أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - فؤاد النمري - إلى أين ينعطف العالم اليوم ؟















المزيد.....


إلى أين ينعطف العالم اليوم ؟


فؤاد النمري

الحوار المتمدن-العدد: 2513 - 2009 / 1 / 1 - 06:31
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


في الثلاثين من أكتوبر الماضي كتبت تحت عنوان (الأزمة المالية الماثلة ليست أزمة الرأسمالية) مؤكداً أن الإقتصاد الإستهلاكي أو الأحرى الانحطاط الاستهلاكي (consumptive deterioration) قد استغرق دورة اقتصادية كاملة ومدتها 33 عاماً [1975 ـ 2008] وهي كل عمره ولن يستطيع أن يبقى على قيد الحياة لأي أمد أطول . لكن السؤال المصيري في هذا السياق هو .. ماذا بعد ؟ أو إلى أين ينعطف العالم اليوم ؟ ولما لم أجد أية إجابة شافية ووافية على هذا السؤال المصيري، وهو أخطر سؤال تواجهه البشرية عبر تاريخها الطويل، وإزّاء الحقيقة الثابتة التي تتجاوز كل العقبات أمامها والتي تقول بأن التاريخ لا يمكن أن يتوقف على طريق التطور، فإن قدراتي التحليلية المحدودة عبر المنهج الماركسي الكلي القدرة، المتمثل بالمادية الديالكتيكية والمادية التاريخية، لم تؤهلني لأن أجد مساقاً آخر غير مواجهة نووية مفتوحة بين الطبقة الوسطى الروسية التي قوضت النظام الإشتراكي، من حهة، ونظيرتها الأميركية التي قوضت النظام الرأسمالي، من جهة أخرى، مواجهة تفني الحضارة العالمية الماثلة اليوم وتعيد البشرية إلى عهود الظلمة السحيقة . ولن يكون ذلك غريباً ومجافياً للمنطق، فالطبقتان الوسطيان، السوفياتية والأميركية، وقد قيّض لهما أن يحرفا مسار التطور السليم السالك للعالم لن تتخليا عن مغامرتهما الهدّامة والمصيرية بالنسبة إليهما قبل الوصول إلى المواجهة النووية المفتوحة . ولكي أساعد من يتطوع لنقض مثل هذه الرؤية التشاؤمية، يترتب عليّ أن أضيء على القوى الفاعلة في نبض التاريخ قيد الإنعطاف عند هذا المفصل الغريب حقاً والاستثنائي تماماً ألا وهي قوى الإنتاج المتسيّدة عالمياً والتي لم يفلح أي من المهتمين حتى اليوم بتشخيص ما اعتراها من وهن وتراجع لا شفاء منهما إلا بعد محو الطبقة الوسطى وهو ما يبدو مستحيلاً في الأفق المنظور، آخذين في الاعتبار أن قوى الإنتاج هي الجهة الوحيدة التي تقرر مسار تطور الشعوب والعالم على الرغم من كل الحذلقات والتخرصات الأخرى .

ثمة خلاف شديد في التعرّف الدقيق على قوى الإنتاج العاملة اليوم في المجتمعات الحديثة بشكل خاص . فأنصار نمط الإنتاج البورجوازي يدّعون اليوم بأن التقنية الرفيعة أخذت تحل محل قوى العمل البشري في الإنتاج مما همّش دور البروليتاريا في مجمل الإنتاج القومي وهو الدور الذي عوّل عليه ماركس في العبور الإشتراكي إلى الشيوعية . نعم، ليس بوسع الماركسيين إنكار مثل هذه الحقيقة الماثلة والتي تحول أيضاً دون تواجد العبور الإشتراكي في الأفق المنظور خلافاً لكل المقترحات المتعددة للانتقال إلى الإشتراكية التي لا يفتأ الدكتور سمير أمين بصورة خاصة يستولدها من تصوراته الذاتية والتي لا علاقة لها بقوى الإنتاج السائدة في العالم والمسئولة وحدها عن كل تغيير اجتماعي . لكن قصر نظر أنصار الإقتصاد البورجوازي يتمثل في أن ادّعاءهم هذا ليس هو كل الحقيقة إذ ليس بوسع أصحاب مثل هذه الحذلقة البورجوازية إنكار حقيقة أخرى أكثر وضوحاً وهي أن المجتمعات المتقدمة، التي أخذت طريقها في الاستعاضة بالتقنية الرفيعة عن قوى العمل البشري في الإنتاج، تعاني اليوم من مديونية هائلة تصل في الولايات المتحدة الأميركية، وهي الأوسع استخداماً للتقنيات الرفيعة، إلى خمسين تريليوناً من الدولارات وهو ما يعادل خمسة أمثال إنتاجها القومي، وهذا يمثل حقاً انهياراً كليّاً في نظام الإنتاج . ليس هذا بالطبع إلا دلالة قاطعة على أن قوى الإنتاج في المجتمع الأميركي لم تعد تنتج ما يغطي مجمل الإستهلاك القومي، أي أن التنمية الإقتصادية قصرت عن موازاة تطور المجتمع . وهكذا يتبيّن أن النظرية البورجوازية حول حلول التقنيات الرفيعة محل البروليتاريا في الإنتاج لا تعمل ؛ وظهر أن مثل هذا الحلول تسبّب في تراجع التنمية بدل تقدمها بنسبة الزيادة في فعالية أدوات الإنتاج كما يفترض . من المثير حقاً أن يتهرّب أنصار نمط الإنتاج البورجوازي من مواجهة هذا المأزق الفاضح كيلا يقولوا كلمة فيه فيواجهوا قانوناً ماركسياً قطعي النفاذ يقول أن تطور أدوات الإنتاج في أي نظام للإنتاج، وفي النظام الرأسمالي أكثر من غيره، يعمل على التسريع بنهايته ؛ على العكس تماماً من إدّعائهم حول إطالة عمر نمط الإنتاج البورجوازي وتجاوز الدور التاريخي للبروليتاريا . من هنا كان ماركس قد أكد بأن الرأسماليين سيقفون حجر عثرة أمام تطوير أدوات الإنتاج أثناء شيخوخة النظام الرأسمالي واقتراب نهايته . مزاوجة أدوات الإنتاج بالتقنيات الرفيعة التي تجلّت بقوة خلال الربع الأخير من القرن المنصرم إنما هي برهان قاطع على أن النظام الرأسمالي كان قد انهار في العام 1975 ولم يعد هو النظام السائد في المجتمعات الرأسمالية الكلاسيكية سابقاً .

الوجه الآخر من ذات المأزق الذي يتهرّب أنصار نمط الإقتصاد البورجوازي من مواجهته هو التراجع المستمر في حصة الإنتاج الصناعي الرأسمالي من مجمل الإنتاج القومي بدل أن يتزايد لو كان ادّعاؤهم بأن التقنية الرفيعة أغنت عن البروليتاريا في عملية التنمية صحيحاً . فالإنتاج الصناعي الرأسمالي في الولايات المتحدة لا يشكل أكثر من 17% من مجمل الإنتاج القومي وفي بريطانيا وفرنسا وألمانيا ما بين 20 ـ 25% فقط وفي اليابان 30%، في حين أنه كان في خمسينيات القرن الماضي، قبل أن تدخل التقنيات الرفيعة إلى أدوات الإنتاج، يزيد على 50% في مختلف هذه الدول ولا بدّ أنه كان في صدر القرن العشرين، حين كان النظام الرأسمالي في أوج قوته، يصل ربما إلى أكثر من 70% . أنصار نمط الإقتصاد البورجوازي يخرسون أمام لغز هذا التراجع في الإنتاج الصناعي الرأسمالي المرافق بنسبة طردية للتراجع في دور البروليتاريا في الإنتاج وبنسبة عكسية لتزايد استخدام التقنيات الرفيعة في الصناعة !! السر الكامن وراء خرس هؤلاء أمام مثل هذه الحقيقة الفاضحة هو أن همهم الأول والأخير في هذا الشأن هو الحؤول دون الإنتقال إلى الشيوعية بعيداً عن أي اهتمام بالتنمية أو البحث العلمي في الإقتصاد، حيث أن الحياة الشيوعية هي وحدها الملائمة لأدوات إنتاج رفيعة التقنية والتطور .

لكن عمّا يخرس أنصار نمط الإقتصاد البورجوازي ؟ يخرسون عندما يتعلق الأمر بمصير البروليتاريا المسرحة من العمل بفعل الإعتماد على أدوات الإنتاج عالية التقنية وعالية الفعالية !! يخرسون ولكأن على ملايين العمال المسرحين أن يغيبوا عن وجه الأرض، هم وعائلاتهم !! الغياب عن وجه الأرض ليس من خيارات هؤلاء الآدميين طالما أن غريزة الصراع من أجل البقاء المنزرعة في جيناتهم الوراثية لم تكن خياراً لهم . بفعل الحفاظ على النوع اتجهت هذه الملايين من البروليتاريا إلى العمل في الإنتاج الفردي، إنتاج الخدمات . ولما كان إنتاج الخدمات لا يتم إلا على النمط البورجوازي الفردي(Individual Production) فقد وُجد جذاباً وأقل تقييداً لحرية العمال من العمل كأجراء في الإنتاج الرأسمالي الجمعي (Associated Production) . وهكذا فقد كانت النتيجة المباشرة لإدخال التقنيات الرفيعة في الصناعة هي مضاعفة إنتاج الخدمات على حساب الإنتاج السلعي . ويشار في هذا السياق إلى أن كل تطور تقني في أدوات الإنتاج ينعكس مباشرة في خفض هامش الربح وهو ما يؤدي بالضرورة إلى انكماش في الإنتاج الصناعي الرأسمالي، كما تؤكد إحدى قواعد كارل ماركس الذهبية . خلال الربع الأخير من القرن المنصرم تضاعف إنتاج الخدمات في كافة الدول المتقدمة صناعياً فأصبح في الولايات المتحدة الأميركية يساوي زهاء خمسة أمثال الإنتاج الصناعي الرأسمالي، وفي أوروبا الغربية وشمالها يساوي ما بين 3 ـ 4 أمثاله في حين أن الأصل في النظام الرأسمالي أن تكون هذه النسبة معكوسة تماماً .

السؤال الفيصل في هذا السياق هو .. لماذا لا تنتج الولايات المتحدة كل ما تستهلك ؟ لماذا لا تنتج كل ما تستهلك، لخيبة أمل القائلين بتجاوز البروليتاريا اعتماداً على التقنيات الرفيعة، وهي الأكثر اعتماداً على التقنيات الرفيعة في إنتاجها ؟ الجواب الوحيد على مثل هذا السؤال الفيصل هو أن أكثر من 80% من الإنتاج القومي للولايات المتحدة هو من الخدمات، والخدمات ليست ثروة . الخدمات ولدت، وبدلالة اسمها (services)، منذ البدء كخادم ملحق (subservient) للإنتاج السلعي . إنها ليست إنتاجاً بمعنى الثروة المادية ذات القيمة الإستعمالية حيث كان الإقتصادي الإنجليزي المعروف وليم بتي (William Petty)، 1623 ـ 1687، وكارل ماركس من بعده قد أكدا .. " أن العمل ليس هو فقط المصدر الوحيد للثروة المادية، فلكل ما له قيمة استعمالية إنما أبوه العمل وأمه الأرض " ـ قالا العمل والأرض، أو الطبيعة، ولم يقولا الخدمات التي لا أمّ لها . وللتدليل على صحة ما أكده العالمان بتي وماركس نستعرض التوظيفات العظمى في الخدمات ودورها في الإنتاج في المجتمعات الحديثة ...

أوسع توظيف خدماتي، ظل متعاظماً حتى اليوم في مختلف الدول، هو القوات المسلحة من جيش وشرطة . الوظيفة الوحيدة للقوات المسلحة هي تأمين الثروة والحفاظ على شكل ملكية الثروة ليس أكثر، أي أنها لا تنتج ثروة على الإطلاق بل مقابل قيامها بوظيفتها التي لا تنتج أي ثروة فإنها تقوم بتدمير أو استهلاك ما يزيد على نسبة 5% من مجمل الإنتاج القومي بالمعدل . القوات المسلحة تبدد الثروة ولا تنتجها . ما يحتل المرتبة الثانية في التوظيفات الخدمية هو التعليم . الخدمات التعليمية هي الخدمات الوحيدة التي تنعكس إيجاباً على الإنتاج حيث يلعب التعليم دوراً ملموساً في توثيق وتفعيل العلاقة الديالكتيكية بين أدوات الإنتاج من جهة والعامل الذي يشغّل هذه الأدوات، مما يؤدي إلى تحسين فعل الطرفين . باستثناء هذا الدور الثانوي في زيادة الإنتاج بنسبة لا تزيد عن 5 ـ 10% من كلفة التعليم فذلك يعني أن أكثر من 90% من كلف الخدمات التعليمية تذهب هدراً دون أن تزيد في الثروة أية زيادة . وهكذا فإن الجزء اليسير من الخدمات التعليمية يعمل على زيادة الثروة من خلال تطوير قوى العمل، المنتج الوحيد للثروة، لكنه ليس هو بحد ذاته من الثروة . الخدمات الصحية هي في المرتبة الثالثة في جدول التوظيفات الخدماتية . دور الخدمات الصحية الوحيد في إنتاج الثروة هو دور سلبي أيضاً مثل دور القوات المسلحة ألا وهو الحفاظ على قوى العمل بكامل صحتها للقيام بشغلها . ودورها هذا تحديداً لا يشغل أكثر من 10 ـ 20% من كامل أشغالها، فأكثر من 70% من الخدمات الصحية يستهلكها المتقاعدون والعجزة والأطفال وهؤلاء لا يعملون في الإنتاج على الإطلاق بل هم في نهاية الأمر عبئ على التنمية كما يؤكد أخصائيو الأمم المتحدة . أما في خدمات النقل والمواصلات، فناقلة النفط التي تنقل مائة ألف طن من النفط من الخليج إلى أوروبا لقاء أجور تبلغ 1,5 مليون دولاراً أو أكثر فإنها لا تضيف شيئاً إلى القيمة الإستعمالية للنفط، ولا تنتج أي قيمة .

يتضح من كل هذا أن 70 ـ 80% من قوى العمل المتوفرة في البلدان المتقدمة في التقنيات لم تعد تنتج أي ثروة وأن 10% فقط مما تنتج يساعد على زيادة إنتاج الثروة لكنه ليس ثروة ؛ و 90% من شغلها يذهب في ما لا يفيد على صعيد القيمة التبادلية . فشرط إنتاج القيمة التبادلية هو إنتاج قيمة استعمالية ؛ فأي قيمة استعمالية أو تبادلية تنتجها القوات المساحة بكافة فروعها بمحافظتها على الثروة في يد مالكيها وهي وظيفتها الوحيدة ؟ وأي قيمة تبادلية أو إستعمالية ينتجها العاملون في الخدمات الصحية وخاصة من الذين يعالجون المتقاعدين والمسنين والأطفال ؟ وأي قيمة تبادلية أو استعمالية ينتجها البحارة الذين ينقلون النفط من الخليج إلى أوروبا وأمريكا ؟ الجواب الصحيح على جميع هذه الأسئلة هو لا شيء . من هنا يمكن أن نفسّر المنهج الرأسمالي العتيد في الحفاظ دائماً على الطبقة الوسطى هشّة ورقيقة . إن كل زيادة في إنتاج الخدمات تعني الإبطاء في الدورة الرأسمالية الكلاسيكية (نقد ـ بضاعة ـ نقد) حيث ينوء كتف البضاعة في السوق بما تحمله من كلف الخدمات المجردة من كل قيمة استعمالية . فعندما يشتري الشخص أي بضاعة من السوق فعليه أن يدفع كل كلف الخدمات التي تحملها السلعة في جوفها دون أن يستفيد منها على الإطلاق مثل التعبئة والتغليف والنقل والرسوم المصرفية والجمركية والتخزين والتوزيع وما إلى ذلك .

هذا هو " النظام " الإقتصادي الجديد الذي يبشرنا به المتحزّبون للإقتصاد البورجوازي تحت رايات بألوان مختلفة منها ما تقول باقتصاد السوق وأخرى باقتصاد المعرفة وثالثة بالإقتصاد الحر . كل هذه الرايات بألوانها الفاقعة المختلفة تقوم على منهج واحد وهو الحفاظ على أكثر من نصف قوى العمل المتوفرة بدون عمل، بدون عمل منتج لأي قيمة تبادلية . لكن هذا لا يتم إلا على حساب المنتجين الحقيقيين وهم العمال والفلاحون . أحد زعماء ما يسمى بالدولية الإشتراكية (الأممية الثانية) ذكر، في معرض دفاعه عن مثل هذا الإنحراف الخطير في نظام الإنتاج، أن الإنسان العصري لم تعد تلح عليه الحاجة للحذاء والقميص والسروال بمقدار ما هي حاجته للتعليم والثقافة والموسيقى والرياضة، وكأني بهذا " الإشتراكي " الدولي يقول .. نعم، يجب أن تنصرف ثلاثة أرباع قوى العمل المتوفرة إلى إنتاج الخدمات وليس إلى السلع التي لم تعد حاجتها ماسة كما الخدمات . الأممية الثانية، وتاريخها زاخر بخيانة البروليتاريا وقضية الإشتراكية منذ العام 1912 حين دعت إلى الإشتراك في الحرب العظمى الأولى وتخليها نهائياً عن الماركسية في العام 1922، تقترف اليوم خيانة جديدة وتدعو إلى محاصرة البروليتاريا وتهميشها في عملية الإنتاج القومي عن طريق الإنصراف إلى إنتاج الخدمات وهو الإنتاج البورجوازي الذي لا يتم بالأسلوب الرأسمالي . المرء ليس بحاجة لمزيد من الذكاء كي يدرك أن الدعوى لإنتاج المزيد من الخدمات إنما تعني مباشرة المزيد من تهميش البروليتاريا خشية الإنتقال إلى الشيوعية . وهنا علينا أن ننبّه أعداء البروليتاريا فيما يسمى بالدولية الإشتراكية وفي غيرها من المسميات الكثيرة أن خشيتهم من الشيوعية والعمل على تأجيلها تلحق بالشعوب خسائر جسيمة لا تقوى على تحمّلها . فمن أجل تخصيص 60 ـ 70% من قوى العمل المتاحة لإنتاج الخدمات يلزم تدبير ما بين 10 ـ 20% من قيمة مجمل الإنتاج القومي من خارج دائرة الإنتاج الوطنية، أي من خارج المجتمع إما عن طريق الاستدانه أو عن طريق تصريف العملة الوطنية المكشوفة (المفرغة من كل قيمة) خارج الحدود كما فعلت أمريكا منذ إعلان رامبوييه 1975 . شعوب العالم لن تتحمل طويلاً تزويد الدول الباذخة في إنتاج الخدمات بثرواتها لتعوّض بها عجزها عن إنتاج كامل استهلاكها القومي . لعبة الحرامية انكشفت تماماً هذا العام ولا يبدو أن الدول غير الريعية ستساهم في رصد مبالغ طائلة يطالب قادة الدول الغنيّة (!!)، أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا واليابان، بالتبرع بها كي تساعدهم في إحكام الطوق على البروليتاريا من خلال الاستمرار في إنتاج المزيد من الخدمات لأن ذلك وحده هو ما يضمن غياب شبح الشيوعية من سماء العالم . الولايات المتحدة الأميركية وهي كبير الحرامية صرّفت في أسواق العالم 200 ـ 600 تريليون دولاراً زائفاً واستدانت 50 تريليوناً وهي كلفة هروبها من الشيوعية خلال فترة الإنحطاط الإستهلاكي 1975 ـ 2008 ومثلها فعل الحرامية الصغار بنسبة حجومهم .

ما لا يتسق مع كل ما هو معلوم من التاريخ الإجتماعي هو أن طبقة طفيلية مفلسة كالطبقة الوسطى التي سماها ماركس طبقة البورجوازية الوضيعة (Petty Bourgeoisie) فيها خور شديد كقوى إنتاجية تحتل موقع السيادة في المجتمعات الحديثة خلال الربع الأخير من القرن العشرين وحتى اليوم . من المعلوم أن طبقة السادة أو الشيوخ عمّرت في موقع السيادة الإجتماعية لأكثر من عشرة قرون وذلك لأنهم امتلكوا العبيد باعتبارهم وسيلة الإنتاج الوحيدة آنذاك ؛ وشغل الإقطاعيون بعدئذٍ موقع السيادة لأكثر من ستة قرون حيث امتلكوا الأرض الزراعية كأهم وسيلة للإنتاج الزراعي ؛ وتلاهم الرأسماليون فشغلوا موقع السيادة الإجتماعية لثلاثة قرون وقد امتلكوا أدوات الإنتاج الأكثر وفرة وهي المصانع التي تحركها قوة البخار . ولكي لا تنتقل السيادة إلى البروليتاريا باعتبارها قوى الإنتاج الأعظم في المجتمعات الصناعية والموكول إليها إلغاء المجتمعات الطبقية نهائياً من تاريخ البشرية، استدعى الرأسماليون المهزومون في مؤتمر رامبوييه 1975 البورجوازية الوضيعة في بلادهم، مقتفين أثر البورجوازية الوضيعة السوفياتية، لاحتلال موقع السيادة في المجتمعات الرأسمالية المنهارة وقد حطّم ذلك المؤتمر المشؤوم أهم حلقتين من دورة الإنتاج الرأسمالي إذ فصل كما في قراره رقم (11) بين النقد وقيمته البضاعية وأفاض الأموال المتوفرة في مراكز الرأسمالية على الدول الفقيرة لكي تستورد بضائعها كما في القرار رقم (12) ؛ ولهذا وذاك لم تعد دورة الإنتاج الرأسمالي (نقد ـ بضاعة ـ نقد) تدور . ما يتوجب تأكيده في هذا السياق هو أن قادة الدول الخمس الغنية (G5) ما كان بإمكانهم استدعاء البورجوازية الوضيعة لتسنم السيادة والسلطة في مراكز الرأسمالية الرئيسية لو ظل مشروع لينين في الثورة الإشتراكية العالمية متصاعداً كما كان حاله قبل رحيل ستالين في العام 1953 .

لا تستطيع الطبقة الوسطى أن تقيم نظاماً اجتماعياً مستقراً وذلك لأنها ببساطة لا تملك وسيلة إنتاج قادرة على تزويد المجتمع باحتياجاته الأساسية . هي تزعم أنها تمتلك المعرفة ولذلك ترفع راية "الإقتصاد المعرفي"، إلا أن المعرفة ليست وسيلة إنتاج . المعارف لا تتجاوز حدود المساعدة لوسائل الإنتاج فالإنسان ومنذ فجر التاريخ ما كان ليستخدم أبسط أدوات الإنتاج بغير المعرفة ولعل المعارف التي يسرت للإنسان إختراع العَجَلة مثلاً كانت نسبياً أرقى بكثير من معارف اليوم اللازمة لاختراع الصاروخ أو القنبلة النووية . المعارف ليست وسيلة إنتاج ولا تنحصر في تقسيم معين للعمل حتى تشكل طبقة اجتماعية متخصصة بإنتاج المعرفة ؛ بل إن العلاقة الديالكتيكية للبروليتاريا بأدوات الإنتاج هي الرحم الذي تتخلّق فيه كل المعارف بمختلف حقولها . لأن الطبقة الوسطى، طبقة البورجوازية الوضيعة التي لا تنتج إلا الخدمات، لا تمتلك وسيلة إنتاج تنتج الثروة فهي لم تعمّر في موقع السيادة الإجتماعية أكثر من دورة اقتصادية كاملة استغرقت 33 عاماً استهلكت خلالها كل ما كان النظام الرأسمالي قد اختزن من ثروة . ولما لم يعد هناك من ثروة مختزنة من جهة، وافتضحت لعبة تصريف العملة المكشوفة خارج الحدود من جهة ثانية، وفقدت دولة الطبقة الوسطى ملاءتها وأحجم الآخرون عن إقراضها ما ينقصها من أموال من جهة ثالثة، فقد حكم التاريخ على دولة الطبقة الوسطى، دولة البورجوازية الوضيعة، دولة الرفاه (Welfare State) ، أن تختفي نهائياً من الحياة .

بعد رحيل ستالين 1953 قاد خروشتشوف حلفاً غير مقدس من العسكر والفلاحين وخاضوا معركة فاصلة ضد البروليتاريا فكانت النتيجة إسقاط دولة دكتاتورية البروليتاريا وقد أعلن إسقاطها رسمياً في المؤتمر الإستثنائي الحادي والعشرين للحزب الشيوعي السوفييتي 1959 واستيلاء الطبقة الوسطى، طبقة البورجوازية الوضيعة، على الدولة بقيادة خروشتشوف باسم " دولة الشعب كله " . في العام 1975 وبعد أن فقدت مراكز الرأسمالية كل محيطاتها بفضل حركة التحرر الوطني العالمية سلّم قادة هذه المراكز كل السلطة للطبقة الوسطى قطعاً للطريق على البروليتاريا خاصة وأنها كانت قد انهزمت في عقر دارها، في وطن لينين وستالين . الخصوصية المشتركة بين الطبقتين الاجتماعيتين الكبريين، الطبقة الوسطى والبروليتاريا، هي أنهما لا يمتلكان أدوات للإنتاج خاصة بهما . ولذلك دولة كل منهما لا تعمّر أكثر من دورة إقتصادية كاملة وهي 33 عاماً . دولة دكتاتورية البروليتاريا كانت ستنقل العالم إلى الشيوعية من خلال مضاعفة الإنتاج بكل السبل المتاحة ومنها مزاوجة التقنيات الرفيعة مع أدوات الإنتاج ، أما دولة الطبقة الوسطى التي تتجلى اليوم بكل قبحها على سعة العالم فإلى أي حال ستنقل البشرية وقد دمّرت كل الثروات التي اختزنتها البشرية منذ آماد طويلة ؟؟ هل للدمار أن يجلب غير الدمار ؟؟ هل للبشرية أن تتخلص من مكاره الطبقة الوسطى بغير حرب نووية عالمية ؟؟ من لديه إجابة مختلفة فليشعل منارة الخلاص للبشرية !!




#فؤاد_النمري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أيتام خروشتشوف ما زالوا يحاربون البروليتاريا
- يهاجمون التزييف لأجل أن يزيّفوا ماركس
- لا اشتراكية بغير دولة دكتاتورية البروليتاريا
- الحرية في - الحوار المتمدن -
- الماركسية ليست من الإيديولوجيا
- الفوضويون (الأناركيون) ما زالوا يضلّون
- شيوعيون شلحوا الشيوعية
- نعذر الرثاثة ولا نعذر التطفل!
- منتقدو الماركسية وكارهو الشيوعية
- حتى الشيوعيين من العربان لا يقرؤون
- الأزمة المالية الماثلة ليست أزمة الرأسمالية
- الدكتور سمير أمين يسارع فينزلق نحو المثالية والليبرالية
- أعداء الشيوعية يكرهون ستالين
- الانحطاط الفكري لدى شيوعيي انحطاط الإشتراكية
- القراءة اللينينية لتاريخ الحركة الشيوعية
- ماذا عن انهيار الإتحاد السوفياتي، مرة أخرى ؟
- ماذا عن أسباب انهيار الإتحاد السوفياتي العظيم ؟!
- ما الذي ينهار اليوم في أميركا ؟
- عجائز الشيوعية يخرفون أيضاً !
- ما بين الإشتراكية ورأسمالية الدولة


المزيد.....




- فرنسا: القضاء يوجه اتهامات لسبعة أكراد للاشتباه بتمويلهم حزب ...
- ضغوط أميركية لتغيير نظام جنوب أفريقيا… فما مصير الدعوى في ال ...
- الشرطة الإسرائيلية تفرق متظاهرين عند معبر -إيرز- شمال غزة يط ...
- وزير الخارجية البولندي: كالينينغراد هي -طراد صواريخ روسي غير ...
- “الفراخ والبيض بكام النهاردة؟” .. أسعار بورصة الدواجن اليوم ...
- مصدر التهديد بحرب شاملة: سياسة إسرائيل الإجرامية وإفلاتها من ...
- م.م.ن.ص// تصريح بنشوة الفرح
- م.م.ن.ص// طبول الحرب العالمية تتصاعد، امريكا تزيد الزيت في ...
- ضد تصعيد القمع، وتضامناً مع فلسطين، دعونا نقف معاً الآن!
- التضامن مع الشعب الفلسطيني، وضد التطبيع بالمغرب


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - فؤاد النمري - إلى أين ينعطف العالم اليوم ؟