|
عيون تنظر الى تحت
مجدي السماك
الحوار المتمدن-العدد: 2144 - 2007 / 12 / 29 - 10:24
المحور:
الادب والفن
قفصه الصدري يعلوا ويهبط ،كانت رئتاه تحاولان الحصول على كفايتهما من الهواء بصعوبة ، يبدو أن المريض أكثر منه عافية و هو نحيف كالإصبع ، و تقوس ظهره الشديد أعطاه شكل علامة الاستفهام ، و يبوح هذا التقوس بالقهر و العذاب الذي لحق به على مدى عمره الطويل ، و لو تصورته معتدلا لبان لك طويلا كأنه شخصان قصيران قد التصقا يبعضهما . إنه العم أبو خليل ماسح أحذية من الطراز الأول ، حيث اكتسب خبرة عشرات السنين في هذه المهنة التي امتهنها بعد النكبة مباشرة ،كان أبوه يملك في يافا مئات الدونمات من الأرض ، و على الرغم من ذلك فإن كل ما استطاع أن يرثه عن أبيه هو الفقر و القهر والحرمان . كنت أشاهده قادما و هو يحمل صندوقه الخشبي الصغير على احد كتفيه، و يمشي كأنه ينتزع قدمه من الأرض انتزاعا ، أو كأن الأرض مغناطيس يتشبث بقدميه . وصل العم أبو خليل ، و افترش قطعة من الورق المقوى ، و احتبأ أمام صندوقه الصغير و اخذ يحدق في أقدام المارة ، و قد ضبط عينيه و بصره على وقع خطاها ودبيبها ، عله يقتنص أحداها و يوقع بها بين يديه على الصندوق الخشبي ، و هذه وسيلته في الحصول على قوت يومه ، كان يشعر بالبهجة عند اقتراب الأحذية منه . كنت جالسا في الجهة المقابلة له من الشارع الضيق ، تقدم منه شخصا يسمى نصف عقل ، لأنه يثور و يغضب لأقل الهفوات ، و كثيرا ما كان يختلق المشاكل لأوهى الأسباب . و هو ثري ويعمل مع والده في التجارة و لهما بساتين كثيرة . وضع قدمه على الصندوق أمام العم أبو خليل ، الذي امسك الخرقة واخذ يحركها أفقيا على الحذاء فأعطاه شكل غراب يحاول الطيران . كان وجه نصف عقل للعم أبو خليل و ظهره اتجاهي ، له عجيزة كبيرة و متكورة تتدلى و كأنها على وشك السقوط أرضا ، لولا البنطال الضيق الذي يمسكها فبدت مكتظة مثل شوال الطحين البلدي ، و بينما هو كذلك اقترب منه حوذي و ضربه بالسوط على عجيزته –تصفية حساب بينهما – لكنه لم يستطع اللحاق به لضخامة جثته ، فاخذ يتمزق غيظا و يضرب قبضة يد بكف الأخرى . انتهى العم أبو خليل من طلاء الحذاء ، و اخذ أجره منقوصا ، لذلك تجهم وجهه وشعر بالظلم ، و لكن لا حول له ولا قوة أمام هذه الجثة المترامية مثل الفيل الهندي . إن الشعور بالظلم اشد من الظلم نفسه أحيانا . تابع نصف عقل مسيره إلى المشفى ، لزيارة والده حيث يرقد هناك لأنه التهم سلة كبيرة من الصبر ، و لم يستطع إخراجها من جوفه . عاد العم أبو خليل يحدق في أحذية المارة إلى أن بلغت الشمس منتصف السماء ، فغير مكانه هربا من أشعتها الحارقة ، التي حولت لونه من أبيض إلى برونزي ، ثم غاب لبرهات قليلة ، و عاد حاملا صرة بها بيضة مسلوقة و نصف رغيف و حبيبات من الملح ، و اخذ يقضم الخبز و يتبعها بقضمة من البيض بعد أن يغمسها بالملح ، و هكذا استمر يأكل قضمة وراء قضمة حتى أتى على البيضة كلها . ثم ملأ بطنه بالكثير من الماء ، و كأنه يخزنه مثلما يفعل الجمل العابر للصحراء ، تجشأ جشآت سرت مثل الرعد ممتزجة بضجيج المارة ، فقال له شخص يمشي بالقرب منه ، و يلبس بدلة فاخرة : سطح ... ربنا يسطح بطنك . هذا الشخص حرامي ، و كان يسرق الدجاج وهو صغير. اقتربت من العم أبو خليل ، بهدف إثارة ما بداخله من حنق على ظروف الحياة ، و ربما هي رغبة مني في محادثته و قلت له : انتم أضعتم البلاد . أخذت عيناه تتراقص و تكاد أن تدمع ، ثم رمقني و فغر فاه ...و بقي هكذا للحظات ، فبدا كمن نسي فمه مفتوحا ...شارد الذهن ، ثم أردف قائلا بصوت مكسور: أضاعها الكلاب . شعرت بالندم على ما قلته له ، ورغبة مني في إعادته إلى حالته العادية قلت له : أنت محظوظ و تستطيع أن تجلس و تمارس مهنتك أينما تشاء ، دون حاجة إلى محل بالإيجار، فقال ِ: نعم . أستطيع ذلك في أي مكان ، سوى ارض أبي التي هي أرضي . أخذت أغمغم : إن الذي صنع مأساة العم أبو خليل ، هو نفسه صانع مأساة الملايين من البشر، تركته و ذهبت ، و أخذت الأيام تمر وراء بعضها . ذات يوم عاد نصف عقل مع والده من المشفى ، و أثناء سيرهما اقترب منهما شحاذ ، طالبا احدهم القليل من كثير ماله ، فنهراه نهرة جعلت فتاة مارة بقربهما تقفز رعبا ، و ارتطمت بزجاج احد المحال و كسرته . عند اقتراب الشحاذ من العم أبو خليل ناداه ، و أعطاه الكثير من قليل ما يملك . [email protected]
#مجدي_السماك (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أيام الخميس .. قصة قصيرة
-
قبر من لحم
-
ربع ساعة اخرى
-
لعبة عروسة وعريس
-
رؤية خريفية
-
مملكة فنان ميت .. قصة
-
بائع العلكة الصغير
-
آهات وعرانيس ..قصة قصيرة
-
آهات وعرانيس .. قصة قصيرة
-
جهنم نحن وقودها
-
الهوية الفلسطينية في الطريق الى الضياع
المزيد.....
-
6 أفلام ممتعة لمشاهدة عائلية فى عيد الأضحى
-
فنانة مصرية مشهورة تؤدي مناسك الحج على كرسي متحرك
-
قصة الحملات البريطانية ضد القواسم في الخليج
-
أفراح وأتراح رحلة الحج المصرية بالقرن الـ19 كما دونها الرحال
...
-
بسام كوسا يبوح لـRT بما يحزنه في سوريا اليوم ويرد على من خون
...
-
السعودية تعلن ترجمة خطبة عرفة لـ20 لغة عالمية والوصول لـ621
...
-
ما نصيب الإعلام الأمازيغي من دسترة اللغة الأمازيغية في المغر
...
-
أمسية ثقافية عن العلاّمة حسين علي محفوظ
-
ثبتها الآن.. تردد قناة روتانا سينما 2024 على نايل سات واستمت
...
-
عروض لأفلام سوفيتية وروسية في بوينس آيرس
المزيد.....
-
تمثلات التجريب في المسرح العربي : السيد حافظ أنموذجاً
/ عبدالستار عبد ثابت البيضاني
-
الصراع الدرامى فى مسرح السيد حافظ التجريبى مسرحية بوابة الم
...
/ محمد السيد عبدالعاطي دحريجة
-
سأُحاولُكِ مرَّة أُخرى/ ديوان
/ ريتا عودة
-
أنا جنونُكَ--- مجموعة قصصيّة
/ ريتا عودة
-
صحيفة -روسيا الأدبية- تنشر بحث: -بوشكين العربي- باللغة الروس
...
/ شاهر أحمد نصر
-
حكايات أحفادي- قصص قصيرة جدا
/ السيد حافظ
-
غرائبية العتبات النصية في مسرواية "حتى يطمئن قلبي": السيد حا
...
/ مروة محمد أبواليزيد
-
أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية
/ رضا الظاهر
-
السلام على محمود درويش " شعر"
/ محمود شاهين
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
المزيد.....
|