ميسون البياتي
الحوار المتمدن-العدد: 2101 - 2007 / 11 / 16 - 12:09
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لن أبالغ حين أقول أن المقالة المعنونة ( لماذا يكذب الرؤساء الأمريكيون , وأسوأ كذباتهم على أنفسهم ؟ ) والمنشورة كموضوع رئيسي على صفحات مجلة أتلانتك الأمريكية في عدد يناير/ فبراير 2007 وهي من تأليف الصحفي كارل كانون , هي من أجمل الموضوعات التي قرأتها خلال السنوات الثلاثة الأخيرة .
بها ثراء لغوي عالي , مكتنزة بالمعلومات التاريخية والسياسية , وتدل دلالة واضحة على شخص كاتبها الذي لا تستطيع غير أن تنحني احتراما لعقليته ومستوى وعيه . إضافة الى احتوائها على سخرية ممضة مطبوخة على نار هادئة جدا تفتت عضد جميع الرؤساء الأمريكيين من جورج واشنطون الى جورج بوش , وذلك بتوثيق أكاذيبهم وترهات أقوالهم ومحض افتراءاتهم .
يسعدني أنني قمت بترجمة هذه المقالة الى العربية لوضعها بين يدي القاريء العربي لأهمية أن يعرف العربي وضعية البشر الذين يلعبون دورا أساسيا في رسم سياسة عالمه .
سأقوم أولا بتعريف القاريء بمؤلف المقال كارل كانون , ثم أعرض ترجمة المقال , من هو كارل كانون ؟
هو مراسل صحيفة ناسيونال جورنال في البيت الأبيض , قبل عمله في هذه الصحيفة عام 1998 عمل في ست صحف مختلفة ما يزيد على عشرين عاما , كتب في السياسة والقانون والشؤون المحلية والثقافة وتلك الصحف كانت تصدر في ولايات فرجينيا وجورجيا وكاليفورنيا .
كما أنه شارك بتغطية الحملات الرئاسية والأحداث السياسية منذ عام 1984 حيث عينته صحيفة بالتيمور سن مراسلا لها في البيت الأبيض . وبعد عام من انتقاله الى صحيفة ناسيونال تم تكريمه بجائزة جيرالد فورد عن تقاريره الصحفية الرئاسية المميزة . ومنذ العام 2004 إحتل كارل كانون منصب رئيس جمعية مراسلي الإعلام في البيت الأبيض , ويعمل ايضا كمدرب خاص على الكتابة في صحيفة ناسيونال جورنال . ويحمل مؤهله في القيادة الصحفية من جامعة كولورادو , يعيش حاليا في أرلنغتون مع زوجته شارون وثلاثة أطفال , يعشق سباقات الخيل وصيد السمك في مونتانا ويلعب البيسبول في نادي للبالغين .
العنوان المذكور على غلاف العدد للمقال هو ( لماذا يكذب الرؤساء ؟ ولماذا أسوأ كذباتهم تكون على أنفسهم ؟ ) . غير أن الصفحات الداخلية تضع المقال بالشكل التالي :
(( من واشنطون الى روزفلت الى نيكسون , الرؤساء كانوا يكذبون , فما الذي سيجعل جورج دبليو بوش مختلفا الآن ؟ )) . كارل . م . كانون
الكذبة ونتائجها
عام 1944 سأل السيناتور أوين ستار صديقه وزميله هاري ترومان عما يمكن أن يكون عليه فرانكلين روزفلت حقا ؟ ترومان لم يكن يعرفه معرفة حقة , لكنه قال ودون تردد : إنه يكذب .
المقصود بالكذب هو أن روزفلت لم يكن صادقا بشأن صحته , كان يتدهور صحيا وطبيبه يعرف , وهؤلاء الذين حوله في البيت الأبيض لا يتمكنون من فعل شيء لكنهم يلاحظون .
حين إفتتح الحلفاء جبهة القتال الثانية في أوربا والجزر الموعودة عبر المحيط الهادي , روزفلت كان يعمل على الأغلب أربع ساعات يوميا , وأحيانا ساعة أو ساعتين .
في 28 مارس ذلك العام قام طبيب روزفلت الدكتور هوارد . ج . بروين بتشخيص حالة الرئيس أنها هبوط في القلب وإلتهاب رئوي حاد , وذكر فيما بعد الى جان كينيث هيرمان رئيس تحرير مطبوعة ( نيفي مديسن ) أن مرض الرئيس كان غضبا ربانيا .
لكن الشعب الأمريكي والعالم وصلهم إيحاء مختلف تماما مقدرة الرئيس الذي يحضر لسحق هتلر والإمبراطورية اليابانية حين سيشرف مباشرة على جبهة القتال , ترومان تواطأ بسرعة لنشر هذه الخديعة , ذهب للغداء في البيت الأبيض يوم 18 أغسطس وابلغ الصحفيين بعد ذلك : إن روزفلت يبدو جيدا وقد أكل وجبة أكبر من وجبتي .
لكن ترومان قال شيئا مختلفا لمساعده العسكري داخل مكتبه (( ليست لدي أي فكرة عن وضعه الطيب هذا )) مشيرا الى أن الرئيس حين كان يضيف الكريمة الى فنجان قهوته فأغلبها كان يذهب الى الصحن وليس الفنجان .
ونستون تشرتشل لاحظ بعينه المجردة تدهور صحة روزفلت منذ العام 1943 لكنه لم يبد تحفظا الى الإدارة الأمريكية التي تكابر بشأن أهمية روزفلت في الحرب .
نفس تلك السنة وفي مؤتمر عقد في طهران ناقش فيه الحلفاء موضوع فتح جبهة جديدة على ألمانيا النازية , أكد تشرتشل على إبقاء الخطط سرية فأجابه جوزيف ستالين : في وقت الحرب تكون الحقيقة ثمينة الى درجة أنها ينبغي أن تحرس دائما بالأكاذيب .
شون ولنيتز أستاذ التاريخ في جامعة برنستون أخبرني هذا الصيف حين ناقشنا موضوع الجيش ومنفعة تضليل الحقيقة في البيت الأبيض (( الرؤساء يكذبون لمختلف انواع الأسباب )) ثم أضاف (( نيكسون كذب لأنه اراد الإحتفاظ بالرئاسة التي دمرها بإثمه , فرانكلين ديلانو روزفلت ضلل الوطن بأشياء مثل مشروع ليند _ لياز وهو تجارة بيع السلاح الى كل دول العالم أثناء الحرب العالمية الثانية تحت شعار - سياسة حفظ العالم آمنا - وهو يعلم جيدا صعوبة تسويق هذه الفكرة سياسيا . الأمانة ليست ضرورية لصنع رئاسة فاعله , وعلى الناس أن يحكموا بانفسهم فيما اذا كان الرؤساء يكذبون من اجل الصالح العام !؟ أم من أجل صالحهم الشخصي !؟ )) .
