أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ابراهيم خليل العلاف - الدولة في الفكر الغربي الحديث :رؤية تأريخية















المزيد.....



الدولة في الفكر الغربي الحديث :رؤية تأريخية


ابراهيم خليل العلاف

الحوار المتمدن-العدد: 2205 - 2008 / 2 / 28 - 10:40
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


الدولة في الفكر الغربي الحديث : رؤية تاريخية
أ . د . إبراهيم خليل العلاف
مركز الدراسات الإقليمية –جامعة الموصل
مقدمة :
قد نشكو اليوم من متطلبات الدولة ، ونحتج ضد تعدياتها المتزايدة ، ولكن يستحيل علينا التفكير في الحياة بدونها .. هكذا يقول (الأستاذ جوزيف شترا ير Joeph . R . Strayer )
في محاضرته التي ألقاها سنة 1061 ، في جامعة برنستون بالولايات المتحدة الأميركية . وبعد ثمان سنوات عاد فتوسع في هذا المفهوم ، وسبر غوره في كتاب ألفه بعنوان :
(الأصول الوسيطة للدولة الحديثة)) Les Origines Medievales De L Etat Moderen
وفيه أكد حقيقة مهمة وهي أن غياب الدولة معناه طغيان الارتباطات العشائرية ، أو الاثنية ، أو المذهبية ، أو الدينية أو العرقية . ومن هنا فان الأقوام الأكثر تخلفا ، والأكثر بدائية هي وحدها ، كما يقول ، التي تستطيع الاستغناء عن الدولة وحين يبلغها العالم الحديث ، فان هؤلاء يجدون أنفسهم مرغمين إما على التشكل في دولة ، وإما إلى الانضواء تحت ظل دولة قائمة فعلا(1) .
ولكوننا لا نستطيع الإفلات من الدولة ، فلا بد أن نحاول معرفة ما الدولة ؟ ومتى ظهرت ، وما أصولها التاريخية ثم ما هي وظائفها وعلى أية مباديء تشكلت وما هي آراء المفكرين الغربيين حول نشأتها ؟
ما الدولة ؟
أشار كورت شيلنج Kurt Schiling في كتابه تاريخ الأفكار الاجتماعية
Histoire des idees sociales إلى أن الكلمة اليونانية (Polis) كانت تعني بالأصل قلعة الرجال الأحرار القادرين على الدفاع عن أنفسهم . والمواطن Polites في هذه القلعة يتمتع بجميع حقوقه السياسية ، ويمتلك الأرض ووسائل الدفاع عنها .. وكانت كلمة ناموس (Namos) تشير إلى البناء الاجتماعي الضامن للوحدة السياسية هذه ومع مرور الزمن أصبحت كلمة ناموس تشير إلى ( الدولة Etate أو State ) . وقد ارتبط مفهوم الدولة في الضمير الإغريقي بالحق ، والناموس الطبيعي . ومع تقدم الحضارة ، ارتبط مفهوم الدولة بالقانون (2) . إما بشأن الدولة فثمة نظريات عديدة ، ذهبت إحداها إلى (أن الأنشطة الزراعية لدى المجتمعات البشرية هي التي قادت الى تأسيس الدولة ) . ويعد كوردن تشايلد Gordon Chide من ابرز ممثلي هذه النظرية(3) اما كارل فيتفوكل Karl wittfogel فأشار إلى أن ظهور الدولة ارتبط بنشأة وإدارة أنظمة الري . ورأى كاينيرو Cariniaro ان الدولة تكونت نتيجة للتعبئة العامة من اجل التجنيد Circumseription ومواجهة الغزاة (4) وقال تيلي Tilly ان الأمراء الذين أسسوا أنظمة بيروقراطية في اوربا العصور الوسطى هم الذين ساندوا إنشاء تنظيمات ذات حدود جغرافية معلومة تتمتع باستقلال ذاتي وهذه التنظيمات هي التي تطورت فيما بعد لتشكل ما أصبح يعرف بالدولة (5) .
لقد درج اغلب المؤرخين الغربيين على أن يبدأوا معالجاتهم بالإغريق ، وبتفكيرهم السياسي والفلسفي اعتزازا منهم على ما يظهر بالأصول التاريخية للحضارة الغربية ، وتأكيدا على تميزهم عن غيرهم في ميادين المعرفة وباستمرارية هذا الفكر من ناحية مده التاريخي (6) ومما يمكن قوله في هذا المجال أن الرجال الذين أقاموا دعائم الدولة الحديثة لم يكونوا يجهلون التجارب البشرية للعالم الأوربي ، فالعراق القديم ، قد شهد ظهور الدولة ، وكذلك مصر القديمة ، وإمبراطورية هان في الصين وحتى الإمبراطورية الرومانية . وكلمة Lapolis (بوليس) اليونانية التي تعني فيما تعنيه (الدولة) لم تكن غريبة عن العراقيين أو المصريين قبل 5000سنة قبل الميلاد (7) ولكن المجتمع الإغريقي ، وحتى المجتمع العراقي القديم أو المصري أو الصيني أو الروماني كانت كلها مجتمعات سياسية تتكون من (دول) كل منها ينتظـم حـياة مديـنة تســمى في عرف المؤرخيـن
(City states) أي دويلات المدن ، لذا كان التفكير السياسي عند القدماء يعوزه التمييز بين (المجتمع ) و(الدولة) (8) .
وكان لتوسع الإمبراطورية الرومانية ، ونشأة مراكز حضارية كثيرة وربط المدن بشبكة من الطرق وكون المواطنة قد أصبحت على اثر ذلك التوسع تتخطى حدود اللغة ، والقومية واللون أن ذهب (بوليبيوس) ، المؤرخ الروماني المشهور إلى (أن القوة هي اصل الدولة) وهو رأي تعلق به (دافيد هيوم) فيما بعد واستند إليه في مهاجمة مؤيدي نظرية العقد الاجتماعي كما سنرى(9) .
في القرن الخامس قبل الميلاد مثلا كانت الدولة في المفهوم الإغريقي تتأسس على العادات والتقاليد وأصبحت الأخلاق في مفهوم الدولة والناس هي احترام القانون وقانون الدولة كما كان قانونا أخلاقيا لا مدنيا (10) . لكن هذه الصورة سرعان ما تغيرت عندما اضطربت الأحول السياسية نتيجة الحروب ، والنظام السياسي تلقى ضربات قوية من الداخل والخارج ، مما أدى إلى أن يفقد المرء ثقته ليس بالدولة والقانون وحسب وإنما بالأخلاق وهذا ما دفع الفيلسوف اليوناني أفلاطون إلى وضع مثال في جمهوريته الخيالية (الطوبائية) للمجتمع الامثل الذي أراد أن يبلغه المجتمع الاثيني ويحققه ومن يثبت عليه فلا يتغير من بعد(11) وقد وضع أفلاطون للمدينة الكاملة Calipolis أصولا سياسية ، واجتماعية وفلسفية ، لكن هذه الأصول وتلك الرؤية تعرضت للنقد . وكان كار ل بوبر Carl popper من ابرز الذين انتقدوها فقد قال عنها أنها تصور لمجتمع مقفل ومغلق على ذاته ، وأنها مدينة لا تاريخ لها يتوقف فيها كل شيء عن التطور . من هنا فان من الممكن القول أن الفكر الغربي في بداية انطلاقه ربط السياسة بالأخلاق لكنه تخلى عن ذلك فيما بعد(12)
متى ظهرت الدولة الحديثة :
حاول جوزيف شترا ير تحديد اللحظة التي ظهرت فيها الدولة بالمفهوم الحديث ، وهي أنها ((تلك القوة الاجتماعية المنظمة التي تملك سلطة قوية ، تعلو قانونا فوق أية جماعة داخل المجتمع ، وعلى أي فرد من أفراده ،ولها وحدها دون (الأحزاب السياسية) أو (الجماعات الدينية) أو (التجمعات الاقتصادية) حق القسر وطلب الطاعة على المواطنين )) ، لكنه لم يوفق في ذلك ويقول ((من المستحيل القول انه في لحظة محددة تغلبت نزعة الولاء للدولة)) . ومع انه يقر بهذه الحقيقة إلا أننا نراه يذهب إلى ابعد من ذلك فيؤكد أن ثمة معايير مهمة تساعدنا في معرفة أصول الدولة الحديثة في الفكر الغربي وابرز هذه المعايير ضرورة وجود استمرارية في المكان والزمان لجماعة بشرية لكي تتحول إلى دولة ، وليس ذلك ممكنا إلا بالعيش والعمل معا في مكان معين . وطوال أجيال عديدة تستطيع جماعة بشرية أن تبرز النماذج التنظيمية الأساسية لتشييد دولة . كما أن الدولة ينبغي أن تكون موجودة عندما يشعر المواطن بوجودها ، فما من ممارسة منطقية يمكن إن تعطيها حياة ، وانه لشيء أساسي إن يوجد مركز جغرافي تستطيع الجماعة داخله إن تبني نظامها السياسي . والدولة ترتكز على (مؤسسات دائمة) . ومن الضروري إن تصبح نسبة مئوية معينة من السكان حضرية وقادرة على الوصول إلى مستوى متقدم من التنظيم السياسي(13) ويلخص شترا ير معايير ظهور الدولة الحديثة بما يلي :
1 . ظهور وحدات سياسية دائمة وثابتة ومستقرة جغرافيا .
2 . ظهور مؤسسات دائمة وغير شخصية .
3 . وجود موافقة عامة على ضرورة السلطة العليا وعلى نزعة الولاء التي تستحق لهذه السلطة من جانب رعاياها. وإذا ما طبقنا هذه المعايير فإننا نقف على حقيقة مهمة وهي أن السنوات الواقعة بين 1100 إلى 1300 م قد شهدت ظهور الدولة الأوربية الحديثة وخاصة في إنكلترا وفرنسا(14).
لم يكن ظهور الدولة الحديثة بالأمر السهل وإنما اكتنفته صعوبات كان من أبرزها الصراع الذي شغل الفكر في أوربا أبان العصور الوسطى وخاصة في بداياتها بين السلطتين الدينية والدنيوية المطلقة(16) وقد انقسم المنافحون منها إلى فريقين : فريق يناصر الكنيسة ويذهب إلى أن الدولة يجب أن تخضع أليها. وفريق أخر يناصر الدولة ، ويدافع عن حقوق الملوك والأمراء في حكم شعوبهم ، وضرورة استقلالهم عن الكنيسة في هذا الباب. وهكذا استمر الصراع طيلة العصور الوسطى يستمد أسسه الفكرية في الأعم الأغلب من التراث الإغريقي بصورة عامة، ومن أرسطو بصورة خاصة بحيث بقي هذا الفكر في هذه الفترة يجتر تفكير أرسطو ويستند أليه قرابة ألف عام انتهت ببوادر عصر النهضة الأوربية والعلمية وبشائر الثورتين التجارية والصناعية.. وكان القديس أوغسطين صاحب كتاب مدينة الله The city of god من عمالقة الصراع في هذه الفترة وأشتهر هو وتوماس الاكويني وجون سالسبري John Salisbury بدفاعه عن ارجحية القوة الدينية على القوة الدنيوية(15).
أما الذين ناصروا الملوك ووقفوا إلى جانب الدولة ضد الكنيسة في هذا الصراع فان من أبرزهم المفكر الفرنسي بيير دي بويز Pierre Du Bois والذي دعا إلى حقوق الملوك والدولة في السلطة الدنيوية المطلقة(16) .
لقد كان من نتائج الصراع بين الكنيسة والدولة ، أن نما الفكر السياسي وظهرت بوادر التفكير العلمي وعلى أثر ذلك شهدت أوربا بوادر نهضة عامة في ميادين مختلفة لعل من أبرزها طغيان المسحة الدنيوية على المجتمع الأوربي، وكان من مظاهر هذه الحقبة نشوء الدولة القومية في أوربا، واشتداد النزاع بينها بغية النفوذ وامتداد السلطان مما اضطر الملوك للاحتفاظ بجيوش ضخمة من أجل المحافظة على عروشهم .كما أقدموا على تنظيم شؤونهم المالية والاستعانة بمن فيهم الكفاءة للإشراف على مثل هذه الشؤون والنظر في ابتداع الوسائل لتوفير الثروة، وإيجاد المصادر الكفيلة بتحقيق هذه الأهداف. وكان من أثر هذا الاتجاه مساندة التجارة القومية من قبل الدولة أن نما المذهب التجاري. وقد أكد أدم سميث Adam Smith
(1723-1790) صاحب كتاب ثروة الأمم Wealth of Nation على أن الدولة يجب أن تسيطر على كل نواحي الحياة الاقتصادية في المجتمع (17) .
لقد كان انحطاط الكيانات الإقطاعية وازدياد نفوذ الطبقة الوسطى على حساب نفوذ نبلاء الإقطاع ورجال الكنيسة من أهم التطورات الاجتماعية التي طرأت على المجتمع الأوربي ، فالإقطاع اخذ بالضمور وضعفت مؤسساته الرئيسة التي قام عليها وهي التبعية Vassalage والضيعية Fiefdom ثم القضائية (18) .
ودأبت (الدول الناشئة) في كل من فرنسا وإنكلترا بصورة خاصة على انتهاج سياسة مركزية كان لها دورها في إضعاف الجهاز الحربي الإقطاعي ، وكان من أهم الإجراءات المتخذة في هذا الشأن تحويل ما لدى الإقطاعيين من تعهدات عسكرية للدولة إلى تعهدات نقدية بشكل ضرائب .. والاستغناء عن الجيوش الإقطاعية باستبدالها بفرق ذات رواتب معينة تشرف عليها الدولة مباشرة وتعرف بالفرق الأجيرة Mercenaries وقد استخدمت هذه الفرق للضرب على أيدي المتمردين من أمراء الإقطاع (19) .
إن ظهور العناصر الأساسية لبنية الدولة في أوربا لم يكن متكافئا ، فالتطور كان سريعا بصورة خاصة في إنكلترا وفرنسا وأسبانيا ، وأكثر بطأ في ألمانيا ، وسريعا ولكن مشوها في ايطاليا ، فالممالك الأسبانية التي كانت مستغرقة في غزو الأندلس وملاحقة العرب والمسلمين وخاصة بعد سقوط غرناطة في 1492م ، كان لها تأثير قليل على المؤسسات المماثلة في مناطق أخرى من أوربا واستمر ذلك حتى نهاية القرن الخامس عشر ، ولم ينجح الألمان في تأسيس دولة كبرى قادرة على البقاء ، وكانت الوحدة السياسية المنتشرة في ألمانيا هي الأمارة ، وفي ايطاليا لم تتمكن مملكة صقلية الصمود إبان القرن الرابع عشر وظلت الهيئات السياسية المسيطرة الأكثر ازدهارا في ايطاليا في القرن الرابع عشر هي (دويلات المدن) وبعبارة موجزة فان النماذج التي كان لها تأثير اكبر على الدولة الأوربية قد جاءت من إنكلترا وفرنسا ، وان الأفكار السياسية ومؤسسات هذين البلدين جرى تقليدهما بصورة أوسع من محاكاة مؤسسات البلدان الأوربية الأخرى ، وكان مثالهما مهما بصورة خاصة خلال الفترة الأساسية الواقعة بين نهاية القرن الثالث عشر وبداية القرن الرابع عشر وهي فترة شهدت ظهور مفهوم السيادة وهي فترة مهمة انتقل خلالها الولاء من الكنيسة أو الجماعة أو العائلة ، إلى الولاء تجاه الدولة التي بدأت بالظهور (20) في إنكلترا وفرنسا ولكن لابد من ذكر حقيقة أن الملوك في إنكلترا وجدوا صعوبة اقل في إقامة سيادة الدولة منهم في فرنسا . وقد اجتازت إنكلترا المراحل الأولى لتشييد الدولة بوتيرة سريعة ، وهذه السرعة جعلت من الممكن قيام وحدة شكل في بنية المؤسسات الإنكليزية ، الإدارية والقضائية والعسكرية والمالية . وفي فرنسا ، كما في إنكلترا كان الميدانان الأساسيان للتطور هما : (المالية والقضاء) ولكن توجب على ملوك فرنسا ان يعملوا ببطء ، وكانت مؤسساتهم الأولى أكثر بساطة ، واقل تنظيما من المؤسسات الإنكليزية وإذا كان فيليب اوغست 1180 ـ1223 يعد المؤسس الحقيقي للدولة الفرنسية الحديثة ، فان وليم الأول Williams the congneror (1066 ـ1087) هو المؤسس الحقيقي للدولة الإنكليزية .. إن ما قام به ملوك إنكلترا وفرنسا خلال هذه الحقبة المهمة من التاريخ لا يعدو أن يكون تطوير المؤسسات مثل وزارة المالية ، وتنظيم القضاء ، وإعادة النظر في ملكية الأراضي وبناء مؤسسات أمنية ، وإدارية مركزية ، وإقامة عناصر مهمة لنظام محاسبة ومسك سجلات دقيقة وإعداد كوادر وظيفية ومهنية وإلزام رؤساء البلديات والمسؤولين الإداريين لتقديم حسابات مضبوطة وإشراك جميع رجال البلد الأحرار في عمل العدالة سواء بصفتهم متقاضين أو بصفتهم محلفين(21) والاهم من كل هذا توحيد الضرائب وسن القوانين لتنظيمها وتسهيل جبايتها من الناس على حد سواء . وقد أعطت كل تلك الإجراءات الانطباع بان كلا من إنكلترا وفرنسا كانتا موحدتان ، تعترفان بملك حائز للسلطة العليا وان الولاء لم يعد يذهب إلى العائلة أو الطائفة إلى الكنيسة ، بل لقد انتقل إلى الدولة (22)
ومنذ بداية القرن الرابع عشر ، أصبح بديهيا أن الدولة ذات السيادة قد أصبحت البنية الأساسية الغالبة في أوربا الغربية ، وقد اضطرت الكنيسة للاعتراف بان الدفاع عن كل دولة خاصة يسبق في الأهمية مطامح الكنيسة ، وان الولاء نحو الدولة يجسد مسبقا النزعة الوطنية . ويقينا أن الدول الأوربية احتاجت إلى أربعة أو خمسة قرون أخرى لكي تستطيع أن تسد الثغرات والنواقص الإدارية ، وان تحول الولاء الفاتر في بعض الأحيان إلى نزعة وطنية وقومية ملتهبة ووهاجة . وقد حثت هذه الدول الخطى لمواجهة التحديات الاقتصادية والإمراض والكوراث والحروب الأهلية والفتن والتمردات والانتفاضات ، ولم يكن في استطاعة تلك الدول في القرن الرابع عشر مثلا أن تتلافى الحروب الطويلة فهي بحاجة إليها لاستكمال استقلالها إزاء القوى الأجنبية(23) وبين سنتي 1300 و1450 تقدمت الدول الأوربية قليلا والاهم من ذلك أنها كبرت في السن والحكمة وهما مزيتان ثمينتان لكل جهاز سياسي(24) .
وفي القرنين السادس عشر والسابع عشر ، كان يوجد بين دولة ودولة ، اختلافات مهمة في البنية ، وكانت بعض الدول مثل فرنسا في القرن السابع عشر جيدة التنظيم ، وبعض الدول الأخرى مثل روسيا لم تكن كذلك . وفي القرن الثامن عشر ، خفت هذه الفوارق ، دون أن تزول تماما . في القرن التاسع عشر ، كانت الدول الأوربية متشابهة في المظهر ، وأصبحت اضعف دولة آنذاك أكثر تنظيما وقدرة على الإفادة من مواردها البشرية والمادية من الدول القوية في القرون الوسطى (25) .
لكن مما كان يؤثر على تلك الدول أمران مهمان أولهما :
أن السياسة أصبحت تسير على طرفي نقيض مع الأخلاق ، وان الفكر السياسي الأوربي شهد تحولا في هذا الاتجاه على يد نيقولا ميكافيلي Niccolo Machiavelli (1469 ـ1527) المفكر الإيطالي الذي عاش في ايطاليا والتي كان مجتمعها يعاني حالة تحل لشامل طغت فيه طبائع الغدر والرشوة لذلك جاء تحليله للعلاقات الاجتماعية والسلوك قائما على أساس أن المصالح الشخصية العارمة والرغبات التي لايمكن إشباعها هي مصادر ومبعث كل ضروب النشاط الإنساني .
واهم ما يتميز به ميكافيلي هو فصل السياسة عن الأخلاق وفي كتابه (الأمير) رسم للحاكم الناجح أساليب سلوكه وما يجب أن يقوم به في مختلف الأوضاع والحالات . كما كان معنيا برسم السبيل الذي يجب أن تنتهجه الدولة لتصون حياة البلد وحريته بصرف النظر عن الاعتبارات الأخرى (26) .
ومما دعم هذه الأفكار ما ذهبت إليه التفسيرات المادية والعقلية التي تميز بها الفكر الغربي والتي جعلت هذا الفكر يخفق في تحقيق التوازن ليس بين السياسة والأخلاق فحسب بين جوانب الحياة المادية والروحية .
وقد أدت هذه المسالة بمفكرين أمثال جارلس دارون Charlis Darwin (1809 ـ1882) وسيغموند فرويد Sigmund Freud (1856 ـ 1939) الى الاهتمام بالجانب المادي للإنسان . وقد جاء اميل دوركهايم Emile Durkhiem ( 1858 ـ1917) ليعزز الفكرة عندما قال بان القواعد الأخلاقية لا وجود لها في ذاتها وان القيم كلها للمجتمع الذي يخلق الأديان والعقائد وان الدين والزواج والأسرة ليست نزعات فطرية في الإنسان . وقد اعتمد دوركهايم على (الماركسية) و(الداروينية) ونقل اراؤهما من مباحث العلم والاقتصاد إلى مباحث الاجتماع والأخلاق (27)
أما الأمر الثاني فهو ما بدأت بعض الدول الأوربية تعانيه وهو أن الولاء إزاء شخص الملك قد بلغ ذروته مع شيوع نظرية حق الملوك الإلهي
Divine Right of King تلك النظرية التي تتلخص في أن الملك يستمد سلطته من الله فلا رقيب عليه ، ولا حدود لسلطانه ، إطاعته واجبة ، ينفق من أموال الدولة ما يشاء دون أن يسال عن مصيرها وكيفية إنفاقها ، الأمر الذي يجعل مقاومته غير شرعية ، ومن الطبيعي أن قوة الدولة تستفيد من ذلك وتتعزز سلطاتها لذلك فتح هذا الاعتقاد والباب أمام شيوع حق الثورة . وتعد الثورة الإنكليزية 1688 والثورة الفرنسية 1789 من ابرز الثورات التي وضعت حدا لتلك النظرية . ومنذ ذلك الحين صار بالا مكان ((مهاجمة السياسيين وقلب الحكومات )) وما يساعد على ذلك أن أصبح التفريق بين (الدولة) و(الحكومة) في الفكر الأوربي أمرا واقعا(28) .
لقد بدا المفكرون الغربيون يتناولون هذه المسالة بشيء من التفصيل وخاصة من حيث اجتهاداتهم في تأصيل الأسس التي تقوم عليها الدولة . ويعد هارولد لاسكي Harold Laski (1893 ـ1950) من ابرز المفكرين في هذا المجال ، اذ ذهب الى ان الدولة هي الجهاز والحكومة هي الأشخاص الذين يحكمون باسم الدولة والدولة على ذلك تصور نظري ، أما الأشخاص فهم يتغيرون ولا تختلط الصورتان إلا في المجتمعات البدائية ، أو الدول الديكتاتورية حيث يدعى الحاكم المستبد انه الحكومة والدولة (29) .
حدد الأستاذ الدكتور حاتم ألكعبي (مواليد 1917) وهو عالم اجتماع عراقي معروف(30) العوامل التي أدت إلى تغيير نصاب الحياة في أوربا بعوامل عديدة منها توسع اوربا وتزايد شدة الاحتكاك الحضاري والاجتماعي وحركة الإصلاح الديني وظهور البروتستانتية والثورة الصناعية والنهضة العلمية والأدبية التي رافقت ذلك كله وقال إن للإحداث التي رافقت حركة الإصلاح الديني بقيادة لوثر وكالفن كان لها اثر كبير في دعم (القومية) و ( الرأسمالية) ثم جاءت الثورة الصناعية لتحطم الأسس التي كان يرتكز عليها النظام الاجتماعي القديم وكان من نتاج ذلك كثرة المشاكل والأزمات فنمت العلوم الاجتماعية وظهر نوعان من الكتاب في نظرتهم إلى الدولة فهناك كتاب ناهضوا الملكية وهناك كتاب أيدوا الملكية ، وسميت نظرياتهم بنظرية العقد الاجتماعي وأبرزهم توماس هو بز Thomas Hobbes (1588 ـ1679) وجون لوك Jon Locke (1632 ـ1704) وقد فتحت مؤلفات هذين المفكرين الباب للسجال حول الليبرالية التي مهدت الطريق للديموقراطية . لقد صاغ كل من هو بز ولوك المبدأ الأساسي التي تقوم عليه الديموقراطية وهو المواطنة فالفرد يتمتع بحريته في الاختيار دون ضغط ، كما تقوم المواطنة على سيادة القانون الذي يضمن امن واستقرار المجتمع ، ويساعد في تسهيل تداول السلطة سلميا ودون عنف كما يحقق احترام وتطبيق الدستور وتقوم الديموقراطية الحديثة على مبدأ التسامح الديني والقومي والثقافي أيضا ، وبذلك تصون حقوق جميع مكونات الشعب الذي ينتمي إلى دولة واجبها السهر على حقوق مواطنيها وتقديم فرص السعادة لهم كما يريد جون ستيوارت ميل John Stuart Mill (1806 ـ1953) الإنكليزي ود ينس ديدرو الفرنسيDenis Didrot (31).

طبيعة الدولة ومهامها :
شهدت أوربا ظهور نظريات عديدة فيما يتعلق بطبيعة الدولة ومهامها ، لعل من ابرز هذه النظريات المثالية التي استندت إلى مقولة أرسطو التي يذهب فيها إلى أن الدولة توجد لتوفير حياة طبيعية للمواطنين . ومن الذين ذهبوا مذهب أرسطو ، (هو بز) الذي يؤكد بأنه ((لن تكون حضارة ما لم تعط هذه الحضارة ضمانات تنبع من سلطانها على الحياة والموت )) . أما ((جون لوك) فيقول ((لابد من أن يقام جهاز عام للحكم حتى نتمتع بحقوق الحياة والحرية والموت)) . ويرى جورج فرد ريك وليم هيكل Geog Wilhelm Friedrich Hegel (1770 ـ1831) أن الدولة هي الفكرة الإلهية كما توجد على الأرض وكل قيمة للإنسان مشتقة من انغماسه في مشاكلها )) ويلاحظ هارولد لا سكي أن هناك اعترافا عاما بين الفلاسفة ، باستثناء الفوضويون ، بضرورة وجود جهاز عام في المجتمع يحدد شروط الحياة وحدود القواعد المسموح بها (32) .
ولم يمنع أصحاب النظريات المادية من انتقاد تلك الرؤى وخاصة في تأكيدهم على ان هناك فرق بين ما تعلنه الدولة أو تدعيه لنفسها ، وبين ما يتحقق فعلا .. وقد كشفوا حقيقة مهمة وهي أن الدولة في كل تاريخها متميزة بطبيعتها .. ففي أثينا كانت الدولة تتحيز ضد العبيد ولأتمثل الصالح العام ،وفي الدولة الإقطاعية كانت تتحيز لمصلحة الإقطاعيين والأمر لا يختلف في الدولة الرأسمالية وعبارة حماية النظام والقانون والأمن إنما تعني القانون والنظام اللذين تتضمنهما العلاقات الطبقية السائدة (33) .
لقد أدى ظهور الرأسمالية إلى الإطاحة بالأسس الاقتصادية للهيمنة السياسية للطبقة الأرستقراطية (مالكة الأرض) وظهور الطبقة البرجوازية (ملكة رأس المال) ، وحيث أن الرأسمالية ظهرت في أوربا ، فقد ظهر النظام البرلماني فيها ، والنظام البرلماني هو ابن النظام الرأسمالي والرأسمالية تعني وجود اوليكاركية اجتماعية سياسية تمارس السلطة وتقيم نظاما سياسيا يتماشى مع مصالحها وايدولوجيتها فكان النظام البرلماني .. وفي إنكلترا وجد أول نظام برلماني حيث بدأت الثورة الصناعية عام 1720 .. إن ذلك كله دفع المفكر البريطاني توماس مور Thomas More (1477 ـ1535) إلى انتقاد النظرة الكلاسيكية التي تدعى أن الدولة هي دولة الحقوق والواجبات وقال ((إنها مؤامرة من الأغنياء الذين يدعون بان مصالحهم قوانين وتشريعات))(34) . أما عالم الاجتماع ماكس فيبر(1864-1920) Max Weber فقد وضح كيفية تحول مؤسسات الدولة الرأسمالية إلى مؤسسات بيروقراطية ودور هذه البيروقراطيات في جمود الدولة . ولم يقف عند هذا الحد بل برر الموقف الفوضوي الذي يرفض سيطرة الدولة على الإطلاق وقال أن الدولة تفتقد إلى الشروط الأساسية التي تسمح لها تنظيم المجتمع ، فالدولة بكونها ممثلة لمصالح الأقلية فأنها تعمل ضد المجتمع لا لصالح المجتمع ، ثم هناك الموقف الماركسي والذي يذهب إلى ((أن الدولة تمثل مصالح طبقية معينة، ولا تكون منفصلة عن الطبقة ، فإما ان تكون دولة برجوازية فتمثل مصالح الطبقات الغنية ، وإما ان تكون اشتراكية فتمثل مصالح الطبقة العاملة )) . (35)
وبشأن مهام الدولة فان من ابرز ما توصل إليه الفكر الغربي أن الدولة مؤسسة اجتماعية وان الناس إنما تنازلوا عن حقوقهم الطبيعية ليجدوا في هذه المؤسسة خيرا أوفر وسلامة أفضل مما كانوا يجدون في الطبيعة . لذلك أكد عدد من المفكرين على أن أساس الحرية السياسية هو فصل السلطات ويعد جارلس مونتسكيو Montesjuieu (1689 ـ1655) صاحب كتاب (روح القوانين) من ابرز الذين ذهبوا هذا لمثل .. وفي حقل الاقتصاد وضع آدم سميث مذهبه الذي صار يعرف بالمذهب الحر ولعل من الضروري الإشارة هنا إلى أن تفكيره الاقتصادي كان احد وجهين من تفكيره الاجتماعي الذي كان وجهه الآخر آراءه في السياسة وفي مهام الدولة خاصة . ويلخص آدم سميث مهام الدولة بحماية المواطنين من عدوان الدول الأخرى ، والإشراف على تنفيذ القانون وتحقيق العدالة ، والقيام بالأعمال والخدمات العامة وبمهمة التربية فيما إذا عجز الناس وتقاعسوا عن القيام بها(36) .
واليوم نرى أن الدولة الحديثة على الرغم من استمرارية التشريعات التي تحدد الديموقراطية كأساس لها إلا أنها بدأت بالابتعاد عن المفهوم الكلاسيكي ، فثمة توجه نحو تحول الدولة إلى (مراقب مستقل ) عن العلاقات والشؤون الاقتصاديـة والخدمية (37) .
وللدولة صفة مهمة وهي صفة الوحدة ووحدة الدولة ليست ثابتة ، لان العلاقات الاجتماعية قد تصل إلى حد تهديد وحدة الدولة واضطراب السلام ووقوف قوة القانون ، فإذا ما حدث ذلك كان لابد من بناء وحدة الدولة من جديد ، ومن هنا كانت التفرقة بين تغير الحكومة وتغير الدولة ، فإذا كانت المنازعات ضعيفة غير عميقة ، فان وحدة الدولة تبقى ، وقد تتغير الحكومة ولكن الأزمات وظروف الغزو تؤدي إلى تغيير الدولة ، لأنها تؤدي العلاقات الاجتماعية الأمر الذي يتطلب من أبناء تلك الدولة العمل من اجل مواجهة هذه الظروف وإعادة تشكيل مؤسساتهم السياسية والعسكرية والاقتصادية وفق أسس جديدة (38) .
وبشأن سيادة الدولة ، فان الدولة كما هو معروف هي صاحبة السلطة العليا داخل إقليمها ، وهي كذلك المالكة لحرية التصرف في علاقاتها بالدول الأخرى ، غير ان العلاقات الدولية بطبيعتها مقيدة بالعرف والقانون الدولي ، ولهذا فان (سيادة الدولة) في علاقاتها الخارجية مشروطة باحترام الدولة لهذه القواعد وكذلك التقاليد المرعية والعرف الدولي (39) .. في السنوات القليلة المنصرمة ازداد الحديث عن ما يعرف بـ (السيادة المرنة) وهي ان الدولة ليست حرة في التعامل مع شعبها بل عليها مراعاة مباديء حقوق الإنسان ، وإذا ما حدث تعسف من قبلها تجاه شعبها أو قطاع محدد منه فان للمجتمع الدولي الحق في التدخل وكف يد الدولة عن استخدام العنف والاستبداد سواء تجاه شعبها في الداخل أو تجاه دول الجوار . وقد كتب كوفي عنان الأمين العام للأمم المتحدة مقالة مسهبة في هذا المعنى(40) .
الدولة والمجتمع المدني :
في حوالي منتصف القرن التاسع عشر , وعلى اثر سيادة الوعي الاجتماعي وازدياد التأكيد على حقوق المواطنين إزاء الدولة صار التمييز بين الدولة والمجتمع واضحا ومع روبرت فون موهل R. von Mohl (1799 ـ1875) امتدت بذرة مفهوم المجتمع في ألمانيا إلى ارتفاع شأن المواطن إزاء الدولة . وقد واجه هذا المفهوم مقاومة شديدة ، لان التفكير السياسي في ألمانيا آنذاك كان يؤكد على أن الدولة هي الكل في الكل . لكن جهود المفكرين السياسيين ومساعي المصلحين والمشتغلين بحركات الخير والإحسان وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية أخذت تتجه نحو تطوير الأفكار المتعلقة بالدور الذي يمكن أن تقوم به المنظمات غير الحكومية Non –Governmental Orqanizations في مجال الوساطة بين الدولة والمجتمع(41) .
لقد كان وراء هذه المتغيرات في النظرة إلى الدولة ، أن الدولة الحديثة أخفقت في ادعاءها الحياد وتمثيلها المصلحة العامة . وقد انتقد هارولد لا سكي فكرة حياد الدولة واستبدادها بمختلف القوانين والإجراءات ، ممن لاينتمون الى الطبقة الحاكمة وقال أن الدولة الرأسمالية تبقى حائزة على رضا مواطنيها طالما استطاعت في مرحلة توسعها ، توسيع الخدمات ، وتوسيع القدرة الإنتاجية للنظام الاقتصادي ، ولكن ما أن يعجز هذا النظام عن التوسع ، وينكمش في توزيع خدماته ، حتى يواجه النظام الرأسمالي أزمة هائلة ، وتناقضا أساسيا بين الأسس الديموقراطية الليبرالية وعجز الملاك عن تحقيق هذه الديموقراطية ، وخاصة تحقيق ثمارها الاجتماعية ، ويضطر الرأسماليون في هذه الحالة إلى القضاء على الأسس الديموقراطية للدولة وإعلان الدكتاتورية كما حدث في ألمانيا النازية وايطاليـا الفاشية(42) .
لقد توصل الفكر الغربي في السنوات القليلة الماضية إلى صيغة جديدة تخفف من غلواء الدولة وتضمن اقتراب أجهزتها من تحقيق العدالة والمساواة بين مواطنيها وتتضمن هذه الصيغة تفعيلا التنظيمات التطوعية التي تدخل ضمن إطار المجتمع المدني والتي تضم فئات ونخبا اجتماعية متجانسة تجمعها مصالح مشتركة ، وتعمل باستقلال عن السلطة الرسمية ولا تبتغي الربح وتحاول التنظيمات غير الحكومية هذه ان تكون وسطا بين المجتمع والدولة لتحقيق مصالح أفرادها ومن يرتبط بها من الناس . والمجتمع المدني (Civil Society) مصطلح حديث النشأة ويرتبط بالتطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعي التي شهدها العالم وخاصة في مطلع تسعينات القرن الماضي ، إلا أن هناك حقيقة لابد من الإشارة إليها وهي أن المجتمع الإنساني سواء في الشرق او الغرب قد عرف هذه المؤسسات منذ زمن بعيد و الأصناف والتنظيمات المهنية التي عرفها المجتمع العربي والإسلامي إبان عصور ازدهار الحضارة العربية والإسلامية كانت من قبيل مؤسسات المجتمع المدني . وبالاتجاه ذاته عرفت أوربا الحديثة هذه المؤسسات واجتهد كثير من مفكريها أمثال جون لوك وكارل ماركس Karl Marks (1818 ـ1882)في توصيف هذه المؤسسات وتبيان موقعها في حركة الحياة والمجتمع .. ويعد غرامشى من ابرز الذين اهتموا بهذا الموضوع . وقد يكون من المناسب أن نذكر بان جون لوك قد ذهب الى ان العقد الاجتماعي المشترك هو أساس وجود الدولة ، اما ماركس فكان يرى بان المجتمع المدني هو البؤرة المركزية ومسرح التاريخ الحقيقي ، وهو بالتالي يمثل (البنية التحتية) أي البنية الاقتصادية لكن غرامشي عارضه وقال بانها بنى فوقية ، وادخل الأحزاب والصحافة والنقابات ضمن هذه البنى . وايا كان الأمر ، فان المجتمع المدني هو المجتمع الذي لا يخضع لسلطة الدولة وابرز وظائفه وأهدافه مراقبة الدولة ومحاسبتها والاشتراك معها في صنع القرارات المتعلقة بواقع ومستقبل الشرائح والفئات والكتل التي يتألف منها هذا المجتمع(43) .
من الطبيعي أن وصول الإنسان إلى صيغة الدولة الحديثة احتاج إلى قرون طويلة ، وتضحيات كثيرة ، وصرا عات متعددة ، وإذا كانت البشرية اليوم قد وصلت إلى هذا الإنجاز الكبير فان ما يريده المواطن من الدولة أن تكون بحق ((المرجعية القانونية للتوازن السياسي والاقتصادي للمجتمع )) ، وليس غريبا هذا على الدولة اليوم في الفكر والواقع الغربيين ، فالدولة تعمل في ظل النظام الديموقراطي ، تحت سيادة القانون فهي دولة حقوقية ، وجميع نشاطاتها وأفعالها السياسية ينبغي أن تصاغ في طار حقوقي قانوني والنظام الديموقراطي يخضع للمراقبة بوسيلتين أولاهما الإجراءات الانتخابية البرلمانية وثانيهما النظام الإداري اللامركزي ويعد دي توكفيل ، واحد من ابرز المفكرين الليبراليين الأوربيين الذين ارسوا ديموقراطية الغرب وذلك من خلال كتابه الموسوم ((ديموقراطية أميركا)) ففي هذا الكتاب يقول (( إني أحب المؤسسات الديموقراطية بعقلي .. إني أحب الحرية والشرعية ،واحترام الحقوق حبا شديدا )) وديمقراطيته التي كتب عنها تدعو إلى اللامركزية الإدارية ، وإقامة الأحزاب وتأكيد المزايا الأخلاقية وفي مقدمتها تعميق الشعور بالمسؤولية ومحبة الخير العام (44) . وهذا يدعونا إلى أن نوجه سؤالا نراه مشروعا وهو هل أن ما يدعو إليه الغرب اليوم ويفعله يعبر عن حقيقة مواقفه تجاه الإنسان وقضاياه ومطامحه في كل إرجاء المعمورة والإجابة على هذا السؤال نحتاج إلى مباحث واسعة لكن مما لا يمكن إغفاله هنا هو أن أساليب الغرب وأنظمته وخاصة في مجال ترسيخ الديموقراطية وبناء المجتمع المدني قد بدأت تكسب أنصارا بفضل الثورة المعلوماتية وشيوع العولمة وتحول العالم إلى قرية كونية صغيرة ، ويقينا أن هذا يتطلب من مفكري الأمم غير الغربية أن تعي حجم التحدي وتبدأ بإعادة النظر في كل مفاصل حياتها اعتمادا على ثوابتها الوطنية والقومية وفي مقدمتها الكيفية التي تستطيع أن تحافظ بها على هويتها وشخصيتها الحضارية ولكن ليس بعقلية منغلقة وإنما بذهن مفتوح وعقل يقبل الحوار .

الهوامش والمصادر :
(1) نشر الكتاب بالفرنسية سنة 1969 وترجمه محمد عيتاني الى اللغة العربية وقامت دار التنوير للطباعة والنشر في بيروت سنة 1982 بطبعه .

(2) للتفاصيل انظر : نازلي إسماعيل حسين ، الشعب والتاريخ : هيجل ، دار المعارف ، (القاهرة ، 1976) ،ص 43

(3) للتفاصيل انظر : عبد الملك عبد الله ألهنائي ، إطار نظري للتطور التاريخي للدولة العمانية منشور على الشبكة العالمية للمعلومات (الانترنيت) ضمن الموقع WWW.nizwa.com . ويقتضي المقام هنا ان نشير الى الكتاب القيم للأستاذ الدكتور منير حميد ألبياتي الموسوم :( الدولة القانونية والنظام السياسي الإسلامي : دراسة دستورية شرعية وقانونية مقارنة ) الذي قرر في حقيقة أن الدولة التي أقامها الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم في القرن السابع الميلادي كانت دولة قانونية هدفها تحقيق العدالة والرفاهية للناس وقد اعتمدت الشورى والمساواة وسيادة القانون وحدث هذا في الوقت الذي كانت فيه اوربا تعيش عصورها الوسطى المسبوقة بالسلطة المطلقة للحاكم دون حدود او قيود يتصرف بالأرض والبشر كيف يشاء ولم يكن للبشر حقوق ولا وجود لفكرة المشروعية أو خضوع الدولة للقانون .انظر الصفحات 55 -56 من الكتاب المذكور .

(4) المصدر نفسه .وثمة كتب كثيرة تناولت نشوء الدولة والنظريات المختلفة حول ذلك منها على سبيل المثال كتاب طعيمة الجرف الموسوم :نظرية الدولة والأسس العامة للتنظيم السياسي (مكتبة القاهرة الحديثة ،الكتاب الأول ، (بيروت ،1967 ) وكتاب هشام الشاوي الموسوم :مقدمة في علم السياسة ،دار ابن الأثير للطباعة والنشر ،(الموصل ،1970 ) وكتاب عبد الجبار عبد مصطفى الموسوم :الفكر السياسي الوسيط والحديث ،دار ابن الأثير للطباعة والنشر (الموصل ،1982 ) .

(5) للتفاصيل انظر :
C.Till , The Fomation of the Nattional State in Europe princeton University (New Jersey , 1975)

(6) حاتم ألكعبي ، نمو الفكر الاجتماعي ، المكتبة العصرية ،
(بغداد ، 1964) ، ص 8

(7) شترا ير ، المصدر السابق ،ص ص 14 ـ15

(8) ألكعبي ، المصدر السابق ،ص 9
(9) المصدر نفسه ، ص21
(10) حسين ، المصدر السابق ، ص43
(11) ألكعبي ، المصدر السابق ، ص14
(12) حسين ، المصدر السابق ، ص ص 44ـ46
(13) شترا ير ، المصدر السابق ، ص ص 12 ـ14
(14) المصدر نفسه ، ص 14
(15) ألكعبي ، المصدر السابق ، ص ص 25 ـ26
(16) المصدر نفسه ، ص 26
(17) المصدر نفسه ، ص ص 35 ـ 37
(18) للتفاصيل انظر : عبد القادر احمد اليوسف ، العصور الوسطى الأوربية ، المكتبة العصرية ، (صيدا ـ بيروت ،1967) ، ص 345
(19) المصدر نفسه ، ص ص 345 ـ 246
(20) شترا ير ، المصدر السابق ، ص ص ، 37 ـ 38
(21) المصدر نفسه ، ص ص 38 ـ45
(22) كتب شترا ير تفاصيل هذا الموضوع في مقالة نشرت سنة 1950 بعنوان :
Laicization of Frengh and English society in the Thirteenth century , in speculum XU (1940) , pp 76-86
(23) المصدر نفسه ، ص ص 60 ـ61

(24) المصدر نفسه ، ص 89


(25) المصدر نفسه ، ص 105

(26) ألكعبي ، المصدر السابق ، ص ص 39 ـ 41

(27) للتفاصيل انظر : فاضل زكي محمد ، الفكر السياسي العربي الاسلامي في ماضيه وحاضره ، دار الحرية للطباعة ، (بغداد ، 1976) ، ص404

(28) للتفاصيل انظر : فاضل حسين ، التاريخ الاوربي الحديث ، دار ابن الأثير للطباعة والنشر ، ( الموصل ، 1982 )

(29) كامل زهيري / الدولة ، في إبراهيم عامر وآخرون ، موسوعة الهلال ، (القاهرة ،1970) ، ص 216

(30) انظر كتاب نحو الفكر الاجتماعي ، الذكر ،ص ص 44 ت 49

(31) نبيل ياسين ، ((الديموقراطية في الفكر الغربي )) ، منشور على الشبكة العالمية للمعلومات (الانترنيت) ضمن موقع
WWW.rexgar.com. وكذلك في موقع الحوار المتمدن ، العدد 1570 ، 3 حزيران 2006
(32) زهيري ، المصدر السابق ، ص 216

(33) المصدر نفسه ، ص ص 216 ـ217

(34) للتفاصيل انظر : توفيق سومر ((مفهوم الدولة بين الفكر العربي والمنجز الحضاري)) ، منشور على الشبكة العالمية للمعلومات (الانترنيت) ضمن الموقع WWW.alghad.jo ( جريدة الغد الأردنية 27 آب 2005)

(35) المصدر نفسه

(36) الكعبي ، المصدر السابق ، ص ص 70 ـ 76

(37) سومر ، المصدر السابق ص1

(38) الزهيري ، المصدر السابق ، ص 217

(39) احمد عطية الله ، القاموس السياسي ، مادة سيادة ، ط3 ،دار النهضة العربية ، (القاهرة ،1968) ، ص661

(40) يعطى مبدأ السيادة المرنة للمجتمع الدولي أو من يدعي انه يمثله حق التدخل في شؤون الدول بحجة (فرض الديموقراطية) ، وحماية حقوق الإنسان ، والحفاظ على كيان الأقليات وقد ساعدت العولمة وإلغاء المسافات الفاصلة بين الدول لكي تنتقل السلع ورؤوس الأموال والأيدي العاملة وحتى الأفكار والقيم والعادات بين الحدود بدون قيد أو شرط على شيوع هذا المبدأ وقد كتب السيد كوفي عنان مقالا ما اسماه مبدأ السيادة المرنة والتدخل الإنساني ترجمته ولخصته وعلقت عليه السيدة إيمان احمد في جريدة الثورة (البغدادية) يوم 20 من تشرين الأول 1999 بعنوان : ((مفهومان للسيادة !!)) .

(41) انظر : إبراهيم العلاف ، ((حاجة العراق إلى تفعيل مؤسسات المجتمع المدني )) ، نشرة متابعات إقليمية ، السنة (1) ، العدد (1) كانون الأول 2003 ، ص ص 6 ـ 9

(42) زهيري ، المصدر السابق ، ص 218

(43) العلاف ، المصدر السابق ، ص 7

(44) ياسين ، المصدر السابق ، ص ص 1 ـ 5



#ابراهيم_خليل_العلاف (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الدكتور محمود علي الداؤود (1930- )ودوره في تأصيل الدراسات ال ...
- الدكتور فيصل السامر 1925-1982 ودوره الفاعل في تطوير المدرسة ...
- كلية الحقوق (العراقية ) في 100 عام من عمرها 1908-2008
- الدكتور يونان لبيب رزق والمزاوجة بين التأريخ والصحافة
- زهاء محمد حديد والفن المعماري العالمي
- رجاء النقاش ودوره في حركة الثقافة العربية المعاصرة
- فؤاد التكرلي (1927-2008 )وتأريخ العراق المعاصر
- الجذور التأريخية لنشأة وتطور ( القطاع الخاص) في العراق حتى ص ...
- التراث الصحفي في العراق خلال الثلاثينات من القرن العشرين
- هل يحتاج العراق الى اقامة منظومة تعاون مع ايران وتركيا ؟!
- عبد الناصر والاكراد
- الدكتور حسين قاسم العزيز 1922-1995 والمنهج المادي الديالكتيك ...
- مجلة المجلة ودورها في حركة الفكر والثقافة العراقية المعاصرة
- الثقافة والسياسة في العراق المعاصر :دار المعلمين العالية 192 ...
- الصحافة العراقية والتطور السياسي والاقتصادي والثقافي 1869-19 ...
- هياكل صنع القرار السياسي في العراق ومصادره والياته
- مع الدكتور ابراهيم الداقوقي في رحلته الادبية والثقافية والاع ...
- مع القاص والناقد انور عبد العزيز في مسيرته الابداعية


المزيد.....




- قُتل في طريقه للمنزل.. الشرطة الأمريكية تبحث عن مشتبه به في ...
- جدل بعد حديث أكاديمي إماراتي عن -انهيار بالخدمات- بسبب -منخف ...
- غالانت: نصف قادة حزب الله الميدانيين تمت تصفيتهم والفترة الق ...
- الدفاع الروسية في حصاد اليوم: تدمير قاذفة HIMARS وتحييد أكثر ...
- الكونغرس يقر حزمة مساعدات لإسرائيل وأوكرانيا بقيمة 95 مليار ...
- روغوف: كييف قد تستخدم قوات العمليات الخاصة للاستيلاء على محط ...
- لوكاشينكو ينتقد كل رؤساء أوكرانيا التي باتت ساحة يتم فيها تح ...
- ممثل حماس يلتقى السفير الروسي في لبنان: الاحتلال لم يحقق أيا ...
- هجوم حاد من وزير دفاع إسرائيلي سابق ضد مصر
- لماذا غاب المغرب وموريتانيا عن القمة المغاربية الثلاثية في ت ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ابراهيم خليل العلاف - الدولة في الفكر الغربي الحديث :رؤية تأريخية