أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - سعيد لحدو - الأكيتو بين خيال الأسطورة وتجليات الواقع















المزيد.....

الأكيتو بين خيال الأسطورة وتجليات الواقع


سعيد لحدو

الحوار المتمدن-العدد: 2605 - 2009 / 4 / 3 - 08:16
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


(نشرت في موقع إذاعة هولندا العالمية- القسم العربي)
لم تأتِ احتفالات رأس السنة في حضارة بلاد مابين النهرين والتي وصلت أوج عظمتها خلال حكم الدولة البابلية الثانية في القرن السادس قبل الميلاد، إلا تعبيراً عن ذهنية متطورة في الفكر الفلسفي الديني القديم ومساعيه الدائمة لإيجاد تفسيرات معقولة للظواهر الطبيعية المختلفة والتي شغلت بال الإنسان منذ وجوده وما زالت.

ورغم كل هذا التطور الهائل الذي حققه الإنسان على كل صعيد، فإن ظواهر طبيعية كثيرة مازالت عصية على الفهم والتفسير المنطقي. وقد كان هذا هو الدافع لإنسان بلاد مابين النهرين في البحث والاستدلال في غير ميادين العقل والمنطق المتعارف عليهما لفهم الطبيعة الأم وتجلياتها المختلفة والعنيفة في كثير من الحالات، فلجأ إلى الأسطورة مستخدماً مخيلته على أوسع نطاق كحركة التفاف ذكية منه للتوصل إلى نتائج ترضي طموح مجتمعه التواق إلى المعرفة.

ولكي يُكسب تلك (الحكاية - الأسطورة) ماتستحقه من قيمة بالنظر إلى الأهمية التي علق الإنسان آماله وتطلعاته المستقبلية عليها، أُسبِغَ على تلك الأسطورة الطابع الديني وأُلبِسَتْ رداء الألوهية فتشكلت حولها هالة القدسية المرتبطة بالآلهة. وهذا الأمر هو ما حفظها لنا على مدى آلاف السنين، رغم كل الظروف والمتغيرات.

بالنظر إلى أن إنسان مابين النهرين ابتداءً بالسومري مروراً بالأكادي والبابلي والآشوري والآرامي وصولاً إلى أحفادهم وورثة حضارتهم اليوم من أبناء الشعب الكلداني السرياني الآشوري، اعتمد على الأسطورة بصورة أساسية لتشكيل وعيه الكوني المتقدم.

ورغم أن هذا الإنسان لم يكن الوحيد في التاريخ القديم ممن استخدم الأسطورة للتعبير عن حالة دينية معينة وارتباطاتها بالظواهر الطبيعية، إلا أن هذه الحالة تميزت في مابين النهرين عن كل ما عرفته البشرية من ظواهر أخرى مشابهة بأسبقيتها المطلقة وشموليتها لكل جوانب الحياة. والأهم من كل ذلك، استمراريتها الفاعلة في حياة الناس وبصورة متواصلة في كل المراحل التي مر بها تاريخ الدولة الرافدية متذ بدء الخليقة مروراً بالعصر الآشوري الطويل، وهي لم تتوقف مع سقوط الامبراطورية البابلية الحديثة عام 539 قبل الميلاد.

بل واصلت التعبير عن وجودها بأشكال وتجليات متنوعة حتى في العهد المسيحي. ولعل من أبرز تلك التعبيرات كانت الفلسفة التي عرفت بالغنوصية والتي طرحها الشاعر والموسيقار والفيلسوف برديصان الذي عاش في القرنين الثاني والثالث بعد الميلاد، وهو ينحدر من أصول ملكية ترتبط بمملكة حدياب (أربيل الحالية) لكنه ولد وتربى وتعلم في الرها ومنبج قرب حلب. هذه الفلسفة التي ارتكزت على النجوم وتأثيراتها على حياة الإنسان ومصيره التي لا حيلة له بتجنبها. ولقد كانت هذه الآراء السبب الرئيسي في طرده فيما بعد من الكنيسة رغم أنه قدم للمسيحية في عهده مساهمات فكرية هامة.

