أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعيد حاشوش - اليحامير















المزيد.....

اليحامير


سعيد حاشوش

الحوار المتمدن-العدد: 2534 - 2009 / 1 / 22 - 08:37
المحور: الادب والفن
    


صفائح الجينكو الواطئة تغوص بزمن ليلي دائم .. ثمة نسوة حول تنور بنيران مهوشة .. كلاب تنبح .. قطط تموء بأعداد غفيرة .
مطبات غائرة في الرمل ، ذيول منسية لجبل سنام النائم ، كجني أسود من ألف ليلة وليلة . في تلك الفتحة بين ذيول الجبل وصفائح الجينكو والنباح الأزلي ، ألح سائق البيك آب أن ننزل حمار سباهي ، ودون أن يأخذ أجرته هرب السائق خائفا من ليل شتائي مجهول . رغم الغيوم الهاربة في السماء ثمة أنوار خفية في البر المفتوح على الحدود .. لاشجرة تشير لانتهاء الصحراء ولاثمة ثاوية . حتى أرومات الأثل لاتوقف الخلاء الممتد .. ثغاء خراف وكلاب تنبح ... أشباح بعيدة مكفنة بالبياض رغم البرد الذي يعض الأطراف .. ثمة حياة كانت هناك .. نسوة على ظهور المطايا تجول في الأصقاع مثقلة الجانبين بقراب الماء وأكياس الطماطم .. لاشيء يثير الخوف أنا المتمترس بتهريب البشر وقفت على صخرة .. أردت أن أقول كلمات .. مجرد كلمات قبل البدء بكل عملية تهريب واكتشفت أن صوتي مبحوح يشبه صوت الكلاب .
هناك تركنا الوطن .. البارود .. المزابل وجثث الكلاب الميتة . أردف عقيل : كلمات القصائد هي التي تشبه الجثث الميتة وانتابتني نوبة سعال وحشرجة أنزلني على أثرها ( الخليوي)
بالقوة : كيف تريد أن تعبرني الحدود وأنت تخطب كل خمس دقائق . أذعنت نازلا لكن اللغط المنبعث من أفواهنا المخمورة يشي بكتلة ظلام هائلة .. كتلة ثقيلة لو وضعناها على جبل سنام لهشمته إلى كسرات مسحوقة . الريح عرجاء تزمر بشقوق الجبل وتعود القهقرى وتلفح وجوهنا الذابلة .. رائحة الريح خوذ وبنادق قد تفاجئنا في كل لحظة .. الليل الشتوي .. بطانيتي القذرة الرطبة .. شجيرات أثل تنتصب فزعة من ريح البؤس والخوف .. الصمت وذبالات مرتعشة لقناني معممة بالعجين .. أجساد الجينكو تحتضن في رحمها نسوة وأطفال .. وحده كان ضوء البوابة ينتشر في الشوارع القريبة من الفرقة الحزبية لسفوان الريح والفقراء .. تحت البوابة جنود مرقطون يتراقصون كالحباحب .. نبتهل للسماء غيوم البر عاقرة حتى لو أرعدت لاتخيف إلا نفسها ، ثمة نسوة يدرن حول نار تنور ، على مايبدو يكشفنا اللهيب من اليسار وتنين النفط ألأحمر من القفا . قلت لعقيل : يجب أن تنحني كي لا ترانا الشرطة .. أجابني بصوت أجش اغتالته سجائر اللف : أنا قصير القامة وأنت الوحيد الذي يشبه عصا خيزران .. ضحك الخليوي ثم استغرقنا بضحك أرجف الصمت وهزم الخوف .. الخوف النائم في الأعماق .
تقدمنا بضع خطوات . في كل خطوة أتحسس قشعريرة .. عشق غامض للوطن يتحدث الخليوي وعيناه ترفان كجنحي فراشة : وهل هذا الوطن الذي أحلم به في كل ليلة وأنا في بورجيا .. وطن عفن يموت فيه الفنان ويموت الفن .. بالله عليك ياسعيد من يرسم من ؟ التفتنا للخلف بهاجس سري .. تزكم أنوفنا المحمرة من البرد رائحة القمامة وجثث الكلاب الميتة .. هسهسة أوراق تتكسر .. أحجار تتفتت .. كور سود تنحدر على سفوح الجبل .
