علي عبد الرحيم صالح
الحوار المتمدن-العدد: 2110 - 2007 / 11 / 25 - 11:42
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
علي عبد الرحيم صالح / جامعة القادسية
لكل إنسان في الوجود ذات مميزة متفردة تحاول أن تدرك سر وجودها و سر العالم الذي خلق من أجلها ، فالذات عبارة عن كيان خاص ينفرد بإطار معين من المفاهيم و الآراء و المعتقدات و الأفكار و المشاعر ،و وعي خاص تحاول به التكيف مع البيئة التي وجدت فيها ، و يتم هذا التكيف من خلال أنماط و أساليب سلوكية تتفاعل بها في محاولة لأن تشبع حاجاتها و أن تحقق رغباتها و تطور من إمكانياتها و قدراتها الخاصة ، وصولا ً الى تحقيق الهدف الأسمى في الوجود و هو ( تحقيق الذات ) . فالإنسان بطبيعته كائن جوهري لديه استعدادات عصبية فطرية جهز بها لتساعده على التكيف في البيئة التي يعيش فيها ، من سمات هذا التكيف هو توافق الإنسان مع محيطه بما فيه من أشياء موجودة لظواهر طبيعية و كائنات حية و أشجار و بنايات ...الخ من فضاء الكون الواسع ، فمن ضمن ما يتوافق معه الإنسان هو أخيه الإنسان ، بدمه و لحمه و مشاعره ، مدفوعا ً بذلك من حاجاته النفس ــ اجتماعية ، و هي الحاجة إلى الآخر ، إلى الطمأنينة و الاستقرار، إلى الاحترام و التقدير ،إلى توكيد الذات ،أذاً فالذات فاعلة منفعلة مع الآخرين مع البيئة مع محيطها الخاص ، و من دون الاهتمام الاجتماعي ستصبح الذات ناقصة التفاعل ، لأن جوهر الاهتمام الاجتماعي : الذي هو الرغبة في الاحتفاظ بعلاقة قائمة على الحب و الصداقة ( شلبي و فيروف ) و من دون الحب و الصداقة ستعاني الذات الاضطراب و الانعزال .
الاهتمام الاجتماعي كما يراه علم النفس
لا يستطيع أي شخص أن ينفصل كليا ً عن الناس الآخرين و عن الالتزامات نحوهم ، فمنذ العصور الأولى تجمع الناس مع بعضهم على شكل عائلات و قبائل و شعوب ، و هي تجمعات أساسية لا غنى للإنسان عنها ، إذ يجب على الفرد أن يتعاون و أن يكون معطاء للمجتمع من أجل أن يحقق كلا ً من أهدافه و أهداف مجتمعه ، هذا التعاون هو ما عناه (أدلر )عالم النفس الفردي بالاهتمام الاجتماعي ، كذلك ينظر (هايدغر) الى الاهتمام الاجتماعي برؤية مميزة للعلاقات الإنسانية بقوله ( أن الآخر ينطرح أمامي و يشكلني ، و بما أنه كائن من أجلي و أني كائن من أجله ، فالمسألة هي الاعتراف المتبادل بوعي قائم أمام وعي الآخرين )، فيما يرى عالم نفس أخر و هو أريك فروم إلى الاهتمام الاجتماعي بزاوية نفسية أخرى ترى ( أن الاهتمام الاجتماعي هو أشد أنواع الحب ، الذي يتضمن جميع أنواع الحب ، و أقصد بهذا الشعور بالمسئولية ، و الرعاية ، و الاحترام ، و المعرفة إزاء أي كائن أنساني أخر ، و الرغبة في تطوير حياته ) ، في حين حدد أبراهام ماسلو الاهتمام الاجتماعي باعتباره سمة من سمات الشخص المحقق لذاته ، لما يملك من عاطفة و فهم و تقبل لنفسه و للطبيعة البشرية بصورة عامة .
كيف ينشأ الاهتمام الاجتماعي
تختلف الآراء و الأفكار حول نشأة و تطور الاهتمام الاجتماعي ، فمنهم من يرى أن الاهتمام الاجتماعي فطري ، و أن الإنسان مخلوق اجتماعي بطبيعته ، و ليس بحكم العادة ، و لكن هذا الاستعداد الفطري شأنه شأن أي قدرة طبيعية ، لا يظهر تلقائيا و أنما يثمر بالتوجيه و التدريب ، لأن الشخص يعيش منذ يومه الأول لحياته داخل السياق الاجتماعي ، و يفصح التعاون عن نفسه في العلاقة بين الطفل و أمه ، و من ثم يدخل في شبكة من العلاقات الشخصية المتبادلة لتشكل الشخصية ، و من المدعمين لهذا الرأي عالم النفس ( أدلر ) . في حين هناك فريق أخر من علماء النفس يخالفون هذا الرأي ، حيث يرون في نشأة الاهتمام الاجتماعي السلوك المكتسب من البيئة المحيطة ، فالطفل يكتسب سلوكه الاجتماعي من خلال التقليد و المحاكاة و التعزيز من والديه ، ثم يعمم هذا السلوك الى الأخوة و الأقارب و الأصدقاء و من ثم إلى أفراد الجماعة .
و بغض النظر عن نشأة الاهتمام الاجتماعي فهو سلوك يعتمد على المناخ النفسي الذي يتواجد فيه الفرد ، فمن شأن المناخ النفسي الذي يشبع في الجماعة أن يحور مدى دقة الأدراك الاجتماعي للاهتمام ، وذلك بناء على تكوين حالة إدراكية معينة تلون سلوك الفرد في تفاعله مع أبناء الجماعة . ( 1 )
معتمدا ً في ذلك على عمليات التفاعل بين الأفراد ، فالاهتمام الاجتماعي عملية تتوقف على استعدادات الأفراد و العوامل الموقفية التي تؤدي إلى عملية التفاعل ، فهو قد يكون قائم على حب أصيل في الأعماق للشخص الأخر أو قد يكون ناجم عن الرغبة في الحصول على فوائد تعود من الشخص الآخر ( 2 ) . كما تتوقف درجة الاهتمام الاجتماعي حسب متغير العمر و الجنس و المركز و نوع العمل ، فنحن نهتم بالأشخاص الأكفاء و الجذابون جسميا ً ، و الذين يحبوننا ، من يعيشون بجوارنا ، من لهم اتجاهات مشابهة لنا ، من يكملون احتياجاتنا .
كيف نعبر عن اهتمامنا الاجتماعي
لكل شخص طريقة مميزة في التعبير عن احتياجاته و رغباته و اتجاهاته و اهتماماته، فمن الطرق التي نعبر بها عن أفكارنا و مشاعرنا هي : ـــ
1 . نظرات العيون : تلعب العيون دورا مهما في عمليات التفاعل و التأثير و الاتصال و الجاذبية و التعبير و الأغراء ، و تؤدي وظائف هامة في بناء الروابط ، فتركيز النظر على الآخرين يقوي التفاعل و يشعر الآخرين بالاحترام و الانتباه لأحاديثهم ، و هو يتوقف على نوعية الموقف .
2 . إرهاف الحساسية لمشاعر الآخرين : أن حساسية الفرد إزاء حاجات الأخرين فن لأصول العلاقات الإنسانية ، يكتسبه الفرد من خلال التفاعلات الاتصالية مع الآخرين ، و هو يستلزم حسن الأصغاء و التفطن إلى المعاني الكامنة للكلام و الوعي بالمشاعر المتضمنة ( 2 ) راجع مقال نظائر اللغة في العدد الثامن .
3 . وضعية الجسم و تعبيرات الوجه : تقوم وضعية الجسم من خلال الحركات الانعكاسية و الغير انعكاسية من جزء الجسم أو بأكمله ، حيث يمكن من خلالها إيصال رسائل ايجابية إلى الشخص بأننا مهتمون و نعكس له مشاعر من الألفة و المودة و الحب . أما تعبيرات الوجه فهي لا تقل دلالة عن وضعية الجسم في إيصال الرسائل الايجابية ، فالابتسامة و حركة الجبين و الحاجبان و حركة الفم يمكن أن تعكس للآخرين مشاعر من الدفء و الصداقة و المحبة و الرغبة في الاستماع و الانتباه .
الاهتمام الاجتماعي و السلوك المرضي
ليس من الغريب أن نوصف أحيانا الاهتمام الاجتماعي بالسلوك المرضي ، فالشخص الذي يولي أو يكرس اهتمامه الى الآخرين بشغف و بقوة كبيرة و بصورة تخرج عن نطاق المعقول و ينسى نفسه، يعتبر سلوك مرضي عصابي ، حاله حال الشخص المتمركز حول ذاته ، المنشغل بالاهتمامات الذاتية إلى الحد الذي يصبح معه الشخص غير حساس بمصلحة و حقوق الآخرين
الفرد العراقي بين الاهتمام الاجتماعي و الانعزال الانفعالي
( الانعزال الانفعالي: هو عدم القدرة على تقديم التأييد الانفعالي اللازم لتكوين العلاقات و تدعيمها )
نحن نعلم جيدا ً أن الوضع الراهن الذي نعيشه وضع مأساوي و قهري ، لا تتوفر فيه أسباب الراحة و الرفاهية و وسائل الأشباع الكافي ( البيولوجي ، و النفس ـــ اجتماعي ) فالفرد العراقي تحول إلى كائن مغترب في جماعته ، ومحبط ، وعدائي ، ومرهق ، وخائف غير مطمئن ، ومكتئب ، وعاجز عن تغيير ظروفه و إشباع احتياجاته الأساسية .
و كل شخص أذا تعرض إلى مثل هذه المثيرات السلبية فأنه سيتجه اتجاهين ، الأول : يصبح كائن خائف و حذر في أقامة علاقاته الاجتماعية مع الآخرين ، و هو بذلك يقل اهتمامه الاجتماعي و تقل علاقاته ، و لكن يبقى محافظا ً على ديمومة ذاته و تفاعلها و الحفاظ على صحته النفسية ، أما الاتجاه الثاني : فسينحو هذا الكائن ليصبح إنسان سلبي مضطرب انعزالي يسوده التفكك و التشتت و انحراف الصحة النفسية ، ليضطرب اهتمامه الاجتماعي و يعزل نفسه بعيدا ً عن الآخرين ـ متمركزا ً حول نفسه ـ منشغلا بذاته ،التي سادها التوتر و القلق .
#علي_عبد_الرحيم_صالح (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