أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جعفر كمال - دراسة في قصة الرد للقاص محمود البياتي















المزيد.....


دراسة في قصة الرد للقاص محمود البياتي


جعفر كمال
شاعر وقاص وناقد

(تôôèô‏ ؤôéôم)


الحوار المتمدن-العدد: 2362 - 2008 / 8 / 3 - 07:35
المحور: الادب والفن
    


المقاييس والأحكام اللغوية والفنية
في القصة القصيرة العربية
الجزء الثالث
يلاحظ أن عناصر الشخصية المجددة للذات في نصوص الاغتراب الأدبي العربي في المهجر، سواء كان شعراً أو قصةً، أو روايةً، شكلت تلاقيا في الأساليب والمضامين للرهص الداخلي مع الآداب الأوروبية، من خلال جملة من التعابير. وأسلوب البيان. وتقنية الحكاية. وتحرير النص من مؤثرات الوجدان ألانتمائي للسلف البدائي، الكامن والمسيطر على الذات التي تسري في ثنايا النص العربي بكل تدفقاته، فتعددت بها الأشكال الفنية في طول النص وقصره، وحذفت الأسماء أو غيبتها، وتغيرت الأمكنة والأزمنة، وكثرت الحوادث وسرعتها، لكن يبقى الاختلاف قائما بين المنشأين، هل يا ترى هذا التحول التقني يغني النص العربي تحت عنوان التجديد؟ أم هو خروج عن الأسلوبية العربية التي تتأثر تأثراً ملحوظاً باللفظة، والصنعة البديعة، والتكلف المقصود، والجناس، والمطابقة، والسجع، والاستطراد، واقتناء ومضة الجملة السريعة والمكثفة، وطبيعة الحكاية ومدى إشباعها بالمزينات الرومانسية، والزخرفة ومثيلها، والكشف عن تعدد مواضيع الكبت الكامن في النفس العربية، بحكم الآثار الاجتماعية المتخلفة، وما تعكسه من جناتها، ومعطيات التصرف النزق وانعكاسه على الوعي الداخلي المشخص في الطبع. بخلاف الأسلوب الغربي بنظرته للحياة المتفائلة، وأسلوب التقاط السعادة، بجملة اختلاف العناصر والتراكيب والمؤثرات الحسية وبيان الفكرة، والاهتمام بثقافة القارئ الأوروبي، ومدى تعامله مع النص بشكل انفعالي قادر على تحليل المضامين والمقاصد، من طبيعة ثقافة المنشأ والنص، التي تجعل من الكاتب الغربي: بسيطا في سلوكه العام، وحذراً من مفاجأة الأخطاء، ومنتظراً رأي القارئ، يقول تشيكوف: "لا تقل أعطني موضوعاً بل أعطني عينين." تفكير ذكي، فالعينان هما مصدر الإشارة للعقل في تشخيص الحدث، وهذه حكمة يختص بها الأديب الغربي، حين يكشف عن قدرته الفلسفية في تشخيص المدركات الحسية، في فسلجة الجسد للمخلوقات، بعكس الكاتب العربي المنفوخ غالباً، الذي يعتبر نفسه هو الأستاذ والعبقري المثالي والمتميز في ذاته، حتى في طبيعة لباسه "الطقم وربطة العنق"، وجلوسه في المكان، وبخترته في الشارع وطبيعة حديثة المنمق بالمساحيق المعجمية، ومسلكه المتعالي مع الآخرين، لذا فالقارئ العربي بنظر الكاتب العربي، متلقياً بسيطا يتعلم من المنشأ ليس إلا.
