تتفق جماعات عديدة من الناس والشعوب بأن قضية الشعب الكوردي هي إحدى المسائل القومية الملتهبة في العالم التي لم تجد حلاً ديموقراطياً عادلاً لها في عالمنا المعاصر حتى الآن، وهي قضية تمس حياة ومصائر حوالي 40 مليون انسان كشعب متمّيز ومتمّسك بأرضه ولغته وثقافته وتقاليده العريقة ونفسيّته التي تمّيزه عن بقية شعوب المنطقة، وساهم بقسطه الذي لا يستهان به في التطور الإنساني والحضاري والتاريخي للمنطقة
ان الشعب الكوردي هو أحد الشعوب الشرقية العريقة. وعاش الكورد على أرض وطنهم كوردستان منذ الاف السنين، وحافظوا على وجودهم على أرضهم بالرغم من حملات الغزو العديدة التي اجتاحت منطقة الشرق الأوسط في مختلف العصور.
وخلال الفترات التاريخية المختلفة لحق بالكورد ويلحق ظلم مزدوج، فهم يتعّرضون للإضطهاد القومي من قبل الحكومات الرجعية الشوفينية، ويعانون في الوقت نفسه من الإستغلال وقمع الحريات السياسية وأنتهاك حقوقهم الأساسية مع جماهير الشعوب والقوميات، والأقليات القومية المتعايشة في دول المنطقة.
ولم يسلم الكورد من حملات التعريب والتتريك والتفريس، وعمليات الصهر القومي التي أدّت في النهاية إلى تجزئة كوردستان إلى عدة مناطق تم الحاقها بالدول المتواجدة أو الدول التي نشأت حديثاً. وأرتباطاً بتلك التجزئة والإلحاق نشأت وتطورت أيضاً العلاقات الاجتماعية والثقافية للشعب الكوردي كقومية صغيرة مع الشعوب الأخرى التي يتعايش معها، وساعدت على ذلك الثقافة الأسلامية والتقاليد والدين والتاريخ المشترك لها، وفي الوقت نفسه حافظ الكورد على العلاقات العائلية والعشائرية فيما بينهم وبدرجة أقل الاقتصادية منها في اجزاء كوردستان المقسمة. فالحدود الدولية المصطنعة بين العراق وتركيا وايران وسوريا لم تشّكل في واقع الأمر عائقاً حقيقياً في وجه تلك العلاقات، ولا حتى أمام العلاقات النضالية والسياسية الى حد غير قليل.
ولا يخفى على المتتبعين والمهتمين بدراسة الحركات القومية المعاصرة للشعب الكوردي والنضال المريرالشاق والمتواصل الذي خاضه الكورد بحيّوية من أجل الديموقراطية والحقوق القومية. وقد خاض الشعب الكوردي منذ أكثر من قرن كفاحاً صعباً دؤوباً ومتواصلاً ودامياً من أجل طموحاته القومية المشروعة والعادلة، لتقرير مصيره كغيره من الشعوب، غير أنّ هذا المطمح كان يصطدم بإستمرار بمطامع السيطرة العثمانية والصفوية، كما واصطدمت فيما بعد بشوفينية الحكام في البلدان التي ألحقت بها وضمّت إليها كوردستان، حيث أغرقت إنتفاضاته وثوراته التحريرية في برك من الدماء وحرّم من أبسط حقوقه القومية والديموقراطية،وفي المقابل وفي خضم هذه المسيرة التاريخية المشرفة حققت الحركات القومية العديد من المكاسب التاريخية الهامّة في هذا الجزء من كوردستان أو ذاك، إرتقت بالقضية الكوردية إلى مستويات أعلى وأرقى بالنسبة لمهامها الآنية وأهدافها البعيدة. ولكن الشعب الكوردي واجه كذلك العديد من المصاعب والأزمات وأصيب بنكسات خطيرة لأسباب وعوامل موضوعية وذاتية مختلفة.
إنّ إلقاء نظرة فاحصة وسريعة على تاريخ الشعب الكوردي توضح نضاله في جميع أجزاء وطنه بثبات وشجاعة متميّزة ضد الاضطهاد القومي ومن أجل الاعتراف بحقه في تقرير مصيره بنفسه.
