أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - حسام مطلق - الاسلام في التفكيك والتركيب - الجزء الثاني ( في اللغة و الاضطرابات اللغوية )















المزيد.....



الاسلام في التفكيك والتركيب - الجزء الثاني ( في اللغة و الاضطرابات اللغوية )


حسام مطلق

الحوار المتمدن-العدد: 2146 - 2007 / 12 / 31 - 10:58
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


الجزء الثني في اللغة والمصطلحات والإعجاز اللغوي:
1- البسملة ومصدرها :
• يبدأ كل خطاب في الإسلام بالبسملة, بسم الله الرحمن الرحيم, وهي عبارة سابقة للإسلام أول من أتى بها هو أمية بن الصلت وكان يخط في أعلى كتبه عبارة : باسمك اللهم. ( كتاب تاريخ الكعبة ). أما كلمة الرحمن فقد كانت في مراسلات مملكة سبأ وكانت تكتب وفقا للهجة أهل الجنوب بـ : رحمانانا والترجمة الحرفية لها يقابلها رحماننا في لهجة شمال ووسط الجزيرة العربية ( لوح سبأي محفوظ في اليمن ). كما سيرد مثالا آخر عنها في الصلوات التدمرية لاحقا.
2- تشابهات لغوية مع الشعر العربي قبل الإسلام :
*يشتهي الإنسانُ في الصّيفِ الشّتاءَ ....فإذا ما جاءه أنكره
فهو لا يرضى بعيشٍ واحدٍ ...قُتّل الإنسان ما أكفَرَه
وعجز البيت الثاني لمرىء القيس هو نفس القول القرآني ( قتل الإنسان ما أكفره – ايه 17 عبس ).
* اقتربت الساعة وانشق القمر ...عن غزالٍ صاد قلبي ونفر
وهذا البيت أيضا لشاعر كندة إمرىء القيس وشطره الأول مطابق للآية الأولى من سورة القمر.
* أما والذي لا يعلم السر غيره ...ويُحيي العظام البيض وهي رميم
لقد كنت أطوي البطن والزاد يُشتهى ...مخافةً يوماً أن يُقال لئيم
وعجز البيت الأول لحاتم الطائي مشابه للآية 78 من سورة يس (ياسين): (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ).
• ويذكر الآلوسي في بحثه (بلوغ الأرب) أن زهير بن أبي سلمى - قبيلة مزينة النجدية - كان يقول حين يمر بالقرب من شجرة أورقت وكانت قبلا يابسة : لولا أن تلومني العرب لقلت إن من أحياك بقادر على أن يحيي العظام وهي رميم.
• النابغة الذبياني يقول :
الخالق البارئ المصور ...في الأرحام ماءً حتى يصير دماً
وهو ما يمكن مقارنته بالآية 24 من سورة الحشر: (هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
• ويقول أمية بن الصلت :
وترى شياطينا تروغ مضافة ...ورواغها شتى إذا ما تطرد
تلقى عليها في السماء مذلة...وكواكب ترمى بها فتعرد
ومما قال بن الصلت أيضا وهو مشابه لما جاء في القرآن :
وسبحان ربي خالق النور لم يلد ...ولم يك مولودًا بذلك اشهد
وسبحانه من كل إفك وباطل...ولا والد ذو العرش أم كيف يولد
هو الصمد الحي الذي لم يكن له...من الخلق كفؤ قد يضاهيه مضدد
تسبحه الطير الحوائج في الخفا...وإذ هي في جو السماء تصعد
ومن خوف ربي سبح الرعد فوقنا...وسبحه الأشجار والوحش أبد
وهذه الأبيات يمكن مقارنتها بسورة الإخلاص: (قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ.. الله الصَّمَدُ.. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ.. وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ)، والآية 13 من سورة الرعد: (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ).
وتقول الآيات 8 و9 من سورة الجن: (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا.. وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا).
وهو يقول أيضا :
لئن قال ربي للملائكة اسجدوا
لآدم لما أكمل الله خلقه
فخروا له طوعًا سجودًا وركدُ
فقال عدو الله للكبر والشقا
أطين على نار السموم يسودُ؟.
وهو ما يمكن مقارنته بالآية 61 من سورة الإسراء: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا).
وقال أيضا في سفينة نوح :
المسبح الخشب فوق الماء سخرها...خلال جريتها كأنها عوم
تجري سفينة نوح في جوانبه...بكل موج مع الأرواح تقتحم
نودي قم واركبن بأهلك أن...الله موف للناس ما زعموا
مشحونة ودخان الموج يرفعها...ملأ وقد صرعت من حولها الأمم
حتى تسوت على الجودي راسية...بكل ما استودعت كأنها اطم
فهذه الأبيات يمكن مقارنتها بالآيات 44 -49 من سورة هود: (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ). مع التنويه الى أن سفينة نوح في سفر التكوين في التوراة رست على جبل أرارات وليس جبل الجودي. فكيف عرف أمية أين رست سفينة نوح قرآنيا وهو المتوفى قبل نصها؟
في السماوات السبع أمية بن الصلت هو القائل :
ألا كل شيء هالك غبر ربنا... ولله ميراث الذي كان فانيا
له ما رأت عين البصير وفوقه... سماء الإله فوق سبع سمائيا.
ويمكن مقارنة هذه الأبيات بالآيات: (وَلله مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) سورة آل عمران 180. (قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) سورة المؤمنون 86. وهنا يمكننا أن نفسر لما قابل أهل الطائف, التي ينحدر منها أمية بن الصلت, نبي الإسلام بكل تلك السخرية والرفض الذي تنقله المصادر الإسلامية دون إيضاحات جانبية. لقد سمع أهل الطائف الكثير من الكلام المشابه لكلام القرآن من نبيهم أمية بن الصلت. ولابد هنا من التوضيح أن أمية بن الصلت أدعى النبوة قبل نبي الإسلام في الطائف . ونستدل على خصوصية ثقيف وأهل الطائف, في الوحدانية, عن باقي العرب بلجوء صاحب الدعوة المحمدية إليهم كي ينصروه بعد أن توفي عمه أبو طالب. أي أنه كان يتلمس منها تفهما أكبر من غيرها. وروي في ذلك الحديث التالي : " وكذلك لما هلك أبو طالب خرج رسول الله (ص) إلى الطائف يلتمس من ثقيف النصر والمنعة وعمد إلى نفر من ثقيف فقال لهم : "أنا رسول الله إليكم". فقال له أحدهم : والله لا أكلمك كلمة أبداً، لئن كنت رسولاً من الله كما تقول، لأنت أعظم حظا من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله، فما ينبغي لي أن أكلمك أبدا ". فهذا، ولا شك، كلام رجلٍ يعرف الله ويُعظمه. ومن العرض الشعري الذي قدمته لأمية بن الصلت في فقرة المتشابه من القرآن مع الشعر العربي يمكننا أن نقرأ بدقة أنه رجل موحد, وهنا يبرز لنا سؤالا مهما: لماذا لم يذهب صاحب الدعوة المحمدية إلى رجل يؤمن بمثل ما ينادي به فيطلب منه حماية قومه, وأمية كان ذا حظوة بين قومه, إن لم نقل كلهم فعلى الأقل جلهم, وما تباهي الحجاج بن يوسف الثقفي به لاحقا إلا دلالة على أن ثقيف كباقي العرب تفخر بأن منها من هم ذو شأن؟. أغلب الظن أن مشروع الدولة كان قد اختمر في ذهن صاحب الدعوة المحمدية وما كان لاستعانته بأمية إلا أن تجعل الرجل مقدما عليه, فهو أولا ابن ثقيف وثانيا سابق عليه بادعاء النبوة وثالث يقول مثل ما يقول, وقد تلمسنا تماثل القول بين شعر أمية وبين القرآن في الشواهد السابقة. لذا ذهب إلى ثقيف وعزمه أن يظهر فيها على ابنها ودار بينه وبين أهل الطائف جدل نستدل عليه من الآية القرآنية من سورة الزمر (الآية 38 ) "ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله". فأهل الطائف كانوا موحدين بلا جدال. ولكنه حين ساق لهم الأمثلة مما " أنزل " الله عليه لم يجدوا منه إلا قولا سبق أن قاله نبيهم فما كان من القوم إلا أن سخروا منه وأصروا على نبيهم, لقد صار له برأيهم مقلدون في القبائل, وأي القبائل, قريش. وقيل أن أهل الطائف جاءوا نبيهم أمية بن الصلت فقالوا له : في قريش رجل يقول ببعض ما قلت, تنقل العرب أخباره ولا يعلم أمرك دوننا إلا قليل. فأجابهم : ديني ونبوتي وقولي, نحن من مشكاة واحدة, لولا قريش و هاشم ما علمت الناس به وجهلتني. وهو يريد من ذلك أن مكانة مكة هي التي أعطت صاحب الدعوة المحمدية ما افتقد إليه هو من العزوة القبلية مع أنه أسبق بالقول. فمكة تؤمها القبائل من كل حدب, للحج أو التجارة, ولا يأتي أهل الطائف إلا نفر قليل يريدون قوما فيها, هذا من جانب. ومن جانب آخر ما كان لقريش أن تقبل بأن يأتي غريب عنها يعرض دينه بين حجاجها ويسفه آلهتها فتغض الطرف عنه كما فعلت مع صاحب الدعوة المحمدية. وموقف ثقيف من دعوته لهم وقول أمية هذا الذي نقل لاحقا لصاحب الدعوة المحمدية كان ما دفع نبي الإسلام للانتقاص من ثقيف حين قال : "ثقيف من ثمود"، أي من نسب عبد مسترق لأبي رغال جد ثقيف وهذا في نظر العرب وقريش خاصة سبة وتسقط, إن صحة هذه النسبة, أي فرصة لأمية في أن يقبل نبيا بين العرب. فالأنبياء لا بد وأن يكونوا من النسب الشريف, ولا شرف في نسب من عبد مسترق. وهذا الحديث يعطينا فكرة عن تدرج الوعي في الحديث, فمن التعير بالرق إلى الاستكثار بهم لاحقا, وهو أمر سوف نرى دورا لخديجة فيه, كما يخبرنا يوحنا الدمشقي لاحقا.
خطأه القاتل في طريقة الاتصال بثقيف دون أن ينسق مع كبارها سوف يستفيد منه لاحقا حين ينتقل ليثرب, وهو ما سوف يرد شرحه معنا في الآيات القرآنية التي نزلت في حكم شهادة الزوج المتهم لزوجته بالزنا بالإضافة إلى ما نزل من القرآن ترضية لبعد الله بن سلول رغم أن النبي قال فيه أنه رأس المنافقين. هذا يعرف في السياسة بنضوج الوعي السياسي. المشروع السياسي كحلم بات واضح المعالم ولكن آليات التطبيق بدوها تتطلب نضوجا آخر كان صاحب الدعوة المحمدية يفتقر إليه هنا. لقد ظن بكل سهولة أنه وبما أن ثقيف حنفية وهو مدعي للحنفية فسوف يقبل بينهم سيدا, كما احتضنه ورقة بن نوفل وزوجته خديجة نفسها. ولكن اتضح أن العرف القبلي له دوره في النهاية ومن هنا كانت فكرة المؤلفة قلوبهم في الإسلام, أي شيوخ القبائل وما خصهم به القرآن من نصيب من بيت المال, وهي نقطة سوف يرد شرحها لاحقا.
هذا التحدي في العلاقة من جهة, والقضية التنظيمية في التبشير الأبيوني " أي ورقة بن نوفل ", كما سيرد شرحه في العلاقات اللاهوتية, هو ما منع أمية من التبشير في مكة أو الاجتماع بني الإسلام رغم ما عرف عنه من السفر للشام واليمن والعراق وأمصار أخرى طلبا للعلم, والكثير الذي نقل عنه في شعره عن الدين والآخرة وعن الجنة والنار والحساب والكتاب، وقد تضمن إشارات إلى حوادث وقعت في أيامه، أو في أيام ليست ببعيدة عن أيامه مثل قصة الفيل التي وردت لاحقا في القرآن، كما تضمن بعض قصص الأنبياء على نفس النحو الذي ورد في القرآن. ولكثرة ما دعا الناس إلى التوبة والخوف من الجساب نعت بشاعر الآخرة.
كما تذكر المصادر أنه استعمل كلاما غريبا على العرب في شعره كـ "الساهور" للقمر، وهي كلمة لم يسبق لهم أن استخدموها, وانه ذكر، "السلطيط"، اسماً لله, وانه أطلق كلمة "التغرور" عليه في موضع آخر وانه سمى السماء "صاقورة" و "حاقورة" . وكلها ألفاظ لم تكن تتداولها العرب ويردها المفسرين إلى ثقافته الواسعة فهو كان يقرأ السريانية ويكتب بها وجمع الكثير من المعرفة من أسفاره واتصالاته بالكهنة من اليمن للشام. هذا التفسير يبدو مقبولا حين نعلم أن كلمة " الساهور " مثلا المستخدمة في شعر أمية إنما هي كلمة آرامية الأصل من تلفظ على "سهرو" Sahro، بمعنى القمر، أي تماماً بالمعنى الوارد في شعر أمية. ويفسر بعض المحللين نزوح القرآن إلى بعض الألفاظ الغريبة ( العاديات _ ضبحا – العهن أو استخدامه للأحرف كترميز لم يفهم إلى اليوم مثل آلم ..الخ ) أنها محاولة لمجارات أمية الذي كان قد بهر نخب العرب الشعرية بمثل تلك الألفاظ فتناقلت بعض القوافل شعره وأنباء نبوته. وقد استمرت العلاقة بين الرجلين على حالها من التوتر حتى وقد أزفت المنية من أمية حيث قال حينها : "قد دنا أجلي، وهذه المرضى فيها منيتي, وأنا أعلم أن الحنفية حق، ولكن الشك يداخلني في محمد. وقال في نبي الإسلام قبل أن يموت: " لا برىء فأعتذر, ولا قوي فانتصر له" أي يريد أن نبي الإسلام يقول بالحق الذي أتيت به ولكنه لا يملكه بالقوة التي تجعلني أقر له فيها بالنبوة, ولعل مرد ذلك لضعف أصاب نبي الإسلام خلال المجادلة التي دارت بينه وبين ثقيف فوقع في خطا ما مما عرفوه من نبيهم أو من اليهود عن سير الأنبياء أو صفات الله فلم يحتمل منهم فأغلظ لهم فرجموه. وكان قد أشكل على القرشين في بداية الدعوة المحمدية أمر النبيين اللذين يقولان قولا متشابها, كما أوردنا في الشواهد السابقة, فعابوه على نبي الإسلام فجاء القول القرآني : " واتلُ عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا، فانسلخ منها " . وقال بعض الرواة أن هذه الآية جاءت لتجيب عن التشابه اللفظي بين شعر أمية بن السلط وبين آيات القرآن. هذا التشابه الذي لا يمكن حتى لغافل أن يقول به كتخاطر. أي كأن القرآن أراد أن يبرر الأمر بالقول أن النبوة كانت لأمية ولكنه لم يحفظها كما أمره الله فنقلها لنبي الإسلام, فكون أمية أقدم في الإدعاء وفي القول بذاك الشعر لا يترك لنبي الإسلام أن يدعي عليه في الأسبقية فكان الحل " فانسلخ منها " أي ضيعها ولم يحفظها فنقلنها لغيره. ومن يدري ربما لولا موقف صاحب الدعوة المحمدية بتجاوز أمية بين قومه لتعاضد الرجلين من أجل نصرة القضية الواحدة. على كل وحرصا على الأمانة لابد وأن نذكر أن بعض الرواة عدل لاحقا أسباب النزول, بعد أن سأل البعض ما إن كان هناك احتمال أن تعود النبوة لأمية أو تكون قد عادت فعلا فقالوا إنها نزلت في "بلعام بن باعور" "بلعم بن ابر"، "بلعام بن باعرا"، أو في زوج البسوس، أو في "النعمان ابن صيفي الراهب". وفي كل الأحوال فإن هناك آيات نزلت, وفقا للنص القرآني, على غير صاحب الدعوة المحمدية في بداية الأمر ثم نقلت النبوة له بعد أن انسلخ النبي الأول منها, انه القرآن يقول ذلك.
ومع أنه لا علاقة للأمر بالقضية التي نناقشها إلا أن الشيء بالشيء يذكر فدعونا نعرف بنسب أمية, تلك الإشكالية الكبيرة التي واجهها الإسلام من أيامه الأولى. والد أمية هو عبد الله بن أبي ربيعة بن عوف الثققي" وللزبيري رأي آخر فهو ينسه لربيعة ابن وهب بن علاج بن أبي سلمة. أما أمه فهي رقية بنت عبد شمس بن عبد مناف. وعلاقة الرجلين لا تلخصها السطور السابقة ولكن كما قدمت في أول المقال فإن الغرض منه هو استنهاض همة القراء كي يبحثوا عنا المصادر ويتوسعوا فهي أكبر من ذلك بكثير وختما لها أورد هذا الحديث: قد قيل لنبي الإسلام أن أمية رجل موحد ولم يؤمن بك, فقال : آمن قلبه ولم يؤمن لسانه. وفي نص آخر, آمن لسانه ولم تؤمن جوارحه. وعلى العموم تعددت الروايات ولكنها كانت تدور حول هذا المعنى ( سيرد معنا لاحقا أيضا ). وهذا الحديث هو ما دفعني أن اطرح السؤال الذي ورد في مقال " الصوفية لماذا وكيف " عما إذا كان القرآن نزولا أم صعودا. فقد أدرك قلب أمية بن الصلت بعض القرآن قبل أن ينطق به نبي الإسلام وإلا فمن أين له أخبار الغيب الواردة في شعره عموما؟.