قول البروفيسور ولنيتز في هذه المسألة ليس أكاديميا بحتا , ففي ديسمبر1998 كان قد تحدث بحماس في جمعية بيت القضاء لرد مواد إتهام أشرت ضد الرئيس كلينتون والتي كان أخطرها أنه كذب تحت القسم , ولنيتز جادل خطيئة كلينتون كما لو أنها وجهت له بدوافع شخصية وليس بمؤشرات رسمية , وأن الإتهام جاء من حساد شخصوا للكونغرس تلك الخطيئة . ثم قال ولنيتز للكونغرس (( كباحث تاريخي , فإن من الواضح لي أن تسمية خطيئة الرئيس كلنتون ستسبب الإساءة الى مؤسسات الدولة والى مكانة القانون أكبركثيرا مما أساءته لهما الجريمة التي يتهم بها الرئيس كلنتون )) . كلنتون ركز كل صراعه من اجل البقاء سياسيا على قضية صدقه , ومتى يكون الصدق مطلوبا ؟ في حين قام محاموه بمجادلة ناجحة ليثبتوا أن المحلفين كانوا غاية في التشدد في محاولة تجريم تم إدعاؤها على موضوع يمس تصرفات خاصة جدا .
في فترة رئاسته الثانية واجه جورج دبليو بوش أزمة شخصية كبرى , ففي الوقت الذي ربما لم يشاور مستشاريه المتواضعين وهو لا يملك عذرا في ذلك كأن نقول رغبته في حماية حياته الشخصية , فإن بوش متهم بالغموض ليس بشأن حياته الخاصة ولكن بشأن واحد من أهم القرارات السياسية الرئيسية للدولة يمكن ان يتهمه به ديموقراطي : قرار أخذ الأمة الى حرب .
منذ عام ونصف أغلبية الأمريكان تراودهم الشكوك أن أسباب الرئيس بأمر الجيش لغزو العراق كانت ملفقة .
في ابريل 2005 وجد غالوب بول أن الغالبية العظمى من الأمريكان يؤمنون ان بوش خدع الأمريكان بشأن إنتاج العراق لأسلحة دمار شامل .
في مايس 2006 قال 46 % من مشاهدي محطة أي بي سي نيوز من واشنطون عبر استفتاء أجرته المحطة عن إدارة بوش : نعرف الحقيقة عما يحصل في العراق , في حين 52 % قالوا : لقد تم خداع الشعب الأمريكي .
الموالون لبوش لاموا الإعلام على مثل هذه الأقوال , ولكن جرعات ثقيلة من مشاعر عدم تقبل بوش على الأنترنت أو في نشرات الأخبار وبيوت النشر جعلت الكثيرمن الأمريكان يصرحون عن آرائهم بالرجل القابع في البيت البيضاوي .
وعلى كل حال فإن مكانة بوش التاريخية لن تعتمد على كونه كذب على المواطن الأمريكي , فكل الرؤساء وبلا جدال يكذبون , لكنها ستعتمد على ( كيف ) قام الرئيس بالكذب !؟ وما هي الأمور التي حفظتها أو أهدرتها أكاذيبه وكم كانت مسؤوليته عن ذلك . لاحقا سيحكم على الرئيس الحالي ولكن بفظاظة , ليس تبعا لمقدار قوله الحقيقة ولكن تبعا لمعرفته الحقيقة من عدمها !؟ .
لماذا يكذب الرؤساء ؟ وهل يكذبون أكثر من بقية البشر ؟ وهل أكاذيب خاصة الناس تشبه أكاذيب عامتهم ؟ وماذا عن الرؤساء الذين تساهلوا في قول أشياء غير حقيقية ؟ من هم اذا جاز القول ( المدانون ) !!؟ وهل هذا الأمر أو ذاك إستحق الكذب ؟ هل يستطيع الرؤساء أن يكونوا مؤثرين بفاعلية دون كذب ؟ أم هناك وقت عليهم ببساطة أن يكذبوا فيه ؟ وإذا كان الأمر كذلك , فمتى ؟ وكيف سيعرف عموم الشعب عما إذا كان الرؤساء يمتهنون أو يستغلون ذلك الإمتياز !! ؟؟ .
الإجابة الاولى عن هذه التساؤلات ستكون : الرؤساء يكذبون لأنهم بشر (( كل الناس تكذب )) يقول جارلس فورد بروفسور جامعة ألباما في برمنجهام ومؤلف كتاب سايكولوجية الخداع . ثم يتابع (( الخداع جزء من الطبيعة البشرية وحالة عامة في مملكة الحيوانات , على كل حال فبعض البشر يكذبون قسريا حتى عندما تخدمهم الحقيقة أكثر )) .
الإعتراض على الكذب قديم قدم الحضارة الغربية نفسها , فالوصية التاسعة من الوصايا العشرة وهي تتحدث عن مضار الكذب , أضيفت الى مقررات الرئاسة بواسطة كاتب سير الرؤساء وهو شخص اسمه ماسون لوك ويمس الذي لم يختبر ثقافة أن الرؤساء لا يقولون الحقائق فقط , ولكن يفعلون بالإتجاه المعاكس تماما لما كانت تلمح له القصة الشهيرة غير القابلة للإثبات (( حكاية شجرة الكرز )) التي تحكى عن جورج واشنطون , منذ تلك القصة لقن أطفال المدارس الأمريكان تصورا عن رؤسائهم أنهم لا يكذبون _ ولا يستطيعون الكذب _ حتى حين كانوا أولادا في السادسة من أعمارهم .
قيل إن إبراهام لنكولن كان عليه السير أميال حين كان كاتب مخزن في إلنوي ليعيد عدة سنتات معدنية . واسمه الحركي( أونست آبي ) أي ( راعي الأمانة ) الذي سبقه الى القصر الرئاسي , كان امتيازا جعل المعارض ستيفن دوغلاس مدفوعا الى السخرية بتسمية لنكولن ( أبو وجهين ) . لكن لنكولن علق على ذلك بالقول (( أنا أترك الأمر للمشاهدين ليحكموا إن كان لي وجه آخر . هل تظنون أني ألبس وجها آخر ؟)) .
مارك توين تجاهل تماما أن الأمريكيين وضعوا رؤساءهم في مكانة لا يستحقها إلا القلة من البشر حين قال (( أنا مختلف عن جورج واشنطون , عندي قناعة عالية تؤكد أن جورج واشنطون لا يستطيع الكذب , بينما انا أستطيع , لكني لن أفعل )) .
