السمّاح عبد الله
شاعر
(Alsammah Abdollah)
الحوار المتمدن-العدد: 2385 - 2008 / 8 / 26 - 04:26
المحور:
الادب والفن
ضحك علينا مكاوي سعيد ، وغافلنا طيلة ربع قرن كامل ، واستوى كاتبا كبيرا . كنا ، أوائل الثمانينيات ، نلتقي في مقهى البستان ، وريش والجريون والمستنقع والنادي اليوناني وآتيلييه القاهرة ، وحفنة المقاهي المتناثرة حول ميدان طلعت حرب ، تلك البقعة التي كنا نسميها مربع الرعب ، والتي تمتد أطرافها من باب اللوق وحتى التوفيقية ، ومن شارع شامبليون وحتى مقهى وزارة الأوقاف ، والتي كان بعضها لا يغلق أبوابه ليلا ولا نهارا مثل ( أوديون ) و ( الراحلَيْن ) ( علي بابا ) و ( أسترا ) ، كانت في جيوبنا أحلام عريضة ، وفي قلوبنا إصرار لا نهائي على تحقيقها ، وكانت جل نقاشاتنا تدور حول الكتابة ، ودائما ما كنت تجد أحدنا فاردا أوراقه في دائرة من الصحابة والرفاق ، وهو منهمكٌ في قراءة قصيدته الجديدة ، أو قصته التي انتهى للتوّ من كتابتها ، وكنا – كلنا – منهمكين حتى آذاننا في تفاعيل الشعر ، وشخوص السرد ، ومشتجرين حتى قلوبنا في فضاء النص .
وحده مكاوي سعيد ، كان لا يشاركنا هذه الجلسات ، وكانت لا تظهر عليه سيماء الكتّاب المعهودة ، وكنا نعرفه كهاوٍ للكتابة ، ومتزوقٍ للشعر ، لم يدلُ مرةً بدلوه في قصة أو قصيدة لأحدنا ، وإذا تصادف وأجبرته زنقة الكراسي في المقهى أن ينضم إلينا ، لم يزد كلامه عن مثل هذه الآراء المكرورة التي لا توضح موقفا ولا تبين رأيا ، كأن يقول لك مثلا إن فلانا ( كتابته كده على طول ) ، أو ( ده الفرق بين الكتابة الحقيقية والكتابة غير الحقيقية ) وأبدا لن يتاح لك أن تعرف إن كانت كتابة فلان التي هي ( كده على طول ) كتابة جيدة من وجهة نظره أم كتابة غير جيدة ، كما أنه لن يكون باستطاعتك أن تعرف إن كان هذا الفارق بين الكتابة الحقيقية وغير الحقيقية في صالح صاحب النص أم ضده .
غير أن مكاوي سعيد في هذه الفترة ، كان ذا سطوة من نوع خاص ، إذ كان دائما ما يظهر بيننا بصحبة الفتيات الجميلات ، وكنا نرمقه من تحت لتحت في حسد كبير ، غير أننا كنا نجاهر بصوتنا العالي أننا أصحاب قضية في الكتابة ، وأن الكتابة الحقيقية هي الأكثر جدوى من كل هذه المهاترات ، كانت فتياته كثيرات ، وكان من الواضح أنه معشوق منهن أكثر من كونه عاشقا لهن ، رغم ابتعاده النسبي عن مقاييس الوسامة ، وسبحان العاطي الوهاب من غير حساب ، وكنا إذا واجهناه بتعليقاتنا اللاذعة الحاسدة ، أجابنا بابتسامته اللصيقة بوجهه الأسمر : ( السعيد في الحب تعيسٌ في الكتابة ، والسعيد في الكتابة تعيس في الحب ) ، كنا نظل أطراف النهار وآناء نضرب بأحبارنا على الورقات البيض ، وكأننا نشفي غليلنا من هذا الزمان الذي لا يسمح لنا بأن نكون سعداء في الحب كمكاوي سعيد ، مصدقين أننا سعداء في الكتابة ، ننشر كتاباتنا في المجلات والجرائد ونحضر ندوات الأتيلييه ودار الأدباء وجريدة المساء وكرمة ابن هانيء ونادي القصة ، ونقابل فتيات يبدين إعجابهن الشديد بما نكتب ، ويضربن لنا مواعيد لا تأتي أبدا ونظل ننتظرها ولا تَصْدُقْ ، وفي انتظارنا لهذه المواعيد المعقودة في فضاء قلوبنا ، يظهر بيننا مكاوي سعيد وبصحبته فتيات أخريات أكثر جمالا ،وكنا نقول :
دعوه ينعم في عنب اليمن ، ويكفينا نحن ما نملكه من بلح الشام .
وهكذا ، ظل إبراهيم عبد الفتاح يكتب أشعاره الصافية ، وأغانيه الفريدة لكبار المطربين والمطربات ، وأصدر إبراهيم داود دواوينه الشعرية بالغة الأهمية وأصبح بالإضافة إلى شاعريته أحد أبرز كتابنا الصحافيين في الحقل الأدبي ، وظل أسامة خليل حتى النفس الأخير من حياته يتزوج ويطلق ويتزوج ويطلق ، ويكتب القصص والسيناريوهات ، وجلس إبراهيم فهمي على كرسيه في البستان يدخن الشيشة ويحلم بنسائه الوهميات حتى مات وهو فاتح عينيه في انتظارهن ، وأصدر هشام قشطة الكتابة الأخرى حتى كفر بالكتابة الأولى وبالكتابة الأخرى فاقتطع نفسه نهائيا من المكان ، وقاطع الكتابة الأدبية كلها مهدي مصطفى وياسر الزيات ، وفجأة ، وبلا مقدمات ، انفرطت من أصابعنا خمس وعشرون سنة كاملة ، وكأنها سنة واحدة .
أما إذا قادتك قدماك مرة إلى مقاهي مربع الرعب ، فستجد مكاوي سعيد ، جالسا ، ربما على نفس كرسيّه القديم ، وحوله الفتيات اللواتي يزددن جمالا بدون مناسبة ، لكنك هذه المرة ستكتشف حجم الخديعة التي عيّشنا فيها ، ستجد في يمينه عنب اليمن ، وفي يساره بلح الشام ، وستجد أنه بالفعل أصبح كاتبا كبيرا ، يحصد الجوائز العربية والمحلية ، ويكتب السرد النفيس ، ويشار إليه ببنان التفرد والتميز والجودة ، وستجد أنه مع صديقه الإنسان النبيل ، والصاحب الخلوق ، ذي الابتسامة الوسيمة ، محمد صلاح ، هذا الذي لم يتح له أبدا طوال الخمسة والعشرين عاما المنقضية ، أن يحقق أي انتصار يذكر في لعبة الطاولة بأشكالها المتعددة ، محبوسةً كانت أو واحدا وثلاثين ، أو حتى اليهودية السهلة ، ستجد أنهما معا قدما للساحة الثقافية واحدة من أهم دور نشر الكتابة الجديدة ، وهي دار ( الدار ) التي استطاعت في شهور قليلة أن تحتل مكان الصدارة في دور النشر الخاصة . بل إنه في سبيل نشر الثقافة للنشء قرر وصديقه محمد صلاح إتاحة الفرصة للأطفال ، فأنشأ فرعا للكتابة للأطفال ، مسندا رئاسة تحريره للشاعر فتحي عبد الله وإدارة تحريره للقاص عبد الحكيم حيدر ، أكثر اثنين في جيلنا اهتماما بهذا الأمر .
ونحن وقد ضيّعنا عمرنا نضرب بأحبارنا على بياض الورقات ، مضحّين بعنب اليمن مازلنا نضرب بأحبارنا ، متوهمين امتلاكنا لبلح الشام ، وربما مرت علينا خمسة وعشرون عاما ثانية ، وكأنها سنة واحدة ، كعادة سنوات هذه الأيام ، ونحن في وهمنا ، بينما مكاوي سعيد يمر علينا بخليائه ، لا يتكلم كثيرا في الكتابة ، لكنه يملك ناصيتها تماما ، يمر علينا ، بفتياته اللواتي يتغيرن ويزددن حلاوة ، وبرواياته التي تزداد طبعاتها في السنة الواحدة ثلاث طبعات وأربعا وخمسا ، وتتصدر عناوينه قائمة الكتب الأكثر مبيعا ، يمر علينا بعنب اليمن وبلح الشام معا ، ونحن نبلل شفاهنا متسائلين :
يا سيد مكاوي ، ترى ما هو طعم عنب اليمن ؟
#السمّاح_عبد_الله (هاشتاغ)
Alsammah_Abdollah#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