستند إلا لأساس (مادى ـ اقتصادى). والاختلاف الأساسى بين
(الهيجليين المثاليين) وبين (الجناح اليسارى الهيجيلى) الذى قاده (لودفيج فويرياخ) وخرج
(ماركس) منه، إنما يكمن حول هذه الفكرة: فبينما يرى الهيجليون المثاليون أن تطور الحياة
بأسرها تطور فكرى محض، أو بتعبير آخر هو (تطور الفكرة الإنسانية) فإن التيار الذى انتهى
بكارل ماركس يرى أن (فكرة الإنسان) فى ذاته ليس سوى انعكاس للمادة، ولا يوجد أى تفكير
منبت الصلة بالمادة، فالعقل مادة وتفكيره ينصب على ماديات .. الخ.
21- راجع كلمة (إنجلز) هذه فى رسالته(بييل) بتاريخ 18 – 28 من مارس 1875 فى: ماركس ـ إنجلز:
مختارات دار التقدم، موسكو، (بدون تاريخ) الجزء الثالث، صفحة 275. كذلك راجع :
لينين : الثورة البروليتارية والمتمرد كاوتسى، المنشور بأكمله فى المجلد الثالث من مختارات
لينين، دار التقدم، موسكو 1967، الصفحات 92، 99، 127، 588.
22- العبارة فى الأصل لفردريك إنجلز فى مؤلفه «الدولة والثورة» صفحه389، دوى أى أشارة إلى
أنها عبارة «إانجلز».
23- راجع على سبيل المثال (فى الثورة الروسية) للكاتب الأمريكى «ألبرت رايس وليامز»
و(تأملات فى ثورات العصر) للمفكر السياسى الإنجليزى الشهير لاسكى. وراجع من المؤلفات
العربية (رحلتى الروسية) للدكتور لويس عوض، و(النظرية الماركسية للقانون) للدكتور حسام
الدين الأهوانى.
24- سانتياجو كاريّو : الشيوعية الأوربية والدولة، ترجمة سمير كرم، دار الطليعة ـ بيروت 1978، ص
134 – 135.
25- الأنثروبولوجى.
26- يستعمل « ديستان » كلمة التعددى ( Pluraliste ) كوصف للمجتمع الأخذ بفضل السلطات
والمؤسسات السياسية لا الآخذ بتركيز السلطة (النظام الجماعى).
27- جيسكار ديستان : الديمقراطية الفرنسية، منشورات عويدات (بيروت) والدار التونسية للنشر
(تونس)، 1977، ص : 338 – 339.
28- د. الأهوانى : النظرية الماركسية للقانون، المرجع السابق ص 117.
29- يلاحظ أن القادة الشيوعيين المعاصرين فى دولة الكتلة الشيوعية لا يزالون يؤمنون بالفكرة
الستالينية التى تربط هى نفسها بين التطويق الرأسمالى وعدم حدوث الاضمحلال بالنسبة لأجهزة
الدولة فى البلدان الشيوعية، ومن أشهر هؤلاء القادة « كيم إبل سونج » زعيم الحزب الشيوعى
فى كوريا الشمالية، إذ يقول فى خطاب له يوم 25 من مايو 1967 : (فطلامه تظل الرأسمالية فى
العلم فإن ديكتاتورية البروليتاريا لا يمكن تلاشيها، والأكثر من ذلك لا نتمكن من التحدث
أبداً عن سقوط الدولة) راجع :
« كيم إبل سونج » : حول مسألتى فترة الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية وديكتاتورية
البروليتاريا، مطبعة الجمهورية، بغداد 1970، صفحة 8.
30- المرجع السابق : صفحة 129.
31- كانت هذه المسألة ضمن الأسباب الرئيسية للخلاف العقائدى بين الاتحاد السوفيتى والصين
الشعبية إلى جانب هجوم « خورتشيف » على « ستالين » و الستالينية.
32- راجع مؤلف « لينين » الآنف الإشارة إليه عن (الدولة والثورة) صفحة 389.
33- لينين : الثورة البروليتارية والمرتد كاوتسكى، المرجع السابق، صفحة 92، كذلك راجع :
- ماركس : نقد برنامج غوتا، مختارات « ماركس – إنجلز »، دار التقدم، موسكو (بدون تاريخ)،
الجزء الثانى، صفحة 260.
34- من الميسور فهم هذه العبارة فهماً كاملاً وعميقاً وصائباً، كلما كان القارئ أكثر إطلاعاً على
فكر الفيلسوف الألمانى الأشهر « هيجل ».