جنوح الرؤساء للكذب ربما يكون : مرض , قلة أدب , وطنية , خجل تلقائي , إعلاء للنفس , دوافع عدم أمان , أو حتى مقدمات لأغراض نبيلة أخرى . الرؤساء يملكون مسؤليات لا يشعر بها أغلبنا كالحفاظ على سلامة الأمة , وأن حرفة القيادة العالية الأداء تتطلب مهارة إخبار مجموعات متباينة من البشر ما يرغبون سماعه , وقول الحقيقة لن يكون الحل العملي في زمن الحرب أو الكوارث الوطنية .
الأكاذيب كالرجال غير متساوية , والفلاسفة منذ أرسطو طاليس وحتى رانهولد نايبر أشروا فروقا جوهرية بين مختلف انواع الكلام الباطل . اذا كان ( الكذب الأبيض ) يقال لأسباب إجتماعية أو حرصا على المشاعر , فأن ( العذر ) هو نصف حقيقة نبرر به سلوكياتنا .
الأكاذيب تقال أثناء الأزمات , وتقال للكذابين , والأكاذيب الوطنية تقال لحماية الناس الذين نحرص عليهم , والأكاذيب تقال من أجل الصالح العام وتسمى ( الأكاذيب النبيلة ) .
عالم القيادة ريتشارد نورتن سميث أشار الى ان محددات الدستور الأمريكي لصلاحيات الرئيس ما كانت تسمح لتوماس جيفرسون بشراء ولاية لويزيانا من الحكومة الفرنسية التي كانت مالكة لها , لذلك فسر جيفرسون الدستور بطريقته ولم يلتزم مكتبه عندها بالدستور , ولم يتراجع جفرسون عن تمطيط الكلمات لمضاعفة حجم أمريكا بملايين قليلة من الدولارات .
(( ولكن عند الحديث عن الدوران حول العالم فإن نيكسون هو من ذهب الى الصين وذلك على الأغلب تراجع يفوق التناسق الآيديولوجي لطموحات الشعب الأمريكي الذي نحت رأس جيفرسون فوق قمة جبل مونت رشمور )) كما أكد نورتن سميث .
إبن العم الأول للكذبة البيضاء هو التفاخر . القول إن الرؤساء والمرشحين للرئاسة ( يتفاخرون ) هو قول متسامح لوصف متطلبات منصب يبدو محتاجا الى الكذب بشأن أجداد الرئيس أو المرشح وإنجازاته , كطريقة لنيل رضا الناخبين والتاثير عليهم بالقول ( أنا عندك ) .
عام 1840 وفي حملة وليم هنري هاريسون , ترشح للرئاسة كقروي بسيط من مرتبة قياسية , يصرح في كل اجتماعاته عن مشاركته حشود الأمريكان في الحرب الهندية , لكن الحقيقة كانت أن المرشح اليميني هاريسون هو سليل عائلة كولونيل ووالده هو الموقع على قرار الإستقلال وحاكم لولاية فرجينيا لثلاث فترات متتالية , وإبنه العسكري المحترف كان يقرأ الكتب الكلاسيكية ويتمتع بحياة جيدة .
هذا النوع من البرقشة الشخصية نجده ايضا عند جون كينيدي , ساقه بوجه حلفائه وعموم شعبه , حين قال لمحررمجلة التايم هيوج سايدي : أنه يستطيع قراءة 1200 كلمة في الدقيقة . هكذا ببساطة طير الرئيس رقم 1200 في الهواء .
ليندون جونسون هتف مخاطبا الجنود الأمريكيين المتواجدين في كوريا مدعيا أن جده الأعلى الأعظم أستشهد في معركة ألامو , وعمه الأعلى الأعظم حارب في معركة سان جاسينتو لكنه لم يقتل , وهذه أقوال كلها غير صحيحة .
أما بيل كلينتون فقد إدعى أنه سمع عن مؤتمر أيوا التحضيري منذ كان ولدا صغيرا , لكن المؤتمر التحضيري في الحقيقة كان قد عقد جلسته الأولى حين كان كلينتون طالب ثانوية .
أما آل غور فقد أخبر الجموع العمالية أن والدته كانت متعودة في طفولته على مناغاته لينام بأغنية (( أنظر الى علامة الإتحاد )) وهي أنشودة كتبت عام 1975 عندما كان آل غور في السابعة والعشرين من العمر .
فلتة غريبة أخرى فلتت حين أخبر رونالد ريغان رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق شامير والطيار النازي سيمون ويستنثال كل على إنفراد عند زيارته في مكتبه البيضاوي , أنه وكجندي شاب في الجيش الأمريكي أثناء الحرب العالمية الثانية , كان قد صور تحرير أسرى معسكرات الموت النازية . لكن الحقيقة أن ريغان لم يخدم في أوربا إضافة الى أن عمله في الجيش لم يكن ( تصوير ) بل ( نقل ) أفلام صورت بواسطة الجيش والمراسلين الحربيين , ملأت البيت الأبيض ما يزيد على عقد من الزمان .
جمعت الكثير من مفاخرات الرؤساء هذه لكن أقواهن , والمفضلة عندي هي حين أخبر بيل كلينتون طاقم تحرير مطبوعة ( موينس ريجستر ) أنه كان الوحيد من الرؤساء الذي يعرف شيئا عن الزراعة قبل وصوله الى الرئاسة , قافزا بذلك القول فوق رؤساء فلاحين مثل واشنطون , جيفرسون , ترومان وجيمي كارتر , إضافة الى إبن حقول أيوا , هربرت هوفر .
جورج دبليو بوش يمارس الآن نفس هذه الأشياء . خلال زيارته الى غرب فرجينيا في يناير 2002 , وأثناء لقائه الديمقراطي بوب كيس المتحدث بإسم المجلس التشريعي للولاية , قال له في حوار عام : (( أنا شاركت في حرب , وأوكد أنه لو كان لي الخيار مرة اخرى , فإني أفضل الذهاب الى الحرب )) . هذا قول مضحك , عدا عن أن بوش كان يملك خيار الخدمة في حرب فيتنام لكنه لم يفعل .
