أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمد الحداد - الليبرالية ...الجزء الثالث فصل الدين عن الدولة















المزيد.....


الليبرالية ...الجزء الثالث فصل الدين عن الدولة


محمد الحداد

الحوار المتمدن-العدد: 2536 - 2009 / 1 / 24 - 09:03
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


كما قلت بمقال سابق بأني مقل بكتاباتي ، ولكن يبدوا لي بأني سأكون مجبرا على التخلي عنها ولو مؤقتا ، وهذا الترك راجع لأسباب ، منها ما ذكرته بأني أكتب عندما أثار بموضوع ما ، ولكن كذلك للوقت المتاح لي الآن بسبب بقائي بالبيت لمرضي ، وأني لأرجوا أن أستغل وقتي بشيء مفيد ، ألا وهو الكتابة ، علما أنها تعطيني إحساس جميل عندما أنتهي من مقالي وأراه قد وجد طريقه للنشر ، ولكني قبلها أكون بحالة من التوتر والشد العصبي لاحتمال وقوعي بخطأ لغوي أو فكري ، يجرني إلى مصائب ومتاعب لا تحمد عقباها .
موضوعي هذا اليوم هو فصل الدين عن الدولة بمنظور ليبرالي تحرري ، قد لا يوافقني الكثير على أسلوبي ، ولكني التزم منهجا بعدم الاستشهاد بنصوص دينية لإثبات أو دحض أي فكرة سياسية أو مجتمعية ، والسبب لذلك كي يكون بحثي صالحا لمن هو بأي دين كان ، مسلما أم مسيحي أم يهودي أم صابئي أم لا ديني ، كما هو يهدف لبناء دولة حداثة تضع الدين بموقعه كخيار فردي ، ولا تقحمه بالسياسة أو الدولة عموما ، ولربما لن يعجب مقالي هذا الكثيرين ، وقد يتعرض للنقد من كل الاتجاهات ، وهذا ما أتوقعه ، ولكن رجائي أن يكون نقدا بناءً ، يستخدم المفردة اللائقة بنا جميعا حتى وان اختلفنا حد النخاع .
فمصطلح فصل الدين عن الدولة أستخدم كثيرا ، بالأخص ممن يدافعون عن الحداثة ، أو ممن يسمون بالعلمانيين أو الليبراليين ، كما أستخدم من معارضيهم ، كأسلوب للطعن بالعلمانية والليبرالية الديمقراطية والحداثة ، ولأننا نعلم مدى ترسخ الدين بالمجتمع العربي عامة ، حتى وإن كان بشكل صوري ظاهري وغير حقيقي لا يرضى عليه رجال الدين أنفسهم ، أو كما يسمى تدين العامة ، أو تدين العجائز ، لأن أكثره إيمان خاطئ ، مع تحريف كبير بفهم النص الديني ، و خرافات كثيرة ، وتطبيق فاشل واضح للعيان ، ولكنهم نفس العامة المتدينة سطحيا وظاهريا سرعان ما يثارون بأقل زوبعة في فنجان ، أو لمقالة هنا وأخرى هناك تحاول أصلاح ديني ، أو تنتقد تصور راسخ خاطئ لدى العامة ، أو لصورة فنية أو لعمل فني يعتبرونه قد تجاوز الخطوط الحمراء ، وهكذا دواليك .
وأني لواجد خطأ صيغي بالمقولة ، أو لنسمها المصطلح ، قد تتفقون معي ، وقد تختلفون ، ولكني أرجوا أن أصيب بمقالي هذا ، وإن أخطأت ، فرجائي التصويب بلا تجريح ، كما هو رأي الشخصي وهو يحتمل الخطأ أكثر منه الصواب .
لنرى أولا ما هو الدين ، وما هي الدولة ، ليكون بعدها مبحثنا عن إمكانية الفصل بينهما من عدمه .
الدين:
هو رسالة إلهية في الأديان التوحيدية أو كهنوتية بشرية في الأديان الوضعية هدفها إيجاد و تنظيم علاقة الفرد مع الإله في الأديان التوحيدية أو مجموعة الآلهة في الأديان غير التوحيدية عبر عبادات وطقوس تعبدية معينة خاصة بذلك الدين ، وكذلك تنظيم العلاقات المجتمعية بين أفراد المجتمع المتعبد بذلك الدين وتحديد الحقوق والواجبات بين أفراده .
الدين هو العقيدة التي يؤمن بها الفرد أو مجموعة من الأفراد أو المجتمع عامة ، والتي تحاول أن تجيب على أسئلة قديمة متجددة لدى الإنسان حول الخالق إن كان واحدا في الأديان التوحيدية ، أو مجموعة الآلهة عند متعددي الآلهة ، وعن عملية الخلق بذاتها ، للإنسان أو باقي الكائنات ، بل والكون وبما يحويه ، والحكمة من كل ذلك الخلق .
أي عن السبب والسببية ، والتي تترتب عليها مجموعة من القيم الأخلاقية ، والتي تؤدي إلى مجموعة من الفعاليات التطبيقية الإيمانية .
من التعريف ومن دراسة تأريخ البشرية نرى أن الدين هو ظاهرة بشرية خالصة ، فلم نعرف بأديان لحيوان أو نبات ، وقد وجد منذ عصور سحيقة بالتأريخ ، قبل أن توجد الفلسفة أو العلوم بمختلف أنواعها الإنسانية أو الطبيعية ، ويعود السبب حسب تفسير المتدينين أن الدين وجد من يوم وجود البشر بالحالة الإنسانية ، أو من وقت تخوف الإنسان بعصور ما قبل التأريخ من قوى كثيرة أثرت بحياته حسب تفسير كثيرين ممن هم خارج المنظومة الدينية .
تغيرت وتطورت أهداف الدين ودوره بحياة الفرد والمجتمع بتغير وتطور فكر الإنسان وأدواته المعرفية ، فالدين عند الإنسان البدائي كان يعطيه الاطمئنان والأمان من مجمل الحوادث الطبيعية التي تحدث أمامه من برق ورعد ومطر ورياح وزلازل وشروق وغروب للشمس والكواكب وغيرها ، كما انه يجيب له عن سؤاله الأزلي عن الخلق والوجود والعدم والموت والحياة و الحياة الأخرى وغيرها من التساؤلات التي ما انفك الإنسان من طرحها على نفسه وعلى غيره .
الدين حاول ويحاول الإجابة على الكثير منها ، كما انه استعمل الأسئلة المطروحة لخلق عوالم خيالية عند المتلقي تجعله يسبر بها ، وأعطته أدوات وصيغ توسلية تعبدية لمحاولة أرضاء نوازعه ورغباته النفسية .
من أهم أهداف الدين :
1. بناء مجتمع موحد.
2. تحديد العلاقات وشكلها بين الأفراد داخل المجتمع.
3. تحديد الحقوق لكل فرد.
4. تحديد الواجبات والطقوس الدينية الواجب إتباعها من قبل الأفراد أو المجتمع ككل تجاه الإله أو مجموعة الآلهة .
5. تحديد الواجبات على كل فرد تجاه الأفراد الآخرين وتجاه المجتمع ككل.
6. تنظيم وتحديد كيفية حماية المجتمع لنفسه تحت ظرف اعتداء مثلا.