ولقد استمرت فلسفته تلك حاضرة في حياة الناس عبر أنصارها الذين عرفوا بالديصانيين، واستمر حضورهم النشط حتى القرن العاشر في بعض مناطق مابين النهرين إبان الحكم العباسي. ومازال حتى اليوم كثير من الناس في جميع أنحاء العالم يؤمنون بالأبراج وبالتأثيرات التي للنجوم على حياتهم ومصيرهم. نجد ذلك تقريباً في معظم الصحف والمجلات والوسائل الإعلامية الأخرى كالراديو والتلفزيون حول العالم عبر زوايا أو برامج خاصة مكرسة لهذا النوع من محاولات التنبؤ بالمستقبل والمصير.

ولم يكن برج بابل الشهير إلا تكريساً لهذا النوع من علم الفلك الذي ارتبط بالأسطورة ارتباطاً وثيقاً لدرجة استحالة الفصل بينهما في ذلك الحين. ولم تكن إنانا وحبيبها دموزي عند السومريين، أو عشتار وحبيبها تموزعند البابليين والآشوريين، وأشكالها الأخرى التي تجلت بأفروديت عند الإغريق وفينوس عند الرومان وعشتروت عند الفينيقيين والزهرة عند العرب، لم تكن هذه مجرد إلهة وحسب وإنما كانت رمزاً حاضراً لكل مظاهر الطبيعة الخضراء والحياة المتجددة بالخصب والنماء وتفتح براعم النبات وتلاقح الحيوانات وإدرار الحليب، كتعبير آخر عن الفرحة العارمة والشاملة بعودة تموز إلى الحياة بعد مرحلة موات وسبات وقحط وقساوة شتاء قارس ببرده وصقيعه والانتقال إلى ربيع دافئ تزينه أضرعة الخصب والتوالد والزهور المتفتحة بهجة وحبوراً.

وليس من العبث أن تكون قيامة السيد المسيح وكذلك أعياد الفصح لدى اليهود في بداية هذا الفصل. وكلمة الفصح كما هو معلوم تعني في اللغة السريانية الفرح والسعادة.

لعل ما يربطنا أكثر بالأسطورة التي تجذرت في الواقع الحياتي لشعب مابين النهرين هو بعض السلوكيات التي توارثها هذا الشعب مع مرور الأجيال وما زال يحافظ على التمسك ببعضها حتى يومنا الحاضر. ففي بعض مناطقه الريفية مازال العرف سائداً أن تخرج الفتيات في الأول من نيسان من كل عام ليغسلن وجوههن بندى الربيع المتجمع على أوراق الورود والأعشاب تيمناً على أمل مجيء العريس الذي تحلم به الفتاة.

وكذلك تخرج النساء لتجمع بعضاً من قطرات الندى تلك لتخمِّرَ بها الحليب ليصبح لبناً والعجين خبزاً عوضاً عن الخميرة المعتادة وتجديداً سنوياً لتلك الخميرة. ولا يخفى ما لهذا السلوك من ارتباط مباشر بعشتار كإلهة للخصب وأسطورتها التي نسيها الناس لكنهم لم ينسوا عاداتهم التي ارتبطت بها مواظبين على ممارستها في الموعد ذاته من كل عام. كما هي عادة تكسير الأواني الفخارية والزجاجية في الأول من تموز كتعبير آخر على التفاؤل بالخير وطرد نذر الشر من حياة الناس.

كذلك يعتبر الأول من نيسان عيداً فولكلورياً وشعبياً إذ يخرج السريان الآشوريين الكلدان بكل فئاتهم ومن كل الأعمار إلى أحضان الطبيعة للاحتفال بمظاهر الخصب وتجدد الحياة بشكلها الأكثر وضوحاً في عناصر الطبيعة. ولعل كذبة الأول من نيسان الشائعة في معظم دول العالم اليوم تعبير آخر عما كان يفترض أن يتم الاحتفال به في السياق الديني القديم، ولكن بعد التحولات الدينية الكبرى إلى المسيحية والإسلام ورفض كل العادات والقيم الموروثة من العهد الوثني، استعيض عن تلك الاحتفالات بالكذبة البيضاء إياها بحكم العادة التي لم يتمكن الناس من نسيانها.

