في الصف السادس الابتدائي ، كان معي طالب اسمه عبدالجبار ، وبعكس ما يوحي اسمه من معاني الصلابة والقوة ، فانه كان ضعيفا شديد الهزال ، لكنه يملك صوتا حادا عالي النبرات ولسانا سليطا يتفنن في استخدامه ، وكنت في المقابل ناصح الجسم مفتول العضلات سريع الغضب ، ولسوء الحظ فان العلاقة بيني وبين جبار هذا لم تكن على وفاق ، وكان يطلق علي كافة الألقاب والأوصاف ويسبني بأقذع الالفاظ ويهرب ، فألاحقه في أروقة المدرسة مهددا متوعدا إياه أمام الجميع ، فيراوغني وأنا أركض خلفه حتى نصل إلى حجرة المدير وهو يصرخ بعلو صوته : إلحق أستاد ، إلحق أستاد ، فيخرج المدير مندفعاً مفزوعاً على صوت استغاثاته ليشاهدني متلبسا بالجريمة وأنا أهاجم جبار الضئيل المذعور أريد ألفتك به ، فيشدني من يدي عنه لأتلقى بعدها علقة قاسية بخيزرانته المعتبرة .
ورغم أن قصتي مع جبار أصبحت غائرة في عمق ذاكرة الطفولة ، ألا أنني ومنذ ذلك الوقت أصبت بعقدة مزمنة من هؤلاء المتمسكنين ، وأتحذ ر منهم أكثر من غيرهم ، لأنهم إذا هاجموك وأوجعوك ، تباهوا بما صنعوه من نصر مؤزر ، واعتبروا ما فعلوه إنجازا يشكرون عليه ، وإذا حاولت أن تدافع عن رأيك وقناعاتك بالعقل والمنطق السليم ، تصايحوا متظاهرين انك اقتحمت عليهم عوالمهم المرهفة و اعتديت على مشاعرهم الرقيقة، التى لا يملكها في الخلق سواهم ، والعجيب أنك ترى بعضهم قد نصب نفسه عميدا للأخلاق والدين برتبة شيخ يلبس العمامة ، و حمل البعض الآخر لواء القلم والثقافة رافعا لوحده راياتها الخفاقة ، وتكنى بلقب الكاتب المجدد والأديب المبدع لا يدانيه أو يجاريه في ذلك أحد ، ولو أنهم اكتفوا بما استحوذوا عليه من ألقاب فخمة وحفظوا للآخرين مقاماتهم ، لقدرنا لهم ذلك واحترمنا خلوتهم وآمنا بعزلتهم التي اختاروها طائعين ، ولكنهم أبوا إلا أن يظهروا بين الحين والآخر لسانهم البذيء للمخالفين لهم ، مشهرين عليهم سلاح الكلمة والتي هي اشد وأمضى من القتل ، فإذا حاولت الرد عليهم بمثلها ، تصايحوا فزعين مستنكرين ، كما فعل عبدالجبار : ألحق أسْــتاد ، ألحق أسْــتاد !! .
أحمد المعرفي / البحرين .