أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعيد حاشوش - قوس قزح أبيض...قصة قصيرة















المزيد.....


قوس قزح أبيض...قصة قصيرة


سعيد حاشوش

الحوار المتمدن-العدد: 2537 - 2009 / 1 / 25 - 06:19
المحور: الادب والفن
    


إلى توأمي الشاعر عقيل السيد زيارة

أعمى بلا ريش ، يطير الخفاش ، خفاش بمعطف أصفر ، الريح تعوي كالكلاب والمطر ينقر وجهي ووجه الوليد ، الريح الباردة تزمر بخصاص القصب ، تهز جدران الجينكو ، تئن ، تلك الجدران المعدنية بنشوز .. السماء غراب رمادي هائل الجناحين .. يبول الغراب .. يبول ويبول .. ويغسل الوليد من أدران وذنوب لم يقترفها بعد .. تقفز جثتي المستنقعات .. تغط حتى الركبتين في وحل المجاري المزمنة يبسط الغراب جناحيه على جهتي الخليقة ، ينعق وتبرق شرارة ضوء تتسع فيها جدران الظلمة ، في لحظة بالغة الصغر .. لحظة خارج الزمان ، رأيت عينيّ الوليد تومضان بضوء خافت .. أحقا مات ولدي في الليل ..؟
المستنقع الكبير مظلم وثمة ضفادع لا تمل النقيق .. قد تكون بشارة الربيع ، قلبي ـ أنا الآخر ـ ينق وينق عن ثرثرة تمور وتغلي في الأعماق ( لا يخرس الوريق إلا العصا الغليظة) أدور حول المستنقع ، أعرف أن كل الدروب تؤدي للمقبرة .. في دورتي المعتادة .. اللامجدية .. أتيه في الظلام .. أصيح .. أكشف عن وجودي تجاوبني الكلاب التي تتقمص أصوات ذئاب في ليل التيه والضياع .. أحقا ان الروح طفت كالفلينة من الجوع ؟ عاد الضفدع ينق في داخلي ..كلّ على كلّ سيبكي وتضيع دمعتنا الرقيقة / نتيه بين حقيقتي الصمت ... وبحثت عن كلمة مناسبة ولم أجد إلا النقيقة .. ندور قي أفق تحداه الرجاء وجفته أروقة الحقيقة . تغوص قدماي في مجار ٍ ثقيلة .. أصرخ عاليا .. لا موت بعد الموت / فليأت القضاء ولتذب في القلب نيران الحقيقة / لا موت بعد الموت .. وشعرت للوهلة الأولى ان قطعة ثلج التفت على رقبتي .. يا زمن ضاع وما اعتدنا رحيقه هذه معاناة الحقيقة / يا صاحب الزمن المضا .....ع .. وسقط في مياه مسودة وتلون الكفن الأبيض ( بالسيان ) الأسود المزرق .. أغيب في الظلام .. يجاوبني صدى النباح .. يبول الغراب .. السماء تجود بزخة ماء .. يغسل وجه وكفن الوليد من ذنوب لم يقترفها بعد .. الذنب يجعلني أحمل ولدي بلامبالاة أو شيء خفي من إحساس الأبوة . الريح تدفعني من الخلف والسماء فم مفغور يمج الماء .. تشممت رائحة البول وخثرة المستنقعات .. المطر يمشي تحت قدميّ .. خلفي .. يدفعني من الخلف بقوة خفية تجاه مقبرة سيد أحمد .. العتمة السائبة بين المجاري .. للمجهول .. القوى الخفية تجعل قدميّ تغوصان في الرمل بلا صوت .. جنازة موتى صامتة .. قد أكون أنا الميت ..! في تلك اللحظة تشنجت يد الوليد على رقبتي .. كحبل بارد لين يلتف .. خفت حتى ان أفكر .. لا أسمع إلا الصمت وبقبقات المطر وثمة غموض هائل من خلل ريش غراب الغيم وكمن يكسر جناح خفاش هائل بسيف مضيء ويسمع تفتق الجلد .. في ذلك الضوء المؤتلق ثوان ٍ رأيت عينيّ الوليد مفتوحتين للمرة الثانية .. كيف يحدث هذا ؟ ضممت الطفل إلى صدري وأخفيته في مزوة المعطف الأصفر .. أتحسسه قطعة باردة .. في ذلك البريق رأيت بشرته بيضاء .. ليس مثل بياض الثلج وإنما هي بيضاء مصفرة . وجه مدور واسع العينين يشبه ذلك الطفل المرتمي في حضن السيدة العذراء .
