أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - رمضان متولي - أوهام وحقائق مشروع الشرق الأوسط الكبير















المزيد.....


أوهام وحقائق مشروع الشرق الأوسط الكبير


رمضان متولي

الحوار المتمدن-العدد: 749 - 2004 / 2 / 19 - 06:25
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


الولايات المتحدة الأمريكية تتحدث عن الديمقراطية باعتبارها أحد أركان مشروعها الجديد: "الشرق الأوسط الكبير"، كما أنها أيضا تقرن هذه الديمقراطية باتفاقيات تحرير التجارة وبرامج التكيف الهيكلي في دول المنطقة، وتحدد هدفها من المشروع بأنه تأسيس دول ديمقراطية في هذه المنطقة تدير اقتصادا يعتمد على آليات السوق الحرة وتحتفظ بعلاقات جيدة مع إسرائيل.

وعند هذا الحد لا نجد جديدا في مشروعات وأحلام الإمبريالية الأمريكية، فدائما ما كانت تعمل على انتصار "الديمقراطية" في الدول "المارقة"، ودائما ما كانت تدفع الدول الأصغر إلى تبني سياسات السوق الحرة التي تسمح للشركات الأمريكية بحرية احتكار أسواق هذه الدول.

الجديد أن هناك بعض المثقفين يعتقدون أن فيما تقدمه الولايات المتحدة جديد، وأنه سيؤدي إلى نوع من الإصلاح السياسي في دول المنطقة، ومنهم من يرى مناورات بعض الدول هنا وهناك في هذا السياق، مثل مناورات الحكومة المصرية وحديثها عن الإصلاح السياسي وضرورة التغيير، ويبدأون في الحديث عن الموقف من هذه الإصلاحات، هل نؤيدها؟ أم نعارضها لأنها تأتي بضغوط أمريكية؟ ومنهم من ذهب إلى ضرورة تأييد ودفع هذه "الإصلاحات"، ومنهم من يرى غير ذلك.

أما عن الإصلاحات المزعومة، فلا نحتاج أكثر من متابعة ما جرى وما يجري في مصر حتى نعرف حدود هذه الإصلاحات، وهل هي إصلاحات حقا؟ أم أنها مجرد مناورات غير محددة المعالم بشكل مقصود لنظام يحاول أن يتأكد من ثبات الأرض تحت قدميه بعد أن أفقدته التطورات الأخيرة على المستوى المحلي والإقليمي كل شرعية كان يدعيها؟

فعلى الصعيد المحلي تواجه الحكومة المصرية أزمة مركبة، تتمثل في فشل خطتها الاقتصادية بعد تهاوي أحلامها في جذب الاستثمارات الأجنبية وإنجاز مشروعات الخصخصة وزيادة القدرة التنافسية للصناعة المصرية في الأسواق العالمية، مما أدى إلى زيادة البطالة وارتفاع الأسعار ارتفاعا جنونيا خرج عن حدود السيطرة، وتزايد عمق الأزمة السياسية والتي تتبدى مظاهرها في اعتماد السلطة اعتمادا كليا على جهاز القمع في مواجهة الجماهير، وعزوف الجماهير عن المشاركة في الانتخابات البرلمانية بشكل عام، وعدم ثقتهم في النظام السياسي الذي يستشري فيه الفساد في جميع أركانه وكافة مستوياته. وارتكب هذا الجهاز القمعي سلسلة من الجرائم ضد العمال، في مواجهة إضراباتهم واحتجاجاتهم خلال تنفيذ مشروعات الخصخصة، وضد الفلاحين، عندما خالف كل القوانين الوضعية والإنسانية في فرض قانون العلاقة بين المالك والمستأجر في الأراضي الزراعية، وضد فقراء المدن حيث تعرض هؤلاء لسلسلة من القمع البوليسي الوحشي، وأصبح رجل الشرطة وموظف الحكومة مرادفا للسفاح والمرتشي. بالإضافة إلى تهميش الدولة لجميع الأحزاب والقوى السياسية والنقابات والجمعيات، وافتقاد كل هذه المؤسسات تقريبا لأي مشروعية أو مصداقية لدى الجماهير. وربما يكون الاستثناء الوحيد من ذلك هو التيار الديني، وهو التيار الوحيد الذي يستطيع في لحظات احتدام الأزمة استيعاب الجماهير أو قيادتها.

وعلى الصعيد الإقليمي فقد النظام المصري شرعيته ومصداقيته مع انهيار مفاوضات أوسلو بين سلطة عرفات وإسرائيل، وعجزه الذي افتضح تماما مع الغزو الأمريكي للعراق، واكتشف النظام المصري أنه لا يستطيع المراهنة على أي تحركات جماهيرية تعزز موقفه في القضايا الإقليمية دون أن يتعرض وجوده نفسه للخطر كما اتضح في المظاهرات التي خرجت تضامنا مع نضال الشعب الفلسطيني وضد الغزو الأمريكي للعراق.

ولم تكن الضغوط الأمريكية هي الدافع الرئيسي للنظام المصري حتى يقوم بمناورة الإصلاح، ذلك أنه يدرك تماما أن الورطة التي يواجهها الاحتلال الأمريكي في العراق جعلت الولايات المتحدة عاجزة عن مواصلة التصعيد ضد الدول الأخرى في المنطقة، والتي وضعتها في محور الشر، مثل سوريا وإيران، ناهيك عن زعزعة علاقتها المستقرة مع الدول الحليفة مثل السعودية ومصر. والدافع الأساسي للنظام المصري في ظل هذه الظروف للقيام بتلك المناورات هو محاولة تحسس الأرض تحت قدميه بعد الأحداث العاصفة التي تمر بها المنطقة من جانب، وتجميل صورته أمام الخارج من جانب آخر.

ولكن نظاما بهذا الضعف حتى أنه لا يستطيع توفير أسباب الحياة الكريمة والمستقرة للمواطنين، ويعتمد اعتمادا كليا على القمع الوحشي والدعم الخارجي في الحفاظ على سلطته ووجوده، لا يمكن أن يكون جادا في عملية الإصلاح السياسي أو الديمقراطي. وهو ما اتضح تماما بعد مبادرة الحزب الوطني الحاكم بتنظيم حوار مع أحزاب المعارضة الهزيلة ومنظمات حقوق الإنسان الهشة على أجندة غامضة بلا أهداف محددة، وسوف أترك للبيان الصادر عن المركز المصري الاجتماعي الديمقراطي (الذي شارك في هذا الحوار) الحديث عن تطوراته، فقد جاء في هذا البيان:

      "استقبلت أوساط المعارضة المصرية بكثير من الحذر والشكوك دعوة الحزب الوطنى للحوار، ويعود السبب فى ذلك إلى أن الدولة المصرية دعت إلى مثل هذا الحوار أكثر من مرة فى العقود الماضية دون أن يتمخض هذا الحوار عن أى نتائج إيجابية تذكر، بل ودون حتى أن تكون مثل هذه الدعوة تعبير صادق عن الاستجابة إلى ضغوط ونضالات القوى الديمقراطية والوطنية والاجتماعية الراغبة فى إصلاحات سياسية أو مواقف وطنية أكثر راديكالية أو تحسين الأوضاع المعيشية للفئات الاجتماعية المقهورة، ويضاف إلى هذه الشكوك الجادة فى دعوة الحوار أنه يفتقد كلية إلى جدول أعمال واضح وأهداف محددة، كما أنه يستبعد قوى وهيئات كثيرة من الحوار، ورغم كل هذه المثالب التى تشى بعدم جدوى هذا الحوار فإن عدد كبير من منظمات المجتمع المدنى وكافة الأحزاب المعارضة قد استجابت لدعوة الحزب الوطنى مدفوعة فى ذلك برغبة معلنة فى أن يكون هذا الحوار مقدمة حقيقية لمرحلة جديدة تجد فيها مطالب الإصلاح الديمقراطى بالذات طريقها إلى التحقق وربما أثرت بذلك – رغم تكرار التجارب الفاشلة – أن لا تفوت فرصة للتأثير أو الضغط، ولكن يبدو أن المسافة بين ما يتمناه المرء فى بلادنا وبين ما يدركه قد أصبحت بالفعل مسافة كبيرة حيث تتزايد الانتقادات الموجهة للحوار الدائر كل يوم مما يكاد يقطع سلفاً بأن نتائجه إن لم تكن ضارة على التطور الديمقراطى فى بلادنا، فهى على الأقل لن تكون مفيدة."

ينبغي أن نلاحظ هنا تقدير أحد المراكز التي شاركت في الحوار، الذي (يكاد) يقطع سلفا بأن نتائجه على الأقل لن تكون مفيدة للتطور الديمقراطي في مصر. ولكن لنستمر مع البيان حتى نتعرف أكثر على طبيعة الحوار:

   "لقد لفت نظرنا على نحو خاص كما ذكرنا من قبل افتقاد الحوار لجدول أعمال محدد وعدم إعلان أهداف محددة يقاس من خلال تحققها نجاحه من فشله، والأهم هو ما يكتنف الحوار من تعتيم إعلامى عن ما يدور فى جلساته حيث تكتفى أجهزة الإعلام – الحكومية والمعارضة وإن بدرجات متفاوتة – بإبراز صور اللقاءات دون إمدادنا بأى تفاصيل عما يدور فى هذه اللقاءات، وقد زاد الطين بلة ووصل الأمر إلى منتهاه عندما أعلن قادة الحزب الوطنى أن المعارضة لن تطالب بأى تعديل دستورى، وهو الأمر الذى يعنى من الناحية العملية أن المعارضة تتخلى عن مطالبها الخاصة بتعديل المواد الخاصة بانتخاب وصلاحيات رئيس الجمهورية بحيث ينص الدستور على انتخاب رئيس الجمهورية انتخاباً حراً مباشراً بين أكثر من مرشح مع تحجيم صلاحياته وتحديد مدة الرئاسة بحيث لا تزيد عن دورتين متتاليتين، والمثير للدهشة بحق أن أحداً من قادة أحزاب المعارضة لم يعلن أى تصحيح لتصريحات قادة المعارضة، مما يرجح أن صمت أحزاب المعارضة بخصوص هذا الموضوع أثناء حوارها مع الحزب الوطنى هو أمر صحيح."

المبادرة الثانية في سياق ما يدعى بالإصلاح السياسي تمثلت في قرار الحكومة تشكيل مجلس قومي لحقوق الإنسان، والذي قامت هي بتعيين أعضائه وجعلته مجلسا استشاريا لا حول له ولا قوة، في نفس الوقت الذي تقول فيه جمعية حقوق الإنسان لمساعدة السجناء أن هناك 16 ألف معتقل في السجون المصرية بدون محاكمة، مع استمرار قانون الطوارئ منذ عام 1981 في ظل ترسانة من القوانين المقيدة لحريات النشر والتعبير وتشكيل الأحزاب والقيود المفروضة على النقابات بالإضافة إلى المحاكم الاستثنائية. فماذا يمكن أن تتوقع من مجلس كهذا إلا أن يكون مجرد ديكور زائف هدفه تجميل الصورة أمام الخارج وإخفاء ملف حقوق الإنسان وراء حيل بيروقراطية وإدارية وشكلية لا نهاية لها.

إذا كانت هذه هي طبيعة الإصلاح الديمقراطي الذي تزعم الحكومة المصرية القيام به، والذي لا صلة له بضغوط أمريكية بقدر ما يأتي كمحاولة لمعالجة خجولة ومترددة للأزمة السياسية بالداخل بعد أن تصدعت تماما مصداقية النظام المصري وشرعيته لدى الجماهير، حتى في أوساط الطبقة الحاكمة والطبقة الوسطى، فهل معنى ذلك أن الولايات المتحدة سوف تصطدم بالنظام المصري نتيجة لعدم التزامه بالقيام بإصلاح ديمقراطي حقيقي؟

دعونا أولا لا نستبعد إمكانية اصطدام النظام المصري – أو أي نظام – بالإمبريالية الأمريكية في المطلق، فهذه الإمكانية واردة إذا ما أدت تطورات سياسية غير منظورة أو متوقعة إلى ذلك، ودليل ذلك ما حدث من اصطدام الولايات المتحدة الأمريكية بنظام صدام حسين بعد تحالف دام عشرات السنين. ولكن هذا الاصطدام، إذا حدث، فإنه بالتأكيد لا علاقة له بقضية الديمقراطية أو أوهام من هذا القبيل، حيث أن المثال الحي أمامنا الآن، وهو الصدام مع نظام صدام حسين، لم يكن له علاقة بقضية الديمقراطية وإنما بالمصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة ومشروعها للهيمنة على العالم، كما أن ممارستها داخل العراق حاليا لا تكشف عن أي نية لتحقيق تلك الديمقراطية المزعومة.

إن أولوية السياسة الأمريكية في المنطقة هي تحقيق الاستقرار الذي يخدم مصالحها الاستراتيجية فيها، وأولها النفط، وإذا حدث في أي مكان في العالم تسعى الولايات المتحدة إلى بسط نفوذها عليه أن هددت التغيرات السياسية في أي اتجاه مصالحها الاستراتيجية واستمرار هذا النفوذ، تتدخل الولايات المتحدة تحت دعاوى فرض الديمقراطية أو الاستقرار لمواجهة هذا التهديد، ولديها أساليب مختلفة في هذا التدخل. فعندما تولى هوجو شافيز رئاسة فنزويلا عبر انتخابات ديمقراطية خلال العام الماضي، نظمت الولايات المتحدة انقلابا عسكريا أطاح به حتى تدخلت الجماهير في فنزويلا وأعادت شافيز إلى السلطة، ولكنها لم تتوقف عند هذا الحد ولم تنكر دعمها للانقلاب العسكري، بل لجأت أيضا إلى سياسة الإفقار عن طريق التدخل لدى صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لمنع أي قروض أو أموال توجه إلى فنزويلا في وقت كانت الشركات الأمريكية ورجال الأعمال في فنزويلا يهربون الأموال إلى خارج البلاد حتى وقعت في أزمة اقتصادية طاحنة، ولم تتوقف المساعي الأمريكية حتى أبدى شافيز – الذي استطاع الاحتفاظ بالسلطة عن طريق الدعم الجماهيري ومساندة الجيش له – استعداده عمليا لتلبية المطالب الأمريكية.

مثال آخر من العصر الحديث، حتى لا نحتاج إلى أمثلة مثل شيلي 1979، وإندونيسيا سوهارتو، وغيرها، وهذا المثال هو حكومة أريستيد في هايتي، حيث تولى أريستيد رئاسة البلاد بعد انتخابات ديمقراطية في عام 2002، ولكن طبقة رجال الأعمال والشركات الأمريكية دعمت انقلابا عسكريا ضده، وبعد هروبه إلى الولايات المتحدة ووعوده بتنفيذ برامج التكيف الهيكلي وتحرير التجارة مع صندوق النقد الدولي، تدخلت الولايات المتحدة عسكريا وأعادته إلى السلطة، ولكن هذه السياسات أدت إلى تردي الأوضاع في هايتي من ارتفاع الأسعار وتزايد البطالة وانهيار الاقتصاد، فتخلى أريستيد عن برامج الصندوق وبدأ في زيادة الإنفاق على الخدمات من تعليم وصحة وبعض الإصلاحات الاجتماعية الأخرى، فتدخلت الولايات المتحدة مرة أخرى بأن أوقفت أي قروض من الصندوق والبنك إلى هايتي وبدأت الشركات الأمريكية ورجال الأعمال من جديد في تفجير موجة من التمرد التي تطالب باستقالة أريستيد مازالت مستمرة حتى الآن. ورغم إعلان الولايات المتحدة "تأييدها" للسلطة الشرعية وبقاء أريستيد إلا أنها تواصل سياسة الدعم غير المباشر للمتمردين.

هكذا لا نحتاج إلى أمثلة من التاريخ السحيق حتى نتعرف على طبيعة السياسة الأمريكية ودعمها المزعوم "للديمقراطية"، وحتى نعرف ماذا تعني حقا بهذه الديمقراطية. فكل ما تحتاجه الولايات المتحدة هو استقرار مصالحها التي تلتقي بالتأكيد في منطقتنا مع مصالح البرجوازية المحلية، وهو السند الأساسي لتحالفها معها، الذي لا ينقلب إلى عداء إلا عندما تتنافر هذه المصالح كما حدث في العراق.

وهنا ننتقل إلى نقطة أخرى، فما أروع أن تجد الإمبريالية الأمريكية برجوازية محلية في هذه المنطقة تلتقي مصالحها مع مصالح الولايات المتحدة وفي نفس الوقت تجد تأييدا من شعوبها يجعلها أقل اعتمادا على القمع البوليسي الذي يعد أضعف وسائل الاستيعاب وتحقيق الاستقرار المنشود لهذه المصالح! وما أروع أن يتم ترسيخ هذه المصالح عن طريق القمع الأيديولوجي بتزييف وعي الجماهير وتحقيق مصالحة بينها وبين حلفاء الولايات المتحدة الاستراتيجيين كالدولة الصهيونية مثلا! ما أروع ذلك حقا لضمان هذه المصالح على المدى الطويل ما أمكن ذلك!

هذا ما تتمناه أمريكا في مشروعها الجديد القديم، وربما ساهم هذا المشروع أيضا جزئيا في تعزيز موقف بوش والحزب الجمهوري في الانتخابات الأمريكية المقبلة، ولكن ليس معنى أن الولايات المتحدة أقوى دولة في العالم أنها تستطيع أن تحقق كل ما تتمناه، خصوصا إذا كان ما تتمناه ضد مصالح ومستقبل الغالبية الساحقة من شعوب المنطقة. ولتوضيح ذلك، دعونا نتخيل أن النظام المصري قام لأول مرة في تاريخه، استجابة لهذه الضغوط المزعومة أو غيرها، بتنظيم انتخابات حرة ونزيهة دون أن تتدخل أجهزته في تزويرها، فما هي القوى التي يمكن أن تتولى زمام الحكم في مصر آنذاك؟ كل من لديه دراية حتى ولو بسيطة بطبيعة الأوضاع السياسية في مصر حاليا سوف يدرك بكل بساطة أن التيار الديني هو الذي سيكتسح هذه الانتخابات، وربما ينجح فيها بعض رموز الحكومة أو رموز المعارضة التاريخية العاجزة حاليا، اعتمادا على دوافع قبلية أو تاريخية، ولكن التيار الديني سيحصل بالتأكيد على أغلبية ساحقة. ورغم أن هذا التيار تحالف من قبل مع الولايات المتحدة بأشكال مباشرة وغير مباشرة في ظروف خاصة وفي معارك جزئية وفي ظل توازنات وصراعات عالمية مختلفة، مثل تحالفه مع الولايات المتحدة في معركتها ضد الاتحاد السوفييتي السابق أثناء الحرب الباردة، إلا أن هذه الظروف اختلفت حاليا، وأصبح شعار الولايات المتحدة في معركتها الجديدة لبسط النفوذ هو محاربة هذا التيار تحت دعوى الحرب على الإرهاب، ثم أن هذا التيار الديني في مصر على الأقل لن يستطيع طرح الصداقة مع إسرائيل على أجندته السياسية، وهي أحد أركان مشروع أمريكا للشرق الأوسط، وإذا امتد بنا الخيال أكثر سنكتشف أبعاد أخرى لخرافة هذا المشروع.

إن الأنظمة الحاكمة في بلادنا ليست مستبدة لأن قياداتها سادية ومريضة نفسيا، تحب الاستبداد من أجل الاستبداد. بل إن كل هذه الأنظمة تتمنى لو حكمت وحققت مصالحها ومصالح الطبقات المالكة برضى ومباركة الجماهير، إن النظام المصري يتمنى خصخصة جميع المصالح والمصانع والشركات برضى العمال ومباركتهم، وبلا إضرابات أو مظاهرات، ويتمنى أن يقبل هؤلاء العمال أجورا أدنى والعمل تحت تهديد الفصل المستمر وبلا ضمانات صحية أو اجتماعية دون اعتراض، كما أنه يتمنى أن يوافق الفلاحون طواعية على ترك أراضيهم والعمل بالأجر لدى شركات أجنبية أو محلية كبيرة تملك مساحات واسعة من الأرض وتستخدم عددا قليلا منهم بأجور زهيدة حتى تستطيع تعظيم أرباحها، كما أن النظام المصري أيضا يتمنى أن يتخلى فقراء المدن عن بيوتهم ويختارون التشرد عن طيب خاطر، حتى يمكن تقديم هذه الأراضي لشركات البناء الحديثة وإنشاء الأبراج وتحقيق أرباح طائلة من وراء بيعها لمن يستطيع أن يدفع الثمن، إنه يتمنى أن ينضم كل المصريين إلى أحزاب سياسية، ليس من أهدافها مواجهة النظام وانتقاده فيما يعجز عن تقديمه للجماهير ولا تدعو إلى الثورة عليه أو تحرض على مقاومة سياساته، وإذا حدث وأن انتقدته هذه المنظمات أو الأحزاب فلابد ألا يصل الأمر إلى حد عجزه عن استيعاب هذه الانتقادات ومعالجتها دون تهديد لبقاء واستمرار النظام، ويتمنى أن تصدر ملايين الصحف وتقول كل شيء طالما أن كل هذا الكلام لا يدفع الغالبية الساحقة إلى التمرد والثورة ضده، وأن تكون الطبقة الحاكمة نفسها قادرة على إقناع الجماهير بدعايتها المؤيدة للنظام بشكل عام حتى يتعادل الجانبان.

هذا ما يتمناه النظام ولكنه لا يستطيع إدراكه، مما يعني أن السياسة التي تريدها أمريكا وتلتقي مع مصالح الطبقة الحاكمة في مصر لا يمكن تنفيذها بدون القمع والاستبداد، حتى وإن كان هذا الاستبداد يتم تحت غطاء من المؤسسات "الديمقراطية" الشكلية مثل البرلمان المزور والأحزاب الضعيفة والمنظمات الهشة والصحف المكبلة والنقابات البيروقراطية التي تعمل كأداة من أدوات الدولة في مواجهة أعضائها. هكذا ببساطة، فإن تحرير التجارة وتنفيذ برامج التكيف الهيكلي، لأنهما يتعارضان مع مصالح الجماهير الكاسحة في المنطقة، ولأن الطبقة الحاكمة غير قادرة على استيعاب هذه الجماهير بآليات أخرى، فإن القمع والاستبداد هو السبيل الوحيد لتنفيذ هذه البرامج.

ومن هنا نجد تناقضا داخل المشروع الأمريكي ذاته يستعصي الحل، سواء من الناحية الاقتصادية أو السياسية، والأمر هنا لا ينطبق فقط على النظام المصري، فقد أشار مقال بعنوان "البترول والديمقراطية لا يلتقيان" نشر على موقع Common Dreams في 6 فبراير الجاري، إلى أن نائب الرئيس الأمريكي، ديك تشيني، الذي كان آنذاك رئيسا تنفيذيا لشركة هاليبورتن الأمريكية، قال في مؤتمر للطاقة عام 1996 في مدينة نيو أورليانز، "المشكلة أن إلهنا الطيب لم يجد أن من المناسب وضع احتياطات البترول والغاز في دول ذات حكومات ديمقراطية." ديك تشيني طبعا يقصد أن إلهه هذا رغم طيبته لم يجعل احتياطات البترول والغاز لدى الولايات المتحدة وغيرها من الدول الإمبريالية، وإنما جعل بين أكبر عشر دول تمد الولايات المتحدة بالبترول، الجزائر وأنجولا ونيجيريا والسعودية والتي تحكمها نظم قمعية ومستبدة، والمكسيك وفنزويلا والتي تحكمها نظم "ديمقراطية" ولكنها لم تتمتع أبدا بالاستقرار وتعاني من الاضطرابات الاجتماعية وعدم المساواة، كما أن العراق بعد معاناته من الحرب والاستبداد مازال يخضع للاحتلال الأمريكي ولا أمل أمامه في تحقيق هذه "الديمقراطية". وبينما جعل ديك تشيني الرب هو السبب في ذلك، إلا أن كاتبة المقال أشارت إلى أسباب أخرى هي الأقرب إلى الواقع، وأوضحت أن سياسة واشنطن ربما تقدم جزءا من الإجابة على سؤال: لماذا لا تلتقي الديمقراطية مع النفط؟ فقد قامت الولايات المتحدة بتقديم مساعدات عسكرية وتدريبات للقادة والزعماء الذين يضمنون لها تدفق البترول ويواجهون أي مخاطر يتعرض لها هذا التدفق حتى – بل وبالذات – ضد شعوبهم. ومنذ بداية حرب الولايات المتحدة على "الإرهاب" تلقت أكبر عشر دول تمدها بالبترول زيادة في المساعدات العسكرية والتدريب بنسبة 350%، بالإضافة إلى أن واشنطن وضعت خطة لتقديم معونات عسكرية في عام 2003 لهذه الدول بلغت قيمتها 58 مليون دولار، بينما بلغ إجمالي قيمة المعونات العسكرية لهذه الدول في موازنة عام 2001 حوالي 12.2 مليون دولار. وقد فسرت واشنطن هذه الزيادة الكبيرة في قيمة المعونات لأنظمة مثل نيجيريا والجزائر بقدرة هذه الأنظمة على تغليف قمعها واستبدادها بخطاب الولايات المتحدة تحت شعار "الحرب على الإرهاب". واستطاعت أمريكا بمنتهى السهولة أن تغض الطرف عن سياسات النظام الجزائري القمعية وسجله البشع في مجال حقوق الإنسان بعد التأكد من أن الجزائر بها احتياطي من النفط يبلغ 9.2 مليون برميل، الأمر الذي يفتح شهية الشركات الأمريكية للاستثمار بها، وتأتي في هذا السياق أيضا مساندة الولايات المتحدة للنظام السعودي عسكريا وسياسيا وهو نظام أبعد ما يمكن عن الوصف "بالديمقراطية" حتى ولو من الناحية الشكلية. فكيف تخدم المعونات العسكرية للنظم المستبدة مشروع الديمقراطية المزعوم؟ ففي منطقة الخليج، كما في بلاد أخرى، زادت المعونات العسكرية والتدريب الذي تقدمه الولايات المتحدة للدول المستبدة زيادة هائلة خلال الأعوام الثلاثة الماضية، ليس بهدف حماية الحدود الخاصة بهذه الدول ضد الغزو الخارجي، وإنما لقمع الحركات المعارضة أيا كان توجهها والحفاظ على سلطة الملوك والرؤساء من حلفاء الولايات المتحدة بكل السبل.

لا نستطيع أن نحصي الأمثلة التي تتناقض فيها سياسة الولايات المتحدة مع مزاعمها في نشر "الديمقراطية الغربية" في مناطق أخرى بالعالم. فمن باكستان إلى روسيا إلى أمريكا اللاتينية ومصر وغيرها، نجد الولايات المتحدة لا تساند إلا نظما مستبدة طالما كانت قادرة على الحفاظ على مصالحها. ودول المنطقة ليست غبية حتى لا تدرك هذه الحقيقة الواضحة، والولايات المتحدة أيضا ليست من الغباء حتى تقامر باستقرار مصالحها في المنطقة حفاظا على مبادئ مجردة لا معنى لها في الحقيقة، حتى داخل أمريكا نفسها. فدعونا لا نراهن على الأوهام ونعترف بالواقع حتى نتوصل إلى بارقة تضئ لنا الطريق.



#رمضان_متولي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تفجيرات أربيل وحق الأكراد في تقرير المصير
- أحيانا أندهش!
- متى تكون الديمقراطية من مصلحة الأمريكيين في العراق؟
- محكمة بلا ذراعين، وقادة بلا أنصار!
- طريق التغيير لا يمر عبر -مرآة أليس
- الطريق إلى الحرية – معادلة لم تجد لها حلا بعد!


المزيد.....




- لواء روسي: الحرب الإلكترونية الروسية تعتمد الذكاء الاصطناعي ...
- -سنتكوم-: تفجير مطار كابل عام 2021 استحال تفاديه
- الأمن الروسي يعتقل مشبوها خطط بتوجيه من كييف لأعمال تخريبية ...
- أوكرانيا تتسبب بنقص أنظمة الدفاع الجوي في الغرب
- مسيرة إسرائيلية تستهدف سيارة في بلدة عين بعال جنوبي لبنان وأ ...
- دحضا لمزاعم -ذكورتها-.. زوجة ماكرون تتحرك رسميا
- بوريل: إيران تعمّدت إرسال مسيّرات استغرق وصولها ساعات إلى إس ...
- صور مرعبة تكشف تأثير قلة النوم على ملامح الوجه!
- سرجون هدايه.. يوميات مراسل حربي
- وزيرة الخارجية النمساوية السابقة تدعو زيلينسكي لتعديل الدستو ...


المزيد.....

- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل
- شئ ما عن ألأخلاق / علي عبد الواحد محمد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - رمضان متولي - أوهام وحقائق مشروع الشرق الأوسط الكبير