إذن فالاختلاف كبير بين ثقافة الكاتبين، دعوني أقول لكم شيئاً: لحد لحظة الكتابة هذه لم التق بكتاب غربيين، من خلال وجودي بالغرب وكثرة صداقاتي معهم، طيلة ثمانية عَشَرَ عاماً، لم أجد أو أحس بمظاهر العظمة عندهم، أو الكبرياء، مع الثقة الكبيرة بحضارتهم، واتساع ثقافتهم المعلوماتية وغيرها التي ساهمت بقوة في خدمة الإنسانية، وإيضاح عوامل تطورها، ومسلكها الإنساني المهم، ولهذا فتناولي لهذا الأديب: الروائي والقاص محمود البياتي، المقيم في الشخصية المتواضعة وطبيعة سلوكها العام، وجمالية نصوصه الناجحة التي شكلت بناءً جديداً وتحدياً كبيراً للأسلوب الروائي والقصصي العربي، فهو استفاد من المكان وما يحيط به من جماليات البيئة واللغة والحضارة، التي أوصلت الإنسان إلى الحياة السهلة والمريحة والناجحة، وعمقت من طبيعة العلاقات الاجتماعية المتطورة.
ما الذي يميز أديب عن آخر؟ هذا السؤال ربما يخص القارئ أكثر مما يخص الكاتب أو الناقد، والغاية هو على القارئ أن يقرأ الكاتب، بطريقة فاحصة يضعه تحت المجهر، ويشهد بحق المتميز، لا أن يبقى الكاتب تحت رحمة الناقد فقط، بل أجد أن القراء رغم تفاوت ثقافاتهم أساسيون في الحكم على ماهية النص، ومدى تأثيره المعنوي على الآخر، فإذا ما أخذنا مراحل تطور الكتابة تتراءى لنا مظاهر التحسن، أو التراجع، أو إعادة الأسلوب في كل نص، وهذا مما يشجع الكاتب على أن يراعي القارئ وأن لا يضعه في حيرة: الألغاز، والتعقيد، والمبالغة في اللغة المعجمية، والتكرار الغير مبرر، وضياع وحدة النص، والترهل والإرباك في تراكيب المعاني الغثّة الغامضة. بل يجب أن يحمل النص مقدارا حلواً من التشويق، حتى يكون قريبا من لغة الحياة، مجّنباً حكايته من العّن والرداءة. ومن أجل هذا دأب القاص محمود البياتي على أن يجعل من أسلوبه حسن الجناس والتعبير، وقوي التأثير، وجذاب وقريب الفهم. أي انه يقارب اللفظة بنظيرها، ولأجل هذا أقرب قولي في هذا البيت الشعري لأبي الفتح البُستي:
وكُلُّ غِنيً يَتيهُ به غنىٌّ فمرتجَع بموتٍ أو زوال
وهََبْ جَدِّى طَوَى لي الأَرض طُرّا أليسَ الموتُ يزوي مازوى لي
فأنتَ ترى أيها القارئ الكريم كيف تم لهذين البيتين الشعريين الحُسْنَ ولطافت اللفظ. وحلاوة المذاق، وصفاء السمع، كأنها باسمة تجتمع مع المعنى في سلة النص.
وهنا فالميزة التي أختص بها البياتي إنه:
أولا: حدد وحاصر عناصر البعد ألتنظيري في النص الفني.
ثانيا:ً أحكم المقاييس الفنية في الإثارة والملائمة بين الكلام وحسن التعبير الأقرب إلى المتلقي.
ثالثاً: أولى الشخصيات المكونة للنص، لكل منهم طابعا خاصاً في تفكيره، وتعبيره، وإحساسه الصادق الذي لم ينكشف على الآخر.
وهذا يتحد أيضاً في فن الرواية عنده، وخاصة في روايته: "رقص على الماء". لما تمتلكه هذه الرواية من طرافة الأساليب وبنائها المحكم، وفرض فاعليتها التعبيرية على القارئ، والقدرة على كشف مضامينها النفسية بتغذية الأسلوب بالمتعة، وللملاحظة هنا أشير إلى أن القاص البياتي، حقق للأحكام السردية أسلوبا مختصرا في أنسجة الجملة، فجعلها تتوافق توافقاً منطقياً مع صفات أساليبه التعبيرية المنبسطة لغاياتها، فأحكم الجمل القصية القصيرة المنثورة بكثافة معانيها، في اعتماد الحكاية من بابها المختصر إلى سعة تخصيص أدواتها، فتوافقت قصصه بمادة الكلام من حيث الموضوعة، والأفكار، والعواطف.
إذا جاء النص القصصي العربي يقودنا من خلال مادته إلى التخصص الأسلوبي في البناءات المكتملة في اللغة، بين ثقافة هذه البيئة أو تلك، فهذا يعني علينا أن نحدد ثقافة الشعوب على أساس انتمائها الحضاري، واعتماد حسن اللفظ لسهولة بناء الصوت في مخارج الحروف، والحفاظ على سلامة بنيتها الفنية، يقول الباحث الكبير هادي العلوي في هذا: "كان بعض النحات الأوائل يسمون الفتحة ألف صغيرة، والكسرة ياء صغيرة، والضمة واو صغيرة. يعني أن هذه الحركات حروف ناقصة كما يقول محمود تيمور، ومن حقها أن تستوفي كما في اللغات الأجنبية، وهو يقول إتماما لهذا القول الحصيف أن التشكيل في عصرنا الحاضر ضروري كل الضرورة.1" فمثلاً حرف القاف عند بعض البيئات العربية لا يلفظ كما هو مرتب ومطلوب على أسس أحكام اللفظة الصحيحة، ففي مصر مثلا يلفظ حرف القاف هكذا: " آف " فإذا قالت العربية الفصيحة " قال " تلفظ في مصر " آلْ " وإذا قلنا: وآلّ إليه، تعني يعود إليه، ولا تعني – قال - ،وهذا تكسير للحروف العربية وينطبق هذا على حرف أل: " ج " يلفظ في مصر " ك " المشددة، فبدلا أن يقال " جواد " يقال في مصر " كّواد " وهذا ينطبق على بعض الدول العربية مثل سوريا أقل حدة من المصريين، ولبنان موسقة الكلمة في بنائها الصحيح عند أدباء لبنان، والأردن لغة بدوية قليلة العنة، ففي بيئة الخليج مثلا يلفظ حرف " ق " يلفظ " غ " فتكون كلمة " القدم " " الغدم ". وكلمة " غير " تكون عندهم " قيّر " تحت بناء الياء الثقيلة، وللأسف ينطق بهذا البناء الكثير من كبار الأدباء والصحفيين والمتعلمين منهم، في هذه الدول الخليجية. يستثنى من هذا الجمع العربي أهل العراق بشكل خاص، والكثير من مناطق موريتانيا كونها لغة بدوية سليمة، والبعض من مناطق السودان وفلسطين واليمن الجنوبي.
وكما عند البعض من الأدباء الذين يتأثرون تأثراً مباشرا ببيئاتهم في قراءة الحروف المحرّفة، نجد عند البعض الآخر من الأدباء العرب قد تجاوزت اللغة عندهم همومها، وأنضجت معانيها وألفاظها وخاصة عند: الرصافي، والروائي الطاهر وطار، والزهاوي، وعبد العزيز المقالح، والجواهري، وأميل دنقل، وسعدي يوسف، وإسماعيل صبري، وبشارة الخوري، وعباس بيضون، وجبران خليل جبران، والسياب، وادنيس، ومحمود درويش، وحسن عبدا لله، والفيتو ري ، وعبد الكريم كاصد، ونزار قباني. وغيرهم كثر من الأدباء الكبار، فقد وفرت هذه الجماعة باختلاف زمنها المتقارب والمتباعد قليلا، وفرة لغوية تجاوزت بيئتها، في لغة الوصايا العشرة عند أميل دنقل، و"المومس العمياء" عند السياب، و"مريم تأتي" عند سعدي يوسف، و"النوافذ" عند عبد الكريم كاصد. وهذا ينطبق أيضا على القصاصين، ومنهم المبدع محمود البياتي الذي نحن بصدد تحليل وتشريح نصوصه والكشف عن نوادر اتجاهاتها، التي أخذت باللغة إلى خارج محيطها وبيئتها، لكي تتناغم مع حقائق التطور في لغة الكتابة، وإبراز صوت الحروف في لغة الكلام، بحكم تعدد لغات الأديب وتلاقح ثقافاته الأجنبية مع لغته الأم، ففي قصة " الرد " يتضح أن الصراع الذي ينشأ في طيات العاطفة إنما يقوم على أساسين: أولهما الشفقة، وثانيهما البغض. فهذا التناقض، أو اجتماع الضدين في السلوك الشخصي العام، الذي يعني بالجانب الحسي في الدماغ، وما العاطفة هنا إنما هي تحصيل حاصل لإيعاز الدماغ لا أكثر، لأنه لا يوجد عضو في جسم الإنسان يسمى العاطفة، وإذا اعتبرنا أن القلب مركز دلالي للعاطفة كما عبر عنه الشعراء والعشاق، وعبرت عنه لغة الشارع والبيت اليومية لحد هذه اللحظة، فهذا خطأ علمي كبير، باعتبار أن القلب يتناسب مع الحركة تناسبا طردياً كونه مضخة لتزويد الجسم بالدم ليس إلا، فكل عاطفة قوية إن لم يحكمها التصرف العقلاني، وقيمة الذوق الجميل، والتناسب الدقيق في الكلام، والحكمة في القرار، تكون كارثة على صاحبها، كما يتضح لنا في معاناة الزوج الأمريكي الذي تعوزه قلة العاطفة فأصبح جافاً أو ربما هو روتين الحياة الزوجية، الذي ينطبق على الرجل أكثر مما ينطبق على المرأة، لنقرأ كل هذه الأبعاد وغيرها في هذه القصة القصيرة:
الرد
القوا الحقائب عن ظهورهم وتهالكوا على كراسي المقهى الصيفي، يجففون العرق ويتهيئون بشوق لتدخين السجائر، لم يعد يفصلهم عن الجبل الآخر سوى هذه البحيرة الصغيرة، ذهب الكردي يحضر القهوة من الكشك فيما بقي الأمريكي وزوجته يرقبان طوابير المتسلقين على السفح وهي تستقيم وتتلوى كديدان صغيرة، عاد الكردي وقد أحاط بكفيه ثلاثة أقداح يتصاعد منها البخار فأسرعت الزوجة تخلي مكانا على مائدتهم المزدحمة بصحون ورقية وقناني بيرة فارغة وخرائط، ثم قدمت علبة سجائرها للكردي والزوج وقالت:
- سأترك التدخين حالما نرجع إلى نيويورك.
لقد شعرت ضيقا بالتنفس بعد نصف ساعة فقط من بدء مسيرتنا، هذا كله من فرط التدخين
- والشيخوخة.
علق الزوج مازحا فردت عليه بحنق.
- لم أتجاوز الثلاثين على أية حال.
- ولم تتجاوزينها كما يبدو.
أرادت أن تقول: " أما أنت فقد تجاوزت الخمسين " إلا أن الكردي غير مجرى الحديث بقوله:
- أنا سأترك التدخين الآن.
وأطفأ سيجارته التي أشعلها تواً، دهش الاثنان من قراره المفاجئ، والسريع، وانفجروا بالضحك. قال الأمريكي: - أما أنا فلست بحاجة إلى قرار اتخذته من قبل ألف مرة. "
وأنت تتفحص بداية هذا النص القصصي، ربما تجده تشكيلاً نثرياً محكوماً بالمفاجئة، والتأمل لما تكشف عنه الحكاية، واستدعاء الدهشة العاطفية، التي قربها الكاتب في الظواهر الحسية في أللا شعور عند الزوجة ومشاعرها الجارية على التخيل بين العين والتمني، وقول الأمام علي " الذي بُعدَ فَنّأَى، وقرُبَ فَدَنَا. " ولكن ونحن في طريقنا إلى النهاية لهذه الحكاية، لابد لنا أن نتوقف ونحن نروم الصعود إلى سطح البياتي الشاهق، ونتفحص كل خطوة في هذا البناء المتماسك، فالظنون الفاسدة والتلويح بالخيانة ظهرت واضحة، وبدأت تأخذ طريقها إلى الانفعال المستمر بينهما في معنى " الحنق"، وفي سرها تجيب: " أما أنت فقد تجاوزت الخمسين ." بعد أن قالت عن نفسها في العلن: "لم أتجاوز الثلاثين" إذن فالفارق العمري يتكون كعامل أساسي في انعدام الثقة بين الزوجين، فيكون طَرَفٌ مستكرهاً ونافراً لآخر، فأَمَّا أن يحصل الطلاق، أو تبدأ مشاعر الخيانة تنبض عند أحدهما، فتمسهُ الرداءة، لذا فالعلاقة في الخلوة الجنسية يجب أن تكون ثائرة ومُشبِعة في الفعل والحديث مع المرأة وليست ضعيفة وباهتة، وهذا ما ينعكس على تصرفات الزوجة المضطربة نفسياً في سلوكها العام، فالمظاهر العمرية التي تظهر على الإنسان