أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي - سعيد هادف - الجزائر في أفق 2012، الذكرى الخمسينية لاتفاقيات إيفيان (الحلقة الرابعة)















المزيد.....


الجزائر في أفق 2012، الذكرى الخمسينية لاتفاقيات إيفيان (الحلقة الرابعة)


سعيد هادف
(Said Hadef)


الحوار المتمدن-العدد: 2418 - 2008 / 9 / 28 - 09:33
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي
    


كيف نقرأ أحداث أكتوبر88، في ضوء نظرية الكاوس؟
ـــــــــــــــــــــــــــــ

مع صيف 2012، يكون قد مر على الجزائر المستقلة نصف قرن. أربعة أعوام تفصلنا عن ذلك اليوم. فما الذي سيحدث خلال هذه السنوات التي تفصلنا عن 2012؟ وكيف سيكون العالم وقتئذ؟ وهل ستكون الجزائر على ما هي عليه اليوم؟ أم أسوأ؟ أم تكون قد أسست زمنها الجديد، زمن الديموقراطية والسلم والعدالة؟ وهذا ما نتمناه، ومانعمل في سبيله. لقراءة الحلقات السابقة اضغط على الرابط
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=139145
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=139541
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=146973


تعود بدايات الأحداث إلى خطاب رئاسي غاضب ألقاه الرئيس الشاذلي بن جديد في 20 سبتمبر1988 . ترى بعض المصادر أن الرئيس ألقى ذلك الخطاب عندما شعر بمضايقة صقور الحزب، ومرر من خلاله رسالة إلى الشعب كي ينتفض ويقول كلمته، "لازم الشعب تاعنا يتحرك" هكذا خاطب الشاذلي الشعب حتى يتحرك. وبالفعل انطلقت عدة إضرابات في المجمعات الصناعية الكبرى مثل مصنع السيارات في ضواحي العاصمة بمنطقة الرويبة، وفي سلك البريد والمواصلات. بدأت المظاهرات والتجمعات وتحطيم المحلات العمومية التابعة للدولة في حي باب الوادي وباش جراح وذلك يوم الثلاثاء 4 أكتوبر 1988 مساء. لتنفجر الأوضاع في العاصمة يوم الأربعاء منذ الصباح الباكر وانطلقت عمليات التدمير والتخريب وتحطيم كل ما يرمز للنظام والدولة والحزب الحاكم. فحسب الجنرال خالد نزار فإن الخطاب "سجل البداية الرسمية لعملية (صوت الشعب) التي كان الهدف منها، على غرار ما حصل في الصين الشعبية أواسط الستينات، أثناء الثورة الثقافية، القضاء على أصحاب النفوذ وزعزعة الإقطاعيات المحمية من أجل إعادة بناء النظام. لقد جرى توضيب كل شيء من أجل تمرير الإصلاحات أمام اللجنة المركزية. وقد تم التجاوب مع الشعار الذي طرحه رئيس الجمهورية، ولكن بأية وسيلة.. لقد جرى ترتيب الضربة السيئة بعناية" (1).
في يوم الخميس 6 أكتوبر 1988 تحرك الجيش وتم الإعلان عن الأحكام العرفية وبدأ القتلى يتساقطون على يد قوات الجيش. في مساء الخامس من أكتوبر أعطى نزار أمرا للوحدات العسكرية بالتحرك نحو العاصمة، وحدة المدرعات في جلفة، ووحدات الكوماندوس من بسكرة كما أعطى أمرا لوحدات المشاة بالتأهب على الحدود الغربية. الجنرال بن عباس غزيل قائد الدرك الوطني يتدخل في نفس اليوم وبنفس الوحدة الدركية في ثلاثة من المدن(وهران، عنابة، والعاصمة). ويبرر الجنرال خالد نزار اشتعال الفتنة كون أولى طلقات الرصاص قد انطلقت من صفوف مجموعة من الحركيين الأصوليين من جماعة التكفير والهجرة كانت قد تسللت إلى وسط المنظاهرين.
لا يتردد الجنرال في وصف النظام بالقصور والتواطؤ. فغازي حيدوسي من مدبري الانتفاضة و الشاذلي وحمروش بالثنائي المتواطئ مع عباسي مدني، وعلي بلحاج بالمحرض على تأجيج غضب الجماهير.
يؤكد على أن أكتوبر كان مدبرا، لقد تم إجلاء الجيش عن العاصمة بوقت قبل الأحداث (2)،ومن جهة أخرى يعتبره نتيجة سوء الإدارة، وعدم الكفاءة(3) كما يصف نظام بن جديد بالأيديولوجية المصطنعة، وبالواقف على أرجل من خزف.
غازي حيدوسي أحد الأبطال الإشكاليين في كتاب خالد نزار، هو بدوره يصف في كتابه (التحرير الناقص) النظام بالنهاب والمشعوذ.
كل أبناء النظام لا يتردون في وصف النظام بأشنع الأوصاف، ولا يتحرجون من اتهامه وتجريمه. إنها مفارقة، فبمجرد أن يجد أحدهم نفسه خارج دائرة السلطة حتى يصبح بصره حديدا.
على غرار كل المذكرات وجل المقاربات، يتناول الكتابان الأزمة الجزائرية بمعزل عن السياق الدولي، كما لو أن الأحداث وقعت خارج التاريخ، و خارج البرمجة الإمبريالية، وكما لو أن الجزائر تعيش في جبل قاف، ذلك المكان الذي ابتدعته الخرافة. الكتابة على هذا النحو ضرب من الشطح السردي المؤطر بالتواريخ والأسماء والأحداث، والمعطر بالمشاهد الفرجوية.
التاريخ في معناه البسيط والعميق، هو حياة عاشها أناس حقيقيون وأحداث حقيقية. فالقارئ للنص التاريخي ينتظر من المؤلف/المؤرخ أن يقدم له "رواية حقيقية" للأحداث وليس نصا متخيلا على غرار الأساطير أو قصص الخيال العلمي. وقد كان تغليف التاريخ الجزائري بالأساطير والمعجزات قد أفقده فعاليته.
إن معرفة الحقيقة أمر صعب، والأصعب من معرفتها تقبلها، لذلك يبدو لي أن درجة القوة (قوة الفرد أو قوة المجتمع) تقاس بمقدار جرعة الحقيقة التي يبتلعها، وبالموازاة درجة قدرته على تحمّلها. إن الكمية ودرجة التحمل هما مقياس القوة: كيف تتجرع كمية من الحقيقة وتتحمل مرارتها برباطة جأش دون أن تفقد توازنك، عندها تصبح أكثر اتزانا وقوة. وهذا ما ينبغي التدرب عليه. وما نعيشه اليوم لا ينفصل عما عاشه أجدادنا، نحتاج في المنطلق وبالأساس إلى معرفة الحقائق وتقبلها بشجاعة. فما حدث وما يحدث اليوم لا يقبل المراوغة والمماطلة والتأجيل. على المسؤولين على أعلى المستويات أن يكونوا صادقين مع شعبهم، أن يقولوا له الحقيقة حتى يعرف مصيره. عليهم أن يكشفوا عن طبيعة العلاقة الجزائرية الفرنسية، والجزائرية الأمريكية. عليهم أن يعلنوا صراحة عما يحدث سرا. إن إخراج هذه (الأسرار) لن يكون بالضرورة نقطة ضعف للدولة، بل يمكن تحويله إلى نقطة قوة.

*****
بمجرد أن انفض المتفاوضون من على طاولة إيفيان حتى انفتحت قوس أخرى من العنف والإقصاء والنهب والتضليل.... المأساة كانت تتغذى على الأيديولوجيا، لكن من كان ينفخ في جمر الفتنة حتى تتأجج نارها؟ وكيف؟ ولماذا؟ الفتنة كانت تجد إمكانية صحوها في عاملين اثنين (الإسلام والأمازيغية)(4) غير أن الشرط الضامن لصحوها الدائم هو فصور النخبة عن بلورة مشروع مجتمعي، أو بعبارة أخرى عدم توفر المجتمع على نخبة كفؤة ومتبصرة. فالمخططات الإمبريالية في ظل العقيدة الأمريكية عرفت كيف تكمل برنامجها متنكرة تحت يافطات عديدة (اشتراكية، إسلامية، قومية، حداثية...).
منذ الاحتلال الفرنسي (1830) الذي تم بدعم أمريكي، لم يدخر أسلافنا جهدا، قاوموا بكل نفس ونفيس، وأبلوا بلاء حسنا سيظل التاريخ يصدح به بفخر واعتزاز، لكنهم لم ينتبهوا إلى قبس النور الذي ظلت تتغنى به فرنسا دون أن تجود به، إلا مع مطلع القرن العشرين (قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى) حيث بزغت رؤى جديدة مع جيل جديد من الشبان الجزائريين الذين انخرطوا في النضال السياسي والمدني (حركة الشبيبة الجزائرية بقيادة الأمير خالد وجمعية الطلبة المسلمين لشمال إفريقيا بالجزائر)، غير أن براعة التخطيط السري هيأت المشروع الإمبريالي الأمركي للخروج من عزلته في اتجاه (جزيرة العالم) سنة 1917، بحثا عن (منطقة ارتكاز) للإجهاز على (قلب اليابسة) فأضحت الجزائر أرضا للتنافس الفرنسي الأمريكي، تنافس لم يفصح عن طويته كما لم تكن النخب وقتئذ مؤهلة للإحاطة به. لقد تم تحويل مسار الحركات الوطنية ونضالاتها السلمية إلى وجهة مجهولة وغامضة.
ثمة عوامل عدة تضافرت على خلط الأوراق وتبديد جهود الأحزاب والجمعيات ، بإثارة النعرات والدسائس وشراء الذمم، ثم الصراعات والانشقاقات ثم استدراج الفاعلين السياسيين إلى نفق العمل المسلح، بدء بالمنظمة الخاصة (OS) (1947) وانتهاء بجيش التحرير (1954). غير أن العمل المسلح الذي اعتمده فاعلون جزائريون كوسيلة للاستقلال قد تم إشعال فتيله عبر مجزرة 1945 الشهيرة بأحداث قالمة خراطة سطيف، وهي مجزرة ممسرحة كان من المنطق أن تكون تظاهرة احتفالية يتبادل فيها الفرنسيون والجزائريون فرحة الانتصار العالمي على النازية، فكيف ختمت فرنسا حربها على النازية بتلك المجزرة غير المبررة؟ والسؤال الثاني الذي يجب طرحه، هو: لماذا تزامنت أنشطة المنظمة المسلحة السرية (OAS) مع تباشير الاستقلال؟ إن أحداث45 وبروز المنظمة الخاصة سنة 47 وجيش التحرير سنة 54 ثم المنظمة المسلحة السرية سنة 61، ثم حرب الرمال 1963واحداث مقالة والطرد التعسفي للمغاربة 1975، لم تكن هذه الأحداث سوى مسرحية من لدن (مخرج) ماكر مكين حتى يتم إفراغ الاستقلال من محتواه. لذلك تم ضرب أربعة عقود من الجهد السياسي السلمي. وجاءت حرب الاستقلال مصحوبة بالصراعات الداخلية والخيانة والغدر ثم جاء الاستقلال ملغما بالانقلابات والتصفيات الجسدية والقمع والنفي والإقصاء.
*****
وجاء الخامس من أكتوبر عام 1988 اللحظة التي عبّرت بكيفية غير مفهومة، عن رفضها للواقع الذي تضافرت على صياغته سياسات مقفلة. جاء الرفض على شكل مظاهرات كشفت عن النزعة الإقصائية للجهاز الحاكم، وعن عدم انسجامه كما كشفت عن ضعف جهاز مناعة المجتمع (المناعة الثقافية، السياسية والاقتصادية...). ومع الانفتاح على التعددية الحزبية تم إخراج هذا التمرد على شكل ولاءات للأحزاب التي خرجت من القوة (مرحلة السرية) إلى الفعل (مرحلة الانفتاح). جاء الانفتاح في سياق عالمي تم تدشينه بانهيار الاتحاد السوفييتي في العام 1991. حدث الانهيار بعد التمهيد الذي جاء به ميحائيل غورباتشوف على شكل وعد رسالي للسوفيات، وعد سهر على تنزيله تنظيرا وتطبيقا اشتهر عالمئذ بـ (البروتسترويكا والغلاسنوست). وقبل الانهيار السوفياتي ، عرف العالم فوضاه الخلاقة التي تم إخراجها بنظام فرجوي محكم (من لا يتذكر المشهد الاستعراضي لسقوط شاوسيسكو، وما حدث في يوغوسلافيا ومناطق أخرى...) كما عاش العالم الإسلامي بعض التغير استبشرت به الشعوب. فالحرب العراقية الإيرانية وضعت أوزارها، وانفرجت العلاقة المغربية الجزائرية. ولكن أيضا صدر كتاب "آيات شيطانية" وفتوى الخميني بإهدار دم صاحب الكتاب سلمان رشدي، وذاع صيت الرواية بصيت الفتوى إعلاميا وسياسيا ودينيا، وانخطف الرأي العام الإسلامي برنين الفتوى، متربصا برأس سلمان التي ظلت سليمة معافاة بينما تم حش آلاف الرؤوس البريئة، كان للجزائر كتقليد تاريخي نصيبها الوافر من المأساة. ولم ينتبه الإعلام ساعتها إلى الموت الغامض لسالم بن لادن شريك جورج بوش في شركة (أربيستو)، ولا إلى خلفيات وحيثيات تأسيس أسامة للقاعدة، وهو الأخ الشقيق لسالم الذي قضى نحبه بأمريكا في حادث غامض بطائرته الخاصة، واغتيال عبد الله عزام وإعادة انتشار العرب الأفغان. وبعد الانهيار السوفياتي تمت إزالة جدار برلين إيذانا بالوحدة الألمانية المفتوحة على الوحدة الأوروبية، وتم الغزو العراقي للكويت بمكر أمريكي، كما تم إطلاق الأشباح من عقالها لتجعل من الإسلام فزاعة إيذانا بزمن اللاأمن العربي. في هذا السياق تمت هندسة أحداث أكتوبر، وبمباركة من التلفزيون الذي كان سخيا في ترويجها، هو الذي كان من عادته التكتم. جاءت الأحداث وتم طبخ دستور على عجل أو لعله كان مصاغا سلفا. وبدل أن ينجب الانفتاح مشروعا مجتمعيا، وحياة سياسية دموقراطية، أنجب أحزابا مبتهجة بما ملكت وعصابات تحترف الإجرام المنظم.
في حوار أجرته معه الجزائر نيوز، بمناسبة عودته إلى الجزائر سنة 2006، قال رئيس الهيئة التنفيذية للفيس بالخارج السيد رابح كبير أن أحداث أكتوبر»كانت مفاجأة للجميع، للسلطة وللمعارضات التقليدية، سواء الدينية منها وغير الدينية••• فالإخوان الذين كان على رأسهم، نحناح، اعتبروا أحداث أكتوبر غامضة، وفيها الكثير من الالتباس، لذا كان أول بيان صدر عن هذه الجماعة، يأمر أتباعه بعدم الإنخراط في الأحداث وأوصى بالحذر والانتظار عما سيسفر عن هذه العاصفة، وبالنسبة للشيوعيين فلقد وجدوا أنفسهم غير مهيئين وحاولوا أن يؤكدوا أنهم أبرياء منها ولا يد لهم فيها، وهذا بالرغم من توجيه التهم لبعض عناصر شيوعية، على أساس أنها قامت بدور تحريضي، أما بالنسبة للحركة الثقافية البربرية، فلقد وقفت موقفا حياديا، واكتفى نشطاؤها بإعلان إضراب شامل لمدة يوم«، أما الشاذلي بن جديد الذي تعرضت فترة حكمه لنقد لاذع، فقد حاول رابح كبير إنصافه حيث قال:»إننا نحن كذلك في الجبهة الإسلامية للإنقاذ ظلمنا الرجل«• ولم يبق الرئيس الشاذلي بن جديد ملتزما الصمت، لقد تحدث إلى جريدة الخبر عن مذكراته وقال»من يتجرأ اليوم على القول إن مؤسس التعددية السياسية وفتح المجال الإعلامي والتأسيس لثقافة حقوق الإنسان هو شخص آخر غير الشاذلي؟ أقول فقط نوكل عليهم ربي«(5). كما نتساءل عن خلفيات واهداف "وثيقة ألـ18" التي تلت وقائع 05 أكتوبر 1988، والتي كان عبد العزيز بوتفليقة أحد موقعيها.
*****
»إن الإسلاميين إذ وضعوا اليد على حركة الانتفاضة وبالرغم مما حصل في باب الواد خلال مسيرة العاشر من أكتوبر، فإنهم سوف يضاعفون من مظاهرات الشوارع التي رفعوا خلالها آيات قرآنية وشعارات عنيفة في عدائها للسلطة «(6) ورغم بيان محفوظ نحناح، الذي يأمر أتباعه بعدم الإنخراط في الأحداث، ورغم بيانات أحمد سحنون(7)، فإن الشارع ظل يصدح بشعارات إسلامية. إن (الإسلاميين) الذين انخرطوا في تصعيد مجابهتهم للسلطة هم من سينخرطون في تنظيمات ستعلن عن تطرفها بشكل همجي، كما لو أن عناصرها الفعليين لا تربطهم أية صلة بمجتمعهم الذي أجهزوا عليه بطريقة قد لا يصفها إلا الهوليوديون المتخصصون في صناعة أفلام الرعب. أما النظام فمنذ البداية لم يرفع شعار الديموقراطية إلا للحفاظ على استمراريته، وأما المعارضة التي تبنت الديموقراطية والحداثة كانت مثلها مثل الأصوليين، لا تتوفر على أي مشروع مجتمعي ولم تكن تتمتع بالروح الديموقراطية. وبعد أن دخلت الجزائر غمار التعددية الحزبية اتضح شيئا فشيئا أن القوى التي كان من واجبها التأسيس لجزائر ديموقراطية، في الواقع كانت تتربص ببعضها، وبالتالي أسست بامتياز لجزائر مثيرة للخوف وللشفقة في آن.
»لم تكن الجبهة الإسلامية للإنقاذ حركة سياسية بقدر ما كانت أداة للتعبير عن النزعة الاحتجاجية الكامنة في ثنايا المجتمع الجزائري. إلا أنها لم تعرف كيف تحوّل هذه الطاقة إلى مشروع وطني كان سيسمح لها بالاستيلاء على السلطة وقتا طويلا بفضل قبوله من طرف المجتمع ككل ومن طرف البيئة الدولية معا«(8) ، فبأي يد كانت هذه الأداة؟ ولمصلحة من تم استغلالها؟ لقد فازت الجبهة الإسلامية في الانتخابات البلدية بخمسة وخمسين في المئة، ومع ذلك لم تتواضع لكرم ناخبيها وثقتهم فيها، حيث ظلت تكثف من وجودها الفرجوي بمسيراتها الاستعراضية وخطاباتها النارية، وفي الوقت الذي كان عليها أن تحافظ على مكاسبها بمرونة وتعقل وذكاء راحت مثل الجمل تدك ما حرثت على حد تعبير المثل الشعبي. لقد انقلب عليها الأقوياء وتغذوا بها قبل أن تتعشى بهم، وبين عشية وضحاها صارت (لا حمار لا سبع فرنك)، على حد تعبير مثل شعبي آخر. أما الجزائر فقد أضحت نهبا لشبكة من العصابات (الجماعات المسلحة ومافيا السلطة) .
ظل مناضلوا الفيس وخصوصا القادة يتباكون على حقهم الضائع، دون أن يرف لهم جفن على الشعب الضائع، يا لها من سخرية... ويا لها من رجولة...
إن القول بأن أعمال العنف بدأت بعد توقيف المسار الانتخابي لا أساس له من الصحة، لقد تعرضت ثكنة قمار القريبة من الشريط الحدودي التونسي إلى هجوم إرهابي يوم 29 نوفمبر 1991، أي قبل تاريخ التشريعيات بحوالي شهرين. والغريب في الأمر أن التلفزيون غطى الحدث بالطريقة نفسها التي غطى بها أحداث أكتوبر 1988. لا زلت أذكر ذلك الشاب الملتحي الذي كان يتحدث بحماس عن الحدث، ولم يخف خيبته، فحسب قوله أن مجموعة من الأحداث كان من المفترض أن تعم مناطق من الوطن في الوقت ذاته . لقد استغربت، لهذا البث التلفزي وبقيت مشدوها أمام ما يحدث.
*****
وبعد مرور عشرين عاما على أحداث أكتوبر، لم تنجح النخبة الجزائرية في تنظيم جهودها لإعادة بناء حوار ديموقراطي للمساهمة في بناء حياة سياسية ديموقراطية. وبعد مرور عقد من الزمن على وعود عبد العزيز بوتفليقة، نتساءل:هل نجح مشروع الوئام المدني في تطبيع العلاقة بين الشعب والأصوليين المتطرفين؟ الواقع يقول أن النشاط الإرهابي لا يزال ساريا. وهل إعادة الاعتبار إلى الزوايا الصوفية يعتبر قيمة مضافة إلى الإسلام المدني؟ وكيف نفسر ماحدث في الملتقى الوطني الجامع للزوايا والطرق الصوفية الذي كان من المزمع انعقاده خلال يومي 12 و13 مارس 2008، بفندق الأزرق الكبير بولاية تيبازة؟ وهل نجحت مساعي الدولة مع العروش في منطقة القبايل؟ وكيف نفسر تأسيس "حركة المطالبة بحكم ذاتي في القبائل"، وكيف نفسر استنجاد رئيسها فرحات مهني بالرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي؟(9) وثمة أسئلة أخرى.
تذهب بعض التحليلات الإعلامية والسياسية إلى تحميل المسؤولية للجماعات الإسلامية المسلحة في الزج بالجزائر في دوامة الإرهاب، بل هناك من يؤكد مسؤولية فرنسا
في دعمها للأصولية(10) بينما هناك من يشير بأصابع الاتـهام إلى النظام، وبشكل خاص إلى المؤسسة العسكرية في إشعال حرب هناك من سماها (قذرة) وهناك من سماها (أهلية)، وهناك من سماها (جديدة)(11) إن الاتهام الموجه إلى المؤسسة العسكرية أو لأي جهاز من أجهزة النظام هو اتهام لايستند إلى برهان ولا يخضع للمنطق، لكن هناك فرضية قد ترقى إلى حقيقة ملموسة، وهي أن كل أجهزة الدولة بما في ذلك المؤسسة العسكرية والمخابرات، مخترقة من عناصر معادية للشعب، وهي عناصر موصولة بشبكات محلية وعالمية، عناصر مدعومة ماديا ومعلوماتيا، ومتنكرة في كل الألوان ومبثوثة داخل الأحزاب المتطرفة، سواء ذات الأسس الدينية، أو العرقية أو الوطنية. هذه العناصر هي التي تسهر على تنفيذ المخطط الإمبريالي، ولا يمكن إبطال مفعولها إلا بثورة دستورية تقودها مبادرة شجاعة تضع حدا للمتاجرة بالخصوصيات (الإسلام، الأمازيغية والعروبة)، وترفع القيد عن حرية التعبير والرأي، وتؤسس لنظام اقتصادي عقلاني يحرر الثروة من النهب ويجعلها في خدمة التنمية الملموسة.
إن التعديل الذي تروج له بعض الجهات لا يبدو «مشروعا حاسما بالنسبة إلى مستقبل البلاد» (12). فلسنا في حاجة إلى تعديل الدستور، و لا إلى إصلاحه، و لا إلى تجديده إنما نحن في حاجة إلى ابتكار (دستورنا) نحن. دستور يساهم في ابتكاره كل الجزائريين عبر ممثليهم. هل يمكن ذلك؟ ذلك أن الدستور الحالي، كسائر الدساتير العربية، هو مجرد دستور ممنوح على حد تعبير المفكر المغربي المهدي المنجرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نظرية الكاوس، أو الفوضى الخلاقة، نظرية فيزيائية تقول أن الحدث الصغير بمرور الزمن قد يتسبب في حدوث نتائج ضخمة أي أن حدثا ما مهما كان صغيرا فإن ما ينجم عنه من الترابطات والتأثيرات المتبادلة والمتواترة سيولد سلسلة متتابعة من النتائج والتطورات المتتالية والتي يفوق حجمها حدث البداية، وبالتالي يؤثر في مجرى الأحداث تأثيرا لم يكن في الحسبان. فمثلا يمكن لخفقة جناح فراشة في بحر الصين أن تؤثر على وجهة إعصار ببحر الكراييبي (على مستوى التاريخ مثلا خاضت روسيا والإمبراطورية العثمانية حربا لأكثر من قرنين من منطلق ديني، روسيا المسيحية والإمبراطورية العثمانية الإسلامية خرجا من الحرب وقد تجردتا من الدين (روسيا الشيوعية وتركيا العلمانية، كيف حدث ذلك؟ هذا سؤال من بين عشرات الأسئلة، وربما المئات التي لا مناص من إعادة طرحها لتجاوز تلك الإجابات النمطية والنفاذ إلى الأسباب الحقيقية الثاوية خلف الأحداث) . هذه النظرية كانت محل استلهام المشروع الأمريكي، أو بالأحرى مشروع أتباع العقيدة (التدبيريةDispensationalisme-) الذين اشتهروا سياسيا بـ(المحافظون الجدد).
* أثبت التاريخ أن الخلافة العثمانية لم تكن مؤهلة لفهم التغيرات الجذرية التي عاشتها أوروبا منذ سقوط غرناطة المتزامن مع اكتشاف أمريكا (1492). ولم تستوعب النخب الإسلامية زمنئذ كيف تخطت أوروبا أزمنتها المظلمة (أزمنة محاكم التفتيش وصكوك الغفران)، وكيف دشنت عصرا قوامه العقل والإرادة الإنسانية فأصلحت الشأن الديني بفصل الكنيسة عن الدولة والتأسيس لزمن الأنوار على أرضية جديدة: العلمانية، الديموقراطية، والمساواة. كانت كل دولة أوروبية تعالج نوازلها وتصنع مصيرها حسب خبرتها وإمكاناتها وعبقرية رجالاتها، كل دولة تسعى إلى إعادة بناء كيانها السياسي على أسس جديدة أكثر متانة، وبرؤيا واضحة أكثر استشرافا ورحابة ومردودية. وفي الوقت الذي خرجت إنكلترا وفرنسا في اتجاه التخوم (مطلع القرن التاسع عشر)، كان الاتحاد الأمريكي الناشىء يوطد دعائم بيته الفدرالي دون أن يثير أدنى انتباه للقوى المتفاعلة في (جزيرة العالم).
وفي ديباجة دستوره أكد الاتحاد على ما يلي: «نحن شعب الدول المتحدة، رغبة منا في إقامة اتحاد أكمل، وإشاعة العدالة، وتأمين الهدوء الداخلي، وإيجاد دفاع مشترك، وإشاعة الإنعاش العام، وتأمين نعمة الحرية لأنفسنا ولذريتنا، نرسم ونعلن هذا الدستور للدول المتحدة الأمريكية». حدث ذلك سنة 1789.
(1) خالد نزار/ الجيش الجزائري في مواجهة التضليل/ ص69
(2) »كنت أود لو أرى الشاذلي على التلفزيون، ليس لوحده، بل محاطا بالمتآمرين، مدبري الفتن الذين كانوا وراء أكتوبر 1988، لكي يحفظ الجزائريون في ذاكرتهم وجوه الجلادين الحقيقيين«.ص73. »فضل الجنرال محمد بتشين الاستقالة بعد أن تأكد له أن الثنائي بن جديد –حمروش كان متواطئا مع عباسي مدني«. نفس المصدر
(3) «وهو قبل أن يكون نتيجة لتآمر سري أجراه طابور خامس، كان قبل كل شيء نتيجة سوء الإدارة، وعدم الكفاءة» ص70 نفس المصدر.
(4) هذه بعض أهم المحطات الأساسية ذات البعد الإسلامي أو الأمازيغي، التي عرفتها جزائر الاستقلال.
1962/بيان عشرين أوت جمعية العلماء تطالب اعتماد الإسلام .
1963أكتوبر/ انتفاضة القبايل.
1963 /منع جمعية العلماء.
1963/ تأسيس جمعية القيم ذات التوجه الإسلامي.
1964/ 16/ابريل-البشير الإبراهيمي يخرج من صمته لإدانة النظام.
1970 /منع جمعية القيم.
1970/20/أكتوبر- اغتيال كريم بلقاسم
إلغاء كرسي البربر من الجامعة الجزائرية
1975 /تأسيس (الجماعة الإسلامية)، التي يتم تغيير اسمها بداية الثمانينيات تحت اسم (مجلس الشورى).
1976 /تأسيس جماعة النهي عن المنكر.
جماعة الجهاد أواخر السبعينيات.
1976/فتوى الفعاليات الدينية ضد الاختيارات البومدينية
1976/تنظيم (الموحدون) يصدر بيان " إلى أين يابومدين؟"
1980/20أبريل -الربيع الأمازيغي.
1982يوليوز -الحركة الإسلامية بالجزائر.
1982نوفمبر - أحداث جامعة الجزائر بين الإسلاميين واليسار.
1982/ 12نوفمبر - بيان النصيحة.
1985/ 27أوت – هجوم جماعة بويعلي على ثكنة الصومعة.
1987/3فبراير: مقتل الناشط الإسلامي مصطفى بويعلي.
(5) يومية الخبر/2007-12-30
(6) خالد نزار/ نفس المصدر
(7)البيان الأول الذي يدين فيه (كل عمل تخريبي لممتلكات الشعب سواء عن طريق سياسة المباهاة والبذخ والتبذير الرسمي أو عن طريق الأعمال غير المسؤولة من حرق وتخريب ونهب). وفي يوم 9 أكتوبر وجه علي بن حاج والهاشمي سحنوني من مسجد السنة نداء من أجل تنظيم مسيرة شعبية يوم الاثنين 10 أكتوبر تعبيرا عن الرفض، لكن الشيخ سحنون وأمام تفاقم الأحداث أصدر البيان الثاني متصديا لهذه المبادرة ومحذرا من عواقبها حيث جاء في البيان(إن هذه المسيرة يجب أن تتوقف فورا ومن تمادى في تنفيذ قرار اتخذه فرد فقد خرق إجماع الأمة والدعاة). لقد أصدر الواعظ أحمد سحنون 6 بيانات، كان الثالث والرابع منها على شكل رسالتين إلى رئيس الجمهورية.
(8) المحلل السياسي والضابط السابق في الجيش، محمد شفيق مصباح / الخبر/2008-08-06 و2008-08-10.
(9) الشروق/10/12/2007
(10) يوسف حاج علي/ Lettre ouverte aux français…./Edition Albin Michel/1998
(11) جلال مالطي/ La nouvelle guerre d’Algérie/ Edition Centre Tarik Ibn ZYAD/ MAROC/1999.
(12) المحلل السياسي والضابط السابق في الجيش، محمد شفيق مصباح / الخبر/2008-08-06 و2008-08-10.



#سعيد_هادف (هاشتاغ)       Said_Hadef#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الجزائر في أفق 2012، الذكرى الخمسينية لاتفاقيات إيفيان (الحل ...
- الجزائر في أفق 2012، الذكرى الخمسينية لاتفاقيات إيفيان (الحل ...
- الجزائر في أفق 2012، الذكرى الخمسينية لاتفاقيات إيفيان (الحل ...
- نصف قرن على مؤتمر طنجة: الشرط الغائب في مسألة الاتحاد المغار ...


المزيد.....




- نقار خشب يقرع جرس منزل أحد الأشخاص بسرعة ودون توقف.. شاهد ال ...
- طلبت الشرطة إيقاف التصوير.. شاهد ما حدث لفيل ضلّ طريقه خلال ...
- اجتياج مرتقب لرفح.. أكسيوس تكشف عن لقاء في القاهرة مع رئيس أ ...
- مسؤول: الجيش الإسرائيلي ينتظر الضوء الأخضر لاجتياح رفح
- -سي إن إن- تكشف تفاصيل مكالمة الـ5 دقائق بين ترامب وبن سلمان ...
- بعد تعاونها مع كلينتون.. ملالا يوسف زاي تؤكد دعمها لفلسطين
- السيسي يوجه رسالة للمصريين حول سيناء وتحركات إسرائيل
- مستشار سابق في -الناتو-: زيلينسكي يدفع أوكرانيا نحو -الدمار ...
- محامو الكونغو لشركة -آبل-: منتجاتكم ملوثة بدماء الشعب الكونغ ...
- -إيكونوميست-: المساعدات الأمريكية الجديدة لن تساعد أوكرانيا ...


المزيد.....

- عن الجامعة والعنف الطلابي وأسبابه الحقيقية / مصطفى بن صالح
- بناء الأداة الثورية مهمة لا محيد عنها / وديع السرغيني
- غلاء الأسعار: البرجوازيون ينهبون الشعب / المناضل-ة
- دروس مصر2013 و تونس2021 : حول بعض القضايا السياسية / احمد المغربي
- الكتاب الأول - دراسات في الاقتصاد والمجتمع وحالة حقوق الإنسا ... / كاظم حبيب
- ردّا على انتقادات: -حيثما تكون الحريّة أكون-(1) / حمه الهمامي
- برنامجنا : مضمون النضال النقابي الفلاحي بالمغرب / النقابة الوطنية للفلاحين الصغار والمهنيين الغابويين
- المستعمرة المنسية: الصحراء الغربية المحتلة / سعاد الولي
- حول النموذج “التنموي” المزعوم في المغرب / عبدالله الحريف
- قراءة في الوضع السياسي الراهن في تونس / حمة الهمامي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي - سعيد هادف - الجزائر في أفق 2012، الذكرى الخمسينية لاتفاقيات إيفيان (الحلقة الرابعة)