|
للتاريخ صهوته و صهيله
فريد العليبي
الحوار المتمدن-العدد: 2462 - 2008 / 11 / 11 - 06:13
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
انتشرت لدى كثيرين حمى التهليل لنجاح اوباما في الانتخابات الأمريكية بشكل لافت ، و بدت ردود الفعل اقرب إلى المشاعر الجياشة المقترنة بمجئ مخلص ،خرج فجأة من بطن الوحش لكي يجهز عليه ، و كأنما جسد بذلك أمنية قديمة لارنستو تشى غيفارا ، الذي خاطب يوما طلبة يساريين أمريكيين قائلا : انتم تقيمون في بطن الوحش و هذا سيساعدكم على تقطيع أحشائه . لقد بدا و كان ما حصل ، قد وفر على ضحايا ذلك الوحش ، و ما أكثرهم عبء طول مقاومته، و ثقل كلفتها ، فأمريكا قد تغيرت و نزعت عنها ثوب الذئاب و ارتد ت حلة الخرفان القشيبة .
لقد سادت هذه المشاعر العالم قاطبة ، ربما بسبب الطابع الإمبراطوري الذي يسم أمريكا ووجدت تلك المشاعر طريقها إلى منابر إعلامية شهيرة ، لم تجد غضاضة في أن تتحدث عن ذلك الغريب المخلص الذي اسمه اوباما ، و بدأت مدافع الإعلام العملاقة الترويج لأساطير الخلاص ، مضفية على ذلك الأسمر ذي الأصول الإفريقية الذي طلق أباه أمه مبكرا ، و غادر أمريكا عائدا إلى بلده المنسي في إفريقيا و ترك ابنه الصغير هناك فظل يكبر و يكبر حتى امتطى صهوة جواد التاريخ بتعبير هيجل و رمي عصاه في البيت الأبيض، حيث سيجد مستقرا له خلال سنوات عديدة ، بعد أن خيم بعيدا لبعض الوقت و ظل يراود كشبح مرة في اندونيسيا و أخري في جزيرة هاواي، قبل أن يحل ركبه في نهاية المطاف في واشنطن ذاتها .
لقد الحق الشاب الغريب الأسمر بذلك العجوز الأشقر ذي الشعر الأبيض هزيمة نكراء، تداعت لها عيون محبيه بالدموع السخية فتغيرت أمريكا ، و باختيارها رئيسها الرابع و الأربعين دخلت عهدا جديدا ، في لحظة تاريخية حرجة عصفت فيها رياح الأزمة المالية منبئة بالكساد و الركود و قد يتداعى الاقتصاد العالمي برمته إلى الاستجابة ، و استحكم فيها وباء الإرهاب فأضحي الناس ُيقتلون على الهوية في مشارق الأرض و مغاربها ، و استوت في ذلك مدن مثل مدريد و مقاديشيو و نييورك و بغداد و كابول. لقد طوى ذو الأصل الإفريقي صفحة و افتتح فصلا جديد هكذا كتبت روتيرز ، انه أول رئيس أسود لأمريكا مما يؤكد أن هذا البلد سيظل رغم العواصف و الهزات منارة الديمقراطية و معبدها فقد حدث فيه ما لم يحدث في أية " ديمقراطية غربية " أخرى . في شيكاغو تكلم ذاك الغريب أمام مائتي ألف من البشر ، كانت دموع الفرح و هتافات الانتصار تملا المكان، المستحيل أصبح ممكنا فبدا و كان هاتف مارتن ليتركينغ يضع الكلمات في فمه " لي حلم " و ها قد تحقق .
" لقد تطلب الأمر وقتا طويلا و لكن هذا المساء و بفضل ما قمنا به اليوم و في هاته اللحظة بالذات حدث التغيير في أمريكا " ، هكذا انسابت كلماته أمام جموع المحتشدين ، مؤكدا مصاعب تحقيق ما وعد به خلال عام و لا حتى خلال ولايته الحالية، و هو يغمز بذلك إلى الولاية الثانية التي أضحت عينه منذ الآن مركزة عليها ، هكذا فعل الرؤساء الذين سبقوه و هكذا يفعل هو الآن ، تلك هي مقتضيات اللعبة القديمة ، انه نشيد المنتصرين في أول ولاية قبل أن يحل اللحن الحزين في ختام الولاية الأخيرة ، و هو اللحن الذي يعزفه الآن بوش الابن المتواري عن الأنظار .