المقبرة أمامي لاباب لها لكثرة الثقوب التي حفرها السكارى .. هنا .. العالم يسيل في مجرى يشخب بالزبد ويختفي في ظلام القبور .. أسمع الذوات تتوجع حين تنخلع من الأجساد وتسيح في العالم الفسيح .. ضممت الطفل إلى صدري بقوة .. عصرت أناي .. الأنا تستغيث .. تخاف الانطلاق للعالم الأكبر وبدون جهد وبلا وعي كنت أعرف أين أدفن وليدي .. دلفت بين القبور المبنية بالآجر ، أما تلك التي بقيت بلا شاهدة راحت تنخسف تحت قدميّ بتوجس ، تغوص أطراف الأصابع في بطن ما وثمة دفء سري يغمر القدم كلها .. حرارة روح ولدت من معانقة جثة لأحشاء الأرض .. تمتزج بجسدي تختلط بأرواح الكون الفسيح .. توقفت برهة .. لم أجد الأرض التي أبحث عنها .. ( ابحث عن الأرض وأنت تجد ) مازالت القوى الخفية تدفعني من الخلف بأيدٍ من رياح ومطر .. ألتف بمعطفي المبلل .. المعطف يكشف عن نحافة وبؤس .. يد الطفل تلتف دائما حول رقبتي باردة كالثلج .. احتضنته بحنو بائس وثمة كلاب برؤوس ضخمة ، مترعة بسمنة لم أألفها من قبل تشم أذيال المعطف وتهز ذيولها بتملق وتلذذ .. بوله غامض وعجيب .. وبغتة اشتعلت العيون الحمر تحت بريق الرعد .. اشتعلت بذكرى بريق .. أتنفس بعمق .. أعب رائحة الموتى المنقوعة أجسادهم بالمطر .. ترافقني الكلاب الأليفة .. قادتني خطاي بين قبور بلا شواهد .. أعرف أصحاب القبور .. مازلت أتمسك بملامحهم وهم يتسولون .. الوجوه الضاحكة لأطفال الفلسطينيات .. وبعض أطفال الغجر قادتني خطاي ـ بدون أن أعي ـ بين قبور بلا شواهد وفي ذاكرتي تلك الفسحة التي أدمنت النوم فيها وأنا مخمور .. أتطلع إلى تلك الشاهدة المكونة من حصاة ثقيلة .. أتفرس في الحصاة ويغالبني النوم ( وجدت هذه الحصاة بالصدفة الفتاة الحبيبة في صباح ما في البر .. لأنها لامعة في ليالي القمر لذا جعلتها شاهدة ) .. فزعت .. لم أجد الفسحة .. كثرة موتى شباط لم تترك لي ذراعا .. ذراع واحد هو طول الطفل .. ومن بين القبور يأتي نواح امرأة ثخنت حنجرتها من بكاء مزمن يخيم على ظلام غرفة المغسل .. ( الندى يندى على ركابه ياسعد .. يايمة .. أين أقضي باقي العمر ياسعد .. وظلّوا على الوالدة ينشدون ) يهيض النعي المواجع النائمة في العمق . ثمة انشداد بعقدة حبل سري بيني وبين سهام النائمة تحت التراب ( اللعنة على حمار سباهي والجنود ) وانسابت من عيني دمعات تنساب مسرعة كقطرات المطر ، حتى هذه اللحظة لم أفهم الموت بعمق .. يخيل اليّ لو طبلت على الصفائح ورقصت الهيوا ، أندق على الأرض بعد كل قفزة سيشاركني الموتى في رقصة الحرية والجنون .. حقيقة .. كنت كالممسوس أتفحص الطفل .. لعله يعيش .. وعي مبهم جعلني أحفر الرمل بأصابعي .. أزيله عن جثة سهام .. تدمى الأصابع .. تتشقق الأظافر وأكملت الحفر بقطعة معدن متأكسدة مأخوذا برائحة التراب .. كركرات سهام تفتح أحد أكواخ الذاكرة .. يفتح الكوخ برفسة على الباب وتنطلق الكركرات المتسارعة حتى الغصة وتخيم في سماء عتمة المقبرة .. الرعد أعادني للوجود وصوتي عاد يثغو كالذبيح .. سهام دفئيه فإن ولدي بارد كالثلج .. رأيت القبور تتجه بشواهدها تجاه القبلة وضعت الطفل وأهلت عليه التراب فنعق الغراب الأسود بهزيم ورأيت عيني الطفل تنظران بوجهي .. لم أستطع طمر عينيه بالتراب .. لم أجرؤ كان الطفل يتوسل ويده مرفوعة