أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - كريم الهزاع - أوغست كومت بعد قرن ونصف من رحيله















المزيد.....



أوغست كومت بعد قرن ونصف من رحيله


كريم الهزاع

الحوار المتمدن-العدد: 2245 - 2008 / 4 / 8 - 10:24
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


أوغست كومت عالم اجتماع وفيلسوف اجتماعي فرنسي ( 1798- 1857 ) ، تلميذ الفيلسوف الإشتراكي سان سيمون صاحب الأفكار المتمردة ، و من بين هذه الأفكار : بعد أن تخلَّص الإنسان من هيمنة اللاهوت القديم ورجال الدين المسيحيين أصبح هو مركز الكون ، وهو سيد نفسه وقدره ومصيره . ولم يعد يقبل بالهيبة اللاهوتية القديمة التي كانت تُفْرض عليه من الخارج أو من فوق كما حصل طيلة قرون وقرون . وعندئذ شعر الإنسان الأوروبي بأنه بحاجة إلى أخلاق جديدة وسياسة جديدة هي ما يُدعى بالأخلاق الوضعية والسياسة الوضعية . وقال سان سيمون بأن على مفكري هذا القرن أن يكرسوا كل جهودهم لتحقيق ذلك . وهكذا انضمّ إليه اوغست كومت لمساعدته على بلورة هذا المشروع الفكري الكبير . وظل مساعده ، بل وسكرتيره ، لسنوات عديدة قبل أن تتحول علاقتهما إلى منافسة بعد أن كبر اوغست كومت عن الطوق واشتدّ عوده . والواقع أن كومت استطاع أثناء هذه الفترة الخصبة التي قضاها في ظل فيلسوف كبير أن يحصل معلومات ومعارف عديدة في مختلف المجالات : من الفلسفة ، إلى السياسة ، إلى الاقتصاد ، إلى العلوم الفيزيائية والبيولوجية والفلكية والرياضية ... لقد أصبح موسوعة بحد ذاته ولا ينبغي أن يفلت منه شيء أو يفوته أي اختصاص أوعلم . كان نهماً إلى المعرفة ، لا يشبع .
و حياة أوغست كومت كانت مليئة بالأحداث الهائجة التي عصفت به عصفاً وزعزعته أكثر من مرة. فقد وقع في شبابه الأول بحب مومس وأراد أن يجعل منها امرأة صالحة ، أي أن ينقذها من جحيم البغاء والعهر. وبالفعل فقد التزمت بحياة الفضيلة لفترة من الزمن . ولكنها سرعان ما عادت إلى حياتها السابقة فجن جنونه . وقد تعرض عندئذ لاضطرابات عصبية ونفسية كادت أن تقضي عليه.
ومعلوم أنه حاول الانتحار أكثر من مرة، ولكنه أنقذ بأعجوبة . فلقد رمى نفسه في نهر السين يوماً ما . ولكن لحسن حظه فإن شرطيين كانا مارين هناك في تلك اللحظة بالذات فغطسا في الماء وانتشلاه . ثم تزوج بعدئذ من هذه المرأة التي عذبته وعاش معها سنوات متقطعة فتارة كانت سعيدة وتارة كانت شقية . وبعد أن شفي من مرضه النفسي عاد إلى إعطاء دروسه الخاصة إلى بعض الطلبة النابهين . وكان فيهم شخصيات كبرى . وكانوا يستمعون إلى دروسه بكل خشوع لأنهم يعلمون أنه فيلسوف عصره.
وعندما ساءت أحواله المادية تبرع له تلامذته الأغنياء بالمال لكي يكمل بحوثه ويستطيع أن يعيش حياة لائقة بشخص عبقري مثله. والواقع أن السوربون رفضته على الرغم من عبقريته ونبوغه في مجال العلم . وهذا من أغرب الأشياء . إذ كيف يمكن للجامعة الفرنسية أن ترفض أكبر فيلسوف عبقري في عصره؟ مهما يكن من أمر فإن أوغست كومت ككل العباقرة كان يبحث منذ صغره على إنجاز مشروع كبير لخدمة البشرية . وعلى الرغم من الكل العراقيل والصعوبات فإنه استطاع تنفيذ مخططه في نهاية المطاف . لقد عاش حياته كلها على حافة الجنون . ولكن عبقريته أنقذته من السقوط نهائياً في ليل الجنون وظلامه البهيم.
وفي أواسط الثمانينيات بدأ بإلقاء المحاضرات ليعرف بتوجهه الجديد . بعد ذلك دعا الناس إلى إقامة دين جديد على أساس وضعي والتخلي عن الأديان السماوية .
واوغست أكد على ضرورة بناء النظريات العلمية المبنية على الملاحظة ، إلا أن كتاباته كانت على جانب عظيم من التأمل الفلسفي ، ويعد هو نفسه الأب الشرعي والمؤسس للفلسفة الوضعية التي تهتم بتاريخ و القانون الانساني و خاصة القانون الوضعى .
والواقع أن أوغست كومت كان مفكراً متشعب الاهتمامات والاختصاصات . فقد كتب في فلسفة العلوم الفيزيائية والكيميائية والرياضية . وكتب في السياسة وعلم الاجتماع . وكتب في الدين والقضايا الروحية والميتافيزيقية . وقد أمضى كومت نصف حياته العلمية في دراسة القوانين التي تتحكم بظواهر الكون ومادته ، ونصفها الآخر في بلورة النظرية الأخلاقية والدينية للبشرية.
و أوغست كومت من مؤسسي علم الاجتماع ، العلم الذي يعنى بالجماعات البشرية والتفاعلات المختلفة والعلاقات بين أفراد هذه الجماعات ودراسة الحياة الاجتماعية للبشر ِ، سواء بشكل مجموعات ، أو مجتمعات ، وقد عرّفَ أحياناً كدراسة التفاعلات الاجتماعية. وهو توجه أكاديمي جديد نسبياً تطور في أوائل القرن التاسع عشرِ ويهتم بالقواعد والعمليات الاجتماعية التي تربط وتفصل الناس ليسوا فقط كأفراد ، لكن كأعضاء جمعيات ومجموعات ومؤسسات . وعلم الاجتماع يهتم بسلوكنا ككائنات اجتماعية ؛ وهكذا يشكل حقلا جامعا لعدة اهتمامات من تحليل عملية الاتصالات القصيرة بين الأفراد المجهولينِ في الشارع إلى دراسة العمليات الاجتماعية العالمية. بشكل أعم ، علم الاجتماع هو الدراسة العلمية للمجموعات الاجتماعية والكيانات خلال تحرّكِ بشرِ في كافة أنحاء حياتهم . هناك توجه حالي في علمِ الاجتماع لجَعله ذو توجه تطبيقي أكثر للناس الذين يُريدونَ العَمَل في مكانِ تطبيقي . تساعد نتائج البحث الاجتماعيِ المربين ، والمشرّعين ، والمدراء ، وآخرون الذين يهتمون بحَلّ مشاكل اجتماعية ويَصُوغونَ سياسات عامة. يعمل أكثر علماء الاجتماع في عدة اختصاصات ، مثل التنظيم الاجتماعيِ ، التقسيم الطبقي الاجتماعي ، وقدرة التنقل الاجتماعية ؛ العلاقات العرقية والإثنية ؛ التعليم ؛ العائلة ؛ عِلْم النفس الاجتماعي ؛ عِلْم الاجتماع المقارن والسياسي والريفي والحضري ؛ أدوار وعلاقات الجنسِ ؛ علم السكان؛ علم الشيخوخة ؛ علم الإجرام ؛ والممارسات الاجتماعية . كذلك يعتبرعلم الاجتماع توجه أكاديمي جديد نسبيا بين علومِ الاجتماعيات الأخرى بما فيها الاقتصادِ ، عِلْم السياسة ، عِلْم الإنسان ، التاريخ ، وعلم النفْس . لكن الأفكار المؤسسة له ، على أية حال ، ذات تاريخ طويل ويُمْكِنُ أَنْ نتتبّعَ أصولَها في خَلِيط المَعرِفَة الإنسَانِيَّةِ والفلسفة المشتركة . ظهر علم الاجتماع كما هو حاليا كصياغة علمية في أوائِل القرن التاسع عشرِ كرَدّ أكاديمي على تحدي الحداثةِ : فالعالم كَانَ يتحول إلى كل متكامل ومترابط أكثر فأكثر، في حين أصبحت حياة الأفراد أكثر فردية وانعزالا . تمنى علماء الاجتماع أَنْ يَفْهموا التحولات التي طرأت على المجموعاتَ الاجتماعيةَ ، متطلعين لتَطوير دواءَ للتفككِ الاجتماعيِ . كان أوغست كومت ، أول من صاغ تعبير (sociology) " علم اجتماع " في عام 1838 من (socius) التي تعني باللاتينية (رفيق ، شريك) واللاحقة اليونانية logia بمعنى ( دراسة ، خطاب ) . يعتبر أوغست كومت من أهم الباحثين في علم الاجتماع و يعتبر المؤسس الغربي له ، لكن برودون proudhon وكارل ماركس karl marx واميل دوركايم Emile Durkheim يعتبرون أن زعامة إنشاء علم الاجتماع تعود إلى سان سيمون وحده الذي قلده أوغست كومت ونقل عنه معظم أفكاره ، فيما يرى غوهييه Gouhier أن سان سيمون قد كوَن منهجه العلمي في البحث بفضل سكرتيره أوغست كومت ، بينما الكثير من العرب يعتبرون عبد الرحمن بن خلدون بملاحظاته الذكية في طبائع العمران البشري التي دونها في مقدمته الشهيرة المؤسس الفعلي لعلم الاجتماع ، ولقد أثبتت الشواهد تأثر كومت بابن خلدون ويبدو ذلك واضحاً لمن يتتبع المراحل التي تطور وفقها الفكر الفرنسي ، ذلك أن الثورة الفرنسية قد أستهلكت كل الأفكار التي سبقتها ، وهكذا لم تظهر أراء كومت من الصفر في الوقت الذي كانت فيه ترجمات الكتب العربية قد دخلت إلى فرنسا عن طريق أسبانيا ومن بينها مقدمة ابن خلدون التي ركز فيها على جوانب علمية متعددة أهمها فلسفة التاريخ والنظرية الاجتماعية ، وقد ابتكر فيها علمه الجديد " علم العمران " هذا العلم الذي أطلق عليه أوغست كومت فيما بعد " علم الاجتماع " وبذلك يُعتبر ابن خلدون الأب الحقيقي لعلم الاجتماع الحديث وتعتبر كتاباته أقرب إلى علم الاجتماع مقارنة بكتابات كومت التي ارتبطت بالفلسفة واللاهوت ( متعب مناف جاسم : أبن خلدون وكارل ماركس) . لكن يؤيد كثير من المفكرين العرب تصنيف كومت للعلوم ، فالرياضيات أول العلوم تكوناً ، إذ تكونت عند اليونان ، ثم تلاها علم الفلك إذ تكون في القرن السادس عشر عند غاليليه Galilee ، ثم الفيزياء في القرن السابع عشر عند باسكال pascal ، ثم علم الأحياء في القرن التاسع عشر مع بيشا Bichat ، أما علم الاجتماع فلمَا يتكون وعلى كومت أن يبين قواعده (عبدالكريم اليافي : تمهيد في علم الاجتماع ) . ولقد تَمنّى كومت توحيد كل الدِراسات البشرية بما في ذلك التاريخِ وعِلْمِ النفْس والاقتصاد . وكان مخططه الاجتماعي الخاص مثاليا يعود إلى القرن التاسع عشرِ؛ حيث اعتقدَ أن كل أنماط الحياة الانسانية لجميع الشعوب في كل البقاع مَرّتْ من خلالِ نفس المراحلِ التاريخيةِ المُتميّزةِ وبهذا، إذا أمكن للشخصُ أَنْ يُدرك مراحل هذا التطور، فيُمْكِنُ له أَنْ يَصفَ العلاجَ للأمراضِ الاجتماعية . الكتاب الأول في علم الاجتماع حمل نفس الاسم و كُتب في منتصف القرن التاسع عشرِ من قِبل الفيلسوف الإنجليزيِ هيربرت سبينسر. في الولايات المتّحدة ، و عُلّم هذا التخصص باسمه للمرة الأولى في جامعة كانساس، لورانس في 1890 تحت عنوانِ فصلَ علم الاجتماع ( فصل علم الاجتماع المستمرِ الأقدم في أمريكا وقسم التاريخِ وعلم الاجتماع أُسّسا في 1891) أما قسم الجامعةِ المستقل الكامل الأول لعلم الاجتماع في الولايات المتّحدة أُسّستْ في 1892 في جامعة شيكاغو مِن قِبل ألبيون دبليو ، التي أسّست المجلّة الأمريكية لعلم الاجتماع في 1895. أسّسَ القسم الأوروبي الأول لعلمِ الاجتماع في 1895 في جامعةِ بوردو مِن قِبل ميل دوركهايم مؤسس عام 1896 . في 1919 أُسّس قسم علم اجتماع في ألمانيا في جامعة لودفيج ماكسيميليانز في ميونخ مِن قِبل ماكس فيبر وفي 1920 في بولندا من قبل فلوريان زنانيكي . أما أقسام علمِ الاجتماع الأولى في المملكة المتحدة فقد أسست بعد الحرب العالمية الثانية . بدأَ تعاون ماكس فيبر الدولي في علم الاجتماع في 1893 عندما تأسس معهد رينيه الصغير الدولي لعلم الاجتماع التي التحقت بجمعية علم الاجتماع الدولية الكبيرة بدءا من 1949. في 1905 أسست الجمعية الاجتماعية الأمريكية ، الجمعية الأكبر في العالم من علماء الاجتماع المحترفين . تتضمن قائمة العلماء النظريون "الكلاسيكيون" الآخرون لعِلْمِ الاجتماع مِنْ القرونِ العشرونِ المبكّرةِ والتاسعة عشرةِ المتأخّرةِ كلا من كارل ماركس، فيردناند توينيز، ميل دوركهايم ، باريتو، وماكس فيبر. أما في حالة كومت، كان جميع علماء الاجتماع هؤلاء لا يعتبرون أنفسهم " علماء اجتماع " فقط . وكانت أعمالهم تناقش الأديان، التعليم ، الاقتصاد ، علم النفس ، الأخلاق ، الفلسفة ، وعلم اللآهوت . لكن باستثناء ماركس ، كان تأثيرهم الأكبر ضمن علم الاجتماع ، وما زال علم الاجتماع هو المجال الأبرز لتطبيق نظرياتهم . اعتبرت دراسات كارل ماركس المبكرة الاجتماعية حقلا مشابها للعلوم الطبيعة مثل الفيزياء أو علم الأحياء. كنتيجة لذلك ، جادل العديد من الباحثين بأنّ الطريقة والمنهج المستعملان في العلوم المتماسكة منهجيا تناسب بشكل مثالي الاستعمال في دراسات علم الاجتماع . وكان استخدام الطريقة العلمية وتشديد النزعة التجريبيةِ امتيازَ علم الاجتماع عن علم اللآهوت ، والفلسفة ، والميتافيزيقيا . هذا أدّى إلى علم اجتماع معترف به كعِلْم تجريبي . هذه النظرة الاجتماعية المبكّرة ، مدعومة من قبل كومت Comte ، أدت إلى الفلسفة الواقعية ، المستندة على الطبيعية الاجتماعية . على أية حال، بحدود القرن التاسع عشر وضعت الدراسات ذات التوجه الطبيعي لدراسة الحياة الاجتماعية موضع سؤال وشك من قبل العلماء مثل ديلتي وريكيرت ، الذي جادل بأنّ العالم الطبيعيَ يختلفُ عن العالمِ الاجتماعي بينما يتميز المجتمع الإنساني بسماتُ فريدةُ مثل المعاني ، الرموز، القواعد الأخلاقية ، المعايير، والقيم . هذه العناصرِ في المجتمع تُؤدّي إلى نشوء الثقافات الإنسانية . وجهة النظر هذه كَانتْ قد طوّرتْ مِن قِبل ماكس ويبير، الذي قدّمها ضِدّ الفلسفة الواقعيةَ ( عِلْم اجتماع إنساني ). طبقاً لهذه وجهةِ النظر، التي تعتبر وثيقة الصلةُ بالبحث الاجتماعيِ ضد الطبيعيةَ يجب أَن تركّزَ الدراسات على البشرِ وقِيَمهم الثقافية . هذا أدّى إلى بعض الخلاف على مدى إمكانية وضع خطَ فاصل بين البحث الشخصي والموضوعي أثّر بالتالي على الدراسات التفسيريةِ أيضاً . النزاعات المماثلة ، خصوصاً في عصرِ الإنترنت ، أدّت إلى خلق فروع غير احترافية من العلوم الاجتماعية . يرى كومت Comte أن تاريخ البشرية ينقسم إلى ثلاث مراحل من التقدم الشامل : المرحلة الدينية ؛ والمرحلة الميتافزيقية ، ثم المرحلة العلمية ، ويستخلص من كتابات كومت في الاستاتيكا الحقائق الاجتماعية الآتية ( د . مهى سهيل المقدّم : أوغست كومت في ميزان الفكر الاجتماعي العربي ) :
أ – إن المجتمع يتكون من أفراد ولكن هؤلاء الأفراد لاتدعوهم إلى الاجتماع غريزة الأنانية . فالفرد يتمتع إلى جانب نزعاته الانانية بشيء كثير من عواطف الإيثار وحب الغير ، وهذه العواطف لها تأثير كبير في تماسك المجتمع . فالدعامة الأساسية لقيام المجتمع هي مبدأ التعاون .
ب – إن خلية المجتمع الأولى هي الأسرة التي تقوم بتحضير الأفراد وتنشئتهم ثم بتهيئتهم للحياة الاجتماعية لأنها بطبيعة تكوينها وبما يسود فيها من مبدأ التعاون وتقسيم العمل عبارة عن مجتمع صغير ، فإذا ما أردنا تقوية روابط المجتمع وجب علينا أن نتجه أولاً نحو تدعيم نظام الأسرة ، ذلك أن التربية الأسرية المنزلية تستهدف تكوين النظام السياسي بالتدريج .
ج – تتألف المجتمعات المركبة من مجموعة من الأسر تعيش على نظام تقسيم العمل وينشأ بينها نوع من التضامن كالذي ينشأ بين الأعضاء المختلفة في جسم الكائن الحي ، فإن كلا من هذه الأعضاء يعتمد على الآخر ويتعاون الجميع لغرض واحد هو الوصول بالجسم كله إلى حالة التوازن والكمال . وعلى الرغم من أوجه الشبه البارزة بين المجتمع والفرد حيث أن كلاً منهما يتألف من أعضاء يختص كل منها بوظيفة محددة ، إلا أن المجتمع ككائن حي يتميز عن الفرد بقدرة أكبر على التكيف ومرونة أكثر في تقسيم العمل الذي يؤدي بالعناصر المختلفة للمجتمع إلى التخصص كل في ناحية خاصة ، وينشأ عن هذا التخصص الطبقات الاجتماعية التي تقوم في المجتمع مقام الأنسجة في جسم الإنسان . ويميز كومت ثلاثة أنواع من الطبقات والأنسجة الاجتماعية Tissus Sociaux :
1. طبقة العمال وروؤساء الصناعة وهي طبقة العمل المادي .
2. طبقة العلماء ورجال الدين والفلاسفة وهي طبقة العمل العقلي .
3. طبقة النساء والامهات والزوجات وهي طبقة العمل العاطفي والتأثير الخلقي .
ويجب أن تحتفظ كل طبقة بوظيفتها في المجتمع وتؤدي المهمة التي خُلقت لها .
د . إن القانون الأساسي في علم الاجتماع الخاص بالاستقرار ينحصر في التعاون الوثيق والتأثير المتبادل بين جميع العناصر الاجتماعية في جميع مراحل تطورها المشترك . ويؤكد كومت أن أول شرط للوجود الاجتماعي هو تحقيق نوع من الوحدة في العقائد والآمال ، ويجب أن تنشأ هذه الوحدة أولاً داخل نطاق الأسرة ، ولايتم ذلك إلا إذا اعترفت المرأة بأنها أقل من الرجل قوة ويجب أن تخضع له ، ذلك أن ضعف المرأة حقيقة أثبتتها الأبحاث البيولوجية ومن العبث الثورة ضد قوانين الطبيعة .
تعتبر دراسات كومت في الديناميكا الاجتماعية أقرب إلى فلسفة التاريخ منها إلى علم الاجتماع . وهو يرى أن الإنسانية مرت في تطورها بمراحل تطابق المراحل التي وصفها في قانون الحالات الثلاث . فالعصر اللاهوتي ينقسم إلى ثلاثة أطوار : الطور الخرافي وطور تعدد الآلهة وطور التوحيد . أما العصر الميتافيزيقي فهو يبدأ بعصر النهضة وفيه بدأ تحطيم الروح الحربية لبناء الروح الصناعية على أنقاضها . أما العصر الوضعي فيبدأ بالثورة الفرنسية وهو يتميز باستقلال التفكير الإنساني مما أدى به سريعاً إلى التقدم في الصناعة والفن والعلم . وقد قضت الثورة على النظم القديمة التي كانت تعوق تقدم الإنسانية فأصبح من الواجب أن تُستبدل بنظم جديدة تتفق وروح العصر الوضعي . ويتبين من دراسة كومت للديناميكا الاجتماعية أنه كلما تقدم التفكير الوضعي خسرت الفكرة اللاهوتية والميتافيزيقية عن العالم جزءاً من مجال نفوذها . وهكذا نرى أن المنهج الذي يلائم علم الاجتماع هو المنهج التاريخي ، الذي نستطيع تطبيقه في هذا الفرع ( علم الاجتماع الخاص بالتطور – الديناميكا ) . كما أن مبدأ مكان وجود الظواهر الاجتماعية قد اتضح في ذهن كومت منذ أن كشف عن قانون الحالات الثلاث وهو قانون خاص بالتطور ، حلّل بواسطته ماضي الإنسانية ووصل إلى تفسير لحاضرها ، مما ساعده على التنبؤ بمستقبلها . ويتضح هنا أن العلاقة بين الاستاتيكا والديناميكا علاقة وثيقة ، لأنه إذا اعتبرنا الأولى نظرية في النظام المعبر عنه بدراسة نمو المجتمع وتطوره فتناولت تغيُر النظم الاجتماعية من عصر لآخر ومن مجتمع لآخر والعوامل المؤثرة فيه . ومما لاشك فيه أن إقامة أي نظام اجتماعي يرتبط ارتباطاً كبيراً بقدرته على التقدم وملاءمته له ، كما أن التقدم لايكون ممكناً بدون مساندة النظام ودعمه له .
ويرى كومت أن الحياة في المجتمع حالة طبيعية بالنسبة إلى الإنسان . إذن نظرية العقد الاجتماعي التي نادى بها روسو نظرية باطلة ، ذلك أن غريزة التجمع فطرية في النوع الإنساني وأنها ترجع إلى الميل الغريزي إلى حياة الجماعة بغض النظر عن كل نفع شخصي إذ غالبا يكون هذا التجمع على حساب المنفعة الفردية الملحة كما أسلفنا سابقاً . فالمجتمع لايقوم على فكرة المنفعة إذ لم تظهر هذه المنفعة إلا بعد تكوين المجتمع ، فالسبب الرئيسي لتفوق الإنسان على الحيوانات هي نزعته الاجتماعية ، أما بالنسبة لماركس ( كيليه كوفالسن : المادية التاريخية) فأنه أتخذ موقفاً عدائياً من المذهب الكومتي على الرغم من ظهور التحمس الشديد لهذا المذهب في انكلترا وفرنسا ، ذلك أن علم الاجتماع عند كومت يعكس رغبة الطبقة الوسطى في تدعيم وضعها الجديد من أجل إكتمال المجتمع الجديد عن طريق التطبيق السلمي للعلم والمعرفة رافضة اختيار الثورة منذ البداية . كما أن أعمال كومت حسب رأيه أدنى في الدرجة من أعمال هيغل ، ذلك أن الفلسفة الوضعية التي وضعها كومت تتأثر بالروح الكاثوليكية . لذا ، أدان مذهبه اللاهوتي الطائفي كما أدان جنونه التنبؤي وأعمال أتباعه الذين طالبوا بجعل الفلسفة الوضعية " حركة للعمال " . وهكذا لم يستخدم ماركس مصطلح علم الاجتماع الذي وضعه كومت على الرغم من الرواج الذي صادفه هذا المصطلح ، لأن تصور ماركس لعلم المجتمع يستند إلى مسلمات مختلفة عن تلك التي وضعها كومت والتي تقوم على دراسة تفاصيل وحدات اجتماعية صغرى حاول ماركس تناولها على مستوى بناء المجتمع ككل ، معتبراً وحدة الدراسة قائمة على حقبة تاريخية بأكملها ، ومؤكداً التلاحم بين النظرية والتطبيق ، ومحاولاً تطوير جميع المسائل الاجتماعية التي تجاهلها كومت حين نظر إلى الواقع الاجتماعي بوصفه عملية اجتماعية لاتسير في طريق تطوري دائم دون تعرض بناء المجتمع لانهيارات كيفية تمثل حقبة تاريخية جديدة تستمر بفضل الثورة وتعتبر صورة جديدة لمجتمع جديد . وإذا كانت ديانة كومت الجديدة قد اعتمدت القلب والروح فقط ، فإن ماركس قد ابتعد عن كومت ابتعاداً كبيراً حين غلب دور العقل ورفع من شأن المادة في تناوله العوامل المؤثرة في التطور الاجتماعي . ويختلف كومت اختلافاً كبيراً مع ماركس عندما يدافع عن الملكية والميراث ويحمل على الاشتراكيين ويرى أن آراءهم مبنية على مبادىء ميتافيزيقية وهمية لأنها أنكرت أهمية الكسب في الادخار والتوريث . وبدلاً من أن ينصبّ اهتمام ماركس على موضوع الاستقرار الاجتماعي الذي شغل كومت ، ركز اهتمامه على تحليل الطبقات الاجتماعية الكبرى التي يؤدي الصراع بينها إلى تدمير النظام الاجتماعي وهدمه وإعادة بنائه من جديد ، هذا ولايفوتنا بأن كومت قدم مقترحات على جانب كبير من التعقيد لإقامة دولة وضعية تقوم على صفوة من علماء الاجتماع لإدارة المجتمع وتوجيهه ، حيث يرى أن النظام الاجتماعي يتطلب سلطة روحية إلى جانب السلطة الزمنية ، كما أن سلام الإنسانية في المستقبل يتوقف على عودتها إلى وحدة العقيدة . وإذا كانت الطمأنينة والسلام في ديانات الماضي هي اتحاد المرء بالله ، فإنها في الديانة الوضعية تعني اتحاد المرء بالإنسانية . ويتلخص دين الإنسانية الذين يشير إليه كومت في أن تنشأ مدن صغيرة بدل الدول الكثيرة التي تسود العصر الحديث ، ويربط هذه المدن فيما بينها دين عالمي هو دين عبادة الإنسانية . وكأن كومت هنا يود إحياء النظام القديم الذي أشار إليه أفلاطون وأرسطو والفارابي أيضاً ، وهو نظام المدن الصغيرة أو المدن الدول .
ومن أهم أعمال كومت كتاب " الفلسفة الوضعية " الذي ظهر لأول مرة في ستة أجزاء (1830- 1842) . وأسس المذهب الوضعي القائل ان لا سبيل إلى المعرفة إلا بالملاحظة و الخبرة و المذهب الوضعي هو إتجاه فلسفي تميز أصحابه بالأفكار الإلحادية الذين يعتبرون الأشياء الحقيقة هي التي يمكن ملاحظتها وإخضاعها للتجربة أي إسقاط عليها العلوم الطبيعية والفيزيائية ، وبهذا يكون هذا المذهب ينفي وجود حقائق خارجة عن الحواس . فمصادر المعرفة عندهم تتمثل في العقل والسمع والبصر ما دون ذلك فهو بطلان حسب رأيهم ، وبهذا المذهب يتم إسقاط كل ما أتى به الرسل والأنبياء الموحى إليهم . فأصحاب هذا المذهب لا يؤمنون بالوحي أو شيء من هذا القبيل .
وبعد أن بلور المبادئ العامة للفلسفة الوضعية انتقل إلى دراسة القوانين التي تتحكم بتطور المجتمعات البشرية . " ومعلوم أن أوغست كومت هو مبلور نظرية المراحل الثلاث التي تتحكم بكل الحضارات أياً تكن : أي المرحلة اللاهوتية الدينية ، فالمرحلة الميتافيزيقية ، فالمرحلة الوضعية أو العلمية الحديثة والتي هي نهاية التطور البشري بحسب رأيه " ( اندرو فيرنك : أوغست كومت ودين البشرية ) .
وقال كومت بأن أوروبا المتقدمة هي وحدها التي اجتازت المرحلتين السابقتين من التطور ووصلت إلى أعلى درجة : أي إلى المرحلة الوضعية أو العقلانية الكاملة . أما بقية الشعوب فلا تزال تتخبط في المرحلة اللاهوتية الغيبية أو في المرحلة الميتافيزيقية الأكثر تطوراً منها بقليل . ويرى أوغست كومت أن المسيحية بصيغتها القديمة المتزمتة قد انتهت بحلول عصر العلم والعقل.
والواقع أن العصر السابق له ، أي القرن الثامن عشر كان قد فكك العقائد التقليدية من مذهبية وطائفية. وهذا ما فعله فلاسفة الأنوار المشهورون من أمثال فولتير وديدرو وجان جاك روسو وسواهم عديدون . فقد قضوا على التعصب وقدموا تفسيراً جديداً للدين المسيحي غير التفسير السابق الذي كان سائداً منذ مئات السنين.
وتأثر بهذه الأفكار ريتشاد كونجريف الإنجليزي الجنسية وناصرها ودافع عنها بل دعا إليها . ولم يقف زحف هذا الإتجاه في حدود أوروبا بل تعدى كل الأسوار العالية والحدود المبنية ليصل إلى البلاد العربية فأثر في بعض المفكرين والأدباء الذين ألفوا كتبا تناولوا فيها مدى إعجابهم بهذا المذهب ونذكر في هذا السياق على سبيل المثال لا الحصر طه حسين و الأديب زكي نجيب محمود الذي تشبع بالفلسفة الوضعية وقبل أفكارها .
كل من سبق ذكرهم ركزوا على جوهر الدين ولم يهتموا بقشوره كما كان الناس يفعلون طيلة العصور الوسطى . وهكذا قدمواً تأويلاً عقلانياً وليبرالياً حديثاً عن الدين . وتحرروا بذلك من التأويل القديم المتحنط والمتكلس.
ولهذا السبب دعا كومت إلى تشكيل دين صالح للبشرية جمعاء لأن المسيحية فشلت في أن تصبح كونية ولأنها كانت متعصبة وخاصة بالمسيحيين فقط . وبالتالي فالمسيحية بصيغتها السابقة قد انتهت.
أما هو فيريد تشكيل دين صالح لجميع الأقوام والشعوب ، أي لجميع البشر بدون استثناء . ودين البشرية بحسب مفهومه ليس دين الفلسفة ولا الفلسفة الدينية . ينبغي العلم أن الفلسفة حتى عصر أوغست كومت كانت تنظر إلى الدين كمنافس لها في مجال المعرفة . بل وكانت تعتبر خادمة لعلم اللاهوت المسيحي طيلة العصور الوسطى . ولم تتحرر من هيمنته عليها إلا بعد ظهور الفلسفة الديكارتية وكذلك فلسفة سبينوزا وفولتير وكانط.
و" لا ريب في أن الفلسفة الوضعية تكفي لفهم قوانين العالم الموضوعي الفيزيائي . إنها تكفي لتحقيق التقدم والتطور على هذه الأرض . إنها تكفي لاختراع الآلات التكنولوجية التي تريح الإنسان من بذل الجهد العضلي المرهق كما كان يفعل في العصور السابقة . إنها تكفي لتحسين معيشة الإنسان وتطويرعلم الطب والقضاء على الأمراض وتحويل حياة الناس إلى جنة كما حصل في الغرب مؤخراً." ( اندرو فيرنك : أوغست كومت ودين البشرية ) .
ولكنها لا تكفي لفهم الوجود وإعطاء معنى للحياة قبل الموت وبعد الموت. ولذلك فإن دين البشرية يتصدى لهذه المهمة الصعبة ويقدم للإنسان كل العزاء والطمأنينة في هذا العالم . وقال كومت : على الرغم من تقدم العلم في عصرنا إلا أن الإنسان لا يستطيع أن يستغني عن الإيمان بالله أو بالكائن الأعظم . ولا ينبغي أن يغتر الإنسان كثيراً بنفسه لأنه حقق كل هذا التقدم العلمي والتكنولوجي في عصر الحداثة . ينبغي عليه أن يتواضع ويعترف بوجود قيم أخرى في الحياة . وهي قيم متعالية على كل البشر.
يضاف إلى ذلك أن الدين بحسب المفهوم الحديث قائم على الحب الخالص الذي يشبه النزعة الصوفية المحضة " الثيوصوفيا " أو وحدة الوجود . ولم تعد له أي علاقة بالتعصب أو التزمت أو الإكراه في الدين على عكس ما كان يحصل سابقاً . إنه قائم على تطهير روح الإنسان من الداخل لكي يتخلص من أنانيته وكرهه للبشر الآخرين.
وبالتالي فالدين في عصر العلم ، أي في عصر الفلسفة الوضعية الظافرة هو غير الدين في عصر ما قبل العلم : أي في العصور الوسطى . لقد تغير مفهومه كلياً ولم تعد له أي علاقة بمحاكم التفتيش وملاحقة العلماء والمفكرين وتحريم قراءة أعمالهم وكتبهم من قبل البابا والفاتيكان ، و " لا يمكننا أن نفهم تصور أوغست كومت للدين إذا لم نربطه بتصور المفكرين الآخرين الذين عاصروه كماركس ، وفويرباخ ، ونيتشه " ( اندرو فيرنك : أوغست كومت ودين البشرية ) . ومعلوم أن هؤلاء الفلاسفة الثلاثة اتهموا بالإلحاد ومحاولة القضاء على الدين . ولكن أوغست كومت لم يكن ملحداً.
فكيف يمكن أن نشبهه بهم ؟ في الواقع أنه كان يتفق معهم على الحقيقة التالية ألا وهي انهيار المسيحية التقليدية التي لم تعد مقنعة . كما وكان يتفق معهم على أهمية العلم الحديث وكيف أنه حل محل الدين فيما يخص تفسير ظواهر العالم وقوانينه . وكان يثق مثلهم بأن العلم سوف يحقق السعادة والرفاهية للبشرية . ولكنه كان يختلف عنهم من حيث تركيزه على القيم الروحانية وإيمانه بوجود كائن أعلى أو أعظم يتحكم بالبشرية.
والواقع أن العقيدة الدينية لأوغست كومت مرتبطة بتجربته الحياتية . فمن المعلوم أنه أحب فتاة متدينة حباً عذرياً خالصاً . ثم ماتت بمرض السل في عز الشباب. وقد أثر ذلك عليه كثيراً . وعندئذ راح يهتم بالدين والروحانيات وينصرف عن الفلسفة الوضعية والماديات . أو قل راح يكمل الفلسفة الوضعية بالفلسفة الروحانية التي سماها دين البشرية.
ولقد وحاولت الثورة الفرنسية أن تلغي المسيحية كلياً وتحل محلها دين العقل . وكان ذلك بمثابة رد فعل على محاكم التفتيش المسيحية والأصولية المتعصبة والحروب المذهبية والطائفية . ثم راحت الفلسفة تتطرف في الاتجاه المعاكس وتحاول حذف الدين كلياً من الساحة . ضمن هذا الجو ظهر أوغست كومت . وراح يحاول أن يجد حلاً للمشكلة . فهو يرفض التعصب المسيحي والأصولية المتشددة ومحاكم التفتيش . ولكنه يرفض في ذات الوقت النزعة المادية والإلحادية الكاملة.
فالإنسان ليس مادة فقط وإنما هو روح أيضاً . وبالتالي فبعد أن انهارت المسيحية في أوروبا بسبب التنوير والثورة الفرنسية وانتصار الحداثة ينبغي أن نجد بديلاً عنها أوسع منها وأشمل . وهذا البديل هو ما دعاه بدين البشرية . وقال كومت بما معناه : إذا كانت الأصولية المسيحية قد انهارت فهذا لا يعني أن الدين قد انهار، وإنما يعني أننا بحاجة إلى بلورة مفهوم جديد للدين : أي مفهوم كوني واسع يشمل البشرية بأسرها ، مفهوم قائم على الحب وتجاوز الأنانيات الشخصية والمصالح العابرة للبشر.
ويعتقد كومت بأن الدين من دعامات المجتمع الأساسية ومن العوامل الهامة في تطور البشرية لأنه رابطة الناس الدائمة . لذا إذا أردنا إنقاذ الإنسانية من الفوضى والاضطرابات التي تتعرض لها وجب أن نهيء لها ديناً جديداً يقوم على حقائق إيجابية سماه كومت بدين الإنسانية La religion de l humanite ، تحل فيه فكرة الإنسانية محل فكرة الله وتشتق حقائقها من العلوم الوضعية المجردة ( محمد طلعت عيسى : أتباع سيمون ، فلسفتهم الاجتماعية وتطبيقها في مصر) . وطالب المسلمين والكاثوليك بأن يأخذوا بديانته الجديدة التي تجعل من الإنسانية جمعاء الإله الذي يجب أن نقدسه ، ذلك أن الأديان القديمة قد مضى عهدها ولن توصل العالم إلى الحقيقة الوضعية التي تقوم أساس علمي . وقد فشل كومت في إقناع الناس بدينه الجديد . لأنه لايتفق مع مبادىء علم الاجتماع الذي يعتبر أن الدين ظاهرة اجتماعية تتميز بصفة التلقائية التي تتميز بها سائر الظواهر الظواهر الاجتماعية الاخرى ، وبالتالي فهو غير قابل للإنشاء ولايمكن أن يفرض على مجتمع ما بالقوة كما يدعي كومت .
ولقد حصلت الثورة الفرنسية كنتيجة لكل هذه الثورة العقلية والتنويرية . وقد حطمت العالم القديم بكل عاداته وتقاليده وقيمه الراسخة . ومعلوم أن أوغست كومت ولد بعد الثورة مباشرة وبالتحديد عام 1798 وذلك في مدينة مونبلييه الواقعة على البحر الأبيض المتوسط . وكان يخشى الثورات كثيراً لأنها قد تدمر أكثر مما تعمر. وقال كومت بما معناه : كفانا تدميراً وتحطيماً للعالم القديم. الآن جاء دور البناء والتعمير واستتباب النظام . فقد مررنا بمرحلة فوضوية كبيرة وقد طالت أكثر مما يجب.
ويرجع كومت تطور الظواهر الاجتماعية إلى التفكير وحده في الوقت الذي نجد فيه هذه الظواهر تخضع وتتفاعل مع عوامل أخرى كثيرة والتي تتميز بأن التفكير هو أحدها وليس السبب الوحيد لهذا التطور (عبدالحميد لطفي : علم الاجتماع ) . و " ما كان يقصده الفيلسوف الفرنسي هو أن العصر السابق له ، أي عصر التنوير، قام بعملية النقد والتفكيك . وكانت عملية ضرورية لا بُدَّ منها . أما عصره فهو عصر البناء على الأنقاض . وهنا يكمن الفرق بين العصرين . يحصل ذلك كما لو أن كومت كان يريد أن يقول : كفانا نقداً وتهديماً للماضي . الآن جاء وقت البناء والتعمير . فنحن لا نستطيع أن نعيش كل حياتنا في حالة من الثورة والفوضى والتدمير ." (اندرو فيرنك : أوغست كومت ودين البشرية ) .
ويظل هناك سؤال يطرح نفسه فيما يخص عالمنا العربي والاسلامي : من عصر أبن خلدون إلى عصر أوغست ، ومن عصر أوغست إلى الآن مروراً بالحداثة ومابعد الحداثة أين نقف نحن وسط هذا العالم ؟ ماهو منجزنا المعرفي ؟ هل أستطعنا مواكبة الآخر والتحاور معه ؟ بالطبع لا ، لكن ماهي الأسباب ؟ ، " ينبغي ( مقالة لهاشم صالح : اوغست كومت وتأسيس الحداثة الغربية ) العلم بان أحد الأسباب الأساسية للصدام المروع الحاصل حاليا بين العالم الإسلامي والغرب يعود إلى جهلنا بكيفية تشكل حضارته . ولكي نعرف كيف نتعامل مع الغرب وعقليته ينبغي أن نفهم كيف تشكلت هذه العقلية تاريخيا ً. فعقلية الحداثة غير العقلية الغيبية أو اللاهوتية التي كانت سائدة قبلها . والواقع أن أكثر ما يصدم حساسيتنا وعقليتنا نحن الباحثين العرب أو المسلمين عندما نجيء إلى أوروبا وجامعاتها هو هذه العقلية الوضعية ، العلمية ، الباردة ، المقطوعة كلياً عن اللاهوت والتعالي الرباني " .



#كريم_الهزاع (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بهجة الاحتضار ومراوغات الجثة
- الإرادة : حينما لا أجد شيء يقلقني فهذا بحد ذاته يقلقني
- خطوة في التوجس . خطوة في اليقين


المزيد.....




- الصفدي لنظيره الإيراني: لن نسمح بخرق إيران أو إسرائيل للأجوا ...
- عميلة 24 قيراط.. ما هي تفاصيل أكبر سرقة ذهب في كندا؟
- إيران: ماذا نعرف عن الانفجارات بالقرب من قاعدة عسكرية في أصف ...
- ثالث وفاة في المصاعد في مصر بسبب قطع الكهرباء.. كيف تتصرف إذ ...
- مقتل التيكتوكر العراقية فيروز آزاد
- الجزائر والمغرب.. تصريحات حول الزليج تعيد -المعركة- حول التر ...
- إسرائيل وإيران، لماذا يهاجم كل منهما الآخر؟
- ماذا نعرف حتى الآن عن الهجوم الأخير على إيران؟
- هولندا تتبرع بـ 100 ألف زهرة توليب لمدينة لفيف الأوكرانية
- مشاركة وزير الخارجية الأمريكي بلينكن في اجتماع مجموعة السبع ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - كريم الهزاع - أوغست كومت بعد قرن ونصف من رحيله