بعد الخمسين تغير من حيويته الجنسية وأناقته، طبعاً - عند البعض وليس الجميع -، فالعلاقة الزوجية لم تكن في يوم من الأيام اخوانية، إنما فالزوجة تريد من الزوج أن يكون عاشقاً في كل نظرة لها، يتجدد فيها الشوق والهيام والتغزل، إلى نحو ذلك مما يصور العواطف والصلات الخاصة بينهما راقية ومقنعة وأن الرجل يشتهيها في كل لحظة، وهذا ليس بالغريب على إحساساتها الأنثوية التي تثار من نظرة، أو احتكاك بسيط، أو من كلمة شفافة، فأما البرود في هذا والإهمال يقود بالتالي إلى النهاية المؤسفة، خاصة إذا أصبحت حياة الزوجين انفعالية، بحجة هذا الأمر أو ذاك، كما علق على هذه الحال الأستاذ أنطوان حمصي في قوله: "دأب النفسانيون على دراسة هذا السلوك من جهة أصوله وظواهره وكيفية التعبير عنه لدى الناس أفراداً، أو جماعات".
والعامل الثاني وهو المهم وجود الكردي الشاب القوي والغريب "بالاختلاف " عن جنس الزوجين، والذي أثار المشاعر الجنسية عند الزوجة، التي تشكلت عبر صيرورة لا إرادية سببت: ميولا عاطفياً، ووهجا ثائراً لشهوتها في عيونها وحركتها، والإعجاب بثقة قراراته بدءا من "إطفاء سيجارته"، إلى حثهم الدائم على السير، وعدم التمهل، وحمله الثقيل، كل هذه الدوافع وغيرها أسست لإعجاب الزوجة بفحولة الكردي الناضجة، وفي ذات الوقت سببت انكسارا للنفس وخللاً كبيراً وشكاً عند الزوج، فآذت مشاعره التي بقيت ساكنة، وغير متحركة، أو حتى غير معبر عنها في دائرة ألا شعور أي: "مستودع الدوافع البدائية" كما يقول فرويد. فالحكاية دخلت إلى صبابة الإثارة والتنافس، لنذهب لها ونكمل الحكاية التي أخذت تكشفت عن العلاقات الزوجية الأوروبية الفاشلة، وبكل الأحوال فالعلاقة الزوجية الغير متكافئة لا تخلو من المفاجئات، خاصة تلك الرحلات التي تتطلب جهد عضلي، وتضحيات تكون صعبة في كثير من الأحيان حيث نقرأ:
" أطفأت زوجته سيجارتها وسألته:
- ولو طلبت منك أنا ترك التدخين هل تفعل؟
- دعيني أفكر قليلا. – تفكر إذن.. لا تتعب نفسك بالتفكير يا حبي، هيا، لنستأنف تسلقنا.. أمامنا مسيرة كبرى.
– سأتركه لأجلك يا حبيبتي.
– تأخرت كثيرا في جوابك، كالعادة، هيا، أتبعنا.
وضع الكردي حقيبته على ظهره وانتظر عند باب المقهى، وما أن رآهما يحثان الخطى نحوه مضى قدماً في طريق ترابي ضيق ومتعرج، بعد نصف ساعة اقترح الأمريكي استراحة مدة خمس دقائق، توقف الكردي مستجيبا لطلبه، أما الزوجة فقد واصلت السير وتجاوزتهما وهي تلهث بصوت مسموع، فرجع الكردي خطوات وأخذ من الكردي كيس معلبات ثقيل وحثه على السير وعاد صاعداً بخطوات نشيطة واسعة وكأنه لا يحمل شيئاً حتى بلغ الزوجة وسألها:
- ألا تستريحين؟
هزت رأسها نفياً لكنها توقفت عند أول صف من الأشجار صادفهم في الطريق، أشعلت سيكارة وتأملت قامة الكردي وشعره الكث الفاحم، ثم ألقت نظرة إلى الوراء.. لقد اتسعت المسافة التي تفصلها عن زوجها، رأته يترنح في صعوده البطيء فشعرت نحوه بالعطف والنفور معاً، تساءلت: دونما سبب، عما جعلها تخلص له طوال السنوات السبع التي مضت على زواجهما، سمعت الكردي ينادي زوجها: انتظر سأحمل عنك الكيتار فقالت: - وستحمله له أيضاً بعد قليل، أن حقيبتك أثقل من حقيبته مرتين، لقد وضع فيها كل شيء، حتى أدويته.