تستغيث بتلك التشنجة على حلمة وهمية تشخب بالحليب .. أغلقت عينيه وسرعان مافتحهما بتأن .. تصلب منذ وفاة البارحة .. لم نكن نعرف كيف نغلق العينين بعد الموت .. لانريد الظلام .. فلينظر حتى لو رأى الفراغ .. الفراغ وحده .. لم أجد قطعة قماش أغطي بها العينين المستغيثتين لآخر مرة .. ورقة الوفاة هي الوحيدة التي أحفظها في جيب داخلي تحسبا خوف أن يقبض عليّ حفار القبور ، الورقة تقول وفاة بسبب الجفاف وسوء التغذية .. فتحت الشهادة وغطيت الوجه المدور كله وأهلت التراب على جثته بسرعة رغم إني أشم رائحة النتانة من كفنه الحلاوي حين عثرت وسقطت في مياه بالوعات نجسة . المطر جعل الرمل لينا طيعا بين أصابعي المفروقة ، نسيت حتى أن أقرأ عليه سورة الفاتحة .. أعدت وضع الحصاة الملونة الكبيرة على شاهدة القبر .. قبر يضم أليفتي وولدي ، بكيت بصوت مسموع ولم أجد إلا الدعاء وكعادتي جعلت الدعاء شعرا لأني لاأملك بضاعة غيره ...
من أي منخفض أتيت وبأي منخفض سكنت / قرارة المدن الجائعة .. الموبوءة كم شكوت .. سهام أي ذنب يفصل الإنسان عن نفسه ويجعله بين حقيقتين .. أتبوأ موتي .. موته .. موتك .. ياسهام دفئيه .. بذمتك .. هو بارد كالثلج ... انتبهت .. الكلاب كونت دائرة منتظمة .. تجلس القرفصاء بألفة غامضة .. لوثة غامضة جعلتني أعتلي ظهر قبر مبني بالآجر وأصرخ بصوت كالفحيح ..
كنا صغارا ياسهام نسرج الفانوس في همس النخيل ونصعد الأشجار / نبحث عن مكامنها / لعل هناك هاجسة توحد بين نبض أغنية وغناء بلبل .... ياموتى .. وسمعت المرأة الناعية تكلمني .. عن ماذا تحدث نفسك ياولدي .. الموت بيد الإله .. وبعصاها الغليظة تشير للسماء .. أجبتها كالمجنون .. أذكر منظرا للموت حين تمر قرب بيوتنا تلك الجنائز نحو مقبرة بأقصى غابة النخل كيف نشرد بين حضن الأرض معتقدين ان الموت يعدو خلفنا / هذا الموت كالكلب يعدو خلفنا .. هذا الموت يولد داخل الإنسان جروا يعض وينبح .. وبيديّ أرسم صورة صامتة بإيماءات متتالية لكلاب برؤوس ضخمة تنهش أجسادنا ... مارد الرعد يكشف عن وجه عجوز لإمرأة مثقلة بحزن تتوكأ على عكازة ، البرق جعلني ماردا عملاقا .. أشير بيدي كالمجنون .. حدثتها : ياجدة .. كان الموت يخطف الأطفال من أحضان أهليهم وينقلهم كما تحكي لنا الجدات خلف مقابر القرى الصغيرة .. تشبه مقابر الصابئة .. ياجدة .. ان أمي تقول : الأطفال يعتلون البروج ويعاشرون الجن والأشباح كالملائكة .. وأردفت بصوت بارد لاأسمعه أنا نفسي .. كالطيور .. أسمع المرأة تصفق يدا بيد وكأني مجنون حقيقي ابتليت به بعد منتف الليل .. لكن الموت الآن ياجدة .. احيانا بلمح البصر .. بصاروخ طائرة أمريكية أو عراقية .. موت ولدي يختلف .. كان الموت يشاطره حليب الرضاعة .. كان يريده أن يبكي كي تتفجر النسوة عند بكائه بالصمت .. ياجدة .. كانت الدنيا تسيح وتسيح كي تكبر .... اسأليها .. واندهشت العجوز .. أسأل من ؟ هذه سهام النائمة تحتنا / احيانا تكبر في قلبي .. احيانا تضيق الدنيا لضيقنا النفسي .. تكور من عوالمها وتقتل عالم الإحساس .. وتحسست بيد المرأة تمسكني من ذيل المعطف وتحاول سحبي للأسفل وتبسبس ... حرام ياولدي تقف فوق الموتى .. انزل .. واذهب إلى البيت لست أول من يفقد ولده ولو اني لاأفهم عمن تتحدث كأنك مخبول .