** كتب هذا النص ضمن فصول أخري لأطروحة للماجيستير (1971-1973) من جامعة عين شمس المصرية.

لمطالعة فصول أخري (بالإنجليزية) بقلم المؤلف فى نقد الماركسية ؛ إضغط على الرابط التالي :
http://www.tarek-heggy.com/English-essays-main.htm



#طارق_حجي (هاشتاغ)       Tarek_Heggy#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من دفاتر طارق حجي القديمة : الماركسية - إلى أين ؟
- برقية تلغرافية لكل لبناني حر ...
- طارق حجي : من المؤلفات الأولي : الإقتصاد الماركسي .
- شكر وإمتنان لموقع الحوار المتمدن وقراءه.
- ماذا فعل 23 يوليو 1952 بمصر؟ (1)
- عبقرية سعد زغلول .
- هلوسات 1- 2
- هلوسات ثقافية
- مرة أخري (وليست أخيرة) : -عن مظالم الأقباط أكتب- ...
- رسالة لوزير الأوقاف المصري .
- الأحزاب الدينية : محض وهم ومخادعة
- سجون الثقافة العربية : السجن الثالث : الرعب من الحداثة
- سجون الثقافة العربية : السجن الثاني : المفاهيم السلبية الشائ ...
- إصلاح التعليم : ماذا يعني ؟
- سجون الثقافة العربية السجن الأول : الثقافة الدينية السامة.
- هل من تفسير ؟
- لو كنت كرديا من سوريا ... : سلسلة - لو كنت ..... - الحلقة ال ...
- مرة أخرى: مسيحيو مصر (عرض لمرض مجتمع).
- بمثل هذا الموقع (الحوار المتمدن) -قد- نستطيع بدء نهضة ثقافية ...
- من ذكريات زيارة حديثة لكردستان الرائعة


المزيد.....




- أوروبا ومخاطر المواجهة المباشرة مع روسيا
- ماذا نعرف عن المحور الذي يسعى -لتدمير إسرائيل-؟
- من الساحل الشرقي وحتى الغربي موجة الاحتجاجات في الجامعات الأ ...
- إصلاح البنية التحتية في ألمانيا .. من يتحمل التكلفة؟
- -السنوار في شوارع غزة-.. عائلات الرهائن الإسرائيليين تهاجم ح ...
- شولتس يوضح الخط الأحمر الذي لا يريد -الناتو- تجاوزه في الصرا ...
- إسرائيليون يعثرون على حطام صاروخ إيراني في النقب (صورة)
- جوارب إلكترونية -تنهي- عذاب تقرحات القدم لدى مرضى السكري
- جنرال بولندي يقدر نقص العسكريين في القوات الأوكرانية بـ 200 ...
- رئيسة المفوضية الأوروبية: انتصار روسيا سيكتب تاريخا جديدا لل ...


المزيد.....

- عندما تنقلب السلحفاة على ظهرها / عبدالرزاق دحنون
- إعادة بناء المادية التاريخية - جورج لارين ( الكتاب كاملا ) / ترجمة سعيد العليمى
- معركة من أجل الدولة ومحاولة الانقلاب على جورج حاوي / محمد علي مقلد
- الحزب الشيوعي العراقي... وأزمة الهوية الايديولوجية..! مقاربة ... / فارس كمال نظمي
- التوتاليتاريا مرض الأحزاب العربية / محمد علي مقلد
- الطريق الروسى الى الاشتراكية / يوجين فارغا
- الشيوعيون في مصر المعاصرة / طارق المهدوي
- الطبقة الجديدة – ميلوفان ديلاس , مهداة إلى -روح- -الرفيق- في ... / مازن كم الماز
- نحو أساس فلسفي للنظام الاقتصادي الإسلامي / د.عمار مجيد كاظم
- في نقد الحاجة الى ماركس / دكتور سالم حميش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - في نقد الشيوعية واليسار واحزابها - طارق حجي - من دفاتر طارق حجي القديمة : مسألة الدولة فى الفكر الماركسي.