لو نلاحظ هنا استخدم القاص أسلوب الانتساب إلى القومية فسميت الشخوص بالكردي والزوج الأمريكي والزوجة الأمريكية، وهذا ليس بالجديد المهم، فكثير من القصاصين العرب دأبوا على عدم تسمية الأشخاص بأسمائهم في الكثير من نصوصهم، ولكن الواضح هنا أن الميل إلى القومية معدوم تقريباً، فالزوجة تميل إلى الكردي أكثر بكثير مما تميل إلى زوجها الأمريكي طبيب الأطفال المشهور عالمياً وإن كانت زوجته، خاصة بعد أن اتضحت مشاعرها في سرها أو ما سماه فرويد ب " ألا شعور" كما بينا سابقاً، وإعجابها بالطبيب التلميذ، فأخذت تحدث نفسها برغبة تمتلكها الشهوانية والإثارة في غدتها الجنسية، عندما سألت الطبيب التلميذ الكردي عن عمره، وهي المعجبة بقوامه، وشعره الكث، ونشاطه ومساعدة زوجها التعب الذي تسخر منه دائماً وتتجاهله، وتساؤلها المثير عما جعلها تخلص لزوجها طيلة فترة الزواج التي امتدت إلى سبع سنوات، بعد أن لاحظت ترهله وترنحه في تسلق الجبل، بينما كان الكردي نشطاً بعمره وقوامه والحمل الثقيل الذي يضعه على ظهره، وطبيعة تسلقه للجبل، كل هذه العوامل أسالت لعاب الزوجة في شهوتها الطموحة، وهذا كان سبباً لتشجيع مشاعرها لأن تعتلي سلم الخيانة، فهو دافع يبرر فعلتها اتجاه التزامها العائلي، كونها ما زالت شابة لم تتعدى الثلاثين، وزوجها تعدى الخمسين، يقول فرويد: " كل سلوك مدفوع إلى جانب الأفعال الإرادية أو المعارضة، فكل هفوة مثلاً ترضي تمنياً وكل نسيان دافعه رغبة في إبعاد ذلك الشيء.4 " هذا جانب مهم يكشف عن تصرفات الزوجة في استجابتها لمثيرها العاطفي، عندما خاطبتها مشاعرها من وجهة نظر ذاتية صرفه، حينما سخرت من زوجها في قولها للكردي: "وستحمله له أيضا بعد قليل"، وهذا مبرر عند المرأة الأوروبية بقوة، فهي لم تترك فرصة لإشباع غرائزها الجنسية تفوت إلا وتستغلها، ولذا فهي مستاءة من عدم خيانة زوجها لحد الآن، يقول القاص: "المسافة اتسعت بين الزوجين" نعم اتسعت ما دام المبرر موجود وهو رغبة الزوجة وخيالها الذي أحتشد به قوام الكردي فصارت تذوب بكل حركة تأولها لخيال يثير غدتها الجنسية، ولذا فهي لا تكتفي بالحديث عنه في ذاتها وحسب، بل أخذت تمتع ناظرها بمراقبته، وتشريح جسدهُ في خيالها، فهي تتمناه في كل لحظة لكي تغتصبه، أو تبسط له المدى ليشبع شهوتها المعطشة والمعتقة فيها، مع أن هذه العملية الجنسية لم تكن ناتجة عن علاقة حب وغرام، تحتوي على كل عناصر الترابط الروحي، بل كانت رغبة إشباع لعطشها الجنسي، انتهت بانتحار الزوج على عكس رواية "أنا كارنينا: للروائي الروسي ليو تولستوي، فالزوجة انتحرت بعد أن كشفت لزوجها علاقة الحب التي جمعتها بالكونت فيرو تسكي. هذا مع أن الكردي لم يتضح عليه هذا الشعور بميله لها عاطفياً، بل كان حسن التصرف، ومغمور بالعطاء ومساعدة صديقيه الزوج والزوجة، وهذا الشعور مستمد من بيئته الشرقية في الكرم والإخاء والتضحية. نتابع هذه الرحلة الأكاديمية المثيرة، في تقلبات مناخها العاطفي، المعدة من جامعة جارلس:
" دنا الكردي منها وقال:
- لا تنسي أنني مولود على قمة جبل.
- هذا واضح، كم عمرك بالضبط ؟
- 26 سنه، قضيت عشرين منها على جبال كردستان.
- ومتى ستعود إليها؟
- بعد أن أصبح طبيباً، أعني بعد تخرجي في العام القادم.
- أنت محظوظ لأن أستاذك هو بروفسور شيفسار.
- بالمناسبة، لقد أطرى بروفسور شيفسار زوجك كثيراً، قال لي عندما دعاني لمرافقتكم لي هنا انه أشهر طبيب أطفال في أوروبا.
قالت في سرها " لكنه عاجز عن إنجاب طفل واحد " وأشارت برأسها للكردي: - أنظر، ها هو طبيبنا المشهور يتقدم خطوة إلى الأمام وأخرى إلى للوراء،
انظم الأمريكي إليهم وهو ينصبب عرقاً، فساعده الكردي في وضع حقيبته على الأرض وأخذ منه الكيتار وقال مداعباً:
- لعلها ستكون أول وآخر مرة تلبي فيها دعوة جامعة جارلس لزيارة جبال تاترا. رددت الزوجة كلمة أمتعض منها الأمريكي ولم يفهمها الكردي الذي وضع الحقيبة على ظهره وحمل بيده كيس المعلبات، وقال:
- هيا، أتبعوني، نحن على مقربة من القمة.
تبعته الزوجة فورا وخلفها الزوج مستعينا بعصا رفيعة التقطها من الأرض، وحين التفتوا بدا لهم سطح البحيرة لامعاً كمرآة بحجم الدرهم، سر الكردي لهذا المنظر واخذ يغني بالكردية ويجري بحماس صاعداً باتجاه القمة تتبعه الزوجة بصعوبة، أما الزوج فقد جلس على جذع شجرة ولوح لهما بيده:
- امضوا سأنتظركم هنا.. لا أستطيع السير خطوة واحدة، سأنتظركم هنا وأدخن، ولكن إياكم أن تنسوني فتفترسني الذئاب.
زجرته الزوجة:
- لا تكن أحمق، انهض واتبعنا، نحن على بعد خطوات من القمة.
- القمم ليست لي، القمم للنسور الشابة الجسورة ، سأنتظركم هنا، امضوا، امضوا.