3- الوظيفة اللغوية للأسماء:
معظم الشخصيات والقصص التاريخية التي تناولها القرآن جاءت نقلا عن التوراة بصورة مباشرة دون أي بيان عن رمزيتها أو ما يعرف من الناحية التحليلية بـ (Paradigm) أي التوظيف اللغوي, أو الاستعارة الأدبية التي يحويها الاسم في طياته خدمة للنص الأدبي. لقد نقل تلك الأسماء على أنها أسماء علم مجردة وفي حقيقتها أسماء رمزية وفقا للغة التوراتية. ففي التوراة, مصدر القصص التاريخية في القرآن, آدم تعني التربة الحمراء التي هي مصدر الحياة المثمرة في بلاد الشام والرافدين, بل حتى في العربية التي لا تبتعد كثيرا عن العبرية يقال في جذر الشيء أنه أدمى, وحواء هي أم الأحياء أي رمز للخصب. نوح تعني الراحة والسلام أي انتهاء العناء, قايين أي قابيل في القرآن تعني الخلق أو المخلوق, و هابيل تعني السديم أو الفناء, وقصتهما عموما وترمز لانتصار الحياة على الموت. إبراهيم هي " أب رام " أي الأب الأعلى وترمز إلى أصل القبائل ووحدة بني إسرائيل. سارة تعني السيدة, أي الحرة غير الأمة, وتلفظ على شكل ساراي, ليكون معناها مشتق من الأرض التي هي سيدة الحياة. وقصة سارة بالحمل والولادة سوف تتكرر مع كل من رفقة و راحيل وحنة, وهن من سلالة إبراهيم كما ورد في التوراة, ونقلت المصادر الإسلامية قصصهن كحقيقة مؤكدة, إلا أن الاكتشافات الأثرية أظهرت أن بعل إله المطر لدى الكنعانيين كان له ثلاث بنات هن ( ارساي= الأرض و تالاي = الندى و بدراي = الممتلئة ) إنها علاقة الأرض بالخصب في الأساطير الكنعانية. فكما في الكنعانية, حكام بني إسرائيل قبل أن تقوم ممالكهم, حيث بعل يسقي الأرض الحرة بالماء الطهور فتعطي الثمر المفيد, نقل التوراتيون الحالة بأسماء بناته لتصبح المتسلسلة : أرض, ندى, ثمار. لاحظوا العلاقة بين التوراتية والكنعانية في التفصيل التالي : ساراي = أرساي وكلتاهما تعني الأرض في اللغة التي تأتي منها, إنه قلب لغوي لا أكثر. و تالاي التي قلنا أنها الندى تقابلها شخصية في التوراة قطورة وتعني في العبرية الندى أيضا. و قطورة ذكرت في الإسلام بهاجر. وأسم هاجر مشتق من هاجار أي الغريبة بالعبرانية. ويبدو غريبا أن تحظى بلقب عبراني فيما هي, وفقا للرواية الإسلامية, كانت تعيش غريبة في مكة بين العرب لا غريبة بين العبرانيين!. أليس الأصح أن تسمى بالغريبة بدلاً من هاجار الاسم الذي لفظته العرب كهاجر ؟. لابد إذن وأن لقب الغربة أطلق عليها من غير العرب, أي من قبل التوراتيين. وهنا يبرز سؤال مهم : كيف, وبأي منطق, أطلق العرب على قطورة لقبا عبرانيا؟. اللهم إلا أن تكون الرواية بكاملها قد نقلت للعربية عن التوراتيين وسقط عن الناقل تعليل العلاقة السببية بين الاسم ووضع المسمى الاجتماعي. كي لا تتوه الفكرة على القراء أوضح كيف أتت القصة العبرانية. قطورة كانت جارية أب رام ولكنه سار بها إلى أرض غريبة حيث عاشت هنا كهاجار, أي كغريبة, وقصة هاجار وأبنها وزوجها أب رام كانت معرفة عند العرب قبل القرآن بقرون وكان الاسم قد خضع للكنة العربية فصار هاجر وسوف يرد معنا تفصيلا أكثر عن أتباع الديانة الإبراهيمية لاحقا. لقد نقل القرآن هذه التفاصيل دون أن يتنبه الناقل إلى تلك الثغرة. ومتابعة للعلاقة بين الاسم والتوظيف في النص الأدبي في التوراة فإن إسحق تعني يُسِرْ أو يُفْرِحْ وهذا يرمز للسعادة التي يخلفها تجدد الحياة. لقد بث المولود الجديد لأب رام ( إبراهيم أبو القبائل اليهودية ) الفرح ( اسحق أو التجدد والسعادة ) في أرساي ( الأرض أو سارة في القرآن ) . أي أن الميلاد يعني إحياء للأرض. لاحظوا العلاقة هنا بين رحلات إبراهيم من العراق إلى الشام والجزيرة العربية ( الوحدة الجغرافية ) وبين أن يعده الله أن يصبح له ذرية بعدد نجوم السماء كمكافئة على الإيمان ( نحن امتداد لحالة إيمان واحدة تاريخيا ) وبين الأسماء المستخدمة في الرواية التوراتية ورمزيتها ( أب القبائل – الأرض – الندى – الثمر – السعادة ) ومن ثم سوف يستمر الترميز على هذا المنحى. فيعقوب هو يعقب, والتي تعني التابع أو التالي, أي امتداد النسل. ويعقب هو الأخ الأصغر من بطن حملت معه عيسو, الذي يرمز للتاريخ الإنساني السابق لليهودية, والذي يفترض وفقا لتطبيقات الشريعة اليهودية أن يحظى بالميراث كاملا دون أن يحق له بيعه أو التنازل عنه, ولكن الزوجة ( رفقة ) تقوم بلعبة تستغل فيها عمى إسحق ( الذي سوف يصبح لاحقا إسرائيل ) فتجعله يعطي الميراث ليعقب. ورفقة بدورها كانت عاقرا كما ساراي زوجة أب رام ولكن إرادة الله هي التي تتدخل كي تجعلها حاملا فيقع التبرير السماوي في جعل بني إسرائيل حملة لواء البشرية والشعب المختار من الله. أنه ميراث تدخلت الأرض رمز الحياة لتنقله من عيسو باقي البشر إليهم. والتبرير الأخلاقي في جعل الميراث لبني إسحق ( أبناء الفرح ) فرفقة العاقر ما كانت لتحمل لولا إرادة الله. شعب إسرائيل الذي أصبح شعب الله المختار نقل الإسلام عنه هذه الخصوصية دون توضيح عن مصدر تسمية إسرائيل. نعلم أن الأسماء تلفظ في كل اللغات بشكل واحد ولكن بلكنة تتطلبها إنضباطات مخارج الحروف لدى أبناء تلك اللغة. فالإنكليزي لا يمكنه أن يقول صَقر ولذا هو يلفظها سَكر. وفي هذا قصة طريفة تفيد التوضيح أسردها خروجا عن الرتابة من جهة وتأكيدا إمعانا في الشرح نظر لأهمية النقطة. كانت القتاة 33 الأرضية من دبي والتي قناة ون دبي تصل إلى الخبر حيث كنت أعيش يوم أن سمى الملك فهد عاهل السعودية نفسه بخادم الحرمين الشريفين. ومذيعو تلك القناة كانوا جميعا من البريطانيين, وكانت على حالها اليوم لا تبث سوى الأعمال الأجنبية والإنكليزية البريطانية منها بشك خاص, أي لا عربية على الإطلاق فيها حتى على سبيل الدعايات. ومن عادة مذيعي تلك القناة أن يلفظوا الألقاب العربية بدون ترجمة توددا أو قل ما تريد من تفسير. فمثلا الأمير لا تصبح ذي برنس بل آمير. وشيخ تلفظ شيك, وقس على ذلك. وعليه, سار المذيعون في تطبيق عادتهم على خادم الحرمين فجاءت على شكل هادم الهرمين. تطلب الأمر بضعة أيام حتى تمت معالجة الأمر وترجم لهم مصطلح خادم الحرمين الشريفين. المراد من هذا السرد أن أسم اسحق ما من مبرر كي يتغير من شعب إلى أخر. فطوني تصبح في الإنكليزية أنتوني والتجانس النطقي غير خاف على أحد. أما العلاقة بين إسحق و إسرائيل فهي غير موجودة من هذا الباب على الإطلاق إلا لمن يعرف كيف ولماذا تبدل أسم اسحق إلى إسرائيل, وهو ما يبدو انه كان خافيا على الناقل القرآني . كلمة إسرائيل هي إسر ايل أي مصارع الرب أو محارب الرب. فهم أبناء النسل الذي عاند الله حتى أحبهم الله واختارهم دون البشر. فالبشر من بطن واحدة ولكن من يحمل لواء الله هو يعقب الذي حمل الأمانة التي عجزت باقي البشر عن حملها. وعندما يتم الله رحمته على بني يعقب يطلع يعقب على حقيقة الصراع وعلى الأمانة ويطلق عليهم أسم بنو إسرائيل اللذين وصل الإيمان لهم بعد طول عناد فشربوه على حقيقته ولم يكونوا كما باقي الشعوب تؤمن فقط خوفا أو طمعا, لقد أمنوا عن قناعة فاستحقوا الأمانة. ويستمر التوظيف اللغوي في التوراة فموسى اسم مركب من مو المياه, وسا المنتشل. أي الطفل المنتشل من الماء, أي هو رمز وليس اسم. و هذا الترميز ضرورة للبداية وللسياق لأنه, كما أنتشل من الماء, سوف ينتشل شعبه من الماء في العبور الكبير. وقصة مو سا هي قصة ملك أكاد العظيم سرجون الأول وواضع قانونها الأول الذي انتشلته الربة عشتار ربة الخصب من الماء وجعلته يكبر في بيت فرعون تحت رعاية الربة رع اله الرعاية والاحتضان والأمومة. هكذا وردت الرواية في المدونات المصرية القديمة ( 2300 ق.م). طبعا التفاصيل أكثر من هذا بكثير, والعلاقة بين الاسم وتفاصيل القصص العبرانية, والعبر المستقاة منها أوضح من هذه العجالة وربما تحتاج إلى مقال مستقل ولكنني, وكما أوضحت, احفز عقل القراء أملا أن يبحثوا في المصدر بأنفسهم (داود ويسوع بين التاريخ والتراث المشرقي ل ثوماس ثومبسون أستاذ دراسات الكتاب المقدس في جامعة كوبنهاغن بالدنمارك – ملاحظة الكتاب لا يقيم الربط مع القرآن ولا يتطرق له من قريب أو بعيد هو فقط يحلل القصص في التوراة كعمل أدبي ).
4- الاضطرابات اللغوية في القرآن :
المثال الأول : مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا " الكهف 5
الفاعل مرفوع دائما بيد أن الكلمة التي تقوم بفعل الخروج ( الفاعل المقدم ) من أفواههم قد جاءت منصوبة وقد حاول البعض تخريج الأمر عبر القول أن " كبرت كلمة " هي في أصلها " كبرت مقالتهم كلمة " - النحاس - لتصبح نصبا على البيان, وهذا التفسير يطرح سؤال : هل في القرآن زوائد ونواقص حتى يكون هناك كلمة ساقطة لتفسر الأمر؟.
ولا ننسى أن نذكر هنا أن الحسن ومجاهد ممن قال بوجوب رفعها تحاشيا للحرج وقرأت منهما على الرفع ولكنها وردت في مصحف عثمان الذي بقي بعد إحراق باقي المصاحف لذا أصر جمهور الفقهاء على نصبها والقول بسقوط كلمة مقالتهم وإعرابها على نصبا للبيان.
المثال الثاني : " ٱلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيۤ آيَاتِ ٱللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ٱللَّهِ وَعِندَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ يَطْبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُـلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ " غافر 35
وهذه لا تختلف عن تلك أبداً ، وللنحاس فيها تخريج مشابه حيث يقول [مَقْتاً ] على البيان أي كَبُرَ جدالُهُمْ مقتاً " .
ومثلها : " كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ " الصف 3
المثال الثالث : " لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا " النساء 162
لا يخفى على أحد أن المعطوف يتبع المعطوف عليه في الحركة ولكن في " و المقيمين " العطف جاء بالجر بالياء و النون مع أن " الراسخون " كانت مرفوعة بالواو والنون. حتى لا تضيع على القراء القصة دعوني أجزء الآية :
" الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ" - الراسخون مرفوعة لأنها مبتدأ-
"وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ " - المؤمنون معطوفة عليها وجاءت مرفوعة كذلك-
"وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ" هي موضوعنا فلنتركها الآن وسأعود لها بعد أن افصل لكم باقي الآية.
"وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ" - المؤتون معطوفة و مرفوعة بالواو والنون -
"وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ" - المؤمنون معطوفة ومرفوعة بالواو والنون -
"أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا " – وهي خبر المبتدأ الذي بدأ به الحديث "الرَّاسِخُونَ" -
ولنعد الآن إلى "وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ" لماذا جاءت منصوبة بالياء والنون وهي معطوفة كباقي ما تم عطفه على الراسخون ؟. أي خصوصية لغوية لها كي تنصب دونا عن باقي ما عطف رفعا في سياق الآية؟. خصوصا وأن ما جاء معطوفا سواء أكان سابقا أو لاحقا لها فهو قد ورد مرفوعا.
نحن لا ندري ، وكذلك أئمة اللغة ، فتجد لهم في هذه الآية تخبطاً ما بعده تخبط ، حتى وصلت أقوالهم في تعليل نصب كلمة "المقيمين" إلى ستة أقوال تبريرية لا تحمل صبغة علميا موضوعية، أرجحها عندهم أو, للدقة, أكثر ما شاع منها قول سيبويه. حيث ينقل القرطبي عنه في تفسيره و النحاس في إعرابه للقرآن والحلبي في الدر المصون أنه قال -أي سيبويه- أنها منصوبة على المدح . وتفسيره - أي سيبويه - :
"هذا باب ما ينصب على التعظيم ومن ذلك المقيمين الصلاة "
ومن باب الأمانة دعونا نستعرض ما قاله الحلبي في كتابه الشهير "الدر المصون في علم الكتاب المكنون" حول هذه الآية وأنا هنا أنقل نقلا حرفيا والتدخل سوف أضعه بين قوسين وبخط أحمر أصغر حجما كي يستقيم المعنى للقراء فيميزوا بين ما أقول وما أنا له ناقل :[... فأما قراءة الياء فقد اضطربت فيها أقوال النحاة ( لاحظوا كلمة اضطربت وأقيموا الصلة بينها وموقع الرجل كواحد من جهابذة اللغة وبين سطوة السيف وذكرى رؤوس المعترضين التي تطايرت وبين القول القرآني : وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم - إبراهيم 4 ), وفيها ستةُ أقوال، أظهرهما, وعزاه مكي لسيبويه، وأبو البقاء للبصريين, - أنه منصوبٌ على القطع، يعني المفيدَ للمدح كما في قطع النعوت، وهذا القطعُ مفيدٌ لبيان فضل الصلاة فَكَثُر الكلامُ في الوصفِ بأن جُعِل في جملة أخرى، إلخ ... " انتهى كلام الحلبي .
وقد اعتراض الطبري على تخريج سيبويه حيث قال في تفسيره :"وَأَمَّا مَنْ وَجَّهَ ذَلِكَ إِلَى النَّصْب عَلَى وَجْه الْمَدْح لِلرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْم وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَدْ يُحْتَمَل عَلَى بُعْد مِنْ كَلَام الْعَرَب لِمَا قَدْ ذَكَرْنَا قَبْل مِنْ الْعِلَّة , وَهُوَ أَنَّ الْعَرَب لَا تَعْدِل عَنْ إِعْرَاب الِاسْم الْمَنْعُوت بِنَعْتٍ فِي نَعْته إِلَّا بَعْد تَمَام خَبَره , وَكَلَام اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَفْصَح الْكَلَام , فَغَيْر جَائِز تَوْجِيهه إِلَّا إِلَى الَّذِي هُوَ بِهِ مِنْ الْفَصَاحَة".( والمعنى باختصار أن الجملة بدأت بمبتدأ هو "الراسخون في العلم" ثم عُطف عليه بالمؤمنين والذين يؤمنون بما أنزل على محمد وما أُنزل من قبله والمقيمين الصلاة والمؤتين الزكاة والمؤمنين بالله واليوم الآخر ، ثم ذكر الخبر و هو "أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا " ، ولا يكون النصب على المدح إلا بعد تمام الجملة حسب قوله ، أي لا يصح أن يكون لدينا مبتدأ وخبر و بينهما في الوسط منصوب على المدح ، بل مبتدأ وخبر ثم نصب على المدح فهذا جائز في لغة العرب حسب كلام الطبري ). انتهى كلام الحلبي.
ورسوخا في الأمانة سأنقل لكم جميع الآراء التي أثبتها النحاس في إعرابه للآية. يقول النحاس :وَٱلْمُقِيمِينَ ٱلصَّلاَةَ ، في نصبه ( نصبه, أي الأمر أو الموضوع, حيث ورد ذلك في سياق سابق للشاهد المقتطع, ولهذا تحدث عنه بصفة التذكير ) ستة أقوال. فسيبويه ينصبه على المدح. قال سيبويه: هذا باب ما ينصب على التعظيم ومن ذلك المقيمين الصلاة وانشد:
وَكُلُّ قَومٍ أَطاعُوا أَمرَ مُرشِدِهمْ * إِلاّ نُمَيرا أطاعَتْ أَمرَ غاويهَا
الظاعِنِينَ ولَمّا يُظْعِنُوا أَحَداً * والقائِلُونَ لِمَنْ دَارٌ نُخَلِّيها
وأنشد:
لا يَبْعَدَن قَومِي الذينَ هُمُ * سُمُّ العُداةِ وآفَةُ الجُزْرِ
النَّازلين بكـلّ مُعْتَرَكٍ * وَالطَّيِبُونَ مَعَاقِدَ الأُزْرِ
وهذا أصحّ ما قيل في المقيمين، وقال الكسائي: "وَٱلْمُقِيمِينَ" معطوف على "ما". قال أبو جعفر: وهذا بعيد لأن المعنى يكون ويؤمنون بالمقيمين، وحكى محمد بن جرير أنه قيل: إِن المقيمين هنا الملائكة عليهم السلام لدوامهم على الصلاة والتسبيح والاستغفار، واختار هذا القول، وحكى أنّ النصب على المدح بعيد لأن المدح إِنما يأتي بعد تمام الخبر وخبر "ٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ" في "أُوْلَـۤئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً" فلا ينتصب على المدح ولم يتم خبر الابتداء لأنه جعل "وَٱلْمُؤْتُونَ" عطفاً وجعل الخبر ما ذكر. ومذهب سيبويه غير ما قال، وقيل: والمقيمين عطف على الكاف التي في قبلك أي من قبلك ومن قبل المقيمين وقيل: "وَٱلْمُقِيمِينَ" عطف على الكاف التي في أولئك وقيل: هو معطوف على الهاء والميم أي منهم ومن المقيمين. وهذه الأجوبة الثلاثة لا تجوز لأن فيها عطفَ مُظهَر على مُضمَر مخفوض، والجواب السادس أن يكون و "ٱلْمُقِيمِينَ" عطفاً على قبلك ويكون المعنى ومن قبل المقيمين ثم أقام المقيمين مقام قبل كما قال {وسْئَل القريةَ} وقرأ سعيد بن جبير وعاصم الجحدري {وَٱلْمُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ} وكذا هو في حرف عبد الله بن مسعود فأما حرف أُبيّ فهو فيه {وَٱلْمُقِيمِينَ} كما في المصاحف ." َالْجَوَاب السَّادِس : مَا رُوِيَ أَنَّ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا سُئِلَتْ عَنْ هَذِهِ الْآيَة وَعَنْ قَوْله : " إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ " [ طَه : 63 ] , وَقَوْله : " وَالصَّابِئُونَ " فِي [ الْمَائِدَة : 69 ] , فَقَالَتْ لِلسَّائِلِ : يَا اِبْن أَخِي الْكُتَّاب أَخْطَئُوا . وَقَالَ أَبَان بْن عُثْمَان : كَانَ الْكَاتِب يُمْلَى عَلَيْهِ فَيَكْتُب فَكَتَبَ " لَكِنْ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ " ثُمَّ قَالَ لَهُ : مَا أَكْتُب ؟ فَقِيلَ لَهُ : اُكْتُبْ " وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاة " فَمِنْ ثَمَّ وَقَعَ هَذَا . قَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَهَذَا الْمَسْلَك بَاطِل ; لِأَنَّ الَّذِينَ جَمَعُوا الْكِتَابَ كَانُوا قُدْوَة فِي اللُّغَة , فَلَا يُظَنُّ بِهِمْ أَنَّهُمْ يُدْرِجُونَ فِي الْقُرْآن مَا لَمْ يُنْزَل . وَأَصَحّ هَذِهِ الْأَقْوَال قَوْل سِيبَوَيْهِ وَهُوَ قَوْل الْخَلِيل , وَقَوْل الْكِسَائِيّ هُوَ اِخْتِيَار الْقَفَّال وَالطَّبَرِيّ , وَاَللَّه أَعْلَم ." انتهى الاقتباس. لابد طبعا أن نتوقف عند قول عائشة : يا ابن أخي الكتاب أخطئوا, ولكنني لن أشرح أو أعلق بل سوف استشهد بشاهد من أهلها " حديث أخرجه عطاء قال‏:‏ أنزلت سورة الأنعام جميعاً ومعها سبعون ألف ملك) (الإتقان في علوم القرآن للسيوطي ) طبعا كي يحفظ ولا يلبس من الشيطان شيئا ولا تعليق لي بعد هذا. انتهى كلام النحاس.
طبعا " التخريجة " وقعت, ولكنني ادعوكم كي تحكموا على استقامة المعنى بعد هذه " التخريجة " ؟. فمن حقنا أن نتساءل, لماذا يخص " المقيمين الصلاة " بالمدح والتعظيم دونا عن باقي المذكورين بالصفات الحميدة في " الآية " ؟.
فهل هم أعظم وأرفع درجة من الذين يؤمنون بما أُنزل إلى محمد و ما أنزل من قبله ويؤمنون بالله و اليوم الآخر؟ . كما جاء في سياق الآية. ومنذ متى كانت إقامة الصلاة أعظم من الإيمان بالله و اليوم الآخر حتى تُخص بالمدح ؟. ألا يقولون أن بن سلول كان لا يصلي وفي نفس الآن يقولون أنه كان رأس المنافقين؟. أي أنه لا مانع منطقي من اجتماع الصلاة والنفاق في سلوك فرد. ولكن هل يقع الإيمان إلا في القلوب المطمئنة؟. فلماذا يكون المصلي أعظم شأنا من المؤمن فيخص بالمديح؟. أغلب الظن أن الرجال وقعوا بين ناريين, إن تركوا الياء والنون دون تخريجة كان القرآن غير صحيح إعرابا, وإن صححوا إعرابه سقط المعنى. في النهاية اتخذوا القرار الإعلامي الصحيح, فالسقطة اللغوية يتنبه إليها كل من عرف بالعطف, وما أكثرهم. أما المعنى فلن يتنبه إليه إلا من يحلل ويتفكر, وهؤلاء قلائل من جهة ويمكن السيطرة عليهم من جهة أخرى .
أتفهم سيبويه, فالرجل, وهو أعظم من أعرب في تاريخ اللغة العربية, لم يجد ما يقول. إما رأسه وإما كذبة بيضاء. لا حل وقد خرقت هذه الكلمة كل قواعد لغة العرب التي أفنى عمره في تقصّيها والبحث فيها .فهل تلومون مراسلي العربية والجزيرة اليوم وهم يقولون " هجومات "؟. المساكين ليس لهم سطوة تقطع فيها الرؤوس كي يخرج لهم سيبويه هجومات. فهو لو سأل وسيف مسلط إلى رقبته لما عجز. وهل كنتم ستعجزون؟.
المثال الرابع : " لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ " البقرة 177. يعلم القاصي والداني أن "ليس" من أخوات كان ، ترفع الأول ويسمى اسمها وتنصب الثاني ويسمى خبرها ، عكس "لكنّ" التي هي من أخوات إن ، و التي تنصب الأول ويسمى اسمها وترفع الثاني ويسمى خبرها ، وهذا معلوم للجميع منذ صفوف الابتدائية .لكن الغريب في الآية السابقة ، أن القرآن استعمل "ليس" و "لكنّ" مع كلمة "البرّ" وجعل الأخيرة منصوبة في الحالتين . وهذا يخالف كل ما نعرفه عن قواعد العربية .وهنا التفصيل.
نصب كلمة "البر" في "ولكنّ البرَّ" صحيح قواعدياً ولا غبار عليه ، لأنه " اسمها " المنصوب .
ولكن نصبها وهي اسم للفعل الناقص " ليس " فهذه الطامة الكبرى .
فالمفروض أن تكون "ليس البرُّ أن تولوا وجوهكم .... " بالرفع ، و قد استخدم القرآن "ليس" مع "البر" في آية أخرى في نفس السورة ، لكنه لم ينصب اسمها كما فعل هنا ، بل رفعه كما يجب أن يكون, حيث قال :
" يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ " البقرة 189
لاحظ التشابه الشديد بين الآيتين .
في الآيتين يقول "ليس البر" أن تفعلوا كذا
وفي الآيتين يقول "ولكن البر" من فعل كذا
فلماذا ينصب البرّ بعد ليس في الأولى 177 و يرفعها في الثانية 189 ؟
المثال الخامس : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ " البقرة62
هذه الآية مشهور الخلاف حولها ، فنصب الصابئين هنا لأنه إسم إن ، ولا غبار عليه ، لكنه - أي القرآن - يذكر الآية في موضعين آخرين ، فيقول :
"إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ " الحج 22
ويقول :
"إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ " المائدة 69
وكما ترون فقد رفع كلمة الصابئين رغم أنها معطوفة على منصوب ، و الدليل على ذلك هو آية البقرة 62 والحج 22.
المثال السادس : وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ " البقرة234
هذه الآية غريبة ، إذ تجده يبدأ الكلام بمبتدأ "الذين" ، ثم لا يعطيك خبره ، فأنت حين تستمع إلى أحد يقول :
"والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً " ثم يتوقف ، تجد نفسك تنتظر منه أن يخبرك ما بهم هؤلاء ، جرّب اقرأ الآية وتوقف بعد "أزواجا" تجد أن السامع يتوقع أن تحدّث عن المبتدأ بخبر ، و لكن المشكلة هنا أن الخبر يجيء جملة فعلية بصيغة التأنيث ، فهو يقول "يتربصن" ، و هذا لا يصح لغة ، فالخبر يوافق المبتدأ في الـانيث أو التذكير .
ولو أنه قال "واللاتي يتوفى عنهن أزواجهن ويذروهنّ يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً" لأصبحت الجملة مفهومة ووافق الخبر "يتربصن" المبتدأ "اللاتي" في تأنيثه .
سوف يقول قائل : ولكن جميعنا نعلم أن نبي الإسلام كان ضليعا في لغة قومه فلم سوف يقع في كل تلك الأخطاء ؟. السؤال مشروع. وبدوري ادعي أن لي معرفة لغوية تؤهلني كي أكتب مقالا, ومع هذا لو دققتم في النص ستجدون بعض الأخطاء. السبب أنني اكتب دون مراجعة أو استشارة. فاللغة العربية معقدة وبسيطة في آن. وهنا سوف يقول قائل ولكن لما لم يقع الشعراء في مثل خطأه؟. لأنهم بكل بساطة كانوا يكتبون وينقحون, ويعتنون بما يكتبون. وليس كل شعرهم كما تحاول المسلسلات أن تظهر ارتجالا, وغالبا ما كانوا يوظفون شعرا قالوه في لحظة ما مناسبة فتفهمه العامة ارتجالا. وكان منهم من يتدارس مع رفاقه ما يقول, فيصححون له, ولا يتحرجون من ذلك. ومن ذلك قول أمرى القيس لصاحبيه : قفا نبكي...الخ. لقد كان ينشد شعره في حضرة رجلين وبعد أن استقام المراد, معنا ولغة, نقله لباقي العرب ( الشعر الجاهلي – طه حسين ). في القرآن الوضع مختلف. هناك لحظة حاسمة يطلب فيها حكما في التو, وفي حالات كثيرة لا يكفي أن ينطلق الحكم من طلب النبي, إذ لابد وأن يأتي من " عليين " كي لا يثير أي نقاش أو اعتراض. ومن ذلك مثلا رفع حكم الجلد عن الزوج الذي يتهم زوجته بالزنا. فيما كان المعلوم به أن يجلد الزوج حتى يأتي بأربعة شهود, اتهم كبير من الأنصار زوجته " رأيت رجلا وقد تفخذها " . إنها لحظة حاسمة, فإن جلد الزوج, وهو كبير قومه, لم يعد يضمن ولائه, والزوج كان قبلا اعترض على الحكم وقال : اسأل لنا ربك أن يخفف عنا في ذلك, أتظنني أرى أم فلان ( زوجته ) وقد تفخذها رجل وسيفي حاضر وأبحث عن شهود, فغضب " النبي " من ذلك غضبا شديدا ثم صالح القوم بين الرجلين. اليوم الرجل في المأزق الذي تخوف منه, والنبي أيضا في مأزق من هذا المأزق, فإن يمضي وفقا للحكم القديم فسوق يقال أنه يحابي أكابر الناس على ضعفائهم, وسيرد تفصيل انتباهه للأمر في بيان مراسلاته مع بحيرة – عبس -, وإن أنفذ قوله القديم دخل في أزمة سياسية من الولاء والإخلاص هو في غنى عنها. فكان لابد من قرآن يلغي حجة أي رجل سبق أن جلد بنفس الحكم وهو من الضعفاء, فجاء القرآن من " عليين " . وقالوا في تبرير ذلك إن الله من شدة ما كان يحب كبير قومه هذا " سارع " بإرسال جبيريل كي لا يظلم مؤمن. وهنا نسأل لم ظلم بلال كل ذاك الظلم وجلد وعذب إن كان لله يسارع بإرسال ملائكته لإنقاذ المؤمنين من العذاب؟. ولم لا نرى الله " يسارع " في إرسال جبريل إلا في كلمة مرة كان الموضوع فيها رجلا من أكابر قومه؟. ما بال الضعفاء لا يتنبه لهم؟. هي تناقضات لا يرى فقهاء الدين حاجة لتبريرها لأن اللذين يتنبهون لها قلة ويمكن دائما التشهير بشخصهم وشرفهم, وإن صاروا مذهبا قيل أنهم من أصحاب الليلة السوداء التي تطفأ فيها الأنوار وتستحل فيها المحرمات, وهكذا يقيمون حائلا بينهم وبين عموم المسلمين فلا يستمع لهم وينكر عنهم كل فعل وقول.
6- التكرار والادعاء بالإعجاز العددي:
1- الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ" البقرة 22
وقد كرر كلمة السماء مرتين في جملة واحدة وهذا عند العرب ضعف, ولذا تستخدم الضمائر. فالأصح عند العرب أن يقول : "... فراشا والسماء بناء وأنزل منها ماء فأخرج ... ". ولاحظوا أنني قد قلت " وهذا عند العرب " في الجملة الأولى وعدت وقلت " فالأصح عند العرب " في الجملة الثانية, ويحق لي ذلك, وقد فصلت بين القولين بنقطة. أما في هذه الآية فلا نقطة تحُِلُ ما حل. المشكلة أنه عاد للتكرار في الآية 59 من نفس السورة ولكن لكلمة " ظلموا " وللقراء التوثق. فلو قلنا أن هذا هو بيانه ولكل خطيب بيان فإن ما يسقط ذلك أنه استخدم الضمير في قوله " فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ" الأعراف -162- لاحظوا " عليهم " هنا, فهو لم يقل فأرسلنا على اللذين ظلموا تكرارا, وعدم التكرار هو الصحيح.
2- وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ" المائدة 46 . لاحظوا تكراره لمصدقا و التوراة هدى.
3- إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا - وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا - الفرقان 70-71 . لاحظوا تكرار تاب و عمل وصالحا كمفردات ولا حاجة لأن نتطرق إلى الفرق في المعنى بين من "تاب وآمن وعمل عمل صالحا" في الآية 70 و بين "من تاب وعمل صالحا" حتى يبدل الله سيئات الأول حسنات و يصبح الثاني تائباً إلى الله متابا ؟. فالتكرار في المعنى واللفظ, وفي كلا الحالين لا تبرير سوى على طريقة سيبويه.

7- في المعنى والبلاغة :
بداية علينا أن نشرح ما هي البلاغة عند العرب . البلاغة مشتقة من كلمة بلغ ، أي وصل ، و هي تعني إيصال المعنى كاملاً ، و تنقسم إلى ثلاثة علوم هي :
أولها علم البيان، و هو يهتم بالصور الخيالية و العاطفة ، و سمي بعلم البيان لأنه يساعد على تبيين المعنى المراد باستخدام التشبيه و المجاز و الاستعارة ،
ثانيها علم المعاني ، و هو يهتم بالمعاني و الأفكار ، و يوفق ما بين التركيب اللغوي المختار و المعنى المراد إيصاله للقارئ أو المستمع ، و هو الذي يدرس الإيجاز و الإطناب و الوصل و الفصل ،
ثالثًها علم البديع ، و يختص بالصياغة ، و حسن التنسيق و اختيار اللفظ و قبل الجرجاني كان المشتغلون بالأدب كابن قتيبة يقولون في ثنائية اللفظ - المعنى ، " بل كانوا يقدمون اللفظ و حسن الصياغة على المعنى ". وسوف أعرض نصوصا من القرآن وأدقق بها وفقا لما سبق شرحه.
المثال الأول : فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ( 38 ) ".
لاحظوا أنه في الآية 36 يأمر الله آدم و حواء والشيطان بالهبوط إلى الأرض ، ثم يقول في الآية اللاحقة أنه تاب عليه ، ولكنه يعود بعد ذلك ، بعد أن تاب عليه ، يأمرهم بالهبوط "جميعا" مرة أخرى ، وهنا إشكالية مركبة .
الأولى في المعنى " فهل غضب على آدم مرة أخرى بعد أن أهبطه أول مرة ثم تاب عليه فقرر عليه الهبوط من جديد ؟. ولذا نسأل أين كان الهبوط الأول؟. وأين كان الهبوط الثاني؟. سنفترض برجاحة رأي عائشة القائل : "أخطأ الكتّاب".
الثانية في اللغة : فهو خاطب ادم وحواء والشيطان بـ " أهبطوا " و سبق له أن حدثنا, في نفس السياق, عن أدم وحواء بالمثني " فأزلهما الشيطان " ولكنه يعود مرة أخرى إلى لغة الجميع ويقول : فإما يأتينكم مني هدى, وهذا يبرز سؤال وجيه : هل كان الشيطان من الموعودين بالهدى حتى خوطب الثلاثة بالجمع؟. وعندها يحق لنا أن نسأل إن كان الشيطان ما يزال مستحقا لوعد الهدى أم لا؟. أم أنه خطأ لغوي حيث فات المخاطب أن يتنبه إلى المثنى والجمع في سياق العجالة وكَتَبْ من كَتَبْ ما كَتَبْ فما عاد مما كَتَبْ مخرج؟. وبين المثنى والجمع حقت كلمة ربك على أهل النحو والصرف في لغة العرب أن يتدبروا هذا الإعجاز اللغوي النادر, فينصرف سيبويه إلى تخريجة تبقي رأسه على كتفيه. أم نلقي التبعة على الكتاب كما قالت عائشة مرة. وهنا يحق لنا أن نسأل : ما دام الكتاب على مثل هذا الضعف في النقل, فهل ما نقل لنا هو القرآن الذي قال به محمد؟. هل يمكن لأحد أن يؤكد هذا ؟.
المثال الثاني : ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ -52-
وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ -53-
ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ -56-
لقد استخدم القرآن كلمة " لعل " في سورة البقرة وحدها حوالي 16 مرة ، و "لعل" كما يعرف الجميع هي حرف نصب مشبه بالفعل من أخوات إن تنصب الأول ويسمى إسمها وترفع الثاني ويسمى خبرها يفيد الترجي .
في هذه الآيات لا مشاكل نحوية في استخدام "لعل" ، لكن المشكلة في المعنى، فالله الذي هو علام الغيوب يعفو عن بني إسرائيل لعلّهم يشكرون ، أي يرجو منهم أن يشكروه ، لكنهم لم يشكروه ، كذلك في "لعلكم تهتدون" و إحياؤه لهم بعد موتهم لعلهم يشكرونه ، لكنهم لم يشكروه بدليل قوله في الآية اللاحقة "وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) " ، فلو كان الله فعلاً يعلم الغيب ، فلماذا يقوم بإحيائهم أملاً في أن ينال شكرهم ، وهو يعلم أنهم لن يشكروه ، ولكنه مع ذلك يأمل في شكرهم ويرتجيه ، وهذا أسلوب غريب أن ننسبه إلى الله الذي ندعي أنه يعلم كل شيء منذ الأزل.
المثال الثالث " استوى " :
*إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين} الاعراف 54
*إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون} يونس 3
*الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون} الرعد 2
*الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا} الفرقان59
*الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون} السجدة 4
*هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير} الحديد 4
هذا تعداد للآيات التي وردت فيها حادثة استواء الله على العرش بعد الخلق وهي جميعا يرد فيها الاستواء بعد الخلق مرتبا بحرف العطف ثم. الجميع ولا شك يعرف أن ثم حرف عطف على الترتيب. وكون القرآن معجزة لغوية فكان لابد ل " ثم " من ترتيب ما تعطف عليه. وقد سؤل هذا السؤال من العهود المبكرة " جلد عمر بن الخطاب أعرابيا سأل فيه فهل تصدقون " ولم يجد أحد حتى في الأحاديث النبوية شرحا للاستواء سوى التلاعب اللفظي الذي قالوا به وصاغوه في عبارة ينبهر لها سذج اللغة وفحواها " الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة " وهي مقولة نسبت لبن مالك وقيل أنها لغيره وفي كل الأحوال فإنها لا تجيب بشيء ولذا اطرح السؤال ممارسة للحق الطبيعي للعقل ورفضا لكل قيد يغلب السيف على المنطق. هل ثم جاءت لترتيب الزمن فالزمن كان قبل الخلق فالله من الزمن وليس بخارج عليه. أم أن ثم رتبت حال الله فالله لم يكن مستو ومن ثم استوى بعد الخلق فما كان حاله قبل الاستواء؟. أو أنها زائدة لا دلالة لها فهل في القرآن زيادات أخرى لا دلالة لها ؟. من حقنا أن نسأل.
8- في اعتراف العرب بإعجاز القرآن لغويا : ما من شك أن الطرف لا يكون شاهدا. ما لدينا من تعظيم وتبجيل عن اعتراف العرب من معاصري " نزول " القرآن بإعجازه اللغوي كله مما يصح فيه القول الشهير : التاريخ يكتبه المنتصرون . ولكنني فقط استعرض بعض الأسماء اللامعة من شعراء العرب الكبار اللذين شهدوا " نزول " القرآن ولم يسلموا وهم على ما كانوا عليه من حب للغة والشعر وهنا الأسماء :
الأعشى ت 7 هـ
دريد بن الصمة ت 8هـ
عامر بن الطفيل ت 11 هـ
عمرول بن معد يكرب والذي ارتد بعد وفاة محمد وتوفي 21هـ
امية بن أبي الصلت ت 5 هـ
قيس بن الخطيم ت 2 ق.هـ
ابن الزبعري والذي كان يهجو المسلمين بشعره ، لكنه أسلم يوم الفتح ، مع غيره من الطلقاء كأبي سفيان وابنه معاوية زوجته هند . بل حتى لبيد بن ربيعة العامري الذي أسلم كان من المؤلفة قلوبهم. أي أسلم بناء على اتفاق مالي مع نبي الإسلام, هذا الإيضاح لمن لا يعلم ما معنى المؤلفة قولبهم. إنهم ببساطة جماعة من مشاهير العرب دفع لهم نبي الإسلام كي يعلنوا إسلامهم وكان الوعد أن يرث بنوهم مخصصاتهم المالية ولكن عمر بن الخطاب في العام الثالث لتوليه الخلافة أوقف العمل بهذه السنة وقال : كان الإسلام ضعيفا واليوم قوي. ولن أنسى من هذا السرد الوليد بن المغيرة نفسه، الذي يقال انه شهد للقرآن بالإعجاز ولكن ليس لدرجة دخوله به. دعونا نتحرى القول المنقول عنه وفقا للمصدر الإسلامي . إذ أن القرآن نفسه يشهد على انه قال " إن هذا إلا قول البشر " فكيف يكتب الله في تحدي بن المغيرة وعدم اعترافه بسماوية الإسلام وفي نفس الوقت يستشهد به البعض أنه قال بالقرآن " معجزة " لغوية؟. وهل في جهنم والجنة عناد؟.
وهنا بعض النصوص القرآنية التي تؤكد أن القرآن كان محط استنكار من قبل من لهم باع في اللغة العربية وإلا لما توقف عند رأيهم ولما خصهم في نص يجيبهم به. إنه الله يتحدث!. فهل كان سوف يتحدث لولا أن القائل لا تشكيك بقدرته اللغوية بين قومه.
( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا إفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً وَزُوراً ) (الفرقان:4)
( وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) (الفرقان:5)
( (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) (النحل:103
( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ - لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ- ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ) (الحاقة44-46)
( لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) (النحل:103).
كما تلاحظون فإن الأمور وصلت في هذه الآية ( النحل : 103 ) إلى حد اتهام العرب بأنهم هم اللذين لا يعرفون لغتهم ( لسان الذي يلحدون إليه أعجمي ). فقد استخدم القرآن حجة أن بعض الكهنة الذين كان يمر بهم ويطيل الجلوس إليهم ليسوا من أهل البلاغة, وتاليا, وأنه يتوجب عليهم أن يميزوا بين أن يأتي القول من عربي قحيح وبين أن يأتي من هجن أو عجم. ولكن لا يخفى على أحد أن قريش كانت تتحدث عن الأمرين معا, اللغة والمعنى. على كل فإن هذه الآية تناقض بشكل جذري من حيث المقصد الآية التي تقول: " وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم " إبراهيم 4. ومن هذا التناقض يحق لنا أن نسأل هنا : هل نزل القرآن كي يظهر على العرب كمعجزة فيكون آية بيد نبيه ليهديهم به ؟. أم هو جاء ليعلم العرب أصول لغتهم وبلاغتها ؟. أم هي غضبة الانتقادات الشديدة التي دفعت إلى مثل هذا الاتهام الجارح؟. هل يعقل ألا يعرف العرب لغتهم؟. فلما لم ينزل القرآن بلسانهم الذي يلحدون به كي يتمكنوا من تدبره؟. جميعها أسئلة مشروعة.
وللالتفاف على هذه المعضلة فسر الفقهاء ومنهم "ابن هشام" الآية ( ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشرٌ، لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين) بأن قال, والنقل هنا حرفي "... وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فيما بلغني، كثيراً ما يجلس عند المرْوة إلى مبيعة غلام نصراني، يقال له جبر، عبد لِبَني الحَضرميَّ، وكانوا يقولون: والله ما يعلّم محمداً كثيراً مما يأتي به إلا جبر النصراني، غلام بني الحضرمي. فأنزلَ الله عزّ وجلّ في ذلك من قولهم: ولقد نعلم". انتهى الاقتباس.
وروي عن "عبد الله بن مسلم الحضرمي" انه " قال: كان لنا عبدان, أحدهما يقال له يسار، والأخر يقال له جبر. وكانا صيقلين، فكانا يقرآن كتابهما ويعملان عملهما. وكان رسول الله يمرّ بهما فيسمع قراءتهما. فقالوا: إنما يتعلم منهما. فنزلت: ولقد نعلم انهم يقولون.وأشير إلى غلام آخر كان بمكة، اسمه "بلعام"، وكان قيناً، ذكر إن الرسول كان يدخل عليه ويخرج من عنده، فقالوا انه كان يتعلم منه. وقيل إن ذلك الرجل الذي قال أهل مكة إن الرسول كان يتعلم منه، اسمه "أبو اليسر"، وكان نصرانياً (تاريخ العرب قبل الإسلام – د. جواد علي ص 412 ).
في كلا الحالين نحن أمام معضلة. فهو قد أنكر على العرب لغتهم أو هو كان على تواصل مع بعض من يعلمون بأمور الأديان من غير العرب مما يجعلنا أمام شك من أنه كان أميا لا يعلم عن تاريخ الشعوب والأديان شيئا. الأسئلة كثيرة ولكن نكتفي بما سبق.
9- في أن القرآن ذو بناء لغوي متفرد ( هو شعر وليس بشعر ) : أضع بين أيدكم نصا لقس بن ساعدة الإيادي ، أي أنه سابق على القرآن, ومع ذلك, فقوله ليس بالقصيدة المنظومة ولا بالكلام الدارج من النثر, بل هو ذو بناء لغوي مشابه للقرآن ( هو شعر وليس بشعر ) يقول بن ساعادة الإيادي : " ... اسمعوا وعوا**إن من عاش مات** ومن مات فات** وكل ما هو آت آت** ليل داج** ونهار ساج** وسماء ذات أبراج** إن في الأرض لعبرا** وإن في السماء لخبرا** أقسم قس قسما حتما** لئن كان في الأرض رضا ليكونن بعد سخطا** بل إن لله دينا هو أحب إليه من دينكم** بل هو المعبود الواحد** ليس بمولود ولا والد** أعاد وأبدى** وإليه المآب غدا... ). ودائما على القراء الكرام أن يتذكروا أن ما بين أيدينا هو ما أمكن أن ينجو من مذابح الكتب والمراجع والتي مارسها التاريخ الإسلامي على ما شابه القرآن منعا " للشبهة " . ومن المفيد أن أنبه أن قس بن ساعدة الإيادي كان نصرانيا وعين من القيصر كبطرق لمكة وتوفي سنة 600م وهي أخبار تطمرها المصادر المؤدلجة ( الازرقي: أثار مكة وما جاء بها من أخبار حيث يتحدث عن رسوم كنسية كانت على الكعبة إلى جانب تماثيل اللات والعزة ).
10- في فرادة القرآن عن الحديث النبوي : النص المعجز هو الذي لا يحدث فيه لبس و يختلط بكلام من غيره، ذلك أنه لا يمكن أن يشبه غيره في شيء, لا من قريب و لا من بعيد ، إنه معجز, ولو التبس بغيره لكان غيره معجز مثله، أو كان هو غير معجز. فالمتلقي البليغ إن لم يميز بينه و بين غيره إنما يستدل من عدم تميزه بعدم إعجاز النص لا نقص بلاغة المتلقي، لأن المتلقي كثير والنص واحد. فلو البس الإعجاز على احد البلغاء أو اثنين منهم ممن لا يطال الشك بلاغتهم فما بال الكثير الباقي ؟. هذا الإيضاح لا يتفق وهذين الحديثين :
1- لا تكتبوا عني غير القرآن فمن كتب عني غير القرآن فليمحوه. مسند من أحمد وصححه مسلم
2- دخل زيد بن ثابت على الخليفة معاوية، فسأله عن حديث فأمر إنساناً يكتبه، فقال له زيد: إنّ رسول اللّه أمرنا أن لا نكتب شيئاً من حديثه فمحاه. سنن أبي داوود و ذكره أحمد في مسنده أيضًا.
هذان الحديثان لا ينكرهما أهل السنة و لكنهم يبررون المنع بحجة عدم اختلاط القرآن بالحديث ، أما الآن و قد استقر القرآن في القلوب فلا حاجة للمنع ، وهنا يبرز السؤال : لقد جاء المنع على لسان النبي في عصر البلاغة الأول لا في عصر اللحن التالي لكي يقال أنه اليوم استقر في القلوب, فكيف يختلط الحديث بالقرآن إذا كان القرآن معجز و الحديث غير معجز ؟ فلو قلنا أن مصدر الفكرة في الحديث والقرآن هو ( وحي يوحى ) فإن البناء اللغوي في القرآن لـ " الله " والبناء اللغوي في الحديث لـ " نبيه " فهل يستقيم لعاقل أن يكتب نبي بمثل بلاغة ربه ؟. ألم يقل عمر والله ما هذا بكلام بشر وخر ساجدا, والعرب أهل بلاغة فكيف كان سوف يشكل عليهم أن يميزوا بين الحديث والقرآن ؟. ولو قالوا انه لسمو القرآن على الحديث في الحكم والإسناد للبيان, فلم تأخذون بالحديث اليوم في الحكم والإسناد للبيان؟. إن كان مقصد الحديثين إسقاط المرجعية عن الحديث فقد ظللتم الطريق وانتم به تحتكمون, وإن كان مقصد الحديث الإشكال اللغوي فقد قلتم بتشابه القولين وفي هذا ما فيه من الدلالة على وحدة المصدر. وفي كلا الحالين لستم بمحل ثقة في حكمكم وإسنادكم.
فلو كان القرآن أنزل بلسانٍ عربي مبين ، كما وصف نفسه في سورة الشعراء حيث قال [ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ (195) ] لو كان القرآن فعلاً قد نزل بلسان عربيّ مبين ، فلماذا تضطرب (استعارة من الحلبي - الدر المصون في علم الكتاب المكنون) فيه أقوال أهل اللغة من وجهابذة النحو إلى هذه الدرجة ؟ الم يقل القرآن : وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) -النحل:103- أولم يقل : " إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون " يوسف 2 فكيف سوف يعقله القوم وهو غير مبين؟. وكذلك قال : قرآنا عربيا غير ذى عوج لعلهم يتقون " الزمر 28 ثم ألم يقل : " وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم " إبراهيم 4. ها هم القوم وهم جهابذة اللغة وبعد قرون من " نزوله " ولم يتسنى لهم أن يفكوا طلاسم الأخطاء اللغوية, فكيف سوف يبين لهم؟. اللهم إلا بسطوة السيف. وطبعا لو أردت التوسع في هذا الباب لوجب أن أعرج على العاديات والقادحات وما في المعاني المائجات وأحلل ما فيهن من ميولات, على لسان أهل العربية والجزيرة, بنفس الطريقة ولكن ما سبق هو فقط للتنبيه ليس إلا.
11- في أن القرآن محفوظ ولم بمس ( إنا نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) : وهذا الباب اطرقه من مدخلين :
أ - هل ما بين أيدينا هو القرآن الأول؟. لا حاجة للتذكير أن القرآن الذي بين يدينا هو النسخة المعتمدة من عثمان بن عفان بعد أن اشتد الخلاف بين الصحابة, كل معتد بما لديه من النص, ويطالب به مرجعا, فأحرق عثمان ببعد مداولات باقي النسخ واعتمد هذه النسخة وأعاد نسخها وبعثها للأمصار من الشام والعراق ومصر واليمن وأمر الولاة أن يحرقوا كل ما هو مخالف وأن يعيدوا نسخ هذا المخطوط الجديد ويوزعه على أرجاء ممالكهم . وما تزال إلي اليوم بعض الشواهد قائمة كقول القرآن " الدين عند الله الإسلام " في حين أن مصادر أخرى تقول بها على نحو : الدين عند الله الحنفية . ذلك أن الآية " نزلت " قبل أن يتخير للإسلام نهج مستقل وقبل أن يقال فيه دين مستقل فهو قد كان امتداد لمذهب أبيوني, كما سوف يرد معنا لاحقا, ثم عدت هذه الآية بما بتطلبه الأمر حين أوجد بعض البحاث العلاقة بين الإسلام والأبيونية فكان لابد من تغير هذه الكلمة قطعا للشك. والسؤال : هل كلام الله قابل للتغير والتعديل؟. لقد قبلنا على مضض ما يقال فيها " نسخ الآية " تحت بند تدرج الأحكام, أما تنقيح كلام الله فهذه لعمري شديدة الوطأة. هل دين الله شعر كي يتنبه الشاعر إلى خروج لفظ عن مراده فينقح ويعيد التركيب؟.
ب - هل هو كامل النص الأصلي؟. "قال أبوعبيد‏:‏ حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال‏:‏ ليقولن أحدكم قد أخذت القرآن كله وما يدريه ما كله قد ذهب قرآن كثير ولكن ليقل قد أخذت منه ما ظهر‏.‏ " ( السيوطي-الإتقان في علوم القرآن ) طبعا أرجو ألا يغيب عن القراء الكرام أن إيراد هذا الحديث كان من ضمن ما كان شائعا من صنعة المبالغة التي تعجب العامة, كما سيرد شرحه عن لسان طه حسين, ولما أثار ما أثار من أقاويل لم يكن الرواة و الشراح قد تنبهوا لها عمدوا إلى طمسه رغم صحة إسناده في نصوص هم الأولى.



#حسام_مطلق (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الاسلام في التفكيك والتركيب - مقدمة
- اخوان القردة
- الدماغ رحلة 300 مليون سنة من التطور
- تزامن المسارات : الخيار الإستراتيجي الذي غير التاريخ
- سباق بين بورش وديزل
- جنس - حب - ارتباط
- المثلية الجنسية - حدد جنسك ذاتيا
- آليات خلق الجماعات الدينية - الصلاة كمثال
- الفاتيكان والقضية الفلسطينية موقف و دور
- مختارات من اقوال الحكماء
- ليلاي
- بلاغ الى السيد رئيس الجمهورية : ديمقراطية فشنك
- قصص الوفاء
- عذراء الأمس
- الشذوذ الجنسي في ضوء الحقائق العلمية
- كيف ظهرت القبلة
- نقاش عن العلمانية والاسلام في الكرسيتان ساينز مونيتور
- ِشرفاء وشرفاء
- العراق بين المحدد والمفهوم: هل نبحث عن العراق ام العراقي؟.
- المرأة ونظرية الإغتصاب


المزيد.....




- صابرين الروح.. وفاة الرضيعة التي خطفت أنظار العالم بإخراجها ...
- مشاهد مستفزة من اقتحام مئات المستوطنين اليهود للمسجد الأقصى ...
- تحقيق: -فرنسا لا تريدنا-.. فرنسيون مسلمون يختارون الرحيل!
- الفصح اليهودي.. جنود احتياط ونازحون ينضمون لقوائم المحتاجين ...
- مستوطنون يقتحمون مدنا بالضفة في عيد الفصح اليهودي بحماية الج ...
- حكومة نتنياهو تطلب تمديدا جديدا لمهلة تجنيد اليهود المتشددين ...
- قطر.. استمرار ضجة تصريحات عيسى النصر عن اليهود و-قتل الأنبيا ...
- العجل الذهبي و-سفر الخروج- من الصهيونية.. هل تكتب نعومي كلاي ...
- مجلس الأوقاف بالقدس يحذر من تعاظم المخاوف تجاه المسجد الأقصى ...
- مصلون يهود عند حائط البراق في ثالث أيام عيد الفصح


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - حسام مطلق - الاسلام في التفكيك والتركيب - الجزء الثاني ( في اللغة و الاضطرابات اللغوية )