ـ أنت ِ مثل امرأتي حين أقول الشعر تتململ وتحاول إسكاتي كي لا أوقظ الطفل من نومه .. هي تقول : الجيران يكرهون سماع صوتك بعد منتصف الليل ..
ـ أنا مثل أمك .. اذهب لزوجتك في هذا الليل الماطر وأنا سأقرأ عند رأس ولدك القرآن .. ألهم اجعله طيرا في الجنة .. وشعرت بكره انفجر بوجه المرأة .. أردت أن أكمل قصيدتي كتأبين قبل أن تذهب هي الأخرى مع الموتى .. نزلت من فوق القبر .. أكملت بصوت بارد مخذول أيتها الدنيا .. .. تعلمنا عذاب الناس / كيف يكون / كيف يعيش بين نفوسنا متذمرا يجاهد نفسه كي يلتقي والناس ....
ـ اذهب .. اذهب .. أشك انك مخبول .. المطر يبلل رأسك .. ستمرض .. وعاد صوتي الجهوري الهستيري يحاكي ولدي المدفون .. وتدري أنت تدري / إننا منذ أن يغبش الفجر الكذوب إلى أن تعتم الدنيا / أعانق المارة .. أبيع الشاي .. أسافر في هموم الناس . صعدت ثانية فوق تعلية القبر وصرخت بصوت مدو ٍ أفزع العجوز : أيها الموتى / من منكم يحب الناس أكثر / وليقل إني وليرفع اليّ الرأس / فها إني المخبول بهموم الناس .. ودفعتني العجوز بعصاها الغليظة وسقطت على الرمل البليل .. اذهب من هنا وإلا ناديت الدفان الحاج مناتي .. وحين ذكرتني العجوز بحفار القبور شعرت بالجبن لأني لم أدفن ولدي في النهار كي لاأدفع للدفان الدنانير الخمسة التي اقترضتها زوجتي من النسوة المتلفعات بالسواد منذ فجر الخليقة .. كيف نجتاز الحرب ونحن لانملك دينارا واحدا .. شعور مباغت جعلني أعض الأرض العجوز .. أتوسل .. ياسادتي الموتى / أشعارنا تضيع في لجة يجهلها الجميع / ياسادتي الموتى الحضور / أشعارنا الأجير والمأجور ..وسمعت العجوز تنادي : حاج مناتي .. ياأبو لطيف .. أردت أن أكمل قصيدتي ، همست في أذن ولدي النائم في الأحشاء .. منذ زمن الطوفان ماتزل تبحث عن مكمنها للنور قصائدنا تدفن في القبور .. تقبع في فحمة الديجور .. اقرءوا يا سادتي الموتى الحضور . كررت العجوز نداءها .. حجي مناتي .. هربت لاألوي على شيء وثمة كره عميق للدفان والعجوز .
تركت المرأة تتوكأ على عصاها وتتوسط ثلة كلاب برؤوس ضخمة تجلس القرفصاء بأدب جم .. تلك الجلسة المهيبة للكلاب جعلتني أنسى كلماتي .. كأنها ليست لي ولم أستطع جمع شتات أفكاري ، حاولت فتح أبواب الأكواخ المغلقة في الرأس .. لاشيء .. سوى إني أعيش هنا كي أهرب يوما بدون رجعة .. أعود إلى قبري .. الكوخ الذي بنيته بيديّ ..
ان الظلام والمطر أكدا لي أن أعيش كي أموت يوما ما .. مهما فعلت .. ثمة خيبة مريرة في الأعماق .... تركت المقبرة وخرجت للدنيا .. تأكدت أن للظلمة كثافة وأسوار بين الأصنام المسترخية المبنية بالآجر .. لذلك الظلام رائحة وللعجوز رائحة مخاض الأرض .. حارسة الموتى .. اللامبالاة باغتتني ثانية .. أمشي بين أصنام أخرى بناها التجار ولونوها بأضواء النيون على ذلك الشارع الإسفلتي المؤدي للبر خلف المستنقع الكبير .
مازالت الضفادع تنق .. لاشيء في ريح المطر غير الصدى واصطفاق القطرات بجدران الجينكو ... انه المطر .. فتحت باب الجينكو وجدت الظلمة والوحشة والسكون .. الزوجة نائمة ويدها اليمنى تلتف على طفل وهمي .. تقرفصت في الزاوية بعد ان خلعت المعطف الثقيل بالماء ورغبة ملحة في تدخين سيجارة .. وبأصابعي المفروقة أخذت ألف التبغ بورق البافرة .. لم أشعر بالدفء بل بالإهمال ككائن معاد من القمامة .. لعقت أطراف السيجارة بلساني فاشتعلت لذة خبيئة حين تصاعد الدخان على شكل دوائر .. وفي لحظة لف جسدي ببطانية خشنة تخاطر في ذهني ان زوجتي تحلم .. شفتاها اليابستان ترتجفان وصرخة لم تنطلق بعد رغم أنها فتحت فاها على اتساعه ، قد يكون كابوسا ، رأيت يدها اليمنى تبحث عن حلمة في جانب نهر الأضلاع وتحاول أن تلقم الطفل الوهمي . طفل على شفتيه زبد . شبت بفزع وسألتني : أين الطفل ؟ واتسعت حدقتاها بنظرة مستريبة .. تلك النظرة تعلقت بوجهي المغسول بالمطر .. لم أجب .. أنا الآخر تعلقت عيناي بوجهها الأبيض وبعد صمت نحبت ببكاء مر . على مايبدو فاقت من الحلم وتذكرت أن الطفل مات منذ البارحة .. عدت أدخن بشراهة ، الدخان يملأ الغرفة .. هل دفنته ؟ أومأت إليها هازا رأسي للأسفل .. وبعد صمت جاءني صوتها من غور بعيد .. هل أخذ الحاج مناتي الخمسة دنانير كلها ؟ هو يعرف إننا فقراء ..
ـ لا .. دفنته قرب سهام التي حدثتك عنها التي قتلها حمار سباهي بمساعدة الجنود .. هو طفل ان شاء الله سيكون طيرا في الجنة ..
عاد السكون يغطينا سوى أن عينيها تعلقتا بوجهي كالمسامير وقطرات الدمع تنهمر بطيئة من زوايا العينين .. طال الصمت وشعرت بالتعب يدب بجسدي النحيل والنعاس هو الآخر تسلل كأفعى .. أردت أن أبعد نظراتها التي تخترقني كسيخ محمر وقلت : دفنته مثل كل الناس .. رأيت كل القبور تتجه للقبلة فوضعت رأسه بهذا الاتجاه .. وكمن لدغ بغتة رأيتها تشق ثوبها الأسود ، العيون لاتستقر في تجاويفها المظلمة .. كيف تضع رأسه تجاه القبلة ؟ عليك أن تضع الرأس على قبلة الصابئة .. إلى الشمال ألم تفكر كيف يبعث يوم القيامة .. كيف يجلس ..؟.. وبيديها تلطم وجهها تارة وأخرى تفرج مابين أصابعها وتغم وجهها .. وجه مثقل بالبياض والسواد .. لاتكتب إلا الشعر والقصص .. وياليت شعرك مثل شعر العالم .. ارجع .. ارجع للمقبرة وإلا قتلت نفسي ..
الليل وانهمار المطر ، الريح شمالية تصفق ضلفة الشباك الخشبي وتنفتح البطانية القديمة المسدلة وتسد الفتحات . المطر ينقر على سطح الجينكو ( أماه .. من هنا يدلف المطر .. وأسمع الأم في الذاكرة .. ضع الطست تحت شمرة الناقوط) حمى اللامبالاة تلفني بمعطفي الأصفر الثقيل ، المعطف الذي أعطاه لي كردي قبل أن يأخذه الجلادون لجهة مجهولة .. أبحث عن دفء مفقود .. أنفض الماء عن جسدي كحيوان بري ، أنتر جسدي عدة نترات .. أرقص بهستيريا .. لكن البلل تشبث بالجسد واللعنة والثغيب الجريح . القوة العمياء عادت تقذفني .. تدفعني من الخلف .. تلقي بجثتي في المجاري وقد انزلق تحت شآبيب المطر . النقيق وأخاديد الأرض الشمطاء والليل الطويل .. الطويل .. لاأحد يسمع صوتي .. في شباط الإنسان مجرد كائن يمشي على قائمتين . استقبلتني الكلاب كعادتها .. لم أعد أنا وإنما شخص آخر يشبهني .. شبح مبلل وموحل بالطين . ثمة كلاب بعيون حمر تشتعل كلما تدوي السماء ، جمرات نار تومض كلما تنفخها الريح .. هي الذكرى الوحيدة التي ورثتها الكلاب عن ذئاب البراري .. كلاب أخرى تتوسط منخفضات القبور وأخرى تعوي بتكاسل ورقابها مرفوعة لغراب الغيم .. لاأعرف لم لا تشمني الكلاب وتهز الذيول . أعمى كالخفاش أبحث عن قبر الوليد .. أين الفسحة البيضاء ؟ .. كل الرمل أسمر .. رمادي .. هو بطون القبور .. البرد يصك الأسنان .. كل العظام ، السماء المدلهمة تمر فوقي والظلام كرات هائلة الحجم تتقافز بين القبور ، لاأسمع إلا الصمت ، أنظر ولاأرى قد يكون المطر ملأ العينين .. أشعر بأني في قلب ظلمة هائلة .. كجرذ مشعر .. أحفر .. أحفر .. وأشعر بهزة خفيفة .. هي الأرواح تريد أن تنطلق .. لايعقل أن يسجن الإنسان حيا وميتا .. يسجن في ظلام أبدي تحت الأرض .. أحفر وتكبر الحفرة .. أسمع زمجرة كلاب وقد تكون قهقهة وثمة ورقة ممزقة تأكدت من حجمها على إنها شهادة الوفاة .. أصابني من مس الجنون .. أين الوليد وأين العجوز .. ولماذا تقهقه الكلاب ؟ في القبر قبضت أصابعي على عظام نحيفة مازالت متماسكة وثمة ضفيرة طويلة تنتهي بعقصة ممسدة بزيت الموتى .. ترتعش مقابضي وتنمل جسدي بقشعريرة .. هي ضفيرة حبيبتي الأولى .. أصرخ ملتاعا كمن سرق عنوة : سهام أين الطفل ؟ تجاوبني آلهة من فراغ موحش .. لم أفقه مايدور بعد .. بحثت في الظلمة الساكنة بكثافة .. كالأعمى أبحث .. أين أبحث ؟ .. لاأعرف الوقت لكن الفجر قريب .. آخر إيقاع بوتر غليظ يدق الكون .. كوتر نداف .. يرتق جلدة السماء ... ولاأعرف متى كف المطر عن الهطول .. عدم الفهم جعلني ألتف بمعطفي .. أخفي ساقيّ ويديّ القابضتين على شهادة الوفاة .. ألتف حول الحفرة الكبيرة لقبر أليفتي الأولى وقد يكون قبري المؤجل .. منتظرا الصبح .. عيناي مفتوحتان حين تكورت بمعطفي .. لاأعرف متى غفوت .. حلمت بغراب الغيم أكثر اسودادا من الفحم يلم جناحيه وبمخالبه العجائبية يمسك بيد الطفل المتشنجة على حلمة وهمية .. الكابوس يختفي في الصدر ، ثمة ثقل فوق الأضلاع وسعال وحشرجة أيقظتني .. انه الحاج مناتي .. واندهشت لملامسة لحيته البيضاء وجهي .. وحين فتحت عينيّ هز الدفان رأسه .. : كم مرة قلت لك لاتشرب النجاسة في المقبرة .. حرام .. وتحفر القبور .. والله حرام .. أجبته بصوت نائم وباك : أنا لاأشرب وإنما ..... مازلت ممددا على الأرض حين رأيت الحاج يهيل التراب بمجرفته على فوهة القبر المفغور .. قبر بحجم جثتي .. عيناي لاتستقران بمكان .. في الأعالي أغصان سدر لها ذيل قط عظيم منفوش بالنبق وثمة بين أضلاعي روح أسمع قرقرة بلغمها حين أتنفس .. دفء سري شبيه بدفء البذور حين تنتفخ بالماء .. على وشك أن تنفطر قشرتها أو تتبرعم .. ثمة قهر .. وعي غامض سجين السياط والقتل يفوح بتواريخ الفقراء المتعاقب .. وعي سري يطامن جثتي الممددة بأن ولدي آسف على ولادته وعاد نائما لأمه الأرض أو لبطن سهام التي لم تلد من ذلك الحمار الذي اغتصبها .. يخيل اليّ لو طبلّت على الصفائح لأنبثق ولدي كالفطر يرقص على أنغام التنك والجينكو .. افترت شفتاي عن ابتسامة لاتستوعبها الكلمات .. وفوجئت بالدفان يطردني هذه المرة ملوحا بمسحاة مبرودة الحافة .. اذهب .. يوما ما سيأتوني بك تطوح الساقين ... بعد ليال مررت بالشارع الإسفلتي المحاذي للمقبرة وسمعت نغمة طفل ورائي ويد بيضاء لدنة تومئ لي أن أعود وأبحث عنه وأخرجه من مقبرة الفقراء .. وتوالى الهمس خلفي ويوما ما سمعته ينادي ويومئ بيده المتشنجة .. تعال وخذني ياأبي .. مرت ليال هادئة .. كفت الأم عن النواح أمام المهد وكلمتني : سعيد .. وضعت رأس الطفل تجاه الشمال .. عصت عليّ الإجابة .. ودون وعي أجبت .
ـ أنا حين رجعت .. بقيت تلك الليلة أبحث عن قبره .. بحثت كثيرا ..
ـ ولم تجده ؟
ـ نعم ..
انفرجت الغمة عن محيا الزوجة .. بدت مسرورة .. بادرتها مندهشا ..
ـ أنتِ فرحة لأني لم أجده !
ـ نعم .. حلمت البارحة ان أحد الأولياء الصالحين أخذه من يده التي ظلت واقفة .. رأيته ينعم في ربيع وأجنحة زاهية .
ـ رأيتِ الولي الصالح يأخذه ..!..
ـ ألا تصدق بأني رأيت هذا ..
أشعلت لفافة تبغ .. لذعتني سخونة التبغ الرديء .. لاأدري من أخذه .. ربما كان وليمة دسمة للكلاب .. قلت ذلك لنفسي تاركا الزوجة ترفل بوهم الخيال .. نحن بحاجة إلى وهم كي نعيش مثل هذه الحياة الغريبة .. لكن الطفل ماانفك يهاجمني في كل شارع .. غيرت الدروب حين أذهب للسوق أو لعملي في بيع الشاي في المنطقة الصناعية .. في كل مرة أسمعه .. تعال وخذني .. أشعر أن يده تريد أن تمسكني من الخلف .. تستوقفني .. ألتفت ولم أر شيئا .. أكثرت من التلفت .. وكل طفل أراه أعتقد انه هو .. بل تأكدت بأنه استنسخ روحه في وجوه كل الأطفال .. قررت الهرب بعيدا .. الى الريف .. الى قريتي الأولى وبعد سنين وفي ليلة ماطرة انهالت من السقف قطرات مطر .. صعدت فوق السقيفة أطمر الثقوب بالطين وفوجئت بيد بيضاء لدنة لطفل ولد توا .. بحجم قوس قزح أبيض يومئ لي .. يستغيث .. بيأس عجيب .. جن جنوني وصرخت : نم واسترح ياصاحب الوجه المسيح .. مت واسترح كي أستريح .. في الأسفل تصرخ الزوجة محذرة خوف أن يسمعني أحد عناصر النظام وأروح في شربة ماء ، أصبح صوتي فحيحا لاأفهمه أنا نفسي وبيدي أتهم السماء .. لماذا تسرقوننا أحياءا .. تسرقوننا أمواتا .. لماذا .. لماذا .. لماذا .. وبكل ماأوتيت من قوة في الحنجرة ولم يجبني أحد .. ولاحتى صدى .. وبعد تحلل العناصر إلى عناصر أخرى لم يجبني أحد حتى هذا اليوم أيضا على هذه اللماذا ..



#سعيد_حاشوش (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نحن الحطب بعد شتاء أكلتنا الأرضة
- اليحامير


المزيد.....




- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعيد حاشوش - قوس قزح أبيض...قصة قصيرة