اشتغل الكاتب على شكل ما في إشباع فن القياسات في تلقائية النص، على ماهية التغيير المفاجئ في النفسية العاطفية، في محاولة لتقييم سلوكية معينة، والمقاييس واضحة في هذا النص النفسي، والظاهر في هذه الأدوات، قياس العمر، قياس الصعود إلى الجبل، قياس الحمل، قياس اللياقة ما بين الزوج والكردي، القياس الكمي العاطفي، وعدم إشباع الزوجة جنسياً من زوجها، قياس استغلال الغريب، كونه بعيداً عن بيئتها ومحيطها، ولذا جعلته محطة تفرغ فيها رغبة شهوتها وتمضي، وقياس الروتين بين الزوج والزوجة، لذا كان الغريب هنا هو محرك الإثارة للشهوة عندها، وقياس الجريمة التي وقعت على الزوج بفعل الخيانة، وقياس الشك في سؤال الزوج لزوجته والكردي: "- كيف كان المشهد من أعلى القمة؟ " فبادرته الزوجة بفرح عارم يتطاير من وهج يسكن عينيها وكلامها، في ردها: " كان رائعاً، رائعا" وهذا توظيف ناجح لمفردة "رائعاً، رائعاً " وتعني الممارسة الجنسية من فحل شاب، فوق غرابة سرير هو بساط الأوراق اليابسة بين كثافة الأشجار، والوقت ساعتين، وهو وقت كاف لتدفق العاطفة في الروح، فهي شامخة ومسرورة وتكاد أن تطير فرحاً، لهذه الممارسة الجنسية، أو بالأحرى اختطاف آدمية الكردي أي اغتصابه، ولكن الكردي فضح الأمر في قول الكاتب " أنتظر الأمريكي ساعتين حتى عادا، ولاحظ بأن الكردي يتحاشى التطلع في عينيه." فبدأت شكوك الزوج تلعب في رأسه خاصة عندما التقط كلام زوجته في: " حينما اهبط منحدرا اضطر لكبح اندفاع جسمي، وهذا يستنزف قواي ويزعجني، عند الصعود تأخذ قوة اندفاع الجسم مداها الطبيعي، بينما الهبوط يجعلني أتلكأ، يمنعني من الانسياب، من الاستسلام للانحدار، لكم أتمنى لو أطير" إذن وصلت الفكرة للزوج، لقد نُكِحَتْ زوجته من الكردي، وصار الذي صار في قوله: " ربما أصل الإنسان طيراً، وتحول إلى إنسان بعدما تعلم فنون الكذب والخديعة." وفي انفعاله، وهو متأثرٌ حين وجده الفعل مجروحاً من خيانة زوجته له، بعد أن أخذ يردد كلمات أغنية قديمة تتحدث عن طير فقد أنثاه وظل عشه فمات غمداً. ثم أخذ يُلوّح بإشارات لزوجته بأنه عرف خيانتها وغدرها، فحاول بشكل ميئوس منه أن ينتقم لكرامته، وذلك بالتخلص من الكردي في قوله: "هل بوسعك الطيران أو القفز بكامل ثيابك من هنا إلى البحيرة." ولكن الكردي كان ذكياً وواعياً لهذه المكيدة، فأحالها إلى الأمريكي حين جاء رده: "ولا حتى عارياً." خاصة بعد أن أعانته الزوجة، فسخرت من زوجها لتدفعه إلى الهاوية ونجحت، حين سخرت منه بقولها: "تساءلت الزوجة باستخفاف: - وهل بوسعك يا طرازان أن تفعل لو طلبت منك أنا ذلك؟" فأجاب الزوج بألم “بكل سرور يا عزيزتي.. بكل سرور" وللأسى فالزوج وقع في الفخ، فرمى بجسده من أعلى الجبل إلى البحيرة، متحديا زوجته بغباء، وفي طريق طيرانه اصطدم بصخرة، قطعت له بطاقة رَحّلتْهُ إلى الموت.
رغم أن الحكاية بينت الهدف من الزيارة هذه، إلا إنها لم تكشف عن النتيجة العلمية التي خصصت لها هذه الرحلة بنجاحها أو فشلها، بقدر ما كشفت عن النتيجة المأساوية: الانتحار.
مبروك لكم سيدي القاص محمود البياتي، لهذا التنوع القياسي الفني والأسلوبي الناجح.

الهامش
1- أنظر قاموس الإنسان والمجتمع – للأستاذ هادي العلوي.
2- المجموعة القصصية " اختراق حاجز الصوت " للأديب محمود البياتي
3– انظر فرويد ، موقع صيد العوائد.



#جعفر_كمال (هاشتاغ)       تôôèô‏_ؤôéôم#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الجزء الثاني يتناول القاص محمود عبدالوهاب في القصة القصيرة
- المقاييس والأحكام اللغوية والفنية في القصة القصيرة العربية . ...
- قافية
- ليلة ما
- أصابعك
- دراسة نقدية تتناول: الشاعر الكبير عبدالكريم كاصد الجزء الثا ...
- دراسة نقدية تتناول: الشاعر الكبير عبد الكريم كاصد - الجزء ال ...
- الاستقلال النوعي في محاكاة الصورة والتشكيل


المزيد.....




- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جعفر كمال - دراسة في قصة الرد للقاص محمود البياتي