انشد اوباما لحنه أمام مائتي ألف بشر ، كانت تهزهم مشاعر جارفة خاطب من خلالهم مئات الملايين من الأمريكيين ، فأجاد دغدغة عواطفهم مركزا كلامه عل الأمل الذي فقدوه فوعد بإعادته لهم ، قال لهم " " هذه هي إجابة الشباب و الشيوخ ، الأغنياء و الفقراء ، الجمهوريون و الديمقراطيين ، السود و البيض الأسيويون و الهيسبانيين المعوقون و الأسوياء .." فأمريكا واحدة متكاتفة تشد بعضها بعضا كالبنيان المرصوص ، فكان خطابه شعبويا بامتياز، يهز العواطف هزا و قد شبهت البي بي سي الاحتفالات التي تلت انتخابه بالكرنفالات التي ترافق الانتصارات الكروية . لقد راهن كثيرون قبل هذا على فرنسوا ميتران مرة و على بيل كلينتون مرة ثانية، و على آخرين كثيرين مرات و مرات ، و في كل مراهنة كان الحلم بمخلص هو الحبل الذي تعتصم به جموع المقهورين التي شارفت على فقدان أي أمل، بعد أن أعيتها الحيلة في صنع انتصاراتها بيدها ، و كان الحلم يكشف عن ذاته بعد وقت قصير باعتباره زيفا، و تتالى الانكسارات و الخيبات ويستمر البحث عن بقعة ضوء في نهاية النفق .
و نحن اليوم أمام مراهنات جديدة قديمة لا تختلف عن ذلك كثيرا ، و كأن اوباما قد قاد ثورة حطمت الامبريالية الأمريكية و إلى الأبد ، فأصبحت هذه بين يوم و ليلة حمامة سلام و صديقا للمقهورين في العالم اجمع ، و ربما توجب علينا انتظار جيوش اوباما الخيرة لكي تحررنا من جيوش بوش الابن الشريرة ، إنها العاطفة إياها في التعامل مع الحدث السياسي .
أمريكا دولة يتحكم بمصيرها أساطين المال ، و هؤلاء هم صناع سياستها و سياسييها، بمن فيهم رئيسها المنتخب ، و إذا كان هناك من جديد مع مجئ اوباما فلن يكون غير بعض العرض ، أما الجوهر فسوف يظل على حاله في بلد ظل يستمد الدماء المنسابة في شرايينه من اضطهاد الشعوب و الأمم المقهورة على مدى عشرات السنين .
تبدو أمريكا مثقلة بهمومها ، عجوز تبحث عبثا عن شبابها المفقود ، عن غدها في أمسها ، عن مستقبلها في ماضيها ، لقد تخشبت شرايينها و تخثر دمها ، تلهث وراء خلاص موهوم ، لقد فعل التاريخ فعله ، ذاك النهر المتدفق الذي لا يتوقف أبدا ، و لن يصلح العقار ما أفسده الدهر، وإذا كان من جديد ستعرفه في غدها المرتقب فلن يبدأ عمله من رأسها و إنما من أخمص قدميها ، و من يضع رهانه على أمريكا اوباما خسر درهمه درهمين.
للتاريخ مساراته ، هدوءه و اندفاعاته ، يكون تارة غافيا مثل طفل، و طورا جامحا مثل فرس و من يعتلى صهوة جواده في فترات الأزمات ، عليه أن يقيس الخطى خطوة بعد خطوة ، فللتاريخ مكره و ستظل الشعوب و الطبقات المظلومة تحلم بخلاصها الذي لن يكون في كل الأحوال إلا من صنعها هي نفسها كما قال كارل ماركس ، و إذا توقفت عن ذلك الحلم ستغرق في الهمجية، و الويل كل الويل لمن لم يعد له ما يرغب فيه كما أكد يوما جون جاك روسو .
.
#فريد_العليبي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل تصريح نتنياهو ضد الاحتجاجات في الجامعات يعتبر -تدخلا-؟..
...
-
شاهد: نازحون يعيشون في أروقة المستشفيات في خان يونس
-
الصين تطلق رحلة فضائية مأهولة ترافقها أسماك الزرد
-
-مساع- جديدة لهدنة في غزة واستعداد إسرائيلي لانتشار محتمل في
...
-
البنتاغون: بدأنا بالفعل بنقل الأسلحة إلى أوكرانيا من حزمة ال
...
-
جامعات أميركية جديدة تنضم للمظاهرات المؤيدة لغزة
-
القوات الإيرانية تستهدف -عنصرين إرهابيين- على متن سيارة بطائ
...
-
الكرملين: دعم واشنطن لن يؤثر على عمليتنا
-
فريق RT بغزة يرصد وضع مشفى شهداء الأقصى
-
إسرائيل مصدومة.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين بجامعات أمريكية
...
المزيد.....
-
في يوم العمَّال العالمي!
/ ادم عربي
-
الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة
...
/ ماري سيغارا
-
الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي
/ رسلان جادالله عامر
-
7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة
/ زهير الصباغ
-
العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني
/ حميد الكفائي
-
جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022
/ حزب الكادحين
-
جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023
/ حزب الكادحين
-
جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023
/ حزب الكادحين
-
جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023
/ حزب الكادحين
-
جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023
/ حزب الكادحين
المزيد.....
|