أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - فريد العليبي - علمنة التفكير















المزيد.....


علمنة التفكير


فريد العليبي

الحوار المتمدن-العدد: 2587 - 2009 / 3 / 16 - 04:42
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


مع تصاعد وتيرة الصراع بين القولين النصي النقلي و العقلي النقدي في بلاد العرب و حامليهما الاجتماعيين، تطرح إشكالية علمنة التفكير ذاتها بحدة علي بساط البحث ، و يتطلب الأمر هنا تحليل واقع الفكر العربي راهنا و الوقوف علي سبل علمنته ، و عندما أتحدث عن الفكر العربي فاني أعني بذلك ما يتمظهر من طروحات و مواقف علي مستوي الفلسفة و الآداب والحقوق و السياسة و الدين ، و ذلك لكي نيسر الإحاطة بنمط التفكير الذي قاد و يقود إلي إنتاج ذلك الفكر، اعني الوقوف علي آليات إنتاج المعارف بما يفترضه ذلك علي المستوي الابستمي من حضور للمفاهيم و أدوات التحليل والتركيب و النقد الخ ..

أقول هذا دون أن تفوتني ملاحظة أن الفكر العربي لا يمثل بحد ذاته قالبا واحدا منسجما غاية الانسجام ، فهو موسوم بالتنوع مثل أي فكر في مجتمع يتشكل من قوي اجتماعية متضادة ، كما أن التفكير ينطبق عليه الأمر ذاته ، غير أن ملاحظتي هذه لا تنفي أن هناك فكرا عربيا و نمطا من التفكير لدي العرب ، ينغرس عميقا في حضارتهم التي تشكلت عبر العصور.

كما أود أن أضيف أني استعمل مفهوم العلمنة بمعنيين مترابطين ، المعني الأول أحيل من خلاله إلي العلم ، بينما أحيل من خلال المعني الثاني إلي العلمانية. و تهمني أيضا في هذه المداخلة ملامسة مسألة تبدو مغيبة عن البحث في أحيان كثيرة ، فنحن عادة ما نتحدث عن العلمانية باعتبارها تفترض الفصل بين الدين و الدولة ، و لا نهتم بإشكالية الفصل بين الفكرين ، العقلي النقدي و النقلي الإيماني ، مما يعني أن العلمانية ظلت أسيرة المجال السياسي و قد آن لها أن تلج المجال الثقافي .

يعاني الفكر العربي من الالتباسات الناشئة عن ضمور ما هو عقلاني و سيطرة الذهنية الأسطورية عليه ، و علي المستوي المعرفي ، أي ذاك المستوي الذي يحيلنا إلي المفاهيم و التعريفات و الفروض و النظريات ، فانه من المهم التنبيه إلي أن مفكرين محترمين يقعون في فخاخ إيديولوجية، و يتورطون في الأخذ بموضوعات فكرية مسوقة حسب الطلب ، و مفاهيم من صنع قوي هيمنية لها مآربها غير الخافية، مما يضع علي جدول الأعمال مهمة تدقيق أدوات التفكير ،و بالتالي التحري في التعامل مع المفاهيم و التعريفات و ما شابهها.

المهمة التي تطرح ذاتها علي جدول أعمال الفكر العقلاني النقدي هي إذن تفكيك الخطابات والمفاهيم المستعملة و إخضاعها إلي المساءلة باستمرار أي بكلمة تنظيف سلاح التفكير، و هذا يفرض بالتأكيد أن نتعهد تفكيرنا بالنقد في كل حين، و أن ننظر فيما إذا كنا علي صواب أم إننا متورطون في خطايا فكرية لا أول لها و لا آخر.

و من المهم أن ندرك انه في عالم الصراع بين قوي متضادة من حيث مصالحها الإستراتيجية ، يتم اللجوء في الغالب إلي آلية إخفاء طبيعة الصراع ، و الاستعاضة عنها علي الدوام بكل ما من شانه أن يذهب بالأنظار بعيدا عنها ، فالتمويه و التزييف و المخاتلة أسلحة إيديولوجية تستعمل هنا بعناية فائقة ،و أضحت خلال السنوات الأخيرة أكثر دقة في التصويب ، مع انتشار مراكز البحث و استثمار جيش حقيقي من الباحثين المختصين ، و بذلك يتم إخفاء الصراعات الحقيقية تحت ركام كثيف من الأكاذيب المعدة بعناية منقطعة النظير .

و نحتاج بطبيعة الحال لمواجهة ذلك إلي جهد كبير حتي نرسم الحدود بين ظاهر ما تقدمه لنا مؤسسات التزييف الإيديولوجي و باطنه، ممثلا في المصالح الحقيقية المراد الدفاع عنها ، فاضحي المطلوب هو الحذر في التعامل مع الخطابات الرائجة ، و القطع مع عادة الانسياق وراءها دون تحقيق و تدقيق، فبقدر ما يزداد حجم التضليل ، بقدر ما ينبغي التحصن بالعقل و الدفاع عنه كما لو كنا ندافع عن آخر حصن من حصون مدينتنا كما طالبنا الفيلسوف اليوناني هيراقليطس بفعله .

و هذا الذي أقوله لا ازعم إنني أتيت فيه بما لم تستطعه الأوائل، فقد انكب فلاسفة كبار عليه تحليلا و نقاشا ، و هو ما قام به علي سبيل الذكر ماركس و انجلس في الايدولوجيا الألمانية ، و جورج لوكاتش في تحطيم العقل ،و في السنوات الأخيرة صدر كتاب مهم حول ذلك وضع له صاحبه هربرت شيلر عنوانا يفصح عما أقول و هو : التلاعب بالعقولو من الضروري إدراك الغاية الحقيقية مما نسميه هنا تلاعبا و تضليلا و تمويها التي ليست شيئا آخر غير السيطرة الاقتصادية و السياسية ، سواء تم ذلك علي مستوي العلاقة بين الطبقات أو الأمم .

و في علاقة بذلك نلاحظ خلطا فاضحا بين المفاهيم ، و كثيرا ما يتورط بعض العلمانيين في الغرف من المعجمية الدينية اللاهوتية ، فيتحدون عن الأمة الإسلامية و الفلسفة الإسلامية ، بل حتي عن علوم إسلامية و حضارة إسلامية و عقل إسلامي الخ .. كما يتورط آخرون في الغرف من المعجمية البرجوازية الليبرالية فيتحدثون عن الكليانية و الشمولية و ما شابه ذلك .

بل إن البعض من هؤلاء لا يجد حرجا في وصف ذاته بأنه مسلم بالمعني الحضاري حتي في حال انحداره من عائلة مسيحية ، و عندما يواجه مشكلة ما نراه سرعان ما يتخلي عن عقله و يعتمد أسانيد دينية جبرية مثل أحد المعتقلين العلمانيين الذي قال قبل أيام في مرافعته أمام القضاء : قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ، و آخر لا يجد حرجا في المفاضلة بين الديانات و الأنبياء منتصرا بطبيعة الحال لدينه و نبيه ، و لا يفوته أن يعلن انه علماني قلبا و قالبا ، و في علاقة بالغرب الامبريالي لا يجد البعض من هؤلاء حرجا في كيل المديح صباح مساء للديمقراطية البرجوازية و الليبرالية التي فات أوانها ، حتي لو تطلب الأمر التشهير بالمقاومة و وصف العرب بالهمجية .

و هذا يستدعي بالتأكيد الانكباب علي هذه المسألة من خلال القيام بنقد جذري للعدة المفاهيمية المستعملة، و الحرص الدائم علي علمنتها بالمعنيين العلمي و العلماني ، أي إن المطلوب هو إعادة تدقيق المفاهيم و الحذر من المماهاة بين العلمنة و المشروع الامبريالي في المنطقة ، كما الحذر من التماهي مع المشروع الأصولي فكلاهما وجهان لعملة واحدة .

و عندما نقول الحذر فان هذا مهم بحد ذاته غير انه لا يكفي ، بمعني هل نكتفي بملاحظة ما ينتجه الطرف المقابل ثم نمارس تجاه الحذر ، و بعد تحليله قد نخلص إلي الأخذ به أو رفضه، أم ينبغي تجاوز ذلك إلي مستوي الإبداع أي ابتكار مفاهيم و طروحات جديدة تكون سلاحا نظريا لتمثل الواقع عقليا و الارتقاء من ثمة إلي مستوي تغييره.

إن الفكر العربي في حاجة أولا إلي القطع مع الايدولوجيا الدينية ، و لكي يفعل ذلك فانه مطالب بتحديث ذاته ، أي علمنة مفاهيمه و طروحاته. كما انه في حاجة إلي إبراز التناقض مع مشروع الهيمنة الامبريالية بفضح أهدافه دون هوادة . و هذا سوف يشكل منطلقا لتحديث المجتمع ذاته فلا حركة ثورية دون نظرية ثورية كما تلخصه لنا التجربة الروسية، بمعني أن تحديث المجتمع يمر عبر تحديث الفكر وان كانت العلاقة بينهما ديالكتيكية .

و قد يكون مفيدا الانكباب علي إعادة الاعتبار أيضا للمفكرين العرب العقلانيين الأوائل ، الذين طمر تراثهم تحت التراب ،كما العودة الي رواد النهضة العربية الحديثة الذين لفهم النسيان ، و المزاوجة بين ذلك و بين تعرية الخطابات النقلية الارتكاسية ، التي لا تزال متربعة علي عرش الفكر العربي .

كما سوف يكون مفيدا فضح القوي الوسطية التي تسوق اليوم طروحات و مفاهيم الايدولوجيا الدينية ، بدعوي الدفاع عن عقيدة الشعب . أو تسوق مفاهيم وطروحات الغزاة بدعوي الانحياز للعصر و الحداثة .
كما ان علمنة الفكر و التفكير تقتضي مجابهة الاختراق الذي تقوم به الايدولوجيا الدينية ، التي تحرص علي خلط الأوراق فتتحدث علي سبيل المثال عن الديمقراطية و الحرية و حقوق الإنسان ، و تمارس المخاتلة بالإقدام علي تنازلات تكتيكية ، لكي تتسلل من خلال ذلك إلي مختلف المؤسسات الاجتماعية ، فتضحي بتلك الشعارات علي عتبة انتصاراتها الكارثية .

و من الهام أيضا أن لا تظل المعركة محصورة في مستوي تناول القضايا الفكرية و الأخلاقية و السياسية المفصولة عن سياقاتها الاجتماعية ، فبخصوص المؤسسة الدينية فانه ينبغي الاتجاه ناحية فضحها لا كقوة إيديولوجية فقط و إنما كقوة اقتصادية أيضا و مثلما يشير إليه كارل ماركس فان الكنيسة مثلا مستعدة أن تتسامح مع نقد معظم تعاليمها الدينية ، أكثر من استعدادها لتقبل هجوم علي مواردها المالية . و هذا يصح أيضا علي مؤسسة مثل الأزهر، التي لا يضيرها كثيرا أن ينصب النقد علي فتوى احد كبار شيوخها القاضية بإرضاع الكبير، بل إنها ربما ضحت به و تنصلت منه ، بينما ستشعر بحرج شديد تجاه نقد يتوجه ناحية الكشف عنها كقوة اقتصادية و سياسية .

و مثل هذا العمل إذا ما انخرط فيه المفكرون العرب العلمانيون بأعداد متزايدة ، و بنوعية جذرية من الخطابات ، من شانه أن يخلق موازين قوي جديدة لصالح الشعب و الوطن ، و عندما يحصل ذلك فان الهيمنة التي يمارسها الشيخ علي الجموع سوف تخف قبل أن تتلاشي . كما أن المثقف الليبرالي المتماهي مع المشروع الامبريالي سوف يضمحل تأثيره. و علي سبيل المثال هناك مئات المقالات في نقد البني الدينية علي مستوي الأفكار، و لكن كم من المقالات تنقد القوي الدينية علي مستوي قاعدتها الاجتماعية ، و تمثيلها الطبقي ، و تمويلها الاقتصادي، و تبعيتها المالية لهذا الطرف أو ذاك ؟ إن علمنة التفكير تعني هنا تغيير الاتجاه منهجيا ، دون أن يعني ذلك عدم الاستمرار في نقد الخطابات الدينية ،و إنما الانتباه ايضا إلي الجانب الآخر من المسالة .

اذكر مثلا أن النقد الذي وجه لبعض الشيوخ كان قويا بسبب دعوتهم إلي شكل من أشكال الزواج ( زواج فرند و زواج المسيار ) و لكن كم من المقالات كتبت في الكشف عن ارتباطاتهم المالية ، إما إذا ذهبنا إلي طبقة بعينها ينطق رجال الدين باسمها ، أعني الطبقة الإقطاعية ، فان نقدها بالمعني الاقتصادي الاجتماعي لم يتم بعد.

الخلاصة أن علمنة تفكيرنا تقتضي هنا التركيز علي نقد الوقائع الاجتماعية و ما ينبغي إدراكه أننا نعيش فترة جزر بالمعني التاريخي ، و في فترات كهذه فان الحلقة الرئيسية الواجب الإمساك بها هي الحلقة الفكرية ، علي هذا الصعيد بالذات فان الايدولوجيا الدينية لا يمكنها أن تقدم ما يشد الانتباه، لا لأنها كسولة و إنما لأنها جاهلة أصلا، و متجاوزة بالمعني التاريخي ، لذلك نراها تملأ الدنيا صخبا بالشتائم و التهريج اللفظي ،و تكفير من يخالفها وهي التي تقف وراء مصادرة الكتب، و ذبح المثقفين و تهديدهم بينما العلمانيون لهم بالتأكيد ما يقولونه ،و هو لا يفتقر في الغالب إلي الجدة و الإبداع ، و إن كان عليهم تنظيف السلاح باستمرار كما ذكرت و الامبرياليون أيضا لا جديد لديهم ،غير صناعة مفاهيم ملغومة و أفكار عفا عليها الزمن، و مصطلحات غائمة ،و إخراجها في ثوب جديد ، فهم حريصون علي الظهور بمظهر المجددين و تصوير قوي التقدم في ثوب المحافظة و التقليد ، وهم يقدمون لجموع الناس ثقافة التفاهة، و للمختصين ثقافة العدم و التشاؤم و الموت و الاستقالة و اللانتماء الخ ..

إن الايدولوجيا الدينية لا تعيش في السماء بل في الأرض ، أي بين ثنايا الواقع الاجتماعي السياسي بالذات . لذلك ينبغي الذهاب إلي هذه الأرض تحديدا ،فإذا كانت جدباء مقفرة أنجبت أحلاما جميلة عن عوالم خضراء متوهمة ، يحقق فيها البشر ما عجزوا عن تحقيقه في تلك الأرض ذاتها، و إذا حرثت تلك حرثا وراء حرث و أخرجت من بين أديمها ثمارا و أزهارا ،كانت الحاجة إلي تلك الأحلام قد اندثرت ، هذا ما لا يدركه النقد المثالي للايدولوجيا الدينية الذي نجده لدي عدد من المثقفين العرب الذين يعتقدون أنهم يلحقون بالايدولوجيا الدينية هزائم نكراء، بينما هم يشدون من عضدها ، إذ ما الفائدة من نقد مخلوقات خيالية و التعامل معها كما لو كانت موجودات واقعية تعيش بيننا ،و صب جام غضبنا عليها باعتبارها سبب بلائنا و الحال أنها موجودات تتغذي قوي الهيمنة الإقطاعية من الاتجار بها في كل حين .ألا يشير التفكر و الروية إلي الذهاب رأسا إلي تلك القوي و فضحها في أعين المضطهدين الذين ينبهرون بمخلوقاتها الخيالية.

و لنأخذ علي سبيل المثال نموذجا لذلك وهو الرسوم الدانمركية و قرينتها الإيرانية بالتحليل و النقاش ، يندرج نشر الرسوم الكاريكاتورية ضمن مقصد يستهدف حرف الأنظار عن الصراعات الحقيقية التي تدور رحاها في المجالات السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية ، و تسليطها علي قضايا تافهة في جوهرها ،غير أنها تحظي لدي الجمهور بقيمة خاصة مثل المقدس بمضامينه و أشكاله المختلفة . و اللافت أن المؤسسات التي تقف وراء ذلك ، سواء كانت أحزابا أو صحفا، يغلب عليها الطابع اليميني بل و الفاشي أيضا ، و بهذا فان المقصد ليس الدفاع عن حرية التعبير ، و لا اختبار ردود فعل الطرف المقابل ، بقدر ما هو الهاء مبرمج و معمم لجمهور المضطهدين ليس في البلدان العربية فقط ، و إنما في أوربا أيضا و ربما في العالم قاطبة .

وعلي هذا النحو يصبح من السهل تبين السبب الذي لأجله رفضت تلك الصحف نشر الرسوم الإيرانية حول المحرقة ، إذ الأمر هنا لا يتفق و الهدف الذي اشرنا إليه آنفا ، خاصة أن الحركة الصهيونية مثلما أقرته سابقا الهيئة العامة للأمم المتحدة تعد شكلا من أشكال العنصرية ، و بالتالي فإنها علي توافق كبير مع اليمين الفاشي في أوربا ، و نشر رسوم متضادة مع مبادئها و سياساتها و أساطيرها ، من شانه أن يلحق الضرر بالحلف الوثيق بين الطرفين المشار إليهما .

و إذا قارنا بين الرسوم الدانمركية و الرسوم الإيرانية، فإننا نقف علي ملامح الصراع بين الأصوليات المختلفة فكل واحدة منها تقدم ذاتها لجمهورها علي أنها حارسة أمينة لقيمه و مقدساته الخ ،، انه شحن منظم لبسطاء الناس بأفيون الكراهية و التعصب و تجييشهم لخوض حروب همجية هم أول ضحايا . و من هذه الزاوية لا فرق جوهري بين الفعل و رد الفعل ، فكلاهما يغرف ماء آسنا من نفس البئر .

و من اليسير فهم الحركة الاحتجاجية التي عمت الكثير من البلدان ، فالهوس الديني في ازهي أيامه الآن ، و لو كانت قيم التنوير و العلمنة و الحداثة و العقلنة ، هي سيدة الموقف لظلت صيحة اليمين الفاشي ممثلة في تلك الرسوم غير مسموعة البتة، فتجاهلها أفضل سبيل لمقاومتها ، غير أن الذي حدث و يا للأسف أن تلك الصيحــة و جدت في أبواق حراس العقيدة لدينها ابرز أدوات انتشارها . غير انه من المهم هنا التمييز بين تجار العواطف الدينية و بين الجماهير المنخرطة في ردود الفعل تلك . . و يدرك الغرب الامبريالي اليوم أهمية المعركة التي يخوضها و التي تتمثل كما ذكرنا في تسليط الأضواء علي ما هو تافه و تغييب ما هو جوهري من القضايا ، لذلك فانه يجيد تبادل الأدوار بين مؤسساته المختلفة فالصحيفة تنشر الرسوم ، و الكلية تدرس القرآن، و المال يدفع لتنظيم المؤتمرات حول حوار الحضارات و الأديان ،،،ولعل المشهد العراقي يفصح أكثر عن تبادل الأدوار هذا ، فالمؤسسة العسكرية ترتكب أفظع الجرائم ، و بين الفينة و الأخرى تطل علينا هذه الصحيفة أو تلك لكي تقول لنا : لقد حدثت انتهاكات فظيعة ،،، وبقدرة قادر يتحول الجلاد إلي ناطق رسمي باسم العدل و الفضيلة ، وجبل الجليد المخفي تحت كل هذا الركام هو استغلال الشعوب و هدر ثرواتها و الحكم عليها بان تظل علي الدوام أسيرة تخلفها .

ستتواصل هذه المعركة علي المدى المنظور ، و نحن نعيش من خلال الرسوم فصلا فقط من فصولها ، و يخطئ من يفصل الجانب الإيديولوجي السياسي الذي يسمها ،عن ذلك الجانب العنفي الذي يطبع ما يسمي بالحرب علي الإرهاب ، ففي هذه الحرب أيضا نلاحظ أن الأهداف الحقيقية مموهة و الصراع يتخذ وجهة زائفة .