وقد لعبت العوامل الاقتصادية والسياسية في العراق مثلاً دورها في دفع الحركة القومية الكوردية إلى إحتلال موقع الطليعة في نضال الشعب الكوردي، وأستطاعت هذه الحركة بالتعاون مع القوى اليسارية والديموقراطية، وفي مقدمتها الحزب الشيوعي العراقي أن تفرض نفسهاعلى الساحة السياسية ، إذ كان الشعب الكوردي على مر التاريخ وعلى الدوام شريكاً فعّالاً وأساساً مع قوميات الشعب العراقي عرباً وتركماناً وكلدوآشوريين وأرمن في النضال من أجل تحرير العراق من سيطرة القوى الاستعمارية ومن هيمنة الامبريالية، ومن أجل بناء عراق ديموقراطي مستقل يتمتع فيه بحقوقه القومية المشروعة العادلة. وقد شهدت كوردستان-العراق انتفاضات وثورات مسلحة متعاقبة على امتدادالثمانين عاماً المنصرمة، هي عمر الدولة العراقية المعاصرة، وكانت من أبرزها ثورة أيلول 1961 ، وانتفاضة عام 1991.
وكان الشعب الكوردي قد حقق إنجازاً كبيراً عند قيام ثورة 14 تمّوز 1958 وإعلان النظام الجمهوري والاعتراف في المادة الثالثة من الدستورالعراقي المؤقت بشراكة العرب والكورد في الوطن !، كما وحقق بعد نضال مليء بالتضحيات الجسام إنجازاً تاريخياً آخراً في آذار 1970، وهو الاعتراف بحقه في التمتع بحكم ذاتي له في إطار الدولة العراقية الواحدة.
لا شك ان جماهير القوميات القاطنة في العراق والعديد من شعوب منطقة الشرق الأوسط والمتتبعين للقضية الكوردية في العالم تعلم بصورة جيدة ان السلطات الفاشية لنظام صدام حسين المقبور أصيبت بهزيمة كبرى إبان إنتفاضة شعب كوردستان الباسلة عام 1991، إثر إنسحاب دوائرها ومؤسساتها الحكومية من اقليم كوردستان ونقل وسحب ما تبقى لديها من قطعات عسكرية بعد أن منيت بخسائر كبيرة الى بغداد والمناطق الأخرى.
ومع مرور الأيام التي أعقبت الانتفاضة الجماهيرية المجيدة لشعب كوردستان استطاع الكورد ولأول مرة على أرض آبائهم وأجدادهم من تنظيم انتخابات برلمانية ، حيث تم على اثرها الاعلان في الرابع من تشرين الأول/ اكتوبر 1992 عن إقرار الفيدرالية كشكل للعلاقة مع المركز ، كما وتم التأكيد بأن الفيدرالية هي الصيغة الأنسب والأكثر ديموقراطية والأوفر ضماناً لتلبية الحقوق المشروعة للشعب الكوردي، وبأنّها أي الفيدرالية، المعبرة عن قناعة الشعب ورضاه ليست معولاً للتهديم، بل وكما اثبتت التجارب، عامل لتعزيز وحدة البلاد، وحمايتها وإعادة تشكيل النظام السياسي- الاداري لعراق موّحد، وتعبير ملموس عن حق الشعب الكردي في تقرير مصيره بنفسه.
وهنا لا بدّ من التأكيد على جملة من السلبيات التي رافقت الحياة الجديدة في كوردستان، وفي مقدمتها الصراع والإقتتال بين الأحزاب الكوردستانية ولا سيّما الحزبين المتنفذين، الحزب الديموقراطي الكوردستاني والاتحاد الوطني الكوردستاني، الأمر الذي أدّى إلى تعطيل عمل البرلمان واستحواذ كل طرف على جزء من أقليم كوردستان، وتشكيل إدارتين كورديتين في كل من السليمانية وأربيل.
لقد طبّل أعداء الكورد وكوردستان وزمّروا ولا يزالون للأحداث المؤسفة بين هذين الحزبين في كوردستان، ولم يخفوا غبطتهم وفرحهم بها، وعملوا ويعملون بكل طاقاتهم لإثارة المشاكل والفتن للحيلولة دون الوصول إلى حلول للقضايا العالقة بينهما، ولديمومة الأوضاع الشاذة بهدف عدم الاستفادة من الأوضاع المستجّدة بعد قبر نظام الجريمة والخداع وزوال الحزب " القائد "، ويناضل الكورد ومعهم جميع العراقيين الشرفاء وقوى وأحزاب شعبنا الوطنية ضد تخرصات الأعداء ومواقفهم الشوفينية، وهم يطالبون المسؤولين في الإدارتين بتوحيدهما في إدارة واحدة قادرة على تحقيق أحلام وآمال وتطلعات الشعب الكوردي.
ويعرف الأعداء قبل الأصدقاء بأنّ الحكومات المتعاقبة على دست الحكم في العراق تعاملت بوحشية مع الكورد، وبالأخص الزