|
جغرافيا الطوائف وسياسات تغييب الاندماج
عاصم بدرالدين
الحوار المتمدن-العدد: 2403 - 2008 / 9 / 13 - 08:05
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
يتسم خطاب تيار المستقبل اليوم بالرداءة. فتصنيف المناطق اللبنانية على أساس طائفي هو الضربة الأخيرة في نعش الدولة بغية تفتيتها. كذلك الأمر فإن أي فئة سياسية تعتبر نفسها عابرة للطوائف والمناطق، وتصل حتى حدود علمنة ذاتها من غير المنطقي أن يطلع علينا أحد نوابها ويسمي طرابلس على أنها عاصمة للسنة. أو قليلاً إلى الوراء، أن يصرح زعيم التيار نفسه، أن بيروت السنية أهينت فضلاً عن تصريحات رجال الدين. وإذ نتفق على خطورة أفعال حزب الله وغباء تصرفاته في العاصمة، فإننا نستنكر هذه التسميات البلهاء، فمواجهة حزب الله الحقيقية تكون بالاستنكاف عن استخدام وسائله، فيما تيار المستقبل يسير في منهج الحزب المذكور نفسه.. وهذه كارثة في عالم السياسة اللبنانية.
ولا يغيب عن أحد أن انفعالية تيار الحريري المقصودة والهادفة، تنظر إلى البعيد. إلى الاستحقاق القادم في صيف 2009 أي الانتخابات النيابية. وإذا كانت بيروت، بنوابها السنة على الأقل قد ضمنوا النجاح في حال ركوبهم لوائح الحريري، فإن طرابلس، عاصمة السنة كما يقول النائب كبارة، تعبر عن المشكلة، أو الخوف لدى جماعة الحريري. من هنا عودة الاهتمام المفاجأ والسريع بسلفييها وأبنائها العجز. فهذه المدينة الفقيرة والمعدمة يشكل الأصوليون السنة غالبيتها الكاسحة. وهؤلاء لا يخرجون بأكثرهم عن طوع تيار المستقبل، لكن جزع الأخير ينبع من إمكانية استمالتهم من قبل طرف ثالث لن يكون ببعيد عن حزب الله وحليفته سوريا. أو من نقمة داخل الجسد المذهبي، بسبب ضعف كوادر المستقبل ومياعتها في تأمين حاجات هذه الجماعات العنيفة في شكل عام.
إن لبنان أولاً، الشعار الذي يكثر سعد الدين الحريري من ترديده، لا يكون بالتقسيم. ولا يكون عبر استمرار نهج الطوائف والتجييش والتحريض. واعتبار الناس حواشي ورعاع لا نتذكرهم ولا نزورهم ونطلع على أحوالهم وحاجياتهم إلا عندما يحين استحقاق انتخابي ما. الطامة أن لبنان لن يكون أولاً حكماً، إن استمرت الزبائنية هي المبدأ الأس والحاكم لعلاقة المواطن برجل الدولة، أو الممثل التشريعي، وطالما استمر التصنيف على نحو عصبي متخلف. فقبل الوطن، كهوية وانتماء، هناك القبيلة والمذهب والجغرافيا.
ومن نافل القول، أن جغرافيا الطوائف في لبنان فريدة، فنحن لا نعرف حقاً، إن كان هذا التقسيم النافر للمناطق قصدي، بحيث أن هنالك دوماً إمكانية لإطلاق اسم طائفة معينة على منطقة ما. لا نعرف إن كانت هذه العناصر من أساسيات المؤامرة التي يحلو لنا، نحن اللبنانيون، التصريح عنها بإستمرار. فالتاريخ اللبناني يؤكد أن الجمع بين الجغرافيات لتكوين لبنان الكبير كان على أساس طوائفي. فمتصرفية جبل لبنان المارونية عامة، بمشاركة درزية، حسب الوثائق الفرنسية ضم إليها الجنوب الشيعي والشمال والبقاع السنيين وبيروت المختلطة. بمعنى أن الضم لم يكن عفوياً أو غير مقصود.. بل من صلب الفكر الاستعماري الفرنسي، لإبقاء الوطن ممزقاً مشتة بقيادة رأس واحد.
يحمل هذا الكلام الكثير من الزيف، ليس لأنه مناف للحقيقة التاريخية، وهذا ليس بصحيح، بل لأنه يحيل الفشل إلى التاريخ، فيما هذا الأخير لا شأن له سوى تبني الأحداث. إن انعدام الاندماج، والسياسات الساعية لتحقيقه هو السبب الرئيسي لبقاء المناطق بمعزل عن الجمع بمعناه الحقيقي، لتستوي كلها تحت لواء هوية واحدة عليا وفي كنفها باقي الانتماءات الأولية. وفي هذا المجال نستطيع أن نؤرخ لأربع حقبات ساهمت في القضاء على الفعل الاندماجي للمكونات المجتمعية اللبنانية، فهذا الأخير –أي الاندماج- لا قيامة من دونه لأي دولة في عالم، بل هو يشكل المتن لبناء مجتمع قوي ومتماسك.
الحقبة الأولى: ما بعد إعلان دولة لبنان الكبير. آنذاك كان العمل السياسي، والمشاركة النيابية والوزارية، تمثيلاً لإقطاعية طائفية، بدعم وتشجيع من الانتداب الفرنسي، لتشديد قبضته على الحراك داخل البلد. لذلك لم تتبن أي حكومة تولت الإدارة في ذلك الوقت أي خطة اندماجية لمناطق كانت تتنابذ على الدوام.. ولأن الشرذمة، ومن منطق المؤامرة الحق هنا، كانت عاملاً مساعداً على تطويل عمر الوجود الفرنسي.
الحقبة الثانية: ما بعد استقلال 1943 وقتها تخمرت فكرة لبنان الواحد وطن لجميع أبنائه، عبر ما عرف بالميثاق الوطني الذي سيبقى شبحه يرافق اللبنانيين حتى نهاية الحرب الأهلية. هذا الميثاق الذي قام على فكرة التزام طرفي المعادلة اللبنانية، المسيحيين والمسلمين، بلبنان كوطن نهائي، تجاهل، عن قصد ربما، أن قيام هوية موحدة، تلم جميع أبناء هذه الجغرافيا أو تلك، يحتاج إلى إعادة إنتاج صيغة وطنية جامعة تقوم على عدالة اجتماعية ومساواة بين جميع مواطني الجغرافيا المقصودة. وهذا ما تنبه له، أو عمل لأجله، الراحل فؤاد شهاب في نهاية هذه المرحلة وإن كان في شكل تسلطي قمعي، وكانت هذه هي المرة الأولى، التي يحاول فيها رئيس جمهورية ماروني ضم المناطق الإسلامية اجتماعياً واقتصادياً بإسم الدولة اللبنانية وهرميتها الإدارية، بعد أن كانت هذه المهمة واقعة حصراً على عاتق الإقطاع الطائفي، غير الراغب طبعاً بتحقيق الاندماج، كي لا يطير وينتهي عهده!
لا نستطيع جمع مرحلة ما بعد بداية الحرب الأهلية مع مرحلة ما بعد الاستقلال، وكذلك الأمر لا يمكننا فصلهما، رغم أن هذه المرحلة الدامية تختلف من حيث البنى وآليات العمل. ومن الصعوبة بمكان الحديث في ظل حرب أهلية عن اندماج الشرائح، لكن هذه المرحلة بالذات شهدت تحول حداثي هام جداً، لكن ولأنه في لبنان استحال إلى تحول تدميري، ففي هذه المرحلة مع سنوات قليلة جداً إلى الخلف، برزت الأحزاب كهيكلية للحراك الاجتماعي )أحد عناصر تحقيق الاندماج( والعمل السياسي مع تدمير بقايا الإقطاع، فلولا أن إجراء الانتخابات قد توقف عشية اندلاع الحرب، لكان الكثير من النواب الذي حملوا لقب ممثلي الشعب قد خسروه وخاصة إن كانوا من أبناء الإقطاع. لكن هذه الحزبية، والتحالفات التي قامت بعدها، تحولت سريعاً إلى وسائل تدميرية وتشتيتية للوطن، الذي كان حتى ذاك الوقت ما يزال يبحث عن هويته. لكن المفارقة الراسخة دوماً لتعرية التاريخ اللبناني، أن هذه الحزبية استحالة إلى جسد للإقطاع، وإن كان إقطاعاً مغايراً للذي سبقه، كحالة حزب الكتائب اللبنانية أو حركة أمل.. النقيضين تماماً لحال الحزب التقدمي الاشتراكي، الذي ظل إقطاعي الهوى ما قبل وما بعد، وحتى الساعة.
الحقبة الثالثة: ما بعد إتفاق الطائف. كان يفترض أن تكون مرحلة ما بعد الحرب الأهلية مرحلة مخصصة لإعادة لملمة ما تكسر، وبناء سلطة واحدة، وإيديولوجيا وطنية تقوم على المواطنة كعامل مؤسس لقيام هوية جامعة تركز على الشق الاجتماعي المتردي، السبب الأول في اندلاع الحرب السابقة، وتؤمن آليات الاندماج لكافة الشرائح اللبنانية المتقاتلة. لكن التاريخ، يأبى أن ينسى، فالحقد والكره استمرا إلى ما بعد السلم، إن كان سلاماً حقيقياً، فلا يمكن أن تعمل لتحقيق اندماج اجتماعي، وأنت تسعى في الوقت ذاته إلى عزل شريحة مؤسسة لهذا الكيان وأقصد هنا المسيحيين تحديداً. ففيما كان اللبنانيون ينظرون إلى العهد الجديد على أنه بداية النهاية لذكريات قاتمة، كان الحاكم والوصي السوري، بدعم وسكوت عربي ودولي، يعمل بجهد، دون كابح أو مانع، لذبح إمكانية التعايش عن طريق عملية تنقية للموالين وطرد للمعارضين لوجوده وسلطته النافذة والمحركة. بعدذاك قدم الشهيد رفيق الحريري، ليرسخ إيديولوجيا كان قد سبقه إليها المفكر ميشال شيحا والمعمول بها في العهود السابقة-وكانت هي أحد أسباب تردي الأحوال وإشعال نيران الحرب، ألا وهي "لبنان التجاري والخدماتي-المأخوذة عن الفينيقية" مستثنياً بذلك قطاعي الصناعة والزراعة من مشاريعه. لا مشكلة نسبياً في المبدأ، لكن لا ريب أن هذا القطاع، لما يقوم على تفضيل وتمييز بين منطقة وأخرى-شريحة وأخرى من حيث إيلاء الإهتمام التنموي، قد قضى نهائياً على فكرة الصيغة الاندماجية المرتجاة.) وكانت طرابلس من المناطق التي دفعت الثمن!( فضلاً عن مشاكل الداخل السياسية والإدارية (البيروقراطية) والتغيرات الدولية والإقليمية.
الحقبة الأخيرة: ما بعد الخروج السوري. هذه الحقبة ليست حقبة ناجزه، لكنها في طور الاكتمال، لأنها تلعب دوراً انتقالياً، مظهرة لنا معالم الدولة الجديدة القائمة على أنقاض الحالية، المشكّلة من مجموعة دويلات صغيرة، في ظل سلطة موحدة بلا أي نفوذ أو فعالية. فرغم شعارات انتفاضة الاستقلال، ونجاحها في إخراج الجيش السوري من لبنان بأيادي مجلس الأمن والقوى الكبرى، فإن هذه القوى التي سميت لاحقاً بقوى السلطة المتسلطة، في كثير من المبالغة والسخافة في ظل النظام السياسي التوازني القائم على التراضي. هذه القوى "الثائرة"، الحاملة لربيع كاذب، فشلت في صوغ أي مشروع لبناء الدولة السيدة والمستقلة والحرة. من المبكر، ربما، الحديث عن هذه الحقبة الانتقالية الآن، بإنتظار جلاء مظاهر المرحلة التالية.
*** قد يكون السنة فعلاً في خطر ومهددين، كما يقول مفتي طرابلس مالك الشعار، ويعيد النائب كبارة، لكن لننظر بتجرد إلى هذا الخطر. أليس نتيجة لتراكم فشل السلطات المتعاقبة، في كافة المراحل التاريخية، على بناء الأمن الاجتماعي والسياسي والاقتصادي؟ وأليس مؤسس السنية السياسية، الراحل رفيق الحريري هو أحد هؤلاء الفاشلون؟ بمعنى أن الخطر يكمن من داخل الجماعة ذاتها.
إن التهديد يطالنا جميعاً، مللاً كنا أو أفراد.. لا أريد أن أجير التاريخ على هواي، لكن لننظر للمارونية السياسية وطريقة موتها. لقد ماتت بيدها، ذبحت نفسها، لأنها امتنعت عن تقبل الآخر المتنامي بسرعة. واليوم السنة يشعرون، كما شعر المسيحيون سابقاً مع اختلاف في الحيثيات الدقيقة، وغداً سيشعر الشيعة الشعور نفسه، إذا نجحوا بالسيطرة بقيادة حزب الله(وألم ينجحوا بعد؟)، بالغطرسة ويموتون من بعدها. التاريخ يعيد نفسه، يرسم أحداثه على أجساد غبية متشابهة.
#عاصم_بدرالدين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
القاتل الشريف وحدود التنسيق ودولتنا
-
في تسييس السنة على الطريقة اللبنانية!
-
المواجهة مع حزب الله
-
إلى محمود درويش: سيأتي الموت ويأخذنا معك
-
بعض مفارقات التعامل اللبناني مع الذاكرة
-
في نهرها: فلسطين حقاً عربية!
-
العبارة المصرية كنموذج للغرق العربي
-
إشكالية العلاقة بين العلماني والطائفي في لبنان
-
الإنتخابات في لبنان:أبعد من السلاح، وأكثر من هيئة رقابية
-
فؤاد شهاب يعظكم
-
الهيئة العربية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
-
لا لعقوبة الإعدام في قضية الزيادين
-
حينما يتمادى القمع
-
علمانية الخميني بين الولاية المطلقة والغيب المقدس!
-
ذلك السلاح.. في إنتظار التسوية
-
ليس بئس العلمانية التركية، على بؤسها، إنما بئس الإسلام العرب
...
-
الطائف ليس المشكلة الأساس
-
إستفحال الإستغباء بالتصفيق
-
العلماني خارج دائرة الإنغلاق
-
وماذا عن الجيش؟
المزيد.....
-
برلماني إيراني لـCNN: ردنا على أي هجوم إسرائيلي قد لا يقتصر
...
-
اتصالات ترامب مع بوتين بعد مغادرته البيت الأبيض.. الكرملين ي
...
-
أول توجيه من السنوار لعناصره بعد خلافة هنية
-
عام على الطوفان: لماذا لم يوقف الغرب والعرب الحرب على غزة..
...
-
إيران تحذر: استخدام المجال الجوي لدول الخليج لصالح إسرائيل س
...
-
شولتس في ذكرى مهاجمة كنيس هالة: لن نقبل أبدا بمعاداة السامية
...
-
جيفري ساكس: بايدن يفقد السيطرة على البلاد بسبب تدهور صحته ال
...
-
الصين.. ابتكار خيوط تسرع التئام الجروح
-
روسيا تحجب برنامج المراسلة الصوتية Discord
-
روسيا.. ابتكار سترة نسائية مضادة للرصاص
المزيد.....
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
-
الخطاب السياسي في مسرحية "بوابةالميناء" للسيد حافظ
/ ليندة زهير
-
لا تُعارضْ
/ ياسر يونس
-
التجربة المغربية في بناء الحزب الثوري
/ عبد السلام أديب
-
فكرة تدخل الدولة في السوق عند (جون رولز) و(روبرت نوزيك) (درا
...
/ نجم الدين فارس
-
The Unseen Flames: How World War III Has Already Begun
/ سامي القسيمي
المزيد.....
|