و لكن ما العمل حتي نعيد الأمور إلي نصابها ؟ لعل أولي الخطوات علي هذا الطريق هي علمنة التفكير أي المضي قدما في نقد الذات و تصفية الحساب مع عوامل الوهن الكامنة في صميم الكيان العربي فنقد الذهنية العربية عامل حاسم علي هذا الصعيد ، و عندما تشق قيم العقلنة و العلمنة الخ … طريقها إلي الجمهور المعني بتملكها فان طبيعة المعركة سوف تتغير بالتأكيد، و لن تخرج عندها الجموع دفاعا عن أمواتها الذي يمسكون بتلابيبها من وراء قبورهم مثلما يريده لها أعداؤها أن تفعل ، و إنما ستنشد أغانيها للمستقبل . كما أن تلك العلمنة تفرض مثلما بيناه كشف الغطاء عن المشاريع الامبريالية و إظهار حقيقتها للعيان .

إن العلمنة المشار إليها تقضي هنا بالذات ان نتجه صوب نقد البؤس الذي تؤلف الايدولوجيا الدينية هالته الروحية ، أي نقد الأوضاع الاجتماعية المجللة بالاستغلال و الهيمنة ، و بالتالي جعل الاضطهاد اشد وطأة بان نضيف إليه وعي الاضطهاد كما قال كارل ماركس ، من خلال الإبانة عن الروابط المتبادلة بين الواقع الاجتماعي الاقتصادي السياسي الموسوم بالاضطهاد و الاستبداد و التخلف و الاستعمار و بين الايدولوجيا الدينية.

ومن المهم أن ندرك علي هذا الصعيد أننا نعيش في خضم وضع يتفشي فيه الجهل و الأمية ، و تكتوي في جموع واسعة من البشر بنار الاستغلال الاجتماعي و الهيمنة الامبريالية ،انحبس فيه التطور الاجتماعي علي مدي قرون و أضحي ما هو سائد يعيد انتاج ذاته علي مدار السنين .

و قد ساهمت الايدولوجيا الدينية إلي جانب عوامل كثيرة أخري في ذلك الانحباس، مما حال دون بروز نهضة و تنوير عربيين منصهرين في عمق الحياة الاجتماعية، بل إن ما حصل هو تضخم مظاهر مثل الطائفية و المذهبية و العشائرية و التعصب و الكراهية .

ينبغي أن نكون علي و وعي أن المعركة التي تخاض عربيا في علاقة بالعلمنة معركة أوفت بنتائجها أوربيا و أمريكيا، بل ان ذلك قد حصل حتي بالنسبة إلي العديد من الشعوب الآسيوية مثل الصين و الهند علي سبيل المثال ،وهذه المعركة تتنزل في سياق معركة أوسع وهي معركة التحرير و الديمقراطية ، و لا يمكن خوض هاتين المعركتين دون أرضية علمانية .

و رغم الإحباط الذي يشعر به كثيرون أري ان هناك تقدما ، ففي السابق كان الوعي بمخاطر الايدولوجيا الدينية محصورا بين أسوار الجامعات و النوادي الثقافية ، و في كتابات بعض المثقفين العرب ، و أضحي الوعي بذلك الآن أوسع و اشمل و هذا مهم، و يصح ذلك أيضا بالنسبة للامبريالية غير انه لا ينبغي أن نخطئ في تقدير قوتهما ، والمهم أنهما يحملان تناقضات مستحكمة بداخلهما ، و أن التفكير الذي نبتغيه من حيث هو تفكير معلمن يتطلب المضي قدما باتجاه رسم معالم القطيعة مع الإيديولوجيتين الامبريالية و الأصولية ، و برأيي فان من أسباب ما نحن فيه من وهن علي المستوي الثقافي هو ما ساد من تصالح مع الايديولجيتين من قبل عدد غير قليل من المفكرين جراء ضمور علمنة التفكير .

إن المجتمع العربي قياسا إلي المراكز الامبريالية مجرد هامش منتج للخامات و مستهلك للبضائع المستوردة ، و أطره الاجتماعية السائدة أضحت متكلسة و غير قابلة للحياة منذ فترة طويلة، غير أن عملية تجدده معطلة بفعل العاملين الداخلي و الخارجي، مضافا إليهما ضعف قوي التغيير و تشتتها و فقرها النظري ، و في مجتمع كهذا فان سلاح النقد هو امضي الأسلحة مما يضع علي عاتق المثقفين العضوين بتعبير غرامشي مهمات جسيمة . هكذا كان الحال في أوربا و في الصين و في روسيا و لم تحدث الثورات الكبري البرجوازية و العمالية دون علمنة للتفكير و صراع مرير بين القديم و الجديد .

إن الفائدة المترتبة عن هكذا عمل تكمن في تنظيف السلاح الفكري لقوي العقلنة و العلمنة ، و رسم خطوط التباين بوضوح بينه و بين أسلحة الخصوم الفكريين ، فالكثير من الناس يجدون صعوبة في تمييز الخطابات العلمانية التي لم تصنع بعد هويتها الفكرية المستقلة بالوضوح المطلوب . كما أن عملية العلمنة المشار إليها من شانها أن تخرج بالمعركة الجارية بين العلمانيين و العقلانيين العرب من جهة ، و خصومهم من جهة ثانية من دائرة الشتيمة إلي دائرة صراع الأفكار و المفاهيم، و الذي هو بحد ذاته شكل فقط من أشكال صراع أعم يدور بين الطرفين في شتي مناحي الحياة .

المطلوب هو أن تصبح للعلمانيين و العقلانيين العرب أفكارهم و مفاهيمهم المتميزة ، و لا شك أن هذه الأفكار سوف تفرض ذاتها لا محالة طالما استندت إلي أسلحة العقلنة و الحداثة و العلمنة ، فالخطابات المقابلة تتغذي من السائد السياسي و الاجتماعي و المعرفي، و من هذه الزاوية هي خطابات الماضي بكل تفاصيله ، بينما يمثل العلمانيون المستقبل. كما تستند تلك الخطابات إلي العواطف الجياشة وحدها وهذه لن تصمد طويلا أمام معول العقل النقدي.

نحن الآن إزاء مواجهة مزدوجة فمن جهة هناك الهجوم الذي تشنه الرأسمالية الاحتكارية عالميا علي الطبقة العاملة و الشعوب و الأمم المضطهدة و لا يتخذ ذلك الهجوم فقط شكل الهيمنة السياسية و الاقتصادية و العسكرية و إنما أيضا الهيمنة الثقافية كما بينا ، كما هناك التحدي الأصولي الذي يدفع بجموع الناس إلي المحرقة الطائفية .

إن العلمانية إذا ما سارت علي طريق الالتحام بقضايا الشعب و الوطن ستكون قادرة علي توحيد جهود قطاعات واسعة ليس من المثقفين العرب فحسب، و إنما أيضا من المنظمات و الجمعيات و النقابات و الأحزاب التي لا تزال لحد الآن كما مهملا في الصراع الجاري ،و لو تم التقدم في هذا الاتجاه لتشكلت جبهة واسعة يكون قلب الرحى الذي تدور حوله مجابهة الامبريالية و الإقطاعية في شتي حقول المواجهة الدائرة رحاها الآن



#فريد_العليبي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- موقف ابن رشد من المراة بين الشريعة و الفلسفة
- ابن رشد : ليس للمرأة حق الإمامة في المسجد بينما لها حق رئاسة ...
- للتاريخ صهوته و صهيله


المزيد.....




- “عيد مجيد سعيد” .. موعد عيد القيامة 2024 ومظاهر احتفال المسي ...
- شاهد..المستوطنين يقتحمون الأقصى في ثالث أيام عيد -الفصح اليه ...
- الأردن يدين سماح شرطة الاحتلال الإسرائيلي للمستوطنين باقتحام ...
- طلاب يهود بجامعة كولومبيا: مظاهرات دعم فلسطين ليست معادية لل ...
- مصادر فلسطينية: أكثر من 900 مستعمر اقتحموا المسجد الأقصى في ...
- مئات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى تحت حراسة إسرائيلية مش ...
- سيبدأ تطبيقه اليوم.. الإفتاء المصرية تحسم الجدل حول التوقيت ...
- مئات المستوطنين يقتحمون باحات الأقصى في ثالث أيام عيد الفصح ...
- أوكرانيا: السلطات تتهم رجل دين رفيع المستوى بالتجسس لصالح مو ...
- “خليهم يتعلموا ويغنوا ” نزل تردد قناة طيور الجنة للأطفال وأم ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - فريد العليبي - علمنة التفكير