أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - عدنان حسين أحمد - الشاعر غيلان ل - الحوار المتمدن















المزيد.....



الشاعر غيلان ل - الحوار المتمدن


عدنان حسين أحمد

الحوار المتمدن-العدد: 692 - 2003 / 12 / 24 - 08:40
المحور: مقابلات و حوارات
    


• حاوره: عدنان حسين أحمد/ أمستردام
• الشاعر غيلان ل ( الحوار المتمدن )
- قصيدة النثر هي الأقرب إلى الهم العام لأنها قصيدة الأصوات المغيّبة
-  أنا شاعر سومري يتحرك خارج خريطة المجايلة

لا ينضوي الشاعر غيلان تحت يافطة جيل شعري معين، لأنه يغرف من نهر الثقافتين المحلية والإنسانية. ويصر على أن يظل مشاكساً ومتمترساً خلف خطابه الثقافي الشرس الذي لا يرتكن إلى المصالحة مع الذات أو مع الآخر. فمذ هزته رعشة الإبداع الأولى امتطى جواد الشعر الجامح، وانطلق إلى المروج المفتوحة ليشّم بعمق هواءً مختلفاً يحرّضه على التحليق في فضاءات بكر لم ترفرف فيها أجنحة الشعراء السابقين. وربما يكون الشاعر غيلان هو أكثر الشعراء العراقيين المهووسين بتفجير الأسئلة، وترويج الاعتراض، وإثارة الشكوك من أجل القفز إلى المجال الحيوي الذي يثق بالمتغيرات أكثر من ثقته بالثوابت. غادر غيلان العراق مبكراً لكن مشيمته ظلت متشبثة ببغداد تمدّه كل يوم ليس بغذاء الروح والجسد، وإنما تبث إليه همس التراتيل السومرية فتنتشي ذاكرته، وتتألق مخيلته المجنحة فيعيش هنا وهناك في آن معاً. عندما حط عصا ترحاله في بيروت كان يحمل بغداد بين جوانحه، ويعيش على رفيف ذكرياتها، ولم يشغله عنها العمل في جريدة ( النهار ) البيروتية، ومجلة ( مواقف ). وحينما سئم من العمل في دوائر الرتابة والملل قرر أن يجترح طريقه الخاصة برفقه ثلة من رواد السؤال أمثال آدم حاتم، وعلي فودة، وأبو روزا وولف، ورسمي أبو علي ليعلنوا ولادة ( الرصيف ) كمثابة حقيقية للأصوات الحرة التي يحلوا لها أن تغرد بعيداً عن المؤسسات التي تفرض وصاياها وشروطها المتعجرفة، فسرعان ما غابت ( الرصيف ) بعد عددها الثاني، وغاب معها غيلان في أروقة السجن بعد أن لفقت له الرؤوس المراوغة تهماً غريبة ما أنزل الله بها من سلطان. بعدها حمل غيلان جبل أسئلته ميمّماً وجهه شطر البلاد البعيدة ليستقر به المطاف في ( Hazelbrook ) بأستراليا. وهناك أصدر مجلة ( جسور ) علّها تهدّئ بعضاً من قلقله الإبداعي. ومع ذلك فقد ظلت ( الرصيف ) هاجسه الأول. وفي هذا العام تحديداً حمل زوادته إلى عمّان لكي يعيد ( الرصيف ) إلى الرصيفيين. وبمناسبة مروره في أمستردام، واحتفاء عدد من الأدباء والمثقفين العراقيين بإطلاق ( الرصيف ) من جديد إلتقيناه على هامش الأمسية الشعرية التي أقيمت له في مقهى( De Bali ) وكان لنا معه هذا الحوار:

• الاسترسال السومري
• هل  صحيح ما يردده البعض من أن أرواح السومريين تستوطن أعماقك، وتتلو تراتيلها المبهمة عليك، لتعيد صياغتها بشكل حداثي لا ينتمي إلى اللغة السائدة والأفكار المستنفدة؟
- كل شاعر له نهره الثقافي الخاص الذي يغرف منه. وكثير من الشعراء غرفوا من التوراة ومن الإنجيل ومن القرآن. وهناك أيضاً شعراء غرفوا من الأساطير ومن المثيولوجيا وغيرها من المرجعيات والمصادر. دائماً يقود الشعراء الحقيقيين هاجس ملح، وهو كيف تتم صياغة لغة جديدة؟ أو كيف يتم صياغة سؤال جديد. وبما أن للشعر علاقة في التكوين الداخلي للشاعر، فلا أدري لماذا أجد نفسي منقاداً إلى النهر العراقي، والتاريخ العراقي، والمثيولوجيا العراقية كأي شاعر يريد أن يعالج موضوعه الشعري بأدوات لها علاقة بتكوينه الشخصي، وبتكوين ثقافته. هكذا تجدني عائداً حتى في بناء القصيدة أقترب من البناء والاسترسال السومري.
• تعتمد قصيدتك على لغة مكثفة، واخزة، عميقة الدلالة، ولا تنتمي تماماً إلى لغة الأفق السائد. كيف استطعت أن تحقق هذه الخصوصية، والنبرة المتفردة في كتابة نص يعتمد على بنية متعددة المستويات، كما يحتمل أكثر من قراءة. هل لك أن تتحدث لنا عن هذه اللغة المشحونة بالإشارات، والمتفجرة بالرؤى والدلالات الشعرية الموحية؟
- لا يستطع الشاعر أن يتحدث عن قصيدته. قد يستطيع أن يتحدث عن قصيدة لشاعر آخر أو رواية أخرى لروائي آخر. الشاعر أو الكاتب المبدع بصورة خاصة يستطيع أن يقيّم تجربته في الحياة، لكنه لا يستطع أن يقيّم تجربته في الشعر. الشاعر يمثل ذروة التفاعل مع المنجز الثقافي للشعوب الأخرى أو للإنسانية عموماً، أما كيف يعالج المعلومات المتوفرة ليعيد صياغتها في سؤال جديد هي مهمة الشاعر الأساسية. أنا على الصعيد الثقافي كشاعر وكإنسان عراقي أنتمي إلى نهر الثقافة الإنسانية وأسئلتها وإشكالاتها، وهذا الانتماء الإنساني يحفزني لفهم كل الخطابات الإنسانية في الفلسفة، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، والسياسة. إذاً، همّ الشاعر هو هم ثقافي كلما حفر في خارطة الثقافة، كلما وجد نفسه أكثر وصولاً إلى الأسئلة التي يريد.

• لحظة الكتابة
• لديك أنساق لغوية ذات دلالات عميقة وصادمة في بناء النص الشعري. هل تأتي هذه الأنساق والدلالات جاهزة دفعة واحدة، أم أنك تشتغل على إعادة تشكيل الدلالة في الجملة الشعرية بعيداً عن التوصيفات العفوية مثل ( مستنقعات الذهب، غابة الكسل،، أوردة البحار، قصب الوحشة، عربة الغيوم. . الخ ). ما مدى حضور الجانب الذهني في النص الذي يكتبه الشاعر غيلان؟
- أنا من الشعراء الذين يكتبون ليس بالإرادة القصدية. أعتقد على الصعيد الشخصي أن اللحظة الأولى في كتابة النص هي أهم لحظة. وهي بالنسبة لي تشبه حلماً جميلاً، وإذا انقطع هذا الحلم بإمكانك أن تكمله عن طريق استعادة الحلم من جديد. وهذا يحدث عند أي إنسان. فلحظة الكتابة إذا استمرت، استمرت القصيدة. وإذا انقطعت فعلى الشاعر أن يلجأ إلى كل القوى الأخرى لكل يعيد لحظة الوصل. وإذا فشل فربما سيلجأ الشاعر إلى القصد الذهني، والاشتغال الواعي. الشاعر أيضاً له مخزون كبير في لا وعيه. فهناك مفردات لم تكن تفكر بها، إذ تأتيك من المخزون الداخلي فجأة، ومن دون سابق إنذار. هناك كثير من الشعراء يشتغلون اشتغالاً حرفياً، لكنني أنا على الصعيد الشخصي أؤمن بلحظة الكتابة، وهذه اللحظة تشبه الحلم المنساب، وإذا انقطع الحلم لسبب ما، فعلى الشاعر أن يعيد التواصل مع حلمه، وإذا فشل فلا بأس أن يلجأ إلى أسلوب أو تقنية ما في صياغة سؤاله الشعري.

• الوحي الداخلي
• كيف تدهمك هذه اللحظة الشعرية المفاجئة؟ هل تأتيك في أثناء قراءة كتاب ما، أو مشاهدة فيلم سينمائي، أو مرور خاطئ لإنسان ما، أو رائحة ما قد تشدك عشرات السنين إلى الوراء؟
- تأتيني هذه الحالة في القراءة، كما تأتيني في الحالات الأخرى التي ذكرتها في متن سؤالك. أحيانا تأتيني جملة أثناء القراءة فتفجر فيّ ما كنت عاجزاً عن تفجيره، أو تفجّر غير المدرك بالنسبة لي. القراءة عامل محرّض لتكوين حالة قد تدفعني للكتابة. المشاهدات اليومية أيضاً تحرض على الكتابة، قد ترى وجهاً مثيراً لامرأة ما، أو لرجل ما، أو لطفل ما فيفجر فيك حالة قد تقودك إلى الكتابة. تفجير غير المدرك فيّ ربما يأتي من مشاهدة فيلم، أو عمل مسرحي، أو سماع سمفونية أو قطعة موسيقية ما. هذه الحالة لا أسميها الوحي، وإنما أسميها الوحي الداخلي الذي يقود إلى تلك اللحظة التي تستجمع عند الشاعر زمكانيته، والبداية بمشروع شعري.
 
• رسول النهر
• في قصيدة ( نهر التراتيل ) ثمة نفس حكائي. هل هي محاولة للإفادة من الأجناس الأدبية الأخرى، وتحطيم الحواجز الصارمة التي تفصل بين الأنواع الأدبية المعروفة؟
- هناك نفس ملحمي في ( نهر التراتيل ). وهناك أيضاً محاولة لالتقاط مسار يتجه من أولى تشكيلات الإنسان العراقي، وهذا يحتاج إلى مساحة كبيرة، ولكن لا أدري كيف يتم تشكيل هذه المساحة في ( نهر التراتيل ). كل الذي أعرفه أنني دخلت إلى التكوينات الأولى للذات العراقية وصولاً إلى نهاياتها كما في قصائد ( شرخ الشباب ) و ( ( أم الغريق ) و ( مصائر عراقية ) و ( رسول النهر ) و ( شاعر النهر ) و ( طفل النهر ) وهي بالمناسبة نصوص ملحقة ب ( نهر التراتيل ). هكذا وجدت نفسي أغرف من النهر فتحولت إلى نهر مرّ فيكل هذا التاريخ، فكانت حرية التعامل مع موضوع أصبح مرور النهر فيه يشكل تفاصيل كثيرة تمتد من بدايات التكوين حتى هذه اللحظة التي يتعامل فيها العراقيون مع المنافي الكثيرة. قصيدة ( نهر التراتيل ) أخذت هذه المساحة الواسعة. وكما قلت أنت في سؤالك هناك دخول إلى أجناس أدبية أخرى، وإفادة واضحة منها. لقد دخلت النهر فأصبحت نهراً، ومررت بكل التفاصيل، فكانت هذه القصيدة بتركيبة مختلفة، لكنها مرتبطة بالقصيدة من حيث مرورها بالمنفى.
 
• ارتباك داخل ذرة الزمن
• إلى أي مدى ينبغي للشاعر أن يكون مثقفاً ومكتشفاً وعارفاً بكل شيء؟ بكلمات أخرى إلى أي مدى ينبغي للشاعر غيلان أن يظل بريئاً لا يعرف كل الأشياء لكي يحافظ على عنصري المفاجأة والدهشة، آخذين بنظر الاعتبار أن لديك أبياتاً شعرية تبدو فيها وكأنك تكتشف أشياءً جديدة لأول مرة؟

- العبقرية كما يقول سارتر هي أن تستعيد الطفولة قسراً. أنا من الجنوب العراقي، والهبة الكبرى التي منحها هي بقاءه خارج الإدارة. بمعنى أنهم السكان الأصليون للعراق، لكنهم مع ذلك لم يحكموا العراق، ولم يقتربوا من الإدارة، إذ ظلوا يعيشون هذه الحالة العفوية التي منحتهم روحاً طفولية بريئة في تشكيلهم ومماحكاتهم وممارستهم لحياتهم اليومية. وأنا بوصفي ابناً لهذا الجنوب تلقيت جزءاً من هذه الهبة الجميلة فبقيت بريئاً وبعيداً عن إدارة الآخر، لذلك ظلت طفولتي واعية وغير مكسورة. ولأنني شاعر، حال الشعراء الحقيقيين الآخرين، ملئ بمنجز إنساني آخر، ومدهوش دائماً، وكأنني في أول يوم في الدنيا لذلك أريد أن أغرف من الحياة أكثر، وأريد أن أسأل أكثر. وأعتقد إذا لم تستمر معي هذه الحالة فهذا يعني تشييع جنازتي ثقافة وشعراً وحياة. هذا الأمر ليس بيدي. هكذا جبلتني الطبيعة والحياة دائماً. أحس بأنني أعيش في اللحظة الأولى واللحظة الأخيرة وعليّ أن أثير أسئلة عميقة وكثيرة. هذا يخلق ارتباك داخل ذرة الزمن عندي، ويجعلني فرحاً  وقلقاً على الدوام، يقظاً وسكراناً جداً. هي اللحظة أسميها بلحظة اختلاط عناصر الزمان والمكان بعناصر التكوينات الأخرى المحيطة بي والتي أتفاعل معها بقوة.

• على ذكر المكان أنت عشت في مدن عديدة، بغداد، بيروت، عدن، تونس ، سدني وغيرها من الحواضر العربية والأوربية. هل يتضح هذا التنوع المكاني في القصيدة التي يكتبها الشاعر غيلان بحيث نستطيع أن نرّد هذا النص إلى هذه المدين أو تلك؟
- الحقيقة أن الشعر ليس مرتبطاً بزمان ومكان محددين، لذلك لا تجد أثراً لمدن وأزمنة ما، بل تجد خروجاً يكسر التاريخ. خروج لا علاقة له بالتحديد التاريخي للحظة الشعرية، وإنما هو رؤية في اللحظة الشعرية التي يتضح من خلالها المنجز الثقافي عبر الاشتغال على حفر اللغة التي تزحف في سفن الخيال مدفوعة برياح اللغة إلى تلك الأقاصي التي تصنعها الحروف. إن غياب التحديد التاريخي يسبب إرباكاً للناقد العادي، وليس للناقد الحقيقي الذي يستطيع أن ينفذ إلى جوهر الأشياء، ويلامس أعماقها الخبيئة، مع أن هناك غمطاً لحقي في نصوص أخرى على صعيد التناص. لقد كتبت قصيدة أقول فيها: ( النهار يهرب من يدي. أنا الذي يقود الضوء من يديه، يدلّه على العتمة ). ثم يأتي شاعر كبير ليقول: (  أيها النهار ترّجل عني، سأدلك على الظلام ). ولو يأتي ناقد ما بعد عشرين ربما يقول أن غيلان قد أخذ هذه الصور الشعرية عن هذا الشاعر، أو أنه تناصّ معه لأنني أسقطت تاريخ كتابة قصيدتي. مع هذا أنا غامرت ولم أكتب التواريخ الحقيقية لقصائدي. فحتى تدفع بقصيدتك إلى الاختبار الحقيقي يجب أن تطلقها من الزمان والمكان.

• إذا صح أنك أطلقت جميع قصائدك من أصفادها الزمانية والمكانية فإن قصيدة ( أخرجوه ) تقودنا سريعاً إلى انتفاضة آذار عام 1991، ومكانها الجغرافي الواسع في الشمال والجنوب. أليس كذلك؟
- إن هذه القصيدة هي جزء من وفائي لشعبي في العراق. كتبتها عام 1991 ، ولكنها تنطبق على أزمنة وأمكنة أخرى. فعندما أقول ( أطردوه ) فهذا يعني أنك تطرد الرتابة من البيت، وأن تطرد الضجيج القاتل. فعليك أن تسخّر كل الأسلحة، وأن تستخدم كل الوسائل لطرد هذا الشيء الذي يربك الحياة، أو يربك طريقة تعاملك مع الحياة. وأنا يشرفني أن تكون هذه القصيدة هي قصيدة الشعب العراقي.

• قراءة السؤال الشعري
• إلى أي مدى يستجيب الشاعر غيلان إلى كتابة نص خاضع لشروط أيديولوجية. ألا تعتقد أن الأدلجة تتعارض مع عفوية البوح الشعري الذي يستوطن في أعماق الشاعر؟
- لابد من التنويه إلى أن السياسيين العراقيين والعرب قد أشاعوا تصوراً بأن الشاعر يأتي في آخر المطاف، وهذا يعني أن الناس هي التي تخلق، وأن الشاعر ينبغي أن يكون صدى لهذا الخلق، أو رد فعل له. بينما واقع الحال يشير إلى أن الشاعر هو الذي يتجه إلى السؤال. الشاعر في نظري هو جوهر السؤال المحلي والإنساني، هو باختصار جوهر الأسئلة، فكيف يتم إزاحة الشاعر إلى الهامش وهو الذي يعيش في جوهر السؤال وقلب الوجود البشري؟ الشاعر غير معني بتاريخ الشعر فقط، وإنما هو معني بكل المنجز الإنساني في الفلسفة والدين وعلم النفس والاجتماع والسياسة. فكما تعلم، وُلد الإنسان سياسياً. فأنت حينما تحاور ابنتك التي تريد أن تشتري دمية، فإنها تأتيك بطرق سياسية مختلفة لتقنعك بشراء هذه الدمية. هذه المحاولة في جوهرها سياسية. أنا أعتقد أن الإنسان يمارس السياسة منذ طفولته وحتى آخر لحظات شيخوخته. كما أن طريقة تعاملنا اليومي مع بعضنا البعض تنطوي على الكثير من السياسة. فلماذا الخوف من السياسي؟ ولماذا لا أوصف أنا بالسياسي؟ لأن السياسي عندما يصل إلى درجة الاحتراف السياسي فإنه يشتغل على تحقيق أسئلة الشاعر. وإذا تحققت أسئلة الشاعر عن طريق السياسي فهذا يعني أن الوطن بخير. أما إذا اختلف السياسي وتلكأ في قراءة أسئلة الشاعر، فإن الخطاب سيرتبك، كما ترتبك منظومة الخطابات الأخرى، وهذا ما حصل في العراق. أنا من وجهة نظري أن الشاعر ينبغي أن يكون مثقفاً ثقافة عميقة تمكنه من معاينة الإدارة السياسية للبلاد، ويجب على السياسي أن يقرأ أسئلة الشاعر. أنا أعتقد أن التفريق بين ما هو سياسي وثقافي هي كذبة كبيرة، فالإنسان كما قلت قبل قليل ولد سياسياً، وأن أي فصل بينهما هو عملية استقالة  هائلة من الحياة. يعني أن تترك الحياة وتتخلى عنها للسياسيين، كما فعل جيل الستينات حينما فصلوا بقوة بين ما هو سياسي وثقافي. في عام 1981 جاءت مجلة ( الرصيف ) لكي تقول لا للابتعاد هموم الناس ومشاكلهم، ولا للابتعاد عن السياسة. ولا يمكن مقارنة الوضع السياسي الذي يعيشه الشاعر في فرنسا أو هولندا أو إنكلترا بالوضع الذي نعيشه في العراق أو أية دولة عربية للاشكالات التي يعرفها الجميع. كما فعل الستينيون، فمثلهم كمثل الذي عبر النهر من دون حقائب. البعض غادر العراق والتحق بالقصيدة السريالية أو بالقصيدة الحداثية التي يكتبها الشعراء الألمان أو الفرنسيون. بمعنى ما أن الخلاص كان فردياً، والخلاص الفردي ليس حلاً كما هو معروف. الستينيون وقعوا في هذا المطب، وسببوا إشكالات كثيرة للثقافة العراقية. وحينما ظهرت ( الرصيف ) إلى الوجود قالت لا، نحن المثقفين، عين تراقب السياسي، وتقيّم الفعل السياسي، وتطالب السياسي أيضاً بقراءة السؤال الشعري. وإعتبرنا العمل السياسي الحقيقي هو الذي يحتوي تلك المقدرة على تحويل السؤال الشعري إلى منجز قيد التحقق في مجالات عديدة كالحرية وحقوق الإنسان والطبيعة. هكذا قلنا بعدم فصل الشاعر عن السياسي، لأنه ليس هناك عالمان، الأول للسياسي والثاني للشاعر. الشاعر يصيغ أسئلته مثلما يصيغ السياسي أسئلته، ومثلما يصيغ الآخرون أسئلتهم. مرة أخرى لا أعتقد أن المسألة هي مسألة أدلجة، لأن الأدلجة هي قضية أخرى. فعندما تريد أن تؤدلج شيئاً فإنك تضعه في المسار الذي تمشي فيه، وحقيقة الأمر تقول، لا يمكن وضع الشاعر في أي مسار. فلقد جربنا مايكوفسكي، وطرفة بن العبد، وآرثر رامبو، وكثير من الشعراء في مختلف العصور واكتشفنا استحالة وضعهم في أي مسار. لأن القصيدة هي المسار، والشعر هو المسار. الآيديولوجيا بإمكانها أن تستثمر الشاعر والفنان، مثلما استثمر هتلر هايدغر، أو نيتشه، ولكنه ليس بإمكانه أن يضع نيتشه في الطوابير الأمامية للجيش الألماني. بإمكانه أن يستثمر السؤال الفلسفي أو الشعري أو المسرحي، ولكن ليس بإمكانه أن يضع الشاعر في طابور الجيوش الزاحفة إلى هدف النص أو طابور العمل الذي يحقق منجز النص.

• بدْوّنة الثقافة
• من خلال معاينة التجربة الشعرية العراقية نكتشف من دون لأي الصراع بين ما هو سياسي وثقافي. ألا تعتقد أن بعض الأحزاب دجنت الكثير من الأسماء الشعرية، وقننتها، ووضعتها في قوالب خاصة تنسجم مع رؤيتها السياسية. ألا تعتقد أن هذه الأحزاب قد سلطت الأضواء على شاعر معين لا يستحق كل هذه الأضواء والدعاية المزورة، بينما حجبتها عن شاعر آخر، وغيبته عن قصد. كيف تنظر إلى هذه الظاهرة المشوشة والمرتبكة وما تفرزه من نتائج سلبية يكون فيها الشاعر الحقيقي هو الخاسر الوحيد؟
- الجواهري يرحمه الله التقى عبد الكريم قاسم في أول حوار معه. أنا أتكلم هنا عن السلوك، وليس عن الشعر. فعندما تم انتخاب الجواهري رئيساً لاتحاد الأدباء في العراق، ذهب هو والأعضاء المنتخبون إلى عبد الكريم قاسم، الذي كان يطلق عليه الزعيم الأوحد للجمهورية الفتية. فقال عبد الكريم قاسم: كيف لموظف في الديوان الملكي أن يصبح رئيساً لاتحاد الأدباء؟ فرد عليه الجواهري قائلاً: أنا كنت شاعراً في الديوان الملكي، لكنك كنت تؤدي التحية في هذا الديوان ليس إلا. هذا هو أول تصادم بين شاعر ورئيس دولة. خرج الجواهري من العراق فتحققت شهرته عربياً وعالمياً. في نهاية الأربعينات كان للجواهري حضور مدوٍ. ثم جاءت الحرب الباردة التي أنعشت شعراء الحزب الشيوعي، ومنهم سعدي يوسف الذي أخذ حصة الأسد من التعاطي والشهرة التي لعب فيها الحزب الشيوعي دوراً كبيراً في ترسيخه كشاعر أخذ مساحة أكبر بكثير من منجزه الشعري. هكذا كانت الحرب الباردة تدوزن أو تجمع أكبر قدر من المناصرين لسعدي يوسف لأنه كان شيوعياً. أنا رأيت أناساً لا يعرفون سعدي يوسف، ولا يعرفون اللغة العربية، لكن عندما تسألهم من هو شاعر العراق؟ يقولون لك: سعدي يوسف! وهذا التعميم يحتمل الكثير من الأمية والجهالة. قد يكون منجز سعدي مهماً، لكن ليس بهذا الحجم. ولا يمكن للشعر العراقي أن يكون شبيهاً بالشعر الفلسطيني. وإذا كان محمود درويش هو شاعر فلسطين الأوحد، فإن سعدي ليس شاعر العراق الأوحد. محمود درويش بالنسبة لي ليس أكثر من بهلوان لغة ومطرب، وبإمكان أي واحد أن يكتب قصيدته. مصيبة سعدي أنه يحاول أن يكون درويش العراق. وهذه الظاهرة لا يمكن لها أن تنوجد في العراق، لأن العراق فيه أصوات شعرية، وتيارات شعرية ناجمة عن شعب متنوع، ومختلف، وصاحب حضارات متعددة لا تسمح بوجود شاعر واحد، وإنما تسمح بوجود العديد من الشعراء الكبار. فلا يمكن أن تكون المنافسة بين شاعرين مثل البياتي أو سعدي وكلاهما ليسا بتلك الأهمية التي يحيطها ضجيج كبير. الشعر في العراق نهر له حقوله وتفاصيله التي تمتد من أول شاعر كتب قصائد الحب السومرية، إلى نعاوى النساء، إلى قصائد الحاج زاير، إلى مظفر النواب، إلى آخر شاعر شاب في العراق. هؤلاء كلهم يجب الاهتمام بهم، وقراءة أسئلتهم، وتفكيك لغتهم. أما مسألة تكريس الحال لشاعر واحد فهذه ( بدْوّنة ) وليست ظاهرة عراقية. إن الإغراق في ترديد الأنا، وتكريس الذاتية هو خلل كبير ينبغي تفاديه لأنها بعيدة عن جذور الثقافة العراقية. أنا أتذكر عندما كنت أجلس في ( الديوان ) كان الناس يذكرون الإنسان الجيد، ويتحدثون عن الإنسان ( الرديء ) أيضاً. وإذا لم يتحدثوا عن هذا ( الرديء ) فهذا يعني أن هناك خللاً في التكوين الاجتماعي. فكيف يكون الأمر على صعيد الشعر العراقي المتنوع؟ كيف لا نتذكر كل الأصوات، ولا نتوقف عند كل الشعراء المبدعين ونحتفي بأسلتهم ومنجزهم الكبير؟ أما أن تتم ( بدوّنة ) الشعر العراقي، وتحويل العراقيين إلى مجموعة من القطيع البدو الذين يرددون لازمة واحدة. الآن في العراق هناك شعراء شباب مهمون يكتبون ويؤسسون لقصيدة جديدة، ومهمتنا كشعراء أن تحتفي بهم وبمنجزهم الشعري،وبأسئلتهم، وربما سيكتبون ما عجزنا عن كتابته، أو يطرحوا أسئلة لم نستطع أن نطرحها، لا أن نغيّبهم، وندفعهم إلى زوايا النسيان عن عمد.
 
• العناية بالأصوات المغيّبة
• حسب ذائقتك الشعرية والنقدية من هي الأسماء الشعرية الحقيقية التي غُيّبت من المشهد الشعري العراقي، وألا تعتقد أن غياب هذه الأسماء يشكل خسارة كبيرة للشعر العراقي؟ من يتحمل المسؤولية. هل نحمل النقاد العراقيين هذه المسؤولية الكبيرة أم نتحملها نحن المثقفين العراقيين من دون استثناء؟
- لقد تحدثنا قبل قليل كيف لعبت الحزبية دوراً سلبياً في التركيز على بعض الأسماء الشعرية العراقية، وتغييبها بالمقابل لأسماء لها مشاريعها الشعرية المتفردة. أتذكر في مهرجانات ( المربد ) عندما  يأتي شاعر بعثي كانوا يستقدمون الطلبة لكي يصفقوا له. هذا الضغط الحزبي على ذائقة الجمهور واضح عند الشيوعيين والبعثيين. أما الناس الذين خارج هذين الحزبين فهم الذين يشتغلون على القصيدة بوصفها نصاً إبداعياً خالصاً. وعندما حدثت انشقاقات الشيوعيين التجأ الناس إلى القيادة المركزية لأنها أقرب إلى المغامرة، وأقرب إلى الحلم، وهي مفردة ثقافية أقرب إلى الشيوعية. لكن عندما فشلت القيادة المركزية غادر الشباب كلهم إلى الخارج، فاضل العزاوي، صلاح فائق، سركون بولص، مؤيد الراوي، وشريف الربيعي، وغيلان وآخرين. آدم حاتم لولا وفاته لما تمّ الحفر في منجزه، والتحدث عن تجربته الشعرية. وغداً يموت سركون فنبدأ في الحفر في منجزه الشعري. محمد قاسم حبيب، وأحمد السعداوي، وشعراء الداخل المبدعين لن نلتفت لهم ما لم يحدث شيء جديد. هذه البدوّنة لابد أن نتخلص منها كي نعطي للشعر العراقي حقه ومكانته الحقيقية. الشاعر الحقيقي ليس بحاجة إلى تكريم، لقد أبدع قصائده وهو سعيد بها، ولكن نحن الذين نحتاج إلى ما قاله الشاعر حتى نصيغ حياتنا بطريقة أجمل، ولكي نقترب من تلك المساحة التي يسمونها حيوية الحياة. أما الشعراء المغيبون، فقد غيبوا لأسباب سياسية مقصودة. جزء من بنية قصيدة النثر هي العناية بالأصوات المغيبة. هذه نقطة يجب أن نضمها إلى بحثنا أو حوارنا حول الشعر. فقصيدة النثر هي القصيدة الأقرب إلى الهم العام، لأنها قصيدة لأصوات المغيبة. أعتقد أن العقل أو الوجدان العراقي لا يمتلك الجدران ذات الطابع السميك التي تمنع وصول قصيدة النثر إلى هذه المناطق. استطاعت قصيدة النثر عراقياً أن تحقق الكثير، وهناك منجز شعري هائل ينتظر جهد النقاد، ولكن غياب الخطاب النقدي هو الذي ساعد على إبقاء العتمة على هذا الجنس الإبداعي. الخطاب النقدي هو خطاب نفعي له علاقة بالفنادق، وليس له علاقة بالنصوص الشعرية. أنا أتعجب كيف أثار العتيبة حاتم الصكر ولم تثره قصائد الشعراء الشباب العراقيين. أنا أصلي كل يوم من أجل ظهور نقاد عراقيين يوازون المنجز الشعري للشعراء الشباب.
 
• لماذا لا تحبّذ الانتماء إلى جيل شعري محدد؟

- أنا لا يمكن أن أوضع ضمن خانة جيل شعري محدد، لأنني شاعر سومري يتحرك خارج خريطة المجايلة. كل الذين قرأوني لم يعثروا على شيء من هذا القبيل، وإنما عثروا على غيلان ونتاجاته الشعرية وهمومه وطفولته.

• مطلوب للجميع
• لنعد قليلاً إلى الوراء لأسألك عن القصيدة الأولى التي اكتشفت فيها الشاعر في نفسك. هل تتذكر هذه القصيدة التي فجّرت فيك الهم الشعري بحيث أشرّت على وجودك كشاعر أصيل أمسك بخيط الشعر، وخيط الموهبة، وخيط النبوءة؟

- نعم أتذكر هذه القصيدة. عندما غادرت العراق كتبت نصاً في السبعينات نشره الشاعر شوقي أبي شقرا في صحيفة ( النهار ) البيروتية أقول فيه: ( كان له في الدار خلان، خل باع حزن الدار للجاني، وخل جُنّ من طول المسافات ) اكتشفت أنني مشروع شاعر من خلال هذه القصيدة مع أنني كنت قد كتبت مجموعة شعرية نشرتها هنا وهناك. منذ ذلك اليوم بدأ همي الشعري يتبلور في أسئلة مهمة. بالمناسبة أنا يسمونني ب ( الزويغي ) من الزوغان الذي تمرنت عليه لفترة طويلة من الزمن نتيجة الحاجة الماسة إليه. وقد لعبت هذه الصفة دوراً مهماً في شعري وحياتي. فأنا الوحيد المطلوب الذي لم يُقتلْ. أنا مطلوب للبعثيين وللشيوعيين وللأمريكان، وإن شئت فأنا مطلوب للجميع، ولكنني زائغ منهم، وعصي عليهم. أنا لا أتفادى الفخاخ وإنما أعالجها، وأنجو بجلدي دائماً. أنا متحدر من عائلة شيوعية، وأخي غائب  حوشي أُعدم لأنه كان مسؤولاً شيوعياً. ومع ذلك فقد آذاني الشيوعيون كثيراً. فعندما كنت في اليمن كان الشيوعيون يكتبون عني تقاريراً كثيرة للمخابرات اليمنية. فمرة يقولون عني تروتسكي، ومرة يقولون عني أنني أعمل في المخابرات المركزية الأمريكية لمجرد أنني أعمل في صحيفة ( النهار ) التي كان يقال عنها أنها أمريكية مشبوهة. ومرة قالوا عني أنني مخابرات عراقية. في تلك الفترة كنت أُقيم في اليمن الجنوبية وكان هناك سعدي يوسف وشاكر العيبي وغيرهم، لكنني كنت الوحيد الذي ينام على سطح جامع كطريقة للزوغان منهم. المخابرات اليمنية كانت، كما المخابرات السوفيتية والكوبية تراقب الميت، قالوا لي نحن راقبناك جيداً واكتشفنا أن هناك مشكلة بينك وبين الشيوعيين العراقيين، فأنت ( سدّك أمين ) وسنحاول أن نعثر لك على عمل كي تعيش. ذات يوم دخلت مركز الشرطة سكراناً، وقلت للضابط اجمع لي كل الشرطة الموجودين في هذا المركز. قال: لماذا: فقلت له: أريد أن ألقي لهم محاضرة عن الشاعر طرفة بن العبد. قرأت لهم أجزاءً من المعلقة، وشرحتها لهم بالتفصيل. في النهاية قالوا لي ماذا تريد لقد أفدتنا كثيراً. قلت: أريد نقوداً كي أشتري خمرة. جمع لي الشرطة ثمن زجاجة فودكا وهم يتساءلون: كيف لشخص مثل هذا الشاعر أن يعمل في المخابرات العراقية أو الأمريكية. للأمانة لقد بادر سعدي، وهذه مسألة لن أنساها طوال حياتي، وحرر كتاباً رسمياً، وتمّ تعييني رئيساً لتحرير مجلة. لكن هذا التعيين لا يمنع من كوني مطلوباً للجميع، وأنا مطلوب دائماً لأنني لا يمكن أن أدخل في حقيبة أحد. أنا ( فلشت ) الرابطة في بيروت لأن الشيوعيين أرادوا أن يحولوها إلى اتحاد أدباء. حتى قاسم حول قدّم لي رشوة. أعطاني تذكرة وجواز سفر ونقود وقال لي : ( بس اسكت ). لم أسكت لأنني كنت مصراً على أن الشخص المعارض ينبغي ألا يحتفظ بأي تفصيل من تفاصيل الحاكم أو النظام الدكتاتوري. بالمناسبة أنا لست ضد الشيوعية، فحلم الشيوعية هو حلم جميل ومغرٍ، والشاعر هو الإحساس الحاد بالعدالة. والشيوعية قريبة جداً من الشاعر. لكن تفاصيل الشيوعيين لا تختلف عن تفاصيل البعثيين، فإذا توفرت السلطة هم نفس الشيء، إن لم يكونوا أتعس منهم بكثير. ففي سنة 1959 علقوا الناس في حبال المشانق. أنا أقول إن هذين الهيكلين الحزبين يجب يغادرا أو يتم تطويرهما. أنا لست من النوع الذي يلغي الآخر، ولكن على هذه الأحزاب أن تعيد بناء أنفسها بطريقة أو بأخرى، أو أن ترحل. الشيوعيون ربما لهم علاقة بالعراق المتعدد فعليهم أن يعيدوا صياغة أسئلتهم، ويشذبون سلوكهم، ويبتعدوا عن كل ممارسة بعثية.

• الأسئلة المقلقة
• تراهن على بعض الأسماء الشعرية الشابة أمثال محمد قاسم حبيب، سليمان جوني، فاطمة الحيدري، فرج الحطاب، أحمد سعداوي، محمد الحمراني، حسين علي يونس، عبد الأمير جرص، جمال جاسم أمين، محمد الأمين، فليحة حسن وآخرين. ما سر رهانك على هذه الأسماء التي لم تأخذ حقها من الشيوع والذيوع والشهرة؟ وهل تعمّقتَ في دراسة منجزهم الشعري بذائقة نقدية صارمة بعيداً عن المجاملات والإخوانيات؟
- الشهرة ليست مسألة مهمة. فالعراق كله محاصر في الداخل. والمعرفة نسبية، أعني أننا كأدباء نقرأ لبعضنا البعض. أنا أعني بالمعروف هو أن يُقرأ كنص من قبل الناقد والقارئ. أحد الشعراء الذين يعيشون في هولندا واسمه كريم ناصر أُخذت تجربته الشعرية كنموذج في دراسة نقدية قيّمة لقرب قصيدة من أجواء الداخل بالرغم من أنه يعيش في المنفى. الناقد أخذ ثلاث عينات من الخارج وهم سركون بولص، وغيلان، وكريم ناصر، ومن الداخل وقع اختياره على عبد الرزاق عبد الواحد، وجواد الحطاب، ورعد بندر. وقد جاءت هذه الدراسة بعد أن صرّح الحطاب بأن شعراء المنفى يشبهون شجرة مقطوعة الجذور، ويكتبون شعراً لا علاقة له بالعراق. وقد أثبت الناقد عكس إدعاء الحطاب. إذ برهن من خلال دراسة نقدية طويلة بأن شعراء المنفى هم أقرب إلى العراق من شعراء الداخل. الشعراء الشباب أراهن عليهم لأنني أتابع تجربتهم، وأقرأها بعمق ولذة وإعجاب. لنستمع إلى ما يقوله الشاعر محمد قاسم حبيب: ( لا تدّق، لا تدّق، أن الأبواب الموصدة امتداد للجدار ). وهذا سليمان جوني يقول: ( نحن الذين لا مقابر لنا سنظل أحياءً إلى الأبد ). ألا ينبغي علينا أن نحتفي بالأسئلة المقلقة لهؤلاء الشعراء؟ من هنا ينبثق رهاني على تجاربهم المستفزة، وسأظل ماضياً على رهاني.

• السكين الساخنة
• هل تعتقد أن الخطاب النقدي العراقي يشكل حلقة مفقودة ومتأخرة عن الخطاب الثقافي العراقي برمته. وإلى أي مدى يتحمل النقاد نتائج تلميع بعض الأسماء التي لا تستحق الاهتمام، وطمر أسماء أدبية أخرى يمكننا التعويل على منجزها الإبداعي؟
- المشهد الثقافي العراقي يوفر للناقد فرصة جميلة جداً للتنقل والتجوال في الغابة الإبداعية العراقية المتنوعة، غير أن الناقد هو حلقة حيوية مفقودة في الثقافة العراقية. حاتم الصكر صديق عزيز أحبه كثيراً، وكان يراهن في الستينات والسبعينات على قصيدة النثر، ويقول عنها أنها قصيدة المستقبل، لكنه مع الأسف تراجع وأصبح ناقداً عمودياً ينظّر للعتيبة، ويكتب عن الشعر الأردني، مع العلم أن الثقافة العراقية توفر له مساحة هائلة للبحث والتنقيب والدراسة. ترى هل هو متردد أو عاجز عن قراءة المنجز الشعري العراقي؟ ياسين النصير يعاني من إشكالات مناطقية، فهو يحمّل قصيدة عبد الكريم كاصد أشياءً غير موجودة فيها. وهو يكتب عن سعدي يوسف ويتفادى الكتابة عن شعراء شباب يعيشون معه في هولندا. لماذا لا يكتب عنهم؟ أليس الأجدر به أن يقول إن هذا شاعراً جيداً وهذه براهيني وأدلتي وقراءتي لتجربته الشعرية، وهذا شاعر رديء وهذه هي حججي. إن مشكلة النقد تنسحب على السياسي أيضاً، لأنه ليس هناك سياسي إذا لم يكن هناك ناقد. الناقد هو البؤرة التي يتجوهر فيها ولادة النظرية. فالنظرية تأتي من النقد من رولان بارت وميشيل فوكو. وإن غياب النقد لن يهيئ مناخ الولادة النظرية. ولهذا فنحن نفتقد إلى وجود المنظر في الثقافة العراقية. لدينا شعراء كثيرون، هذا صحيح، ولكن ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان. يمتلك الشعراء الشباب الآن طروحات جديدة تشبه حركة السكين الساخنة التي تخترق جسد الزبد الجامد. أنا أعمم النص الجيد للشعراء الشباب أو من غير الشباب، لأن هذا النص أعطاني إجازة، ومنحني اللذة والمتعة. أنا لا أستطع أن أكتب نقداً، فالنقد هو الذي يُخرج أسئلة النص التي يرسم من خلالها السياسي رؤيته، ويعالج خلل خطابه السياسي.

• الاشتغال على الخلل السياسي
• يبدو من خلال حديثك، وطروحاتك، وحواراتك الصحفية حبك الشديد للعراق، واعتزازك بالمنجز الشعري العراقي. هل تعتقد أن الشعراء العراقيين هم الشعراء الوحيدون في العالم الذين يسائلون الكون والوجود البشري والذات الإنسانية. ألا يمتلك شعراء البلدان العربية الأخرى نفس الأسئلة، وهل هم عاجزون عن إثارة هذه الأسئلة التي ندعي لأنفسنا أننا نتفرد في إثارتها؟
-   أنا لم أحتكر سؤال الشعر على العراقيين فقط. لكن للعراقيين صلة كبيرة بهذه الأسئلة. محليتهم فيها تفاصيل كثيرة، وأجوبة عميقة، وتساؤلات لا تنتهي. العراقيون تشغلهم الأسئلة الكبرى، سؤال الحياة، وسؤال الموت، طبيعة المنجز الإنساني. . الخ. المشكلة أننا اكتشفنا الفضاء الخارجي، اكتشفنا الإليكترونات، ذبذبات الوجود، بينما لم نغص في أعماقنا، ولم نكتشف منها شيئاً، لذلك ظلت الذات الإنسانية مجرد ظلام في ظلام. وهكذا ظل السؤال العراقي سؤالاً شاغلاً اشتغل عليه الكثيرون. وأنا أؤكد بأنه لا يوجد شاعر في الوجود لم يتأثر بالسؤال العراقي وبالنص العراقي. فإذا كان أودن متأثراً بالتوراة، فما هي مصادر التوراة؟ أصولها من الملحمة، أو تكوين اللغة، التقطيع فهذه كلها سومرية. الوجود كله تأثر بصياغة العراقيين لأسئلتهم. الشاعر العراقي مشغول بمحليته وبإنسانيته في آنٍ معاً، لأنه يريد أن يبدع ويتواصل مع الآخر في آن معاً. بالمناسبة الشعراء العراقيون لم يضيعوا كثيراً في المنفى. والشعراء تحديداً يختلطون، ويخسرون، ويربحون، ويغامرون من أجل أن يمتلكوا مقومات طرح سؤال جديد. ربما يعتقد البعض أن لدي حساسية تجاه العرب، وهذا غير صحيح أيضاً. أما بصدد قولك أن لدي محبة زائدة للعراق، فأنا أعتقد أن محبتي للعراق ناقصة، لأنه يستحق أكثر من هذه المحبة التي تطفح من مواقفي وحواراتي الصحفية. منذ 1400 سنة وهناك اشتغال على إبعاد الذات العراقية عن تفاصيلها. لهذا فإن محبتي قليلة، وهي ليست مثل مشروع نيتشه الذي يغلف الذات بفوقية.كلا، أنه مشروع مفاده كيف نتعامل مع الآخر. أنت شخصياً لا تستطع أن تتعامل الآخر ما لم تحب نفسك، بل سترتبك أمامه إذا لم تمحض نفسك حباً من نوع خاص. أنا دعوتي باختصار شديد هي أن ترفع الغبار الذي تراكم لمدة 1400 سنة على الذات العراقية، وساعتها سيكون العراقي حيوياً جداً، وراقياً في تعامله مع الآخر.، وغير مستلب مثلما حصل مع المشروع العروبي. لقد دمروا المشروع العراقي وهمشوه. الكثير من أسماء العشائر العراقية تغيرت بحيث تكون عربية. هذه المساحة الهائلة من الاستلاب ينبغي التخلص منها. الشاعر أنجز هذا الأمر وتجاوزه. والشعر العراقي متميز جداً. هناك وحدة لغة مع العرب، لكن اللغة العربية لم تعد لغة العرب الأقحاح. اللغة العربية نشأت في أحضان السومرية والفينيقية والآرامية والفرعونية. وإذا كان يُعاب علينا استخدام اللغة العربية فهذا ليس عيباً فهي لغة الجميع استطاعت أن تجتاح لغات كثيرة مثل الآرامية التي سبقتها في اجتياح بقية اللغات. أما على صعيد المنجز الشعري العربي، فاللبنانيون عندهم منجز شعري مهم، شوقي أبس شقرا شاعر مهم ومتفرد في منجزه الشعري. أدونيس يشكل حلقة حيوية في الثقافة العربية، لكن لديه إشكاليات البداوة، فضلاً عن فقدانه لحيوية الستينات. في الستينات أطلق أدونيس محمد الماغوط، لكنه الآن لم يُطلق أي شاعر آخر باستثناء الذين تربطه بهم منافع شخصية مثل سيف الرحبي الذي أصبح غنياً ومستشاراً للسيد قابوس. كان سيف الرحبي يرافقنا كمثقفين وشعراء ولكنني فوجئت عندما أصبح شاعراً. وفي حينها بعث لي عبد القادر الجنابي كومة من سرقات سيف الرحبي. على أية حال ليوفقه الله إذا أصبح شاعراً، لأننا سنضيف إلى خارطة الشعراء العرب اسماً جديداً سينشغل بقضية الشعر، لأن الشعر هو الاقتراب من السؤال، ومن الجمال، ومن القلق المستديم. هناك فرق كبير بين أن تُطلق شاعراً حقيقياً، وأن تُطلق مقبّضاً بالعملة الصعبة. أدونيس فعل هذا، وهو ربما يتصور أن العرب لا يعرفون كم أخذ من النقود وكم بيتاً اشترى. أدونيس لم يتحدث ع شعراء العراق، كان يأخذ قصائدهم، يقرأها، ويحورّها، ويتحدث عن سيف الرحبي. محمد الماغوط رغم ياسنينيته أربك النمط الشعري السائد. من الشعراء الذين أخشى ذكر أسمه، وهو من شعراء النفط، الذي قال: ( أكاد أشك في نفسي لأني    اشك فيك ونت مني ). هذا شاعر حقيقي، وقصيدته ممتلئة. أما في مصر فمن الصعب أن تجد فيها شعراء. هناك أمل دنقل شاعر تجربته فيها وضوح واشتغال على الخلل السياسي. قصائده في ديوان ( الغرفة ) قصائد مهمة، وربما هو طفرة في تاريخ الشعر المصري، وأستطيع القول إنه دفع صلاح عبد الصبور إلى أقصاه.

• حتى القطط لديها مواهب
• إذاً كيف تنظر إلى تجربة الشعراء المصريين الشباب أمثال أحمد الشهاوي ويوسف وهيب وفتحي عبد الله. ألم تأتِ هذه الشهرة عن مواهب شعرية وإثارة لأسئلة تتعلق بالقلق والوجود البشريين؟

- أنا لا أتكلم عن المواهب فحتى القطط لديها مواهب. أنا أقول أن المصريين عالمهم سردي في الشعر. يعني أن بنية الشخص المصري لديها القدرة على السرد ليل نهار. لاحظ الشخص المصري الجالس في المقهى أنه يتكلم كثيراً مثل الماكنة، ولا يراقب أو يتأمل. هم لديهم رؤية القاص أو الروائي أو السارد. وحتى تجارب الشعراء الذين ذكرتهم الشهاوي ويوسف وهيب وفتحي عبد الله هي تجارب اختلطت بالمنجز الثقافي العراقي واللبناني، ناهيك عن طبيعة البداوة المتحكمة بالثقافة المصرية. أمل دنقل هو العلامة الفارقة في خارطة الشعر المصري الحديث، أما الشعراء الذين لا أذكرهم أو أتوقف عند تجاربهم فهم يقعون خارج اهتمامي.

• الخلاص من أسئلة الشاعر
• تميل إلى كتابة العمود الصحفي المختلف الذي يعالج ظاهرة ثقافية ما أو يصور انطباعاتك الشخصية عن المدن والبلدان التي تمر بها سائحاً أو ضيفاً قصيرا الإقامة. هل لك أن تحدثنا عن خصوصية هذا العمود الذي تكتبه؟

- كتابة العمود بالنسبة لي هي جزء من التواضع في أن تمشي مع الناس. العمود يتطلب بأن تكتب بلغة أخرى وأن تخرج عن جنونك. وهذا لا يمنع من أن العمود يحتمل الشعر أيضاً. العمود الذي أكتبه هو محاولة للمشي مع الناس، أو لأن الناس يريدون أن يعرفوا كيف أنظر إلى العالم وأراقبه. أقول: ( لندن كلما عبرت في مطار هيثرو تواجهني ثلاثية الديمقراطية والمناخ والملكية ). أنا من خلال العمود أضيف رؤية جديدة للناس الذين أمشي معهم. القراء يريدون أن يعرفوا كيف أنظر إلى لندن؟ أو كيف أدخل إلى المتحف الوطني البريطاني؟ كيف أنظر إلى الملابس، وأشاكس الجميلات، وأستجدي الآخر حتى ينظر إلي؟ كل هذه الأشياء أبثها في العمود. العمود هو محاولة للخلاص من أسئلة الشاعر التي تحتاج إلى مفسّر. ولكي تصل إلى الآخر عليك أن تنزل إلى الشارع لترى الآخر، وتتفاعل معه. العمود يلعب دور الوسيط بين الكاتب والقارئ.

• أنت رئيس تحرير مجلة ( جسور ) التي تصدر باللغتين العربية والإنكليزية في أستراليا. هل تعتقد أن هذه المجلة قد أوصلت بعض الأصوات العراقية إلى الوسط الثقافي الأسترالي، وهل استطاعت أن تكون جسراً حقيقياً بين الثقافتين العربية والأسترالية؟
- كما تعلم يا صديقي عدنان أن العراقيين، وليس فقط غيلان أسسوا حالات ثقافية في كل مكان. الأدباء العراقيون في المنافي أسسوا تقريباً أول وزارة ثقافة عالمية، أو لنقل مشروع وزارة ثقافة عالمية في كل بلدان الشتات. ومجلة ( جسور ) هي حلقة من حلقات الهم الثقافي العراقي. وهي أول مجلة ثقافية عربية في أستراليا استطاعت أن تطرق أبواباً لم تُطرق من قبل، فهي توصل للآخر خطاباً مكتوباً باللغة العربية ومترجماً إلى اللغة الإنكليزية. وقد حصلت ( جسور ) على دعم من وزارة الفنون مقداره أربعة آلاف دولار أسترالي في السنة. وهذا المبلغ لا يسد ثلثي كلفة المجلة، أما الباقي فنشتغل أنا وزوجتي لكي نكمل بقية المبلغ المطلوب. الكثير يوجهون لنا الاتهامات. حتى الصديق صادق الصائغ قال: ( غيلان مثل غيره يقبض ويعبّي ).  بالمناسبة لدي مقهى ثقافي نقيم فيه الندوات الأدبية وهو أيضاً مطعم، اقترضنا نقوده من الصديقة السيدة كيس، وهي مدرسة تاريخ في جامعة بغرب سدني. وبعد شهور من العمل المضني ليل نهار أرجعنا لها نقودها، إذ توفرت لدينا سيولة مالية مقنعة. أقولها بصراحة الآن أن وضعي المالي جيد، وربما أكون أول شاعر في الوجود يحقق أماناً مالياً من العمل وليس من المكافآت. سابقاً كنت أصدر من مجلة ( جسور ) عددين بالعربي، وعددين بالإنكليزي. والآن أضيف هم جديد وهو هم مجلة ( الرصيف ) الفصلية، وهذا يعني أن هناك عبئاً مادياً جديداً ينتظرني، لأن ( الرصيف ) ستصدر أربع مرات في السنة باللغة العربية، و ( جسور ) ستصدر مرتين في السنة وباللغة الإنكليزية. ولك أن تتخيل كم يتوجب عليّ أن أقتصد لأسدد تكاليف طبع ستة أعداد في السنة.
• مساحة حرة
• توقفت مجلة ( الرصيف ) لمدة ( 21 ) عاماً، وعادت الآن إلى الصدور من جديد. هل تعتقد أن هناك حاجة ثقافية حقيقية لإصدار ( الرصيف ) في الوقت الراهن، أم أنها مجرد تحقيق لرغبة ذاتية؟
- توقفت ( الرصيف ) عام 1981 بعد أن صدر منها عددان. ثم وقف أبو عمار في ساحة جمال عبد الناصر وقال: (  يا بتوع الرصيف اللي قاتلوا في قلعة الشقيف ماطلعوش منكم ) هذا الخطاب أربك الرصيفيين، ليس قسمهم العراقي أنا وحاتم آدم، وإنما أربك علي فودة الذي راح باس يد ( الختيار ) وأخذ نقودنا التي جاءتنا تبرعات، وفتح مكتب عند أبو عمار، وأخذ الرصيف. ثم أصدرنا بياناً أفضى إلى سجني بعد أن وُجهت إلى تهماً غريبة. وكان البيان بعنوان ( الرصيف ماضية ) نشره شوقي أبي شقرا، ومفردة ماضية تحتمل معنيين، الأول تعني ذهبت، والثانية ستمضي في الصدور. محمود درويش صدّر عنا بياناً قال فيه ( أبعدونا عن هذا الشعر ) لأنه لم يكن يدرك أن قصيدة النثر سوف تكون قصيدة المستقبل. وفي فترة لاحقة قال درويش ( أنا رصيفي ). بينما اعتبرها فؤاد رفقة مجلة ( العصب الحي )، وقال عنها الركابي ( آخر الصرخات في وادي العجائب ). أنا وآدم حاتم أصحاب الرصيف أما البقية فقد التحقوا بالرصيف. هم أبناء مؤسسة، ونحن المهمشين أبناء الرصيف. الفكرة في جوهرها مشاكسة السائد، وإعادة الثقافي إلى الهم السياسي. بمعنى آخر أنها مساحة حرة لخلق السؤال الحيوي في الشعر والسياسة.
 
• نداءات مكبوتة
• كيف تأسست الرصيف؟ وماذا يكمن خلق عنوانها الصادم؟

- مجلة ( الرصيف ) هي مشروع بعيد عن المؤسسة تماماً. كنا أنا وآدم حاتم ومجموعة هائلة من رواد السؤال والمشاكسة، يوسف غانم، مهدي قاسم، قيس الصالح قد تساءلنا مع بعضنا البعض: لماذا لا نؤسس خطاباً جديداً يستجيب لنداءاتنا المكبوتة. أشركنا الفلسطينيين لأنهم أصحاب سؤال وتمرد أيضاً، ولغتهم تتجاذب وتتفاعل مع لغة الرصيف. ولدت ( الرصيف ) على الرصيف. كنت أبيعها في الشام على الأرصفة. نأكل ونشرب أنا وآدم حاتم بثمنها ونعطي الباقي لعلي فودة ورسمي أبو علي. ثم حدث الانشقاق عندما انحرف الصديق علي فودة عن خطنا ومنهجنا، فأعلنا أنا ورسمي أبو علي أن الرصيف التي صودرت لا تمثل صوتنا، غير أن توقفها شجّع الكثيرين للانتماء إليها، ولهذا أدركنا أهمية عادة إصدارها من جديد لتنتشر على كل الأرصفة في العالم العربي وتشبع نهم الباحثين عن الحرية والهواء المختلف. المهم تمّت صياغة ( الرصيف ) بطريقة تقود الثقافي إلى السياسي، وترجع السياسي قارئاً للسؤال الشعري. مشروع ( الرصيف ) هو إنهاء لمرحلة ما يسمى بجيل العزل أو جيل الستينات الذين كانوا يقولون لا علاقة لنا بالسياسة. هم خرجوا من التجربة السياسية منهكين، وتصوروا أنهم سيرتاحون بعيداً عنها من دون أن يدركوا أن الابتعاد عن السياسة يعني في جوهرة الابتعاد عن الحياة. أتذكر فاضل العزاوي عندما كان يردد: ( تعالوا نفجر هذا العالم بالديناميت ) فكيف يستخدم الديناميت من دون أن تكون له علاقة بالسياسة؟ هم خرجوا من دون حقائب، ونحن رجعنا الحقائب إلى الإقامة من جديد في وطن فيه أسئلة. كثيرون أصدروا نشرات ومجلات أسموها بالرصيف. ( الرصيف ) لا تختلف عن ( جسور ) إلا في الرؤية. ( جسور ) مشغولة بنقل خطاب ثقافي من اللغة العربية إلى الإنكليزية وبالعكس أيضاً، لكن خطاب الرصيف هو خطاب مشاكس وشرس. كل الأحبة في الداخل والخارج تكاتفوا من أجل أن تستعيد الرصيف عافيتها. هناك خطأ في الإخراج سنتجاوزه في العدد القادم بجهود الشاعر صادق الصائغ. ولكن قفزة الرصيف أن نصوصها متجانسة. لقد قلت لي في متن السؤال أنت رئيس تحرير الرصيف، أما أنا فأقول إن رئيس تحرير الرصيف هو صاحب النص الذي يشاكس الرتابة، ويربك غابة الجواب. غيلان مجرد شاعر مساهم في المجلة، أما رئيس تحريرها فهم الرصيفيون الذين يؤسسون للخطاب المشاكس، ويتنفسون دائماً في فضاءات حرة ونقية.

• إله المصادفات
• كيف استطاعت مدينة أمستردام أن تهزك وتحفزك على كتابة قصيدة بعد مدة غير قصيرة من الصمت؟ وما الذي يميّز أمستردام عن غيرها من المدن التي تحتضنك بين آونة وأخرى؟
- أمستردام تختلف كثيراً عن بقية المدن التي زرتها. أنا أكرر دائماً بأني أدخل المدن من حدائقها الخلفية، في حين أن أمستردام هي حديقة كبيرة سواء دخلتها من الشمال أو الجنوب، من الشرق أو من الغرب. لا تشعر بوجود الكراجات أو الأحياء الصناعية. في حين أنني دخلت الدار البيضاء ولندن وروما من حدائقها الخلفية. أمستردام تواجهك بكل تفاصيلها دفعة واحدة. هي مدينة واضحة لا لبس فيها أو غموض. عندما تدخل فيها أول مرة يواجهك ذلك الاختلاط العراقي الجميل. أمستردام تشبه ( الباب الشرقي ) ذلك المكان الذي يتكدس فيه العراق كله شماله وجنوبه، شرقه وغربه، سواحه وسكانه الأصليون، متعبدوه ونصابوه. أمستردام تعطيك الفرصة على أن تكون إله المصادفات، وليس صائد المصادفات. فالإله يلتقط ما يريد من دون لأي، والألوهية تعفيه من ضريبة الصيد.

• كيف ينظر الشاعر غيلان إلى المرأة؟ وكيف يتعامل معها في نصوصه الشعرية؟
- أنا أعتبر المرأة سر الوجود، وأنظر إليها بوصفها الإله المغلّف بتواضع كبير لذلك فإن طفولتي مستمرة نتيجة العلاقة بين مخلوق وخالق، وهذا هو سر خوفي من المرأة، وأحاول دائماً أن أسحبها من الألوهية إلى الأمومة. وهناك فرق بين الألوهية والأمومة، الألوهية تحتمل الشر، والأمومة تميت الشر، لذلك أنا أقترب من المرأة دائماً بصفتها أماً لأن تاريخ الإنسان يشير إلى إمكانية تحوّل المرأة إلى إلهة حرب وشر في نفس الوقت الذي تكون فيه أماً. أنا أدوزن كل قناعاتي لسحب المرأة من الألوهة إلى الأمومة، وأعيش كطفل مع المرأة. والمرأة تدفع من خلال هذه المعادلة كل محفزاتي للاحتفاظ بالطفولة.



#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المغنية والملحنة العراقية إنعام والي ل ( بلاد الرافدين )- لا ...
- الشاعر سركون بولص ل - الحوار المتمدن
- المخرج فؤاد جلال في إطلالته الجديدة. . من البنفسجي إلى الأسو ...
- محمد الأمين في ديوانه الأول - فوانيس عاطلة أيامه -. . . صور ...
- قصائد باسم فرات. . . بين تقنية النص المفتوح وبنية التبئير
- تمظهرات الجانب الديونيسي في تجربة الفنان علي طالب: وجوه تتفا ...
- الفنان ستار كاووش في معرضة الشخصي الثالث عشر: بين التكعيبية ...
- علامات - في عددها الأول . . شجرة واحدة لا تصنع ربيعاً، ونجمة ...
- ما مصير النساء الكرديات اللواتي أُجْبِرنَ من قبل النظام البا ...
- ندوة ثقافية عن مجلة - أحداق - في إطلالتها الأولى
- أحداق - فضاء للمخيلة المجنّحة، ومنبر لصياغة الخطاب الجمالي م ...
- مهرجان روتردام للفيلم العربي
- اجتماع الناصرية وردود فعل الشارع العراقي
- تداعيات إشهار الورقة الصفراء بوجه اللاعب السوري
- مساقط ضوئية تعري الوجوه المشتعلة بالرغبات السريّة
- العراقيون مع الحرب وضدها في آنٍ معاً
- عبادة الآلهة المزيفة
- سقوط النمر الورقي
- الدعاية والدعاية المضادة في الحرب على العراق
- سيئول ستشترك في الحرب ضد العراقمن أجل تعزيز علاقاتها بواشنطن


المزيد.....




- اغتيال بلوغر عراقية شهيرة وسط بغداد والداخلية تصدر بيانا توض ...
- غالبية الإسرائيليين تطالب بمزيد من الاستقالات العسكرية
- السعودية.. فيديو لشخص تنكر بزي نسائي يثير جدلا والأمن يتحرك ...
- صحيفة: بلينكن سيزور إسرائيل الأسبوع المقبل لمناقشة صفقة الره ...
- الديوان الملكي يعلن وفاة أمير سعودي
- الحوثيون حول مغادرة حاملة الطائرات -أيزنهاور-: لن نخفض وتيرة ...
- وزارة الخارجية البولندية تنتقد الرئيس دودا بسبب تصريحه بشأن ...
- أردوغان يقول إن تركيا ستفرض مزيدا من القيود التجارية ضد إسرا ...
- وزير الدفاع الأمريكي يشكك في قدرة الغرب على تزويد كييف بمنظو ...
- مشاهد للوزير الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير قبل لحظات من ...


المزيد.....

- قراءة في كتاب (ملاحظات حول المقاومة) لچومسكي / محمد الأزرقي
- حوار مع (بينيلوبي روزمونت)ريبيكا زوراش. / عبدالرؤوف بطيخ
- رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ ... / رزكار عقراوي
- ملف لهفة مداد تورق بين جنباته شعرًا مع الشاعر مكي النزال - ث ... / فاطمة الفلاحي
- كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟.. الباحث مجدي عبد الهادي ... / مجدى عبد الهادى
- حوار مع ميشال سير / الحسن علاج
- حسقيل قوجمان في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: يهود الع ... / حسقيل قوجمان
- المقدس متولي : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- «صفقة القرن» حل أميركي وإقليمي لتصفية القضية والحقوق الوطنية ... / نايف حواتمة
- الجماهير العربية تبحث عن بطل ديمقراطي / جلبير الأشقر


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - عدنان حسين أحمد - الشاعر غيلان ل - الحوار المتمدن