أي مرشح للرئاسة يرغب حث الناخبين بوعود طيبة , وأول ما يتم التخلي عنه أثناء الحملة الرئاسية هي الحقيقة . وهذه الظاهرة ليست جديدة . في أيام حملة 1932 , فرانكلين روزفلت وعد الحشود في بتسبرغ بموازنة الميزانية الفيدرالية وتخفيض الإنفاق الحكومي بنسبة 25% لكنه تصرف بحكمة ولم يفعل ما وعد . وبعد أربع سنوات عندما تهيأ لخوض حملة تجديد رئاسته التالية في بنسلفانيا الغربية , سأل كاتب خطاباته سام روسنمان عما يمكن أن يقوله إذا سأل عن وعوده السابقة !!؟ فقال كاتب الخطابات : أنكر أصلا أنك ذهبت الى بتسبرغ .
نصيحة روسنمان مضحكة وتتطلب مقاطعة كاملة للحقيقة , يسوقها لنا الرئيس وكاتب كلماته , ويبقى علينا نحن معرفة الحقيقة .
بعض الزيف , مثل أكاذيب الإنتخابات غير المؤذية التي تلمع الصورة إضافة الى إعلاء وحماية فعالية وسياسة الرئيس أو المرشح والتي نستطيع تسميتها ( أكاذيب حكومية ) لها نتائج تحتاج أحكاما قاسية مثل التي أطلقت على حرب فيتنام أو فضيحة ووتر غيت . بعد إنقضاء عقد من الزمان فإن تلك الأكاذيب لن تجلب نتائج مذلة عن حرب مكروهة وسقوط رئيس , ولكن تبدلا في طاعة الناس ووسائل الإعلام وتسامحهم مع المكتب البيضاوي .
ديفيد وايس المراسل السابق للبيت الأبيض قدم تقريرا عن الأكاذيب الرئاسية سماه ( سياسات الكذب ) طبع عام 1973 قال فيه (( حتى عام 1972 فإن سياسات الكذب غيرت كل سياسة أمريكا , وبدلا عن الثقة هناك انتشار كبير لحالة عدم الثقة , وعوضا عن الصدق هناك تكذيب وشك بالنظام والقيادة )) .
حين جاءت فضيحة ووتر غيت قال ليندون جونسون عن روبرت مكنمارا أنه كان يخادع بوجود هجوم محتمل على السفن البحرية الأمريكية من قبل قوارب حراسة فيتنامية شمالية في خليج تونكين ليبرر إرسال أعداد كبيرة من الجنود الأمريكيين الى هناك .
عام 1975 حين سقطت سايغون فإن 69% من الأمريكان أجابوا مؤكدين أن الرؤساء كانوا يكذبون عليهم طيلة العشر سنوات الماضية .
إضمحلال الثقة دفع سيسلا بوك لأن تكتب مؤلف ( الحالة المعنوية مع الكذب في السر والعلن ) ومنذ نشر هذا الموضوع عام 1978 , صار مطلوبا من أولئك الذين يبتغون التحقق من الأكاذيب واثرها على المجتمع . ناقشت سيسلا بوك أن هناك مناسبات نادرة يمكن أن تبرر بها الأكاذيب , وأن استغفال الناس ( الذي يتراوح ما بين كذب المجاملات الإجتماعية _ حتى الأكاذيب القوية المصممة التي تكاد تقتل عن عمد ) هذا الإستغفال يستند الى شيء واحد هو ( عدم احترام قول الحقيقة ) .
كتاب بوك الذي انتشر معتمدا على بحوثها الخاصة في الأخلاق لم يركز على أكاذيب الساسة على الرغم من أنهم ينشرون أكاذيبهم هنا وهناك . لكن هاجسها العميق حول تراجع الثقة جعلها تخاطب الساسة والمؤسسات والمعاهد الثقافية وتدعو الى توخي الحقائق في التعامل مع الناس .
ريتشارد نيكسون انتخب رئيسا عام 1968 حين قدم نفسه كمرشح يدافع عن السلام , عندها قال مدير العلاقات القادم الى البيت الأبيض هربرت كلايت : الحقيقة ستكون ثقبا في إدارة نيكسون .
وحين غادر نيكسون البيت الأبيض حامت حوله الشكوك : ماذا كان الرئيس يعرف ومتى عرف ؟
جيرالد فورد الذي أعقب نيكسون قال معرفا الحقيقة : إنها الصمغ الذي يجمع أعضاء الحكومة جميعا .
لكن جيمي كارتر وعد الشعب الأمريكي وعدا أفضل حين قال : لن أخون ثقة أي واحد منكم بي .
من عدة زوايا تعد إدارة كارتر أكثر إنفتاحا وشفافية وأكثر صدقا من أغلب الإدارات التي سبقته أو لحقت به , لكن ستيفن بريل يعطي أمثلة على اكاذيب كارتر التعيسة .
واحد من هذه الأمثلة قول كارتر (( إذا كان لديك سؤال أو رأي .. فقط أكتب على الظرف : جيمي كارتر _ جورجيا . لأني أفتح كل الرسائل بنفسي وأقرأها كلها )) . وهذا أمر مستحيل لكنه قال ذلك لتدعيم حملته الإنتخابية في أتلانتا .
كتب تي . إس . إليوت (( الجنس البشري لا يحتمل الواقعية المفرطة )) وبعد أربع سنوات من حكم كارتر لم يكن هناك استثناء بين الأمريكان , كلهم كانوا مكذوبا عليهم , ربما لأنهم لايتحملون الواقعية المفرطة .
استاذ التاريخ في جامعة الينوي البروفسور جورج هوبكنز يرى (( أن كل الرؤساء يكذبون ولأسباب بسيطة , لأنهم إن لم يفعلوا ذلك فلن ننتخبهم , نحن السبب وعلينا ان ننظر في المرآة جيدا )) .
ريغان وبخ كارتر أثناء تقاعده على تحريفه سجلاته وميله الى تمطيط الحقيقة لعمل نسيج حكايات محكم , لكن شهود عيان يضحكون من كذبة فرقعها ريغان عن دوره في فريق كرة القدم عندما كان في الثانوية . إدعى أن لاعبي مدرسة ميندوتا أخبروا الإدارة بأن ريغان الذي يلعب معهم ضد مدرسة ديكسون سدد ضربة جزاء قوية لا توصف , وعلى الإدارة سؤاله عنها . قال ريغان فيما بعد : لقد أخبرتهم الحقيقة .. أنا ضربت الكرة فجعلت مدرسة ديكسون تخسر اللعب .
ليو كانون كاتب سيرة ريغان الذاتية تحقق من هذا فإكتشف عدم وجود صحة لهذا الإدعاء عدا عن أن مدرسة ميندوتا خسرت أما مدرسة ديكسون في تلك اللعبة أربعة وعشرين هدف ضد لاشيء .
نقطة الإرتكاز في هذا الموضوع , أن ريغان ربما يكذب ليبرهن كم هو صادق !!!! .
في نوفمبر 1986 أخبر ريغان الشعب الأمريكي أن إدارته لن تصدر أسلحة أو أي شيء آخر الى ايران على خلفية المحتجزين الأمريكان في لبنان . لكنه بعد ثلاثة أسابيع قال في خطاب إذاعي (( دعوني أقول فقط إنه لم يكن هدفي المتاجرة مع آية الله روح الله خميني لتبادل السلاح مقابل المحتجزين )) .
وبعد ثلاثة أشهر قال ريغان في المكتب البيضاوي (( قبل عدة اشهر أخبرت الأمريكيين أنني لن أبادل المحتجزين بالسلاح , وقلبي وملكاتي تقول لي ذلك , لكن الحقائق والشهادات تثبت عكس هذا )) .
شعبية ريغان بدأت تتراجع قبل بداية فترة رئاسة بوش الأب , كما أنه أصبح ( خارج قوس ) بسبب فضيحة ايران كونترا التي امضى المحقق الخاص لورنس والاش أربع سنوات في عهد بوش الأب لتفحصها , وقبل يومين من إنتخابات 1992 أصدر وثيقة أظهرت أن بوش الأب أيضا كان قد حضر اجتماعات ايران _ كونترا , ووافق على خطتها .
أكاذيب بيل كلينتون كرئيس أو المستشار المستقل كينيث ستار كانت تدفع انتخابات عام 2000 ليحصل بها الشعب على رئيس جديد , ينتظر منه ان يكون صادقا كما وعد .
كتبت سيسلا بوك في مقدمة الطبعة المنقحة من كتابها ( الكذب ) الذي صدر عام 1999 (( ليس مهما كيف ستقيم المرحلة التي نعيشها ,, فنحن نعيش عصر نتائج الكثير من الأكاذيب الكبرى التي قيلت في السابق )) .
جون مكنن كتب على باص حملته الإنتخابية ( الكلام المباشر السريع ) , وإدعى في رالياته الى القصر الرئاسي (( أنه وكرئيس , سيخبر الأمريكان الحقيقة حتى لو كانت اخبارا سيئة )) .
جورج بوش قال في الإنتخابات العامة نفس هذه الفكرة أيضا , ففي مناظرته الكلامية الثالثة مع آل غور قال (( إن الوطن محتاج الى شخص يشغل المكتب الرئاسي ويكون صادقا )) والعبارة لم تكن ملاحظة عابرة بل كلاما مبيتا لخدمة حملة بوش _ تشيني الى الرئاسة . عندها تسلم بوش الإبن المكتب الرئاسي بسمعة ( قوال حقيقة ) حتى بين الأمريكان الذين لا يدعمون سياسته أو يظنون أنه ليس بذلك البريق .
قبل شهرين من 11/9 فإن 69% من الأمريكان وهذا العدد يزيد بنسبة 21% عن عدد الناخبين الذين اوصلوا بوش الى القصر الرئاسي , كانوا قد أجابوأ أن بوش ( صادق ومستحق للثقة ) . فقط 20% من الإجابات لم توافق على هذا الوصف .
كيف تحول بوش في عيون الناس من ( قوال حقيقة ) الى ( الرئيس المراوغ ) ؟ طبقا لأقوال محللين ليبراليين وفي كتب مثل كتاب :
( أكاذيب جورج بوش ) تأليف ديفيد كورن .
(الأكاذيب والكاذب الذي يقولها ) تأليف آل فرانكلين .
( لماذا نقاتل ؟ ) تأليف إيوجين جاريك .
( فهرنهايت 11 / 9 ) تاليف ميشيل مور .
وكذلك في العديد من المواقع الألكترونية , ومحطات البث الإذاعي والتلفزيوني إضافة الى كبرى الصحف الوطنية ( نيو يوركر ) التي ركزت ومعها العديد من الكتاب على موضوع الحرب في العراق مثل :
( الفشل التام ) تاليف توماس .إي . ريكس
( نهايتنا في العراق ) تاليف بيتر جالبرث
( دولة الأكاذيب ) الجزء الثالث تأليف بوب ودورد وهو ثلاثية عن إدارة بوش .
انتقاد بوش انه ليس صادقا سبب إمتعاض الذين يعملون معه , إثنين من مساعديه الذين يحترم رأيهم ونزاهتهم بشدة وهما : ميشيل جيرسون كاتب خطابات بوش السابق الذي وصف الرئيس انه ( قوال حقيقة ملتزم ) . جيرسون من البراءة أنه لم يتمكن من إخفاء تبرمه عندما كان عليه كتابه خطاب لايود كتابته .
الشخص الثاني هو بيتر وينر مدير مكتب المبادرات الستراتيجية في البيت الأبيض , الذي جادل فكرة بوش حول أسلحة الدمار الشامل التي ينتجها العراق , أنها فكرة لا معقولة في حقيقتها , وأن الذين يتهمون بوش بالكذب ليسوا مخطئين .
أسس بوش وبنجاح سجلا حافلا بالأكاذيب وانصاف الحقائق وهناك عدة أدلة تدعم قولنا :
أولا : في خطبته عام 2006 الى الأمة وصف بوش العراق وافغانستان كنموذجين للديمقراطية المتقدمة , وإدعى أن عدد الدول الديمقراطية في العالم إزداد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية من دوزنتين الى 122 حاليا . لكنه لم يشر فيما اذا كانت الحكومة التي يشرف عليها تعد العراق وأفغانستان من ضمن العدد أم لا !!
ثانيا : أشار الرئيس وبدقة الى ان الإقتصاد الأمريكي وفر 4,6 مليون وظيفة جديدة خلال السنتين والنصف الحالية لكن الرئيس فشل في ملاحظة أن الإقتصاد خسر 2,6 مليون من هذه الوظائف خلال تلك السنتين والنصف .
ثالثا : في مارس 2003 أصر بوش على أنه كان ( أمرا حقا ) أن التحالف الذي جمعه لغزو العراق ضم عددا من الدول أكبر من ذلك التحالف الذي قاده والده على العراق عام 1991 . ولكن كتاب ( الفشل الكامل ) لتوماس . إي . ريكس , يدحض هذا الإدعاء بالإشارة الى أن معظم الدول التي شاركت بوش الإبن كانت دولا مترددة في قرارها ( عدا بريطانيا ) . البولونيون قاتلوا مستائين , والإيطاليون لم يغادروا عرباتهم القتالية على الطريق , أما اليابانيون فلم يخرجوا من معسكراتهم أصلا وفي الحقيقة لم يقوموا حتى بحراسة وحداتهم , الألمان حرسوها لهم .
رابعا : في يونيو 2004 وعندما سأل الرئيس عن أحمد جلبي العراقي المنفي الذي فعل الكثير لحث الإدارة الأمريكية على غزو العراق لكنه فشل في الحصول على إستحسان القيادة العسكرية الأمريكية , تصرف بوش كما لو انه يعرف اسم الشخص بسطحية (( جلبي ؟؟ لقاءاتي معه كانت سريعة جدا , وأعتقد أني التقيته في مقر الإتحاد , ولم يكن أكثر من عمل على ربط خطوط , وربما جاء مع مجموعة من القياديين , لكن ليست لي معه أي محادثات واسعة )) . الحقيقة أن جلبي لم يكن محصورا بعملية ربط خطوط , لأنه وفي العام 2004 كان البيت الأبيض قد اعتبره ( ضيفا خاصا ) عند السيدة لورا بوش ومقعده مباشرة جنب مقعدها .
خامسا : بعد فوز الديمقراطيين في انتخابات منتصف الفترة عام 2006 أعلن الرئيس : (( الديمقراطيون سيدعمون جنودنا كما يفعل الجمهوريون )) . وان الديمقراطية نانسي بيلوسي وهاري ريد (( يحرصان على اسرار هذا البلد مثلما افعل أنا )) . هذه العبارات اللطيفة كانت معاكسة تماما لشعارات حملته الإنتخابية قبل أيام قليلة من هذا الكلام حين تحدث عن العراق قائلا (( لو تحقق فوز الديمقراطيين فإن الإرهاب سيفوز وتخسر أمريكا )) . وفي الثامن من نوفمبر علل بوش فـي مؤتـمر صحفي كل ذلك بأنه (( كلام إنتخابات مراوغ , وربما يعني معنى مختلفا )) .
سادسا : في نفس المؤتمر الصحفي أكد بوش ببساطة أنه كذب على ثلاثة مراسلين للبيت الأبيض كانوا سألوه في مقابلة الأسبوع الماضي عن بقاء وزير الدفاع دونالد رامسفيلد . أكد الرئيس للمراسلين أن رامسفيلد سيبقى . لكنه الآن يصرح بتفاصيل حقيقة مختلفة وهي قراره بطرد رئيس البنتاغون , وأن الصحافة حين سألته عنه فإنه كان قد إتخذ القرار بمن سيكون بديل رامسفيلد . ثم أعطى بوش بعض التفاصيل : أكد أنه لا يرغب إضافة قرار مهم الى موضوع الحرب في العراق خلال فترة حملته الإنتخابية , كما قال إنه لم يكن كاذبا على الصحفيين , لأنه لم يباحث رامسفيلد نهائيا بعد , ولم يحادث روبرت غيتس شخصيا .
الرؤساء نادرا ما يقولون الحقيقة وسط العمليات العسكرية , أثناءالحرب العالمية الثانية على سبيل المثال قامت الحكومة بحملة متقنة لتغطية تفاصيل ( يوم _ دي ) تلك الملحمة التي تسميها سيسلا بوك (( نموذج أصلي للكذب العلني بالرغم من مشروعيته )) .
كينيدي وأثناء فترة رئاسته صرح أن الحكومة (( لها الحق في الكذب على الناس )) . قال ذلك اثناء فترة أزمة الصواريخ الكوبية , بدأت الحكاية بأكاذيب صغيرة حول صحة كينيدي , عندما صرح مستشاره الصحفي بيير سلنجر أن زيارة الرئيس الى شيكاغو ستقطع بسبب إصابته بالبرد . لم يفهم سلنجر السبب الذي قد يدعو أحدا للسؤال عن سبب عودة الرئيس الى واشنطون عام 1962 .
لكن سكوت ماكلين مستشار بوش الصحفي عندما سأل عن رحلة الشكر التي قام بها بوش الى العراق قال (( الرحلة بالتاكيد , أنا واثق , لرفع الروح المعنوية لجنودنا )) .
يقول ديفيد وايز هل على الحكومة أن تكذب حتى لا تتكشف الأمور ؟ الجواب : لا . لأن الحكومة حين تكذب فذلك يجلب الضرر لمعقولية الحكومة ومعقولية الرئيس نفسه . ثم يقول وايز : كنت رئيس هيئة مراسلي البيت الأبيض عندما قرر بوش القيام بزيارة شكر الى العراق وأخذ معه وفدا صحفيا صغيرا , لم يعترض أحد على ذلك على الرغم من أن الوضع الأمني في العراق كان شديدا , لكن بوش أهمل دعوة والديه الى تلك الرحلة على الرغم من انهما كانا يسافران الى كراوفورد وتكساس في إجازات عشاء . فاذا كان الذهاب الى العراق له دلالة شاعرية فإنه مع السبب الذي أعطاه البيت البيض ستكون له دلالة رمزية ايضا فلماذا لم يدع والديه لمرافقته !!؟؟
قيل ولأسباب مختلفة إن الرؤساء الأمريكيين يظنون انهم متحدثين حتى لو كان كلامهم مجرد أكاذيب , وهناك أوصاف تطلق عليهم عندما يمثلونها ببراعة مثلما قال بوب كيري عن بيل كلينتون انه (( كذاب ممتاز غير عادي )) .
جرب فرانكلين روزفلت تجاهل أطبائه الذين يؤكدون على تراجع حالته الصحية , وذلك النوع من التجاهل جربه رونالد ريغان المعروف كممثل دراماتيكي . في الكتاب الذي عنوانه ( سنواتي الثلاثين مع رونالد ريغان ) قال مايك ديفز انه لم يسمع ريغان يكذب ولا مرة واحدة وأنه يظن من المستحيل أن يفعل ريغان ذلك وكتب (( إنه يقول الحقيقة للأمريكان )) .
مساعدو جورج بوش يقولون اشياء شبيهة عنه , ويا للعجب , بعض أقسى منتقديه يفعلون ذلك ايضا . ديفيد كورن مؤلف كتاب ( أكاذيب جورج بوش ) الذي يعرف الكثير عن الرئيس يضع لنا النقاط التالية:
أولا : إن بوش يعتبر نفسه قوال حقائق .
ثانيا : على الرغم من وجود أشياء قالها بوش كرئيس وأثبتت أنها كاذبة فإن بوش يصدق انها حقائق حين يقولها .
ثالثا : إن كلمات بوش حتى عندما تتعارض مع الحقائق فإنه يبقى مصرا عليها كحقائق .
إذا كنت تسأل عن أن الرئيس مازال يكذب ؟ فالجواب أن بوش يقول الأشياء بطريقة عنيدة في تجاهل الحقيقة , وهذا معادل تمام للكذب , حتى عندما تظن أن شيئا كان صادقا ( عند قوله ) فإنه يصبح كذبا عندما تتم معاملته بعكس ما يتطلب .
مهما تكن قناعات بوش بشأن غزو العراق فإنه ولحد هذا اليوم لا يعلم يقينا تخريجته البلاغية لهذا الغزو . قبل ليلتين من الغزو أعطى تبريرا بأن الإستخبارات وحكومات الدول ليس لديها شك أن النظام العراقي مستمر بإمتلاك وتطوير وإخفاء أسلحة قاتله لم تعرف من قبل .
وفي خطابه الى الأمة يوم 24 يناير 2003 أخبر بوش أن وكالة المخابرات الأمريكية تقدر أن صدام حسين يمتلك ما يزيد على 30000 قطعة سلاح قابلة لحمل مواد كيمياوية وأن لجان التفتيش لم تعثر إلا على 16 قطعة منها فقط .
وبعد شهرين من الغزو , إدعى ببساطة (( إننا عثرنا على أسلحة دمار شامل )) .
لكن ما عثرت عليه القوات الأمريكية خلال ثلاث سنوات من الغزو هو فقط 500 صاروخ وقذيفة مدفع مدعمه بغاز الخردل أو غاز الأعصاب مدفونة في أماكن متفرقة من العراق .. وبعضها تالف .
كما لم تجد قواتنا ما يشير الى تطوير أو تشغيل للبرنامج النووي العراقي .
في كتاب ( دولة الأكاذيب ) إقتطع لنا ودورد تسجيلا دار بينه وبين بوش لمده 5 دقائق يوم 11 ديسمبر 2003 أعلمه فيه الفشل في العثور على أسلحة دمار شامل في العراق .
لكنهم بوش وكبار الحكومة تحت إدارته أكدوا ببساطة عثورهم عليها , وفي أوقات اخرى أنكروا ببساطة أنهم قالوا ذلك رغم أن أقوالهم مثبتة في مواد فلمية .
حين سأل بوش في مايس 2002 عن مخبأ أسامة بن لادن قال (( أنا لا أعرف أين هو وأكرر ما قلته , وحقيقة أنا لست ذاك المهتم به )) . في أكتوبر 2004 وخلال مناظراته النهائية مع جون كيري فإن المحادثة التالية دارت بينهما :
كيري : ستة أشهر بعد قوله إن أسامة بن لادن يجب أن يقبض عليه حيا أو ميتا , هذا الرئيس سأل عن مكانه فقال أنا لا أدري وانا لا افكر به كثيرا .. أنا لست ذلك المهتم .
بوش : يا إلهي .. أنا لا أعتقد أنني قلت أني غير مهتم بشأن أسامة بن لادن .. الأمر كان مجرد كلام .
في مقابلة مع أي . بي . سي نيوز سنة 2006 جورج ستيفن بولص سأل بوش عن مفاضلته في العراق بين وضعية ( بقاء ) أو ( إضرب وانسحب ) فكان رد بوش (( حسنا يا هذا .. اسمع , أبدا لن نبقى )) .
عندها قام بعض الليبراليين الفرحانين بسرعة بوضع مونتاج لهذه العبارة على موقع ( يوتيوب ) مكررين العبارة عدة مرات واضعين تحتها عنوانا ( رئيس الولايات المتحدة لا يقول الحقيقة ) .
مسؤول اتصالات البيت الأبيض دان بارتليت تحدث في 18 تموز 2003 عما يعرفه الرئيس , ومتى عرف , اعتمادا على تقارير مخابراتيه بريطانية عن وكلاء لصدام حسين يجوبون أطراف أفريقيا بحثا عن يورانيوم .
ولم يتوقع أحد من بوش أن يفعلها . لكن الذي توقعوه هو أن الرئيس الذي سيدخل الوطن في حالة حرب , يعرف ما يتكلم عنه عندما يعدد أسباب تلك الحرب , مما يجعل السؤال المركزي حول جورج بوش : إن كانت مدة خدمته في البيت الأبيض قد أعطته أي مؤشر يجعله يشك بنزاهته ؟ ولماذا رئيس أول دولة في العالم لا يبدي إنقيادا أفضل للحقيقة ؟
هناك نظريات حول أخلاق بوش , واحدة منها تقول : إن الرئيس رجل ( لايملك ) أو ( لايريد ) معلومات كافية ليتخذ قراراته عن إطلاع . لأن الفترة الأخيرة من حياته التي صار فيها متدينا أعطته سلاما داخليا وقناعات قريبة من المطلق , وأن ذلك هو ما يضعف أسلوب ( هات _ خذ ) الذي يحتاجه الرؤساء , ولهذا فمساعديه الذين يقدمون النصائح والمعلومات التي لا تتماشى مع إرادته يصبحون أعضاء خارج الفريق .
العديد من مساعدي البيت الأبيض السابقين والحاليين يقولون ببساطة أن من الخطأ أن تتصور أن المحيطين ببوش يحذرون من إطلاعه على أخبار سيئة أو أفكار مضادة , قال لي ميشيل جيرسون (( أبدا لم أخف من ذلك )) , أما السكرتير الصحفي السابق آري فليزجر فقال : في تموز 2003 قال الرئيس قولته سيئة السمعة ( أهن العراقيين ) أخبرت الرئيس وبتأكيد ان ذلك يعني أن جنود أطفال سيأخذون أمهاتهم معهم الى حربنا في العراق .
بوش صار الآن يبدي دهشته المتزايدة من أحداث تقع في حرب سببها هو بنفسه وبغياب أي تبرير معقول يعطيه هو أو مناصروه .
تاريخ مرحلتنا الذي يكتب من قبل النقاد والمعارضين فقط , حين يصلون الى موضوع العراق فإن حقيقة صارخة تتعلق بحقيقة بوش تصبح لديهم إيمانا ثابتا . عام 2003 قال بوش الى برت هيوم في مقابلة مذاعة أنه لا يقرأ الصحف , دفع هذا القول هيوم الى الإرتياب به مباشرة , أي رئيس هذا الذي لايقرا الصحف للإطلاع على آراء الناس !!؟؟
الحديث عن أكاذيب محددة وواقعية ربما ستجعل بوش يكشف عن حقيقة مهمة عن نفسه , فعن عدم قراءته لعمود أو مطبوع كان قد اخبرنا نحن مجموعة الصحفيين (( لأنه يريد أن يبقى متفائلا )) . لكن هناك فرق كبير بين التفاؤل والوهم .
عام 2004 واثناء حملة إعادة إنتخابه ذهب الى مؤسسة دفاع صاروخي في بنسلفانيا ليقول (( نحن نقول لهؤلاء الطغاة الذين يظنون أن بإمكانهم إبتزاز أمريكا والعالم الحر أننا سنطفيء ما تشعلون )) لكن تصريحه هذا كان أفكارا حالمه وخاليه من الواقعيه العسكرية وضع فيه مصداقية مساواة بينه وبين هؤلاء الطغاة بما فعله عام 2000 حيث تسبب بالعديد من صفوف القبورالمعروفة جدا لرجال نالوا حتفهم بعقوبات كبرى قال عنهم بوش (( أي شخص أعدم في تكساس هو مجرم بالجريمة التي أدين بها )) وربما كان مؤمنا بذلك لكنه في أوستن وقع على الكثير من احكام الإعدام التي لم يوقع عددها أي حاكم في تاريخنا الحديث , فعل ذلك في ولاية ليس فيها غير محاكم استئناف أولية وليس فيها الكثير من فروع المحاكمات الخاصة .
في سبتمبر 2006 قال بوش (( علينا بدل الإجراءات الصارمة أن نضمن هؤلاء المحتجزين في خليج غوانتانامو لأنهم في سجن )) .
حالات مثل هذه من التفاؤل المفرح تعبر من تحت سياسة بوش الحالية في العراق ونتائجها وخيمة . فكما يقول بيتر . دبليو . جلبرث مؤلف كتاب ( نقد إدعاآت بوش في الحرب ) الذي أهداه بعبارة : (( مع الإحترام للعراق )) ذكر فيه أنه في عام 2003 وتحت راية ما يسمى الآن ( المهمة البارعة ) أعلن بوش (( العراق تحرر )) وأن العمليات العسكرية الرئيسية في العراق إنتهت . ولكن بعد أربع سنوات من ذلك القول ما زال العديد من العراقيين يموتون كل يوم والبلد على حافة حرب أهلية والقوات الأمريكية دخلت حربا غير معلومة النهاية (( الخطة الستراتيجية كانت كذبة )) كتب ودورد في الفقرة الخيرة من كتابه ( دولة الأكاذيب ) ثم أضاف (( مع كل كلام بوش المتحمس وتفاؤله لكنه لم يخبر الشعب الأمريكي عن حقيقة ما صار اليه حالنا في العراق )) .
مساعدو بوش توقفوا عند مثل هذه العبارات ولكنهم عندما تم سؤالهم عن سبب رفض الرئيس التراجع وتصحيح اخطائه ؟ واين الخطأ؟ ولماذا الخطأ ؟ , فإنهم يترددون ويتراجعون . يقول فلزجر (( السياسي الأحمق هو الذي ينظر الى الخلف ويتمرغ في المصاعب لكن السياسي الجيد هو الذي ينظر الى الأمام . إنه الفرق بين التفاؤل والتشاؤم وبين الخاسرين والفائزين وبين جيمي كارتر وجورج بوش .
في خطابه الى الأمة عام 2006 تكلم الرئيس بنفس العاطفة في تسمية نقاد حربه على العراق فقال (( أن تفهم الحدث بعد وقوعه ليس حكمة , كما أن تخمين النتيجة ليس ستراتيجية )) . لكن التفاؤل حين تتعالى أصوات الإحتجاج ليس ستراتيجية أيضا ويشبه حالة فهم الأحداث بعد وقوعها تماما . وسيتسبب ذلك التفاؤل في عدم تقديم خطة بديلة .
بالنسبة للفشل في العثور على أسلحة الدمار الشامل في العراق قال جيرسون : إن العاملين في البيت الأبيض نفسه لم يتم إخبارهم بسبب ذلك الفشل , لكني كمعترض على الخداع أقول إنه عندما لم تعثر قواتنا على ذلك السلاح فأعتقد أن الناس صدموا لأن الموضوع أبعد من تصديقهم .
عند إنتهاء إنتخابات منتصف الفترة خمن البعض أن الإدارة ستكون أكثر صراحة وأقل ديكتاتورية بشأن موضوع العراق . لكن بعض مخرجات هذه الإدارة الذاتية المكر لم تكن بتلك الصورة .
أثناء بحثه عن مادة كتابه ( الفشل التام ) قال توماس ريكس : تحدثت الى عدد من ضباطنا في العراق الذين تركوا آلاف الأطنان من الأسلحة التقليدية التي لم تلمس بعد , في المستودعات دون حراسة حين تقدموا الى بغداد في أول أيام غزوهم للعراق . لم يكن لديهم كفاية من الجند لحراسة هذه الكمية الضخمة من السلاح , كما أنهم لم يتجرأوا على تدمير هذه الأسلحة مخافة إحتوائها على عتاد كيمياوي أو بايولوجي , حين تجاوزوا المستودعات وإنتشروا , أصبح المتمردون قادرين على تسليح انفسهم في هذا الوقت الضايع .
القول إن الأجيال القادمة ستكرم النصر في العراق ليس صحيحا بالطبع . لو أن الهزيمة لحقت ( يوم _ دي ) فإن روزفلت لم يكن سيذكر كرئيس بطل في زمن حرب , بل كشخص تراجيدي خدم نفسه بالكذب حول وضعه الصحي مطولا حربا وحشية ومعرضا النصر فيها للخطر .
ولو إن اليابان لم تستسلم حتى بعد أن دكت قنابل نووية سكان مدنيين في إثنتين من مدنها فإن الرئيس ترومان كان سيلقب بالجزار .
بنفس الطريقة , لو كانت القوات الأمريكية قد عثرت على حكاية أسلحة الدمار الشامل في العراق , فهل كانت نزاهة بوش ستكون تحت المسائلة ؟ ربما لا .
بالنسبة للرؤساء تكون قضية النتائج أكثر من حقيقة واقعة , ومؤكد بوش يفهم ذلك , ويحلم أن يحكم عليه بإيجابية عبر التاريخ لكنه اليوم متردد في حساباته ليس بشأن الوضع الذي وصل له ولكن أيضا بالنسبة الى النتائج التي ستترتب على ذلك الوضع .
الرئيس كينيدي ربما كذب على الناس في الأسباب التي دعت الروس الى سحب صواريخهم من كوبا , لكنه كان يعرف الحقيقة بشكل جيد وكافي ليناقش أسلوب المساومة الذي أدى الى إزالة الصواريخ .
لكن بوش يبدو غير راغب بفهم أن واقعية الموقف في العراق لا تبرهن صحة رؤيته . وأخطر الكاذيب التي يمكن أن يكذبها أي رئيس هي الأكاذيب التي يقولها لنفسه . ( إنتهى )
#ميسون_البياتي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