مم يتكون الدين :
كل الأديان بالعموم إن كانت توحيدية أم لم تكن فإنها تجمعها خصائص معينة للتفريق بينها وبين أي حركة مجتمعية إصلاحية أخرى، هذه الخصائص يمكن تقسيمها وتوزيعها على ثلاث مجاميع رئيسية يمكن تسميتها بالمنظومات وهي :
1. المنظومة العقائدية .
2. منظومة القيم والأخلاق .
3. المنظومة التشريعية التطبيقية .


الأديان التوحيدية :
هي الأديان التي تدعوا لعبادة اله واحد لا غير ، وهي تنقسم بدورها إلى نوعين رئيسيين .
أ‌. الأديان التوحيدية الرسالية والتي تسمى سماوية ، وأعتقد أن تسميتها إلهية يكون أصح وأقرب للمصداقية ، لأن الإله لا يسكن بالسماء التي أوجدها هو نفسه:
وهي الأديان الرئيسية الثلاث المعروفة الآن وهي :
اليهودية .
المسيحية .
الإسلام .
إضافة لمجموعة من الأديان التوحيدية التي سبقت اليهودية والتي حملها أنبياء كثيرون لمجتمعاتهم الصغيرة نوعا ما ، ولم تصلنا صورة واضحة بالكامل عنها لمحدوديتها بمنطقة معينة ولعدم انتشارها ، ولقلة المصادر حولها .

ب. الأديان التوحيدية غير الرسالية أو غير السماوية :
وهي أديان سعى صاحب سلطة سياسية كأن يكون حاكم أو ملك أو فرعون أو كاهن من بسط عبادة اله معين وإلغاء عبادة آلهة أخرى ، أو حصرها باله واحد دون غيره ، مثال ذلك ما قام به فرعون مصر توت عنخ آمون من فرض عبادة آلهة الشمس واعتبارها الإله الوحيد ، وما حصل في بلاد ما بين النهرين زمن الدويلات عند فرض ملك معين عبادة اله مدينته عند سيطرته على مدينة أخرى .
أكثر هذه الديانات انقرضت وانتهت ولم يعد لها وجود الآن إلا ما ندر .

الأديان غير التوحيدية :
وهي الأديان التي تؤمن بأكثر من اله يقومون بتسيير العملية الخلقية وأمور الحياة الأخرى ، وتسمى أيضا بالأديان الشركية . فهناك اله للشمس وآخر للقمر وثالث للرياح ورابع للمطر وهكذا .

1. منظومة عقائدية :
وهي مجموعة من القيم والعقائد الإيمانية التي يتوجب على الفرد والجماعة الاعتقاد والإيمان بها حتى يعتبر من أتباع ذلك الدين .
فالمسلم عليه الإيمان باله واحد ، ورسول ، ويوم الحساب ، والحياة الأخرى ، وغيرها من المسلمات الإيمانية العقائدية ، قد تختلف من أصحاب مذهب لآخر بتقديم مفردة إيمانية على أخرى ، وقد تتفق ، وكذلك للمسيحي عليه الإيمان بالثالوث المقدس ، والبهائي عليه الإيمان ببهاء الدين ، وألبابي عليه الإيمان بالباب الأعظم ، وهكذا لجميع الأديان والمعتقدات .
تختلف الأديان فيما بينها داخل المنظومة العقائدية على حسب كون الدين توحيدي أم لا ، منزل من اله واحد أم وضعي تعددي ، مما يؤدي إلى اختلافات داخل المنظومة التشريعية ، ولكن بالعموم فأننا نجد تقريبا كل الأديان وضعية أم إلهية ، توحيدية أم شركية تركز كثيرا على منظومة القيم وهناك فوارق قليلة داخلها سنراها عند أخذ رؤية فاحصة لها .


أ. المنظومة العقائدية في الأديان التوحيدية :
1. الإيمان باله واحد .
2. الإيمان بيوم الحساب .
3. الإيمان بالحياة الأخرى .
4. الإيمان بنبي أو رسول الذي حمل ذلك الدين للناس .
5. الإيمان بالدين أو الأديان التي تسبق ، وبأن الدين الجديد ناسخ له .
6. عدم الاعتراف بالدين الذي يأتي بعده .
7. الإيمان بالثواب والعقاب .

ب. المنظومة العقائدية في الأديان غير التوحيدية :
1. الإيمان بإله رئيسي يرأس مجمع الإلهة ويكون كبيرهم .
2. الإيمان بمجموعة من الإلهة لكل منها اختصاص وعمل معين .
3. الإيمان بحياة أخرى بعد الموت قد تكون بنفس الشكل أو بشكل حيوان آخر بالتناسخ .
4. الإيمان بالثواب والعقاب .

نرى أن الاختلافات داخل المنظومة العقائدية تؤدي إلى اختلافات داخل منظومة الشرائع ، بينما عند رؤيتنا لمنظومة القيم فإننا نجد كل الأديان تقريبا توحيدية أم لا ، تركز على قيم مشتركة ، أو قريبة من بعضها البعض .

2. منظومة أخلاقية :
وهي مجموعة من القيم الأخلاقية التي وجب على متبع الدين التحلي بها ، مثل الصدق ، الأمانة ، الشرف ، عدم الاعتداء على الغير ، وغيرها كثير يمكن أن تملأ كتبا بشرحها وتفصيلها .
وكذلك نرى أن مجموعة كبيرة من الأديان ، منها ما يسمى سماويا ، بالرغم من تحفظي على هذه الكلمة ، ولكن سأتركها لمبحث آخر ، ومنها ما يسمى أديان وضعية أو غير سماوية ، تتفق على قيم أخلاقية كثيرة ، فمثلا لم أجد على حسب علمي أن دينا أو معتقدا دينيا يشجع معتنقيه على السرقة ، لا أعلم إن كان فيكم من يعرف بكذا دين أو معتقد ، ولكن عموما جميع الأديان باختلاف مسمياتها تحث على الأخلاق الحميدة .

3. منظومة تشريعية تطبيقية :
وهي مجموعة من الأعمال والأفعال التي يمارسها صاحب الدين ليعبر من خلالها على انتمائه لذلك الدين ، وهذه المنظومة تتكون من شعائر تعبدية ، تتبعها أو تسير بجنبها تطبيقات أخلاقية للمنظومة الثانية ، فكأن تكون الشعائر التعبدية كصلاة وصيام عند المسلم ، أو التعميد عند المسيحي ، أو الانغماس بالماء عند الصابئة .

مما نرى فأن الدين موجود بالمجتمع ، وقلما بل نادرا ما تجد مجتمعا بشريا ، حاضرا أم بالماضي ، حتى بزمن أهل الكهوف ، إلا وعنده درجة إيمانية معينة ، بدين أو معتقد معين ، فمنهم من آمن بالحيوان ، وآخر بقوى طبيعية لم يفهم مغزاها و كيفية حدوثها فخاف منها وعبدها .
قد نستهزئ بهم وبعباداتهم نحن الآن ، وقد ننعتهم بالكفر أو الهرطقة ، ولكن أيا كان رأينا بهم ، فهم هكذا ، ما يشغلنا في مبحثنا هذا من الناحية السياسية هو مدى التزامهم بالمنظومة الثانية والثالثة ، لأنها هي المؤثرة المباشرة بالتطبيق الفعلي البشري الحياتي اليومي ، بالرغم من أن المنظومة الأولى ، وصوابها من خطأها قد يؤدي لمشاكل سياسية أن نوقشت علنيا ، ووصل الدفاع عنها إلى درجة الاقتتال ، والتأريخ حافل بالحروب الدينية الكثيرة .
كما أنها هي ، أي المنظومة الأولى ، من أدت لوجود المنظومتين اللاحقتين ، ففساد الأولى أو الفهم الخاطئ لها قد يؤدي إلى فساد الثانية والثالثة ، كحالة بن لادن مثلا .
وان نظرنا للأمر من ناحية الدين ورجل الدين ، فطبعا ستختلف الأولويات ، لأنه حينها سيقدم المنظومة الأولى العقائدية ، أيا كان رجل الدين هذا ، ويتبع أي دين ، لأن الأولوية عنده هي الدرجة الإيمانية ، ومدى صحتها ومطابقتها للنص الديني حسب تفسيره .
بينما ما يهم الدولة الحديثة العصرية في زمن الحداثة ، هي مدى التزام الأفراد والمجتمع بمنظومة الأخلاق الإيجابية للمجتمع ، ومدى تطبيقهم للمنظومة الأخلاقية دون العقائدية والتعبدية في المجتمع ، أي المنظومتان الثانية والثالثة .
لنأتي للدولة ، كما عرفت الدولة لدى أكثر الفلاسفة وعلماء الاجتماع بأنها تتكون من :
• أرض :
فلا يمكن أن تكون هناك دولة بدون أرض حقيقية يمكن إيجادها فيها ، فلا يمكن أن تجد دولة بالخيال أو على الورق أو على القمر .
• شعب :
وهو مجموعة بشرية ، قد تكون متجانسة وتتحدث بلغة واحدة ، وقد تكون مجموعات متفرقة ، ولكننا نحتاج للبشر حتى نكّون الدولة ، فلا يمكن تكوين الدولة من الحيوان فقط ، أو دولة نبات ، أو حجر .
• الحكومة :
وهي مجموعة من الناس تأخذ على عاتقها حكم المجموعة الأكبر ، أي حكم الشعب .

إذن الدولة هي ، أرض وشعب وسلطة أو حكومة تمارس سلطتها على الشعب الساكن بهذه الأرض ، وبما أن هذا الشعب له معتقد ديني أو دين ، إذن بالضرورة وبالمنطق لا يمكن فصل الدين الذي يعتقد به الشعب عن الدولة ، إلا اللهّم بطرد الشعب خارج الدولة ، وحينها تنهار الدولة لعدم وجود شعب لتمارس الحكومة السلطة عليه بأرض الدولة .
لذا للخروج من هذا المأزق هو بتغيير المصطلح ، وليكن فصل الدين عن السلطة ، أي فصل تأثير الدين على قرارات السلطة .
وهذا ما تطالب به الليبرالية ، فالليبرالية تبغي تحرير الإنسان من تسلط رجل الدين على السلطة ، لا أن يترك الفرد دينه ليكون لا ديني ، فالفرد حر بخياره مهما كان هذا الخيار ، تمسكا بالدين ، أم تاركا له ، فلا تعارض بين الليبرالية وبين أن يكون الإنسان متدين ، بل العكس ، لأن الفرد المتدين يستوجب عليه حتما أن يمارس قيما أخلاقية محمودة وفاعلة في المجتمع ، وهذا ما تريده الليبرالية ، لكنها لا تريد هذا المتدين أن يفرض آراءه وأفكاره على الآخرين ، أيا كان نوعية الفرض ، معنوي أم جسدي .
لأنه لا يمكن أن تطلب الليبرالية الحرية للفرد بإشباع رغباته من جهة ، ثم تأتي لتمنعه من ممارسة شعائره الدينية من جهة ثانية ، ولكن الحد عند الليبرالية هو من تسلط الدين الذي ينتمي إليه هذا الفرد على السلطة السياسية ، وبالتالي جبره للآخرين على إتباع ما هو مقتنع به ، والذي لربما يصطدم بقناعات الآخرين ورغباتهم وممارستهم لحريتهم .
وأكبر دليل ناصع أمامنا هو حركة حماس في غزة ، فبرغبة حماس بتأسيس الدولة الدينية ، وباستغلالها للدين كمعتقد لبناء دولة حداثة ، تقع حماس بتناقضات عقائدية وسياسية تطبيقية كثيرة لا حصر لها ، فدولة الحداثة تفصل الدين عن السلطة كما قلنا ، بينما هم وضعوا الدين فوق السلطة ، ودولة الحداثة تؤمن بمنظومة قيم تختلف عن منظومة القيم الأخلاقية الدينية .
فأي مذهب ستأخذه الدولة الدينية هذه الذي تريدها حماس ، أهو حسب أبن تيمية والأصولية الوهابية ، أم حسب الشيعة الاثنا عشرية ، أم حسب الطائفة الإسماعيلية ، فكل منهم راضٍ بما لديه ، ويعتبر نفسه هو الأصح والأفضل وغيره على الضلال .
ثم أن الدين الواحد يتشعب إلى مذاهب وطوائف شتى ، قد تختلف ما بينها حتى لتظن أنها لا تنتمي لنفس الدين ، بل تصل درجة التقاتل بينها إلى درجات همجية جدا ، وما تقاتل الأحزاب الدينية في حرب لبنان إلا مثال قريب ، كذا تقاتل الصدريين مع المجلس الأعلى الإسلامي في العراق وكلاهما من مذهب واحد ، إلا دليل ناصع آخر على فساد إقحام الدين بالسياسة ، فكيف ويكون الدين ورجاله هو السلطة الحاكمة .

ثم هناك مشكلة عويصة لدينا باستخدام المصطلح ، وتعريف دلالاته المعرفية تبعا للخلفية الثقافية والمرجعية الدينية لمستخدم المصطلح أو المنظر وللمتعامل به ، وهذه المشكلة والهوة تكبر وتتسع بين المنظومة الدينية والليبرالية أو الحداثة .
فمثلا مفردة الحرية ، فالحرية عند المسلمين عموما تقف عند حدود كثيرة لا حصر لها ، وربما فقط عند بعض المفكرين التنويريين لها حدود أعلى من العامة ، ومجال التحرك ضمنها أوسع مدى وأرحب ، ولكنها كذلك مختلفة عنها في الفكر الليبرالي الحديث ، فمثلا لن يقبل أي مفكر إسلامي بالحرية الجنسية الكاملة كحرية فردية بحتة محترمة وغير منقوصة ، ولكنه يتبنى مثلا الحرية الفكرية لأنها تناسبه وتسهل ممارسته للكتابة لما يبغي نشره من فكر إسلامي بالمجتمع ، ولكن كذلك تتوقف عنده الحرية الفكرية إن حاولت المساس بما هو مقدس عنده ، ليس بالذم أو النعت البذيء فقط ، ولكن مجرد نقاش مسلمات مقدسة بنظره يعتبر خروج وتجاوز خطير جدا يجب التصدي له .
بينما الليبرالية تترك الباب مفتوحا للحرية الفردية ، والقيد الوحيد الذي تضعه أمام حرية الفرد عندما تتعدى على حرية الآخرين ، ليس أكثر ، لذا لا ترى هناك شيء أسمه مقدس في الليبرالية ، فما مقدس عندها إن أردنا إقحام مفردة المقدس داخل الفكر الليبرالي ، فسيكون حتما الفرد ، أي الإنسان وحريته .
هذا التناقض الفكري ، والمؤدي إلى تناقض تطبيقي ، يجعلنا أمام معضلة جديدة ، وهي تعريف المصطلح أو المفردة ، وما تعنيه لدينا ، وبما أننا مختلفين في كل شيء تقريبا ، ولم نتفق على أمر إلا نادرا ، لذا لا أرى بمنظوري القريب أي توافق ولو بسيط بين المفكرين ، وبالأخص الإسلاميين والليبراليين على تعريف محدد وصريح لمفردة بعينها ، وتحديد مداها ، وأفق تطبيقها .
من نظرة عامة لدولة الحداثة ، نرى تصادمها مع الدين بتدخله بالسياسة ، ولأسباب كثيرة ، منها :
1. تفسيرات مختلفة داخل الدين الواحد لنص ديني واحد ، فنرى مثلا بين علماء السنة اختلافات واضحة كثيرة ، وكذا الأمر بين علماء الشيعة .
2. تعدد المذاهب داخل الدين الواحد ، فمن شيعة وسنة عند المسلمين ، إلى انقسامات اصغر داخل المذهب ، كذا عند المسيحيين من كاثوليك إلى أقباط إلى سريان وغيره كثير .
3. تعدد الأديان ، فلأي دين ستكون له الأحقية أن يكون بالأسبقية ، وأن يتكفل بإنشاء الدولة الدينية ، أو أن تحكم الناس ، فهل نتبع صناديق الاقتراع لاختيار الدين الأسبق أو المؤهل للريادة ، أم نسير مع الأكثرية الشعبية ، وما تنتخبه ، ثم من الضامن أن لا تكون تجاوزات وأضرار بأتباع الأديان الأخرى .
4. تأريخ طويل من الصراعات بين أتباع الدين الواحد ، كذا بين باقي الأديان والطوائف ، كما أننا نرى أن الشق يتسع بين الطوائف ، فكيف هو الحال بين الأديان .
5. اختلاف منطلق التفكير بين الحداثة والدولة الدينية ، فالدين ينطلق من محورية الخالق أو الإله ، وهي تتمحور عموما حول التكاليف التي تلزم الإنسان تجاه الخالق .
فحقوق الإنسان مثلا وفق الدين لا تعتبر شيئا نابعا من ذات الإنسان ، بل هي حقوق معطاة من الخالق .
بينما هي تنطلق من محورية الإنسان في الليبرالية الديمقراطية ، وتعتبره صاحب حق طبيعي ذاتي تأتى من دراسة الطبيعة البشرية وتركيبتها ، من غرائز وعقل وشعور ، لذا تدافع عن الإنسان لإشباع رغباته والتعبير عن طبيعته بالكامل .
بسبب هذا التناقض ، نرى التصادم الحاصل بين المنظومة الدينية المسيطرة على مجتمعاتنا ، حتى ولو كانت شكلية وسطحية ، أمام كل محاولات التحديث الليبرالي .
أن ما يبعث على الأسى بمجتمعاتنا هو أنه كلما تمسكنا بالتفسيرات القديمة للدين وللنص الديني ، كلما اتسعت الهوة بينها وبين الواقع اليومي المعاش ، لذا نرى مثلا المسلم البسيط المتدين يرفض تماما الحداثة والليبرالية الديمقراطية ، بشكل إن لم يكن قاطعا ، فقريبا منه .
وهذا ما يؤدي إلى أن الجمع الأكبر من أفراد مجتمعاتنا والتي تصل نسبة الأمية لمستويات عالية جدا فيه ، والذين يعتبرون التفسير القديم للدين مقدس ووحيد كقداسة النص الديني ، طبعا هكذا مجتمع سيرفض كل قيم الحداثة ، لأنه أساسا يرفض أي تفسير ولو مغاير ببساطة للتفسير القديم المقدس عنده ، فكيف بقيم تحاول تحجيم وتقليص دور الدين وتفسيراته .
أن الإصلاح في مجال الفكر والسياسة متلازم ، فلو صلح أحدهما يؤدي بالضرورة لصلاح الآخر ، ولو انحط وتراجع احدهما سيؤدي إلى تخلف الآخر أيضا .
مثال آخر لتصادم تفسير النص الديني مع الحداثة ، فالتفسير الديني النمطي لا يساوي بين المسلم وغير المسلم في الحقوق المدنية ، بل يكفي أن يميزه بإطلاق تسمية أهل الذمة ، وهناك من سينبري حتما للدفاع عن المفردة ، بل ولربما يعطي لغير المسلم حقوقا أكثر من المسلم حسب تفسيره وفهمه للنص الديني .
ولكن حسب الليبرالية الديمقراطية التي تساوي بين الإفراد دون النظر لمعتقداتهم ، فمبدأ المواطنة والمساواة بالحقوق والواجبات لا علاقة لها بدين الفرد ، بل حتى وان كان هذا الفرد من اللادينيين ، فمجرد إطلاق تسمية أهل الذمة يعتبر تمييزا عنصريا يحاسب عليه قانونا بدولة الحداثة والمواطنة .
أن الليبرالية الديمقراطية تتطلب بناء عنصر المواطنة ، أي أن يكون ولاء الفرد لوطنه ، بينما وفق الضوابط الشرعية الدينية القديمة ، فأنها ستؤدي إلى ازدواجية بالولاء ، حيث يتحتم على المسلم أو المتدين عموما طاعة مرجعيته الدينية أينما كان مكانها ، كأن يكون ببلد آخر ، مثل بعض الشيعة في البحرين أو العراق ولبنان ، حيث ولائهم لخامنئي في إيران أكثر أحيانا من ولائهم لبلدهم الذي يعيشون به وبالتالي سيكون للفرد أكثر من ولاء ، واحد لوطنه ، وآخر لمرجعيته ، وهذا ينافي مبدأ المواطنة بدولة الحداثة .
كما نرى العديد من المراجع الدينية ، وبالأخص الأصولية منها ، تعتبر المواطنة بدعة محرمة ، تؤدي إلى إنكار دور الدين في تصريف شؤون المجتمع ، لأن مبدأ المواطنة يحجم ويقلل من ولاء الفرد لرجل الدين .
فالمرجعية الدينية الكلاسيكية تعتبر الرابطة الإيمانية العقائدية هي الرابطة الوحيدة والمهمة التي ينص عليها المشرع الإلهي حسب تفسيرها ، بينما الليبرالية الديمقراطية تعتبر العقد الاجتماعي أساس بناء المواطنة .
لذا كان من الواجب فصل الدين عن الدولة ، أو عن السلطة ، بمعنى اقتصار المرجعية الدينية على تعزيز القيم والعقيدة والأخلاق ، دون التحكم اليومي بمفاصل الحياة .
الخلاف أمر طبيعي بالحياة ، وخلاف الأفكار من أرقى الخلافات ما دام لا يخرج عن أطره ويتحول إلى صراع دموي ، وهي سمة من سمات المجتمع البشري ، وهي صفة صحية تؤدي لتطور الأفكار ، ولكن إن تعمق الخلاف فهو مشكلة ، لأنه بدلا أن يكون قوة دافعة للأمام ، يصبح قوة ساحبة للوراء ، ومهبطة للعزائم ، ومؤدية إلى التأزم والتقوقع .



#محمد_الحداد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الشعب في غزة بين كماشتي مٌجرِمَي الحرب ... إسرائيل وحماس
- غزة ... الضفة ... وصراع السلطة
- الماسونية
- نموذج جديد من أجل بناء الدولة لمواطني العراق
- الإستبداد الشرقي الضعيف


المزيد.....




- مؤلف -آيات شيطانية- سلمان رشدي يكشف لـCNN عن منام رآه قبل مه ...
- -أهل واحة الضباب-..ما حكاية سكان هذه المحمية المنعزلة بمصر؟ ...
- يخت فائق غائص..شركة تطمح لبناء مخبأ الأحلام لأصحاب المليارات ...
- سيناريو المستقبل: 61 مليار دولار لدفن الجيش الأوكراني
- سيف المنشطات مسلط على عنق الصين
- أوكرانيا تخسر جيلا كاملا بلا رجعة
- البابا: السلام عبر التفاوض أفضل من حرب بلا نهاية
- قيادي في -حماس- يعرب عن استعداد الحركة للتخلي عن السلاح بشرو ...
- ترامب يتقدم على بايدن في الولايات الحاسمة
- رجل صيني مشلول يتمكن من كتابة الحروف الهيروغليفية باستخدام غ ...


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمد الحداد - الليبرالية ...الجزء الثالث فصل الدين عن الدولة