اجتاحتني رائحة التمرد وغزت الكآبة رأس عقيل المخمور وظل الخليوي فاغر الفم لايفقه من هسيس الأصوات التي خفتت بغتة مخلفة حركة مباغتة لكلب يهرب مخلفا ذيله بين الفخذين . قلت لعقيل : وأنا في ظل إسقاط يحاول طرد الخوف لولم تكن سكران لما جئت معنا .. ليس لك مصلحة في هذا الهرب .. أجابني ببرود (( أريد توديع الخليوي فقط )) تفوهت ببرود يجب أن لاتفكر بالخوف مادام الناس يعبرون على مطايا وقد يكون أهل سفوان هم الذين يحوون الطماطم من مزارع العبدلي ومعنا حمارسباهي . الشرطة والرفاق ورجال الأمن تجدهم الآن في أحضان العاهرات والبارات .. احتج الخليوي : قلت لك لاتخطب وتثرثر . أجابه عقيل هو يعرف نفسه أجبن من ابن آوى لكنه في حالة إحماء وصقل القوى الخفية . ابتسمت أيضا حين نفخت الريح دشداشة عقيل كعباءة نسوة حينها هززت الرأس حانقا : كم مرة قلت لك لاتلبس لباس المستشفى المخطط كحمار الوحش .. أجابني بحشرجة تدل على ضيق نفسي مزمن .. سألبس البطانية .. ألف مرة قلت لك ذلك لكنك حمار وابن حمار .. وكنا على وشك أن نتلاكم بالأيدي كعادتنا في كل ليلة . وقف الخليوي بيننا ثم عاد الصمت ورائحة العرق المخيمة على الأنفاس الغاضبة .. جلسنا في المنخفض .. رائحة عشب بوادر الربيع ونقيق ضفدع وحيد .. أزهار ناتئة بأريج المطر في أسفل المنخفض تنفتح ثقوب واسعة من الظلمة وتلمع ذبالات مطر . عاد اللغط ثانية وطفحت جملة ( الحمار لايخون لأنه حمار ) . رفعت رأسي أتفحص الخلاء الشاسع .. الريح تكنس الأرض بكارات تتهادى ببطء نحو الكويت وأنوار خفية في الصحراء تسمح بالرؤية لعشرات الأمتار رغم الغيوم المركونة في السماء بدون رعد ومطر ... حين يتحدث عقيل تنبعث الرائحة قبل أن يبصق الكلمات .. صدأ العزلة .. صدأ يتشبث برأسي الأشعث لكل منا رائحة الموت والعزلة .. تقرفصنا في المنخفض تتلامس وجوهنا .. نشم أنفاسنا .. الخوف جعلنا نسمع دقات القلب .. قلبي الذي يريد ان يقفز من بين ألأضلاع . وحين أردت تدخين سيجارة وشخطت عود ثقاب بحركة لاإرادية أطفأ الخليوي بكلتا يديه العود والسيجارة وشب بفزع : قد يرانا شرطة الحدود .. أجبته بمرارة : كل الشرطة في العراق لاتوجد إلا في الملابس العسكرية فقط .. وعاد الخليوي يهمس خائفا : الحمار لونه أبيض .. ضحكت بصوت مسموع : وهل توجد شرطة حدود في سفوان .. ثق أنهم تحت البوابة فقط يسلبون القادمين بأسم الجمارك .. انظر إنهم تحت البوابة .. يحرسون أنفسهم والفرقة الحزبية أما خيول الجمارك قد تراها مربوطة بأبواب التنك الصدئة يضاجعون نساء يقتلهن الخوف قبل الجوع .. وما شأنك بلون الحمار أتريده أزرق مثلا .. أتمنى أن يروا لونه الناصع البياض حتى يظنوا إننا من أهل سفوان . وبعد صمت قلت : ياخليوي الخوف ليس هنا وإنما في العبدلي ألا ترى اني سرقت بطانية أبي كي أغطي لونه الأبيض وهمست بود غامض في أذنه : ستصل أقرباءك في الكويت فارسا على حمار أبيض .
