|
حينما يأتي الربيع في أوبسالا
محمود كرم
الحوار المتمدن-العدد: 2309 - 2008 / 6 / 11 - 09:05
المحور:
الادب والفن
ما زالت أوبسالا ، هذه المدينة السويدية الوادعة ، كما تركتها قبل أربعة أعوام ، فتية ، طازجة ، ودودة ، لم تشخ ولم تترهل ، تنساب في أوصالها سحر الموسيقى وعذوبة الحياة ، ولم تزل تُشرع أبوابها للجمال سفوحاً تختال بالحلم والعطر النديْ ، ولم تزل تمنحُ العابرينَ ثراها ، ذاكرةً تبقى أبداً على رغم تعاقب الأيام تتدفق بتفاصيلَ باذخة ، ولم تزل صباحاتها تكتظ بابتسامات مشرقة ، ومساءاتها لم تزل منقوعة بالعشق والألحان الحالمة ..
أوبسالا في هذا الوقت من العام تكون قد خلعتْ عن أطرافها ذلك البياض البهي ، لترتدي الأخضرَ الشاسعَ ، تنطلقُ به فسيحاً عبر المدى ، فقد تركتْ أوبسالا خلفها في ذاكرةٍ محمومةٍ بالود شتاءً طويلاً ، لتستقبلَ بانشراح بالغ ، ربيعاً يندُّ عن دهشة طافحةٍ بخضرة فاتنة ، ففي صباح اليوم الأخير من شهر أبريل الفائت ، فوجئتُ حين نزولي الشارع ، بالناس يتحلقون حول بعضهم بعضاً في تجمعات صغيرة هنا وهناك ، يطلقون الأهازيج والضحكات والموسيقى والأغاني ، وينثرون الإبتسامات الندية على الوجوه والأرصفة والطرقات ، فسألتُ أحد المارة عن سبب هذه الإحتفالية التي تشبه كرنفالاً وطنياً ، فقال لي بنبرةٍ ودودة : إنه اليوم الذي يحتفل به طلبة المدارس ، وهو أيضاً بشكل عام احتفالنا بقدوم الربيع ، وأردفَ قائلاً : عادةً ما نحتفل به في مثل هذا اليوم من كل عام ، فقلتُ في نفسي ، ربما يشبه إلى حد بعيد احتفال بعض الشعوب الأخرى بأعياد الربيع ، كالاحتفال بشم النسيم أو النوروز ، أو غيرهما من أعياد الشعوب الأخرى بالربيع ، ولكني وجدته هنا بنسخةٍ سويدية خالصة ..
وأنا أسير وسط فرحة السويديين البالغة بقدوم فصل الربيع ، تبادر إلى ذهني سؤال مشروع ، مفاده : هل الربيع هنا ، يختلف عن أيّ ربيع آخر في أيّ بلد آخر .؟ بالطبع لا ، فالربيع هو الربيع في أي مكان من العالم من حيث إنه يتميّز بنسماته العليلة وطقسه المنعش وألوان زهوره الرائعة ورائحة عشبه الطازجة وشمسه المشرقة ، ولكن الذي يختلف حسب ما أعتقد هو تصورات الناس عن الربيع هنا أو هناك ، فالأشياء بحد ذاتها كما هي أشياء تأتي وتذهب ، قد لا تمنحنا شعوراً معيناً بها ، بقدر ما نحتفظ بتصوراتنا الخاصة عنها في ذاكرتنا ووجداننا ومشاعرنا وأحاسيسنا ، ولذلك يختلف احتفال الناس هنا وهناك حسب ما يحتفظون من تصورات عن الأشياء التي يحتفون بقدومها دائماً ، وهي التصورات العالقة في وجدان الفرد وفي ذاكرته وأحلامه ، والتي تجعله ينتظر قدوم الشيء الذي يريده ويشتهيه ليمتليء به نشوةً وفرحاً وتألقاً ، وهي التصورات التي تمنح الفرد نشوة الاحتفاء بالأشياء حسب انسيابها الجميل والرائق في خيالاته وتخيلاته وفي أحلامه وتمنياته وأشواقه ومشاعره ، وهي التصورات التي ربما تُحقق في كيان الفرد توافقاً بين ذاته وبين الأشياء التي يحبها أو ينتظر مجيئها أو يريدها أمامه واقعاً ، وحينما سألت صديقي السويدي ديفيد النادل في أحد المقاهي : ماذا يعني له فصل الربيع في أوبسالا .؟ أجابني بإبتسامة منشرحة : إنه التوق الشهي للضوء الذي نبقى ننتظره فترة طويلة ، وإنه يعني الاستمتاع بالطقس المنعش وتدفق النسمات الآسرة ، وإنه الفصل الذي يبهرنا بلون العشب الطازج ، ويملأ رئة أرواحنا برائحته العبقة ، وإنه يمنحنا متعة الانتشاء البصري بألوان زهوره البديعة ، وراح ديفيد يسترسل بتصوراته الرائعة عن ربيعه الفاتن ، قائلاً : هو الفصل الذي يعيد لذاكرتنا أحلامنا الماضية ، ويبعث فيها من جديد أحلامنا القادمة والآجلة ، وفي الحقيقة لم أجد أن ديفيد قد بالغ كثيراً في تصوراته الجميلة عن الربيع في أوبسالا ، لأني شعرت بكل ذلك يتهاطل في مخيلتي بمجرد أني وجدتُ نفسي هائماً بهذا المناخ الربيعي الخلاب ، ففي الطريق الذي أقطعه مشياً على الأقدام إلى المستشفى الذي يتعالج فيه أخي ، أتعمّد دائماً وبمتعةٍ فائقة أن أعبر المنتزه الذي يقع في طريقي دائماً ، وأستمتع بشوق شهي لون العشب المفعم بنضارة ونداوة رائعتين ، وأمتليء عميقاً برائحته الفواحة ، وأبقى أتأمل بفرح غامر تفتح الزهور وابداعاتها على اختلاف أشكالها وألوانها وأحجامها ، وأشعر في لحظةٍ وارفة بالود والانشراح ، بأن هذه الزهور وكأنها تبادلني الحب والغرام والذاكرة المفعمة من النظرة الأولى ، وحينما تكون الشمس ربيعية مشرقة وساطعة ، فإن الناس في هذا المنتزه وفي الساحات الخارجية يبقون تحتها لفترة طويلة ينهلون من أشعتها نقاوة الضوء ، وتبقى تغمرهم ببريقها الذي يشعُ دفئاً وحميمية ، وكأن لهفةً جارفة تدفعهم لتعريض أجسادهم لأشعة الشمس المشرقة ، كما لو أنهم ينتظرون حبيباً طالَ غيابه ، فأصبحوا يتحرقون تلهفاً وشوقاً لاحتضانه بما يليق به ، والتشبّع بحضوره الساحر والمتألق ، وكأنما الطبيعة هنا حينما تقدم للسويديين في هذا الوقت من العام الشمسَ بسخاء لا حد له ، فإنها بذلك تكفّر عن احتجازها للشمس في أعماق العتمة مدة طويلة ، وكأنه اعتذار مهذب ورقيق من قِبلها تقدمه لهم ، بسبب اختطافها للشمس منهم طوال الفترة الماضية ..
وأما شقراوات أوبسالا ، فأخذنَ في هذا الطقس الربيعي الخلاب ، يتخففنَ بسرور بالغ من ملابسهن الثقيلة ، ويبدينَ فتنةً آسرة تتناغم بتلقائية جمالية مع سحر الطبيعة من حولهن ، ربما يفلسفنَ هذه الفتنة ، بإنها إعلان صريح من قِبلهن ، يعكس بعفوية مطلقة طريقتهنَ في التماهي الشفيف مع جمال الربيع حينما يغمرهن بسخائه واشراقاته ودفئه وعطائه ، وربما هي فلسفتهنَ التي تقول بأن أجسادهن حينما تتفرد ألقاً وسحراً وحرية كاملة ، فإنها بذلك تعلن عن انسجامها وتوافقها بوضوح تام مع شخصيتهن وذاتهن وأسلوبهن وقرارهن في الاستمتاع بالحياة ..
ومن إحدى مزايا فصل الربيع في أوبسالا عليَّ شخصياً ، إنه أتاح لي فرصة التمتع بالتجول في الحديقة الشهيرة التي تفتح أبوابها للزوار في الفترة ما بين أبريل إلى سبتمبر من كل عام ، والتي أسسها في أوبسالا عالم النبات السويدي كارل فون لينيه ( 1707 ـ 1787 ) والمشهور باسم ( لينيوس ) ، فهو مَن أسس علم تسمية النباتات وتصنيفها حسب تاريخها ، ويعتبر هذا العلم من أقدم الفروع في علوم النبات ، وهو الذي وضعَ قواعد التسمية للنبات ، ولم تزل هذه القواعد متبعة في علوم النبات إلى الآن ، وتُعرف الحديقة باسم ( لينيوس كاردن ) ، وتضم أيضاً بيتاً ومتحفاً لمقتنيات وممتلكات وأبحاث العالم ( لينيوس ) ، وحينما باغتُّ إحدى العاملات هناك بسؤالي عن : ماذا يعني لكم العالم ( لينيوس ) .؟ أطلقت من فورها في الهواء شهقةً غامرة بالفرح ، قائلة : إننا نطلق عليه هنا ( ملك الزهور ) ، وتابعتْ : ما أروعه من إنسان ، وعندما قلت لها : إني كاتب من الكويت ، وسأذكر مسروراً هذه الحديقة في مقال لي عن أوبسالا ، ردتْ عليَّ بكل ود ولطف تعلو وجهها ابتسامة مشرقة : هذا الأمر يبعث فينا السرور والسعادة يا سيدي ، وتمنت لي حظاً موفقاً ..
وربما صدقَ مَن قال ، أن المكان هو الآخر كائن روحي يبادلكَ الود والمحبة والحميمية والألفة ، ويشارككَ الذكريات والأحلام ، وكم شعرتُ بهذا الأمر حينما وددتُ كثيراً أن أرتاد هنا من جديد كل الأماكن التي ارتبطت في ذاكرتي بالود والحميمية وشاركتني الذكريات والأوقات الجميلة ، ولا أدري حقيقةً كيف تستطيع الأمكنة عبر تفاصيلها الناطقة بحميمية زواياها ودروبها ورائحتها من أن تتحول إلى ذاكرةٍ حاضرة في أعماقنا ، وتربطنا بجماليات الزمن الفائت والآتي ، هل لأن المكان بتعبير أقربُ إلى الشاعرية ، هو كالشرفةِ المفتوحة على الأرواح التي سرعان ما تتآلف معها بعلاقة وجدانية ، تستحضر من خلالها أعمق النبضات حباً وتجاذباً واندفاعاً ، لِخلق حالةٍ اندماجية مع ظلالها الوارفة في مملكة الذاكرة ، وربما هنا علينا أن نعترف أن ( المكان ) له القدرة الجمالية على التشارك مع الآخر الإنساني في صنع منجز جمالي يتجاوز محدودية الانتماء الجغرافي والهوياتي ، ليسبح في فضاءات الإنسانية الرحبة ، وبكل الأحوال لا يمكن أن ننفي أن للأمكنة الأثيرة في نفوسنا ، قدرة استحواذية علينا ، لأنها قادرة بجدارة على إلهامنا ، ومن هذه الأماكن التي ارتبطت بذاكرتي جمالياً منذ أربعة أعوام مضت ، كان المطعم اليوناني الذي كنتُ أحبُّ كثيراً أن أتناول فيه بين الحين والآخر أحد ألذ أطباقه الشهية ، وحينما كنتُ أتناول فيه وجبتي كنت أستحضر تاريخ أثينا السابقة ، وعظمة فلاسفتها الخالدين ، وخاصةً أن المطعم يحمل اسم ( الأكروبوليس ) أحد أشهر المعالم الأثرية والحضارية في اليونان القديمة ، ويزدان المطعم أيضاً بتماثيلَ فلاسفة الأغريق وبمعالمها التاريخية ، ولا يُخفى على أحد ، أن تاريخ أوروبا المدني يعود في أساسه إلى تاريخها المدني الأثيني ، ولا تزل أوروبا تستمد من تاريخها المدني ذاك اشراقاته الثقافية والفكرية والفلسفية ، وحينما دلفت باب المطعم اليوناني هذه المرة ، استقبلني النادل هناك ، فتذكرت وجهه وملامحه على الفور ، واندهشتُ إنه هو الآخر قد تذكرني سريعاً ، مرحباً بي من جديد ، فقلت له بود طافح وأنا أهم بالجلوس : هل تعلم يا صديقي أن كل شيء هنا هو ذاته ، ها أني أدخل المطعم ذاته ، ويستقبلني النادل ذاته ، وأجلس على طاولتي ذاتها التي تجاور تماثيل فلاسفتكم ، وأريد أن أتناول طبقي ذاته ، وكل ما حولي هو ذاته ، فقال لي مبتسماً : صحيح يا صديقي ، ولكن الذي تغير ، هو الوقت ، فالوقت ليس هو الوقت ذاته ، فقلتُ له ونشوة بارقة تغمرني : صحيح ، فالزمن يمضي ويمضي ، ويبقى المكان ، كذاكرةٍ آسرة يعبر فيه عميقاً وطويلاً وجميلاً أيضاً ..
#محمود_كرم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأساس الفلسفي للأفكار الحرة
-
الانتماءات وهْم .. الحقيقة أنا وأنت
-
الخلق والتطور في الفكر الحر
-
الإنسان ... فراغ مطلق
-
حينما تصبح الأيديولوجيا بديلاً عن الإنسان
-
ثقافة السؤال في الفكر الإنساني
-
الإنسان حيوان يقيني
-
الحياة عُرفت بالتنوع وثقافة الاختلاف
-
حلميَ الموشّى بزهر الندى
-
حمّوديات
-
المثقف الحر في مواجهة التخلف والأدلجة
-
تلك الأنثى الحُلم
-
الموروث الديني وثقافة الخوف
-
عن حق الإنسان في التفكير والاختيار
-
العقل وصراع المفاهيم
-
أيها الألم كم أنتَ جميل !
-
التعصب الديني وصناعة الكراهية
-
الرفض .. جمال الموهبة وشجاعة التمرد
-
تجربتي مع الأيديولوجيات الدينية ( 4 ) الأخيرة
-
تجربتي مع الأيديولوجيات الدينية ( 3 )
المزيد.....
-
الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح
...
-
في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
-
وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز
...
-
موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
-
فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
-
بنتُ السراب
-
مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا
...
-
-الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم -
...
-
أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج
...
-
الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني
المزيد.....
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
المزيد.....
|