علي عبد الرحيم صالح
الحوار المتمدن-العدد: 2100 - 2007 / 11 / 15 - 11:32
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
يعتبر السلوك الجوهر الطبيعي لتعبير الإنسان عما في داخله من أفكار و أراء و معلومات و مشاعر ، يكنها لنفسه أولا ً ( من خلال وجهة نظره لذاته ) ، و للآخرين من خلال إشكال التفاعل الاجتماعي مختلفة ثانيا ، و الإنسان بذلك يعتبر مخلوق ايجابي ، اجتماعي بالطبع ، له من المعرفة و المشاعر و الأحاسيس ما تمكنه من العيش و التواصل مع محيطه الخاص ، و هو بذلك ينحي في مسارات التواصل الطبيعي ، ليساعد نفسه للوصول إلى سبر غور حاجاته و رغباته و إمكاناته و قدراته ، لأن يعمل و يبدع و يجد ذاته و يحققها ، و في هذا كله يجري الإنسان في دائرة من التفاعل الاجتماعي المستمر مع الآخرين . و لكن أحيانا نجد بعض الكائنات الإنسانية قد تتخذ من نفسها اتجاه ً أخر ، اتجاه من الانغلاق و العزلة المؤلمة ، معبرة عن مشاعرها السلبية ، اتجاه ذاتها و الآخرين ، لتجد نفسها في دوامة من العجز و الصراع و الحصر ، مع أفكارها المتضاربة و مشاعرها المحبطة ، لتلجأ إلى الابتعاد عمن حولها ، متخذة من نفسها قوقعة حصينة منطوية على مشاعر من الحزن ، و اليأس ، و عدم المبالاة ، لما يجري حولها ، غارقة في تفكير مظلم ، لا تشعر بالزمن الذي يجري أمامها ، سوى أنه زمن طويل جدا ً ، لمتاهة لا تنتهي ألا بانتهاء حياتها ، و انقضاء أجلها . هنا نجد إن الوحدة الأليمة قد انبثقت من الذات الآنسانية ، و أصبحت تنمو في كينونتها الداخلية ، إلى الحد الذي قضت في ذلك على مشاعر الحب و المودة إلى الآخرين ، لتمنع نفسها من التواصل و سبل التفاهم ، و حب العيش و رغبة البقاء (.يا غربة الروح في دنيا من الحَجَر ِو الثلج و القار و الفولاذ و الضجر ِ..يا غربة الروح ِ ... لا شمس فائتلق ُفيها و لا أفق )ُ ( السياب )أذا الشعور بالوحدة شعور مشترك بين القلق و اليأس ، و الاكتئاب و انعدام الثقة ، شعور قائم على ضعف العلاقات الإنسانية و تقلصها ، و تقوقع الشخص حول ذاته في خيبة أمل ، و عجز عن التحكم في أمور الحياة .
و جهة نظر علماء النفس حول مفهوم الشعور بالوحدة
يرى أريكسون أن الوحدة هي الإحساس بالفشل ، في الوصول بنجاح الى تكوين علاقات صداقة حميمة مع الآخرين ، ليحاول خلالها الإنسان الاندماج معهم ، و يؤدي ذلك الى الانغماس في الذات ، و الركود و ضعف الانطلاق ، و انخفاض الإبداع ، و الشعور بالألم. في حين ترى هورناي أن الشعور بالوحدة في حد ذاتها ليست حاجة عصابية في ظهرها العابر في الحياة اليومية ، و لكن ما يجعلها حاجة عصابية ، هي المواصلة المستمرة و الشديدة لأشباعها كطريقة وحيدة لئن يحمي الفرد نفسه من مشاعر الرفض و عدم القبول و الفشل. أما رايس فيشاهد أن مشاعر الوحدة قد تكون مشاعر ناجمة عن سوء الفهم التواصلي للفرد ذاته أتجاه الآخرين ، خاصة عندما يكون الفرد متمركزا ً حول ذاته ، أذ يصعب على طرفي العلاقة التي يكون أحداها متمركزا ً حول ذاته من فهم شخصية الأخر ، الأمر الذ يقود الى تعثر العلاقة بينهما ، و هو بذلك ــ أي الشخص المتمركز ــ معرض الى أية مشاعر من الرفض و عدم القبول ، و فرض حكم الوحدة بعيدا عن الآخرين.و هذا ما يؤكده سوليفان في الوحدة هي اضطراب علاقة الفرد بالآخرين ، فالفرد الذي يستمر في التواصل الناقص ، من خلال استمراره على استعمال لغة حياتية ذات مضامين شخصية أكثر منها أداة ذات معني متفق عليها اجتماعيا ، فهي طريقة و لغة تتضمن تشويها للحقيقة الإنسانية. أما ماسلو فيرى أن الوحدة هي النتيجة المتوقعة من عدم قدرة الفرد على إشباع حاجته للحب و الأحترام ، التي أن أشبعها شعر بالثقة و القوة و الكفاءة ، و أن أخفق في إشباعها ، فأنه سوف يشعر بالنقص و الضعف و العجز و الأحباط و الوحدة. و أخيرا ً ينظر رولو مي الى الوحدة بأنها شعور يأتي من إحساسنا بالعجز ، و هذا العجز يأتينا عندما تبدو الحوادث خارج سيطرتنا ، و أننا غير قادرين على توجيه حياتنا الخاصة أو التأثير في الآخرين ، أو تغيير العالم المحيط بنا ، نتيجة لذلك نحن نميل لأن نشعر بأحساس عميق باليأس و اللاجدوى ، و بالتالي أذا ما رأينا أن أفعالنا لا تعني شيئا ً ، فأننا سنتوقف أو نتخلى عن الرغبة و الإحساس ، و سنكون غير مبالين ، و سنعاني بصمت ، و سنصبح أكثر عزلة و انفصالا ً.
هل الشعور بالوحدة ، شعور طبيعي ؟ أم شعور مرضي مفروض ؟
من منا لم يشعر في قرارات نفسه ، بحاجة أو رغبة ماسة الى الوحدة و العزلة بعيدا ً عن الناس المحيطين ، في حاجة من الهدوء و الاسترخاء و الصفاء ، مستهدفين في ذلك ، الحصول على أكبر قدر ممكن من الحرية الشخصية ، من أجل أن ننظم تسلسل أفكارنا ، و أن نشعر بهدوء و نقاء أنفسنا ، هاربين من مشاكل الحياة ، و صعابها و متاعبها المستمرة ، هذا الشعور الذي نحتاجه أنما هو شعور طبيعي ، ذو استعداد فطري ، ينمو لدي أي كائن أنساني في هذا الوجود ، ، فنحن حينما تشتد علينا أزمات الحياة و مشاكلها المختلفة ، لا نكون ألا و نحن في حاجة ضرورية لئن نعيد ترتيب أوراقنا من جديد ، لنصبح أكثر فعالية و قابلية و مرونة للتكيف مع ما يواجهنا من مثيرات جديدة ، و مستمرة . قد يكون هذا الشعور هو جزء بسيط و سليم نفسيا ً من شعورنا و احتياجنا الى الوحدة ، أو لنقل أنه أحد أنواع الوحدة ، لكن بالرغم من احتياج الإنسان الى الوحدة قد يكون هذا الاحتياج ، احتياج سلبي ، مرضي ، يفرض علينا من قبل البيئة من ضمنها الكائن الإنساني الأخر ، و الوراثة ، فهو قد ينشأ من : ـــ
1 . غياب المعززات الايجابية في الحياة ، مثل موت أحد أفراد العائلة ( خاصة الأب و الأم ) ، الفراق و الانفصال بين الأحبة ، الطلاق بين الأزواج ، فقدان الصحة ( خاصة الإصابة بأحد الأمراض الجسمية المعيبة و المزمنة ) ، الإفلاس ...الخ فغياب المدعمات الايجابية (احد افراد العائلة ، الصحة ، الحبيب ، خسارة الزوج ) قد يقود الفرد الى الانعزال و الوحدة .
2 . نلجأ الى الوحدة عندما يرفضنا الأحر رفضا تاما أو جزئيا ، بسبب اختلاف حاجاتنا ، و رغباتنا ، و ديننا ، و اتجاهاتنا ، و ديننا ، و قوميتنا ، و عنصر سلالتنا أو شعارنا الوطني ، و غالبا ً ما يتواجد هذا الرفض بين الجماعات المتنازعة ( التعصب مثلا ) ، و يعمم هذا الرفض من جوهر الجماعة إلى أفرادها ، مثل رفض البيض للسود ، أو الهندوس و اليهود للمسلمين .
3 . ينشأ الشعور بالوحدة لدى الفرد عندما تضطرب صحته النفسية ، و تختل شخصيته ، و يظهر هذا في الأمراض النفسية و الذهانية مثل الاكتئاب و الفصام ... الخ .
و بغض النظر عما طرح سابقا ً فأن الوحدة تنشأ حسب تعبير أريك فروم ، من بيئتنا الاجتماعية و الثقافية ، التي ترجع في جذورها الى العلاقات بين الإباء و الأبناء ، و الى القوى الاجتماعية و الاقتصادية و العوامل السياسية داخل المجتمع ، فهذ القوى المتنوعة هي المسئولة الى حد كبير عن كبح و أعاقة النمو النفسي الشخصي ، عن طريق ضعف الفرد التي تجعل منه كابتا ً لحاجات الحب و الانتماء ، و أن ينظر الى الآخرين على أن وجودهم تهديدا ً لوجوده الخاص ، عندئذ يشعر الفرد بأنه مغترب عن نفسه و عن الآخرين ، لا يقهم مصادر مشكلاته و سلوكه الذي يتنافى مع طبيعته الإنسانية .
الفرد العراقي و الهرب من الحرية
أن الإنسان خلال مسيرة حياته الطويلة ، و عبر تأريخ الإنسانية الموغل في القدم ، حصل على حرية أكثر ، و أنعتاق كبير عن الطبيعة ، لذا أصبح يشعر بالوحدة ،و العزلة ،و الضآلة ،و عدم الأهمية ،و أصبح أكثر ابتعادا ً عن أخيه الإنسان ــ فالحرية تظهر كأمر سلبي لبني الإنسان ــ أذ كلما قلت حرية الأفراد زادت مشاعرهم بالانتماء و الأمان ، لأن الحرية تظهر متضاربة و متناقضة مع حاجتنا للأمان و الانتماء . فحاول الناس التجمع حول بعضهم هربا ً من مشاعر الوحدة و عدم الأهمية، ليؤلفون فيما بينهم جماعات متآلفة و منتمية بعضها للبعض الآخر. ( فروم / كتابه الهرب من الحرية )
لو نظرنا الى واقع حال أفراد مجتمعنا العراقي، وفي وقتنا الراهن ، لنرى أن أفراد هذا المجتمع بدئوا بالهرب أتجاه الحرية و ليس هربا ً منها ، فانعزالنا و شعورنا بالوحدة ، و هروبنا اتجاه الانتماءات الضيقة سواء كان حزب أو طائفة دينية أو مذهبية أو قومية .. جعلتنا نفقد مشاعر الأخوة ، كعلاقة و وثيقة مع الأفراد المقربين ألينا ، أو جماعاتنا التي كنا ننتمي أليها ، بصفة الروابط الإنسانية أو روابط الأرض أو روابط اللغة أو روابط الدين ، مما أحسستنا بشعور من الضآلة و عدم الأهمية و الشك و أن العالم أصبح مكان سلبي غير أمن ، الأمر الذي ينعكس في المزيد من مشاعر الهرب نحو الحرية و ليس بعيدا ً عنها .
#علي_عبد_الرحيم_صالح (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