إن الأسطورة التي طالما اعتقد كثيرون في العصور الحديثة أنها مجرد حكاية خرافية صاغها الأقدمون كنوع من الفانتازيا الدينية، مازالت هذه الأسطورة تسكن في لاوعينا الإجتماعي وما زالت حاضرة في حياتنا اليومية بأشكال وممارسات مختلفة. فهي ليست مجرد شطحات خيالية كما قد تبدو لأول وهلة، وإنما كانت محاولة لربط الظواهر الواقعية برؤى ميتافيزيقية بدت على الدوام محيرة للعقل البشري العاجز عن إيجاد التفسير المنطقي المحسوس لها.

من هنا جاءت الأسطورة لتمنح الإنسان بعضاً من الطمأنينة حول مصيره ومستقبله لينطلق بثقة ودون خوف لبناء أسس متينة لحضارة إنسانية عظيمة تسعى لانتشال الإنسان من حالة الهمجية إلى مواقع أرقى في سلم المدنية والتطور. فكانت مابين النهرين البلاد التي سيشع منها نور الحضارة ويضيء سماء التاريخ البشري وما تزال بعض تجليات تلك الحضارة ماثلة بقوة في الحياة الإنسانية المعاصرة، حيث مازال التقسيم البابلي للزمن والتقويم السنوي وأسماء الأشهر والأيام وكثير غيرها مسألة مسلم بها لدى كل المجتمعات البشرية في أيامنا هذه.

فهل سنرى أرض الرافدين وقد عادت إليها عافيتها لنشهد مجدداً أعياد الأكيتو والمواكب تجتاز بوابة عشتار في استرجاع حي للصورة الحضارية العريقة التي شهدتها يوماً هذه البلاد؟





#سعيد_لحدو (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحكام العرب وا لمحاكم المؤجلة - 2 - من التالي..؟
- الإلهيون إذا صرخوا: انتصرنا
- قطعة الجبنة .... والثعلب ، والقسمة غير الممكنة
- الديمقراطية بحسب النموذج العربي...وصفة قديمة متجددة
- من تركيا إلى دارفور
- كذبة كبيرة اسمها مقاومة
- رفاهية الابتهاج.... وضريبة القتل
- مسيحيو الشرق الأوسط بين دالوف الأنظمة ومزاريب الإرهاب
- أطلقت عليه السلطة (لا) واحدة فأردته معتقلاً
- معاقبة أمريكا سورياً وسحر الرقم 99%
- أيُّ الضربِ يؤلمكِ...؟
- حكامنا وحمار جحا
- كثر الصاغة وقل جني الذهب
- إرهاب خلف الحجاب
- التخوين والشخصانية عند تيارات الأقليات القومية
- -انتحابات- في سورية
- حين لا نفتقر إلى الحكمة
- الأقليات الصغيرة في عراق ما بعد صدام والبعث -الكلدان الآشوري ...
- الخيانة خيار وطني
- اغتيال- اعتقال- انتحار:أساليب حوار للنظام في سورية


المزيد.....




- الطلاب الأمريكيون.. مع فلسطين ضد إسرائيل
- لماذا اتشحت مدينة أثينا اليونانية باللون البرتقالي؟
- مسؤول في وزارة الدفاع الإسرائيلية: الجيش الإسرائيلي ينتظر ال ...
- في أول ضربات من نوعها ضد القوات الروسية أوكرانيا تستخدم صوار ...
- الجامعة العربية تعقد اجتماعًا طارئًا بشأن غزة
- وفد من جامعة روسية يزور الجزائر لتعزيز التعاون بين الجامعات ...
- لحظة قنص ضابط إسرائيلي شمال غزة (فيديو)
- البيت الأبيض: نعول على أن تكفي الموارد المخصصة لمساعدة أوكرا ...
- المرصد الأورومتوسطي يطالب بتحرك دولي عاجل بعد كشفه تفاصيل -م ...
- تأكيد إدانة رئيس وزراء فرنسا الأسبق فرانسو فيون بقضية الوظائ ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - سعيد لحدو - الأكيتو بين خيال الأسطورة وتجليات الواقع