الجبل يخيم على رؤوسنا ، يختلط لونه بلون الغيوم .. الجبل يصرخ فينا .. يجب أن نهرب مسرعين .. تزمر أبواق ثلامات المرمر والكلس وثمة كارات سود من الحرمل أراها تكبر اسودادا حين تكنسها الريح وتحف بنا متهادية للمجهول . طعن عقيل توكلنا ( بمجعة ) من عرق سادة .. لاأدري .. لماذا أنظارنا تخترق الفسحة بين الجبل ومزارع الطماطم وتلك الصفائح المليئة بالرمل كحيطان تضم أجسادا نحيفة .. قوة خفية أخرى تعيدنا لوطن الموت والمزابل .. الغربة في وطن الموت .. السجون هي التي تقتلنا فكيف حال الغربة في الخارج .. تفوهت بصوتي البارد الحزين أجلس قرب أمي وأشعر أني غريب عنها فكيف تريدني أن أهرب .. هرّبت العشرات من أبناء الزبير إلى كردستان بشكل عفوي .. بدون خوف لأنني طالب في جامعة السليمانية لكنني لم أفكر في الهرب يوما بل أخاف حتى حين أفكر في هذا وبصوت عال صحت : ياخليوي هل تعرف هذا الشعور .. بعد صمت قلت : الغربة مثل هذه الليلة تنتظر الأرض المطر لكن السماء مسودة وترعد ولكنها لاتمطر . من المفروض أن تدوس أقدامنا على الكمأ لكننا لاندوس إلا على الحصى ، لاتندم البلد حصى وقمامة وستصل ايطاليا ولاتفكر بالعودة أبدا .
نار صفائح الجينكو يرقص لهيبها كالدراويش .. قد تكون قمامة أيضا .. يحرق أهل سفوان أسلاك الصفر المغلف بالبلاستك كي يبقى معدن الصفر نقيا كالذهب هذه خبزتهم .. الكويت ترمي لنا المزابل .. لكنها مزابل نظيفة بالنسبة لنا .. وها نحن نعود للكويت قمامة مصهورة من قبل السلطة .. كائنات معادة .. قمامة متجذرة .
احتبست الكلمات في صدر الخليوي .. تقيأها بنفثة متواصلة : نحن كائنات مستعادة وليس معادة ماهذه الذلة ياسعيد .. ياعقيل ؟
ـ لو عشت الوطن .. السجون الملعونة لعرفت اننا لانخاف السلطة ولاننافق .. ألا ترى حين يقبضون علينا أول من يعدم نحن .. لست أنت .. جدك كان أمير الزبير وبالأموال يخرجونك معززا مثلما أخرجوك الآن بكفالة نحن طبقة ملعونة لاتخرجنا الأموال من السجون وحين نهرب من جحيم الجبهة نعدم .
في غفلة من الزمن اختطف عقيل الزجاجة ورشف منها جرعة سادة وبحنجرته الغليظة : تزحزح أيها البطل فمازال بك الفخر قلت : يابطل ياغضب .. أجابني بنغمة مرحة .. ألا تراه منتصبا بيننا برأسه المعمم والحمار أيضا ونحن نقتعد الأرض . أسكتنا عقيل بالقوة قبل أن يخطب فينا من شعره الذي يجعل القبرات تطير من فوق أرض مزهرة .. قلت له : ألا تدرك ان في الجبل قاعدة جوية وحين يمسك بنا نشطب حتى من السجلات الرسمية .. لم يصمت عقيل .. لاتوجد قوة على الأرض قادرة على إسكاته لكنه جعلنا ننتبه للحمار المنتصب ككائن مرسوم .. وبإيعاز خفي قمنا للحمار واختطف عقيل الزجاجة وبيدي تتدلى البطانية الملونة .
حاولت سحب الحمار من رشمته لكن قوائمه انغرزت في الرمال .. وخزه عقيل بعصا بين كفليه في تلك البقعة .. بؤرة الروث والرائحة النتنة لكن الحمار أوقف أذنيه ولم يحرك ساكنا .. قال عقيل : جئنا بحمار لايشعر بالعار أبدا .. عقب الخليوي : هذا ليس حمار .. ألا ترونه أكبر من الحمار ولونه أبيض وقد يكون بغلا .. أجبته محتجا : منذ رماه سباهي أبو النفط ونحن نسميه حمارا لكن الخليوي هز رأسه : حتى رائحته لاتشبه الحمران .. كيف تجعلني أركب على هذا الجرب والقروح التي تندي سائلا ورديا وأصفر .
ـ ياأخي أمامك ستين إلى سبعين كيلومتر إلى حين وصولك للجهراء .. عاد يقول محتجا : هذا حمار مريض أجرب . أجبته : كلنا مرضى ... الذي يدخل السجون لابد أن يكون كائنا مريضا .. معادا وفيه رائحة لايصلح إلا لكتابة الشعر مثل عقيل أو قصصي وأنت منذ أن جاءوا بك من إيطاليا مجانا ألا ترى فيك رائحة غريبة .
ـ أنا لست معادا بل مستعادا .. وبعد صمت قال لي : ياسعيد أنت عشت مع العربان وتعرف كيف تجبر الحمار إذا طنحر .
ـ والله سأجعله يمشي وأجعلك ثانية تعيش مع تخطيطات باتيز وبوري .
لويت ذيل الحمار بعقصة كمن يريد كسره ولم يأبه الحمار .. قلت لهم هذا حمار لايريد ترك الوطن يشعر بالتيه والضياع في الكويت .. أعني لاتوجد قمامة .
انهال عقيل بعصا على ظهر الحيوان الذي تشبث بالأرض كتمثال وثمة قطرات ملونة تبلل وجوهنا من ذلك السائل الذي يندي من القروح .. أحبط الخليوي وقرفص على الأرض وعيناه تعلقتا بوجهي بالمسامير . قال عقيل ساخرا : هاياعبقري سنصاب بالجرب نحن أيضا ونصبح مثل حمار سباهي .. يرموننا في المزابل .. قلت له :
اخرج بطل العرق .. افتحه ونعقم وجوهنا وأيدينا .. لأنك لو ضربت الحمار بعد ذلك قد ينهق ويفضحنا .. سارع عقيل لفتح الزجاجة وكعادته امتص جرعة سادة .. نفخ في الهواء قائلا : هذا حمار حطم حتى الحديث النبوي ان أقبح الأصوات لصوت الحمير قلت : هذا ليس حديثا .. انه حمار أخرس وأطرش ، وحين هم بشرب جرعة ثانية قفزنا أنا والخليوي على القنينة .. قال : مابالكما أنا فقط أريد أن أقول انه حمار ثوري ووطني ..
للعرق رائحة نفاذة تشربت بأثوابنا ، لمعت في ذهني فكرة ألمعية .. قلت له : امسكا رأسه فقط وأنا أصب في فمه نصف ربع على الأقل وسيهرول مثل الحصان .
وتحت خيمة الإحباط لم يجادلني أحد منهما وإنما قاما طيعين وأمسكا بالرأس الضخم وبيدي اليسرى لويت الرأس على جانب ودفعت القنينة حتى البلعوم وسمعت الزجاجة تبقبق وينقص السائل من عقبها .. ترك عقيل رأس الحمار وأخذ يقفز كالسعدان بنوبة غضب خوف أن يشرب الحمار القنينة كلها ثم قفز على رأسي كالملسوع وسقطنا على الأرض .. يفح بصوت جهوري : هذا العرق أثمن من حمارك هذا كله .. خطم الحمار وأزبد .. ثم أفرج عن أسنان بيض أدهشتنا ببياضها الناصع . في تلك الليلة المظلمة لوى الحمار رأسه عدة ليات ودار حول نفسه مع تجاه عقرب الساعة ثم توقف ونفخ وأعاد الكرة ولكن بخلاف عقرب الساعة . ابتعدنا قليلا وفتحنا له الدائرة كي يدور حول نفسه ونحن في قمة التوتر والفضول وبغتة قفز الحمار وأخذ يهرول قافزا المطبات والصخور فما كان منا إلا أن نلحقه بجري سريع ومخاتل . اختطف عقيل القنينة المفتوحة وهو يفح بلهاث مسموع .. دعنا نسكر مع الحمار حتى نسبقه في الجري . امتص جرعة سادة وانحنى على الأرض وأخذ يمص حصى بحثا عن ملوحة أنا الآخر شربت جرعة .. تحسست حرارتها تصهر جوف الفم وتحوله إلى لون لحم مسلوق وأخذت أمص الحصى بحثا عن ملوحة كمازة بدائية .. وناولت الزجاجة للخليوي وكرع عليها بجرعة جعلتنا ـ أنا وعقيل ـ نتوقف بفضول .. وحين أراد أن يقول شيئا فتح فمه دون أن ينطق بكلمة .. اغتال العرق صوته ..وبهمهمات غريبة وبيديه يشير للحمار الذي ابتعد . عدنا نصل كالخيول ونتبادل النكات ونحن نسابق الحمار المبتعد . دربكة القوائم تمتزج مع لهاث الجري .. في الواقع .. لم أركض بهذه الهمة من قبل . ولا أعرف كم من الوقت انقضى ونحن نلهث مسرعين حتى ان عقيل لم يتمكن من رشف العرق بسبب لهاثه المتسارع .. بدأنا نسعل بصوت مسموع وسمعنا الخليوي يصيح بكلمات مبتورة ابصقوا بلغم الوطن . انتابت عقيل نوبة سعال وحشرجة جلس على أثرها واحتضن الأرض . أسمع الخليوي ينادي : الذي يعض الأرض لن يصل للحضارة .. تركت عقيل يحاول الزحف خلفنا ولحقت بالحمار الهارب وعلى رابية مرتفعة توقف الحمار يرفس أعداءً وهميين .. يدور حول نفسه ويرفس . سمعته يشخر بصوت غريب وحين اقتربت منه بدأ الحمار كائنا عملاقا على التلة .. سيدا أبيض يتربع على الروابي يهز رأسه المستطيل .. ينخر من فمه .. أو أنفه أنا لاأسمع إلا الشخير .. صحت : ياخليوي ادفعه للحفرة كي لاترانا الشرطة لكن قائمتي الحمار الأماميتين انغرزتا في الرمل ثم انقلب على ظهره وقوائمه تجري في الهواء .. وقفنا حوله لاهثين .. ألا تدرك انه لازال يحلم بالهروب . وسرعان ما توقف شخيره .. حاولنا إيقافه على قائمتيه ولكن بدون جدوى .. قلت للخليوي لماذا لانعطيه نصف ربع عرق آخر ...
عاد الإحباط ثانية .. ألا تراه بالكاد يدق قلبه .. حسنا .. سأحرق ذيله وأجعله ثانية كالحصان وفي لحظة احتكاك الكبريت في علبة الثقاب تذكرت ان النور قد يجلب علينا المصاعب . جلسنا حول الحمار متعبين .. لانعرف ماذا نصنع وسمعنا لهاث وسعال عقيل قبل أن نرى جسده .. في تلك اللحظة عرفنا إننا اجتزنا الحدود .. قلت : سبحان الله الأرض خالية لاتوجد شرطة أو أجهزة تنصت .. أعتقد أن كل ذلك دعاية .. كل بلد يحيط نفسه بسور من الدعايات حتى يصدق انه محمي .. أكد الخليوي : والإنسان أيضا . غمرتنا فرحة الانتصار ولفظ الحمار أنفاسه الأخيرة .. تناسيناه وأخذنا بالرقص .. بطبيعتي أحجل على رجل واحدة بإيقاع متناسق مع أصوات فمي الشبيهة بالطبل فيما هز عقيل كتفيه برقص غجري وانطلق صوته يصدح بأغنية بالية فيما حرك الخليوي يديه برقص أوربا الرياضي .. أثار في أعماقنا موجة ضحك هستيرية .. كيف حدث هذا .. السيطرة بعيدة جدا حتى أضواء النيون باتت مخنفسة وحده جبل سنام يتربع على الأرض كسنام جمل أسود من ألف ليلة وليلة .. كان الجبل يركض معنا .. هو نفسه في تلك اللحظة كتلة ضخمة سوداء من الخوف فوقه تكمن القوة الجوية وله شق بحواف كلسية بيض لمعت لفترة وجيزة حين عبر القمر غيمة كبيرة .. في تلك اللحظة رأيت الجبل يفتح فمه ويصرخ بصوت مكبوت وأخرس .. اجتاحني الرعب ثانية .. أنزلت الخلوي مع الرمل المنحدر على انحدار الرابية .. لم يتسنى لنا توديعه غير إني ناديته بصوت مسموع : احذر أضواء مزارع العبدلي قد يتراءى لك الضوء المنقذ في متاهة البر هو الخلاص من هذا العذاب .. لاأريدك أن تفاجأ بعيون مشدودة وأيدي مشدودة للخلف . وبصوت أعلى : حين يعودون بك إلى هنا تعدم .. لامنقذ .. لاخلاص لكل عراقي لا في الكويت ولا في العالم كله . لكن الخليوي ابتعد .. صار ظلا أسودا في البر .. كرة صغيرة متلاشية ...

قال عقيل : كيف نعود .. أجبته : نتبع بأنوفنا رائحة المزابل وبارود قنابل إيران .. وشل الذي صحا من السكر فجأة قال عقيل : الرائحة فينا .. غسلنا أيدينا ووجوهنا بأعظم انجازات الحضارة البابلية وبيده أخذ يدلي ببطل العرق بحركة بندوليه . قلت له : نتبع الهوام والبق ونصل للوطن .
تذكرنا سوية لاوجود للبعوض في الصحراء .. جلسنا متعبين ومازلنا نلهث ودقات القلب تطبل بين الأضلاع ...
شربنا مابقي في الزجاجة .. رشفة رشفة .. وثمة لغط ينبعث من فمي ..فمه ، نتحدث عن طيور بأجنحة تطير بعيدا ونندب حظ الزرزور الذي يترك العالم في كل شتاء ويأتينا . عن حمير تجتاز الحدود بدون جوازات وبأطراف أعيننا نرقب أضواء سيطرة سفوان البعيدة والجبل المخيم على كل الاتجاهات . وقفز السؤال بيننا كالرعب ..!.. كيف نعود للوطن . تجشأ عقيل ونطق بحكمة شهيرة : نحن بحاجة لحمار أفضل من هذا .. حمار أكثر استحمارا كي نقنعه بالعودة .. وبعد هنيهة تمكنت من مشاركته آخر رشفة من بطل العرق السادة وتفوهت بصوت يلثغ من شدة السكر : هل تعتقد ان هناك حمارا واحدا في العالم حين يهرب من العراق يفكر بالعودة .. أنا وأنت فقط . التقت نظراتنا ولأول مرة نتفق على شيء خفي في الأعماق .. قال : أحدنا يجب أن يكون حمارا . واتكأ على الرمل بصعوبة واتجه للحمار وانتزع الحبال التي كانت تشنقه بقوة ونفخ بحزن : سأصنع رشمة على رأسك ورقبتك لأنك طويل القامة . وحين أسحب الحبال ستنحني أنت .. بالتأكيد .. كحمار حقيقي ونضع البطانية على رأسك والحبال أيضا . لاتخف أنا أمسك البطانية من الذيل وأنت تمسكها من الرأس وهكذا نعود للوطن . حاولت أن أقلد الحمار بالرفس لكننا سقطنا على الأرض مخمورين .. أعدنا الكرة وبعد عدة هرولات اقترحت أن أركض خببا .. نجحت الخطة .. نجحت الخطة .. وحده ظل .. حمار سباهي .. أبيض .. ناصع البياض فوق الرابية .
ــــــــــــــــــــــــــــــ
مرت خمس وعشرون عاما دون أن أعرف عن ( الخليوي ) شيء وبالصدفة اطلعت على رسالة أرسلها الفنان ( شوان ) إلى أحد أصدقائه في قضاء الزبير يقول فيها : مازال الخليوي يعيش في السعودية ويرسم أجسادا نحيفة يطلق عليها الأجساد الحاشوشية وحمير بيض مع علمي ندرة الحمير البيض في العراق .




#سعيد_حاشوش (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295


المزيد.....




- تابع HD. مسلسل الطائر الرفراف الحلقه 67 مترجمة للعربية وجمي ...
- -حالة توتر وجو مشحون- يخيم على مهرجان الفيلم العربي في برلين ...
- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية
- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعيد حاشوش - اليحامير