الانسان الشرقي ..والتراث

عبد الهادي فنجان الساعدي

الحوار المتمدن-العدد: 2078 - 2007 / 10 / 24 - 08:53
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    

جاء قطارٌ محملاً بورق اصفر قديم وبالاطنان من تركيا متوجهاً الى بلغاريا وذلك لغرض استعماله عجينة لصنع الورق في معمل بلغاري وكان القطار يسير بسرعة كبيرة فكانت تتطاير من جوانبه بعض الاوراق. لعبت الصدفة دورا في الامر فكان رجل تراثي كبير السن يسير بجانب السكة وعندما التقط احدى هذه الاوراق صُعق وذهب مسرعا الى محطة القطار يسال عن الغرض من هذه الحمولة وعندما اجابوه بانها ورق قديم سيستعمل في عجينة الورق في المعمل صاح باعلى صوته: هذه جريمة، انها وثائق تاريخية لايجوز التفريط بها وكانت هذه الصفقة تتكون من سجلات وملفات واوراق قديمة من العهود العثمانية ارادت الدولة التركية الحديثة التخلص منها دون ان تعرف بانها تفرط بتراث بلادها وبمكونات تاريخها( 1) ولاادري هل ان مكونات هذا الانسان الشرقي تختلف عن مكونات الانسان الغربي الا يعرف هذا الانسان الاسيوي المسكين بانه يكرر يوميا جبالا من الخسائر لبحار من الاثار الشاخصة والمطمورة؟ وهل نستحق كل هذه الكنوز من الموروثات ونحن بهذا القدر من اللامبالاة اذا لم تكن بلاهة.. كل ذلك يذكرني باحد المشاهد او الحوادث حين دعاني احد الاخوة العراقيين الساكنين في فرنسا ومن المختصين بالفنون والتراث الحضاري للشعوب دعاني لرؤية منطقة تاريخية في باريس. دلفنا الى احد الاحياء القديمة فرايت البيوت التي بنيت في بداية القرن العشرين او نهاية القرن التاسع عشر. شوارعها ضيقة وبناياتها قديمة والايل منها للسقوط وضعت له البلدية اعمدة افقية ادخلت من خلال الشبابيك العلوية واسندتها باعمدة اخرى من الفضاءات الخارجية والداخلية وقصة هذا الحي معروفة عند الباريسيين القدماء ويتناقلونها جيلا بعد جيل حيث ان البلدية في ذلك الوقت حاولت ازالة هذا الحي لان مبانيه ايلة الى السقوط واكثرها قديمة وقسم منها غير مسكون ولكن اهل الحي رفضوا هذا القرار ووقفوا بوجه الجرافات باسلحتهم النارية البسيطة والادوات الحديدية والخشبية فخافت الحكومة ان يعيد التاريخ نفسه وتعود كومونه باريس.( 2) للظهور مرة اخرى، فاتخذت هذه الاجراءات وساعدت السكان بان رممت الكثير من هذه المساكن واسندت المساكن الايلة للسقوط بالطريقة التي اسلفنا حتى لقد اصبح هذا الحي من المناطق السياحية التي يزورها السياح ضمن برنامج زيارة اثار باريس كما تمثل فيه مشاهد سينمائية عديدة وافلام تعكس صورة باريس القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
انك لتجد نفسك في هذه الاحياء كانك تسير في احياء الميدان القديمة والفضل والكفاح وابو سيفين والشيخ عمر قبل ان تشوهها ايدي تجار الحروب ورجال الحواسم القديمة والجديدة وكلما مرت بي لقطة من هذه اللقطات اتذكر صديقي العتيد التراثي الفطري البعشيقي سليم زيتو الذي كان كتلة من الامثال ومخزنا للنبوءات الساخرة ومن سخرية القدر ان نبوءاته بحق الاغبياء والاشرار كانت تتحقق فكان يردد دائما (وين السماوة وين دكان شناوة) وذلك للدلالة على الفروق الكبيرة الموجودة بين حالين او حالتين انني اقف مذهولا امام هذه اللامبالاة التي نمر بها فنحن نطوف على بحيرات من النفط والاثار من المدن التأريخية بحسب الخرائط الحديثة للمسح الجيولوجي والاثاري ولكننا لانعرف قيمتها الحقيقية.
ومما شاهدته على الطبيعة او مامر بنا من احداث ومفارقات هو مجئ وزير الثقافة والاعلام الاسبق الشاعر شفيق الكمالي الى الكوفة لغرض مقابلة شاب اريحي اسمه كامل سلمان الجبوري( 3) وهو من رجال النجف والكوفة الافذاذ ومن مؤرخيها وادبائها وشعرائها ويعد دار معارف متنقلة لما يحويه بيته ومكتبته ودماغه من ارشيف مصور ومكتوب ومحفوظ حتى انك لتجد عنده اول الطوابع التي صدرت في العراق وكان في وقتها قد اسس متحف ثورة العشرين الوثائقي في النجف الاشرف فطلب منه وزير الثقافة والاعلام شفيق الكمالي ان يعطيه ارشيفه الخاص الذي كان يحتوي على (21.000) احدى وعشرون الف مسودة صورة لزعماء ورجال ثورة العشرين ولرجال العهود القديمة ومدن النجف الاشرف وسككها وحاراتها وكل مايمت الى ماضي العراق الحديث عموما وماضي الفرات الاوسط خصوصا بصلة حتى لقد صور الابار القيمة بكتاباتها الكوفية ومساجد النجف والكوفة واروقتها وعلمائها، كل ذلك مقابل (21000) واحد وعشرون الف دينار وهذا المبلغ يساوي في ذلك الوقت سبعة بيوت من بيوت الكوفة الحديثة، تصور سبعة بيوت مقابل ارشيف صور قديمة ولكنه رفض طلب الوزير ولو بمقابل واحد وعشرون مليونا لان الوزارة والمؤسسة العامة للاثار والتراث لاتعرف قيمة التراث وعندما اطلعه على الاسباب اقتنع الوزير المذكور واكتفى من الزيارة بما رآه من كنوز الكتب والمخطوطات والبيوت التاريخية وخزانه ضريح الامام علي (ع) وما كانت تحتويه من نفائس لاتقدر بثمن. ولم يفرط العراقيون بتلكم الموروثات فقط انما فرطوا بذلك الرجل الموسوعي التراثي الذي ترك لحد الان العشرات من الكتب بين التحقيق والتاليف اضافة الى جمعه وتحقيقه الاف الوثائق التاريخية المهمة والاسلحة القديمة التي شارك بها رجال العشائر العراقية الابطال اضافه الى الاثار الاخرى ما يعجز الوصف عنه. كل ذلك ذهب ادراج الرياح في سنة 1991 بعد الهجمة الصدامية التي اجهضت الانتفاضة الشعبانية البطلة.
لقد جرنا الحديث بعيدا عن المرام وهاهو الاحباط يقتلنا ونحن نشاهد قصور بغداد القديمة الجميلة المطلة على نهر دجلة بكل تاريخها العتيد وحكاياتها الجميلة تصبح بعد السقوط الكارثي للنظام السابق مقرات للمنظمات المدنية التي لاتعرف للتراث الانساني العراقي من قيمة وذلك من خلال اجراءاتها التي حورت وغيرت في تلكم الاماكن مايتلاءم ورغبة مسؤوليها وهاهي قصور بغداد القديمة وبيوتها التراثية مثل بيت الجواهري(4 ) وبيت سيد علي العواد في الكسرة والبيوت الكبيرة والكثيرة المنتشرة على جانبي شارع الامام الاعظم من الاعظمية حتى باب المعظم وقد شمل التدمير بناية وزارة الدفاع وغيرها من المباني التراثية وهي تدمر بيد مالكيها الجدد لغرض بناء عمارات على الطراز الحديث فهي اكثر نفعا من الناحية المادية لاصحابها ولكنها جرائم يومية لايرتكبها الانكليز ولا الامريكان ولا أي شخص من خارج الحدود انما هي جرائم نرتكبها نحن بحق انفسنا وبحق تاريخنا وتراثنا.
سؤال يراودني وانا اتامل هذا النزيف المستمر على المستوى الرسمي والشعبي.. متى نعرف ان التراث لايقدر بثمن.. ولايمكن تعويضه اذا دمر؟؟؟
---------------------------------------------
( 1) مجلة الوثائق العدد الاول/الجامعة المسنصرية بغداد: 1979
( 2) كومونه باريس: انتفاضة شعبية مسلحة قامت في باريس على الملكية الفرنسية واستطاعت ان تؤسس قبل سقوطها نظاما اشتراكياً متطوراً وثورياً من الطراز المتقدم وقد اسقطها تحالف القوى الاستعمارية والبرجوازية وقد جاءت بمفاهيم ادارة شعبية سبقت النظم الاشتراكية الحديثة بازمان فكرية متطورة كبيرة حتى قال عنها ماركس لقد شاخ البيان الشيوعي الاول ازاء التطور الفكري لكومونه باريس.
( 3) كامل سلمان الجبوري: مؤرخ عراقي نجفي اسس متحف ثورة العشرين في النجف الاشرف واكتشف المكان الحقيقي لواقعة القادسية الاولى ولديه ارشيف صور يحوي على الالاف من المسودات وضعها في خدمة الدارسين والمؤرخين كما ان له مؤلفات شخصية وتحقيقات تصل الى العشرات اضافة الى مئات المقالات الادبية والتاريخية والتراثية انهى في السنوات الاخيرة دراسة الماجستير وهو يحضر الان للدكتوراه من مواليد الكوفه سنة 1949ويسكن حاليا بيروت لغرض الدراسة وقد طبع اخيرا الاف الوثائق المحققة بجهده الشخصي وهو كما اسلفنا دائرة معارف متنقلة.
( 4) بيت الجواهري في الخمسينيات في الكسرة قرب جامع ومكتبة ال البيت في شارع الامام الاعظم ويقابله بيت سيد علي العواد وقد هدم حاليا ويجري بناء عمارة حديثة في نفس الموقع علما ان الدار تحتوي على بستان كبير مساحته حوالي (5000) خمسة الاف متر مربع بين شارع الامام الاعظم وكورنيش الكسرة.

#عبد_الهادي_فنجان_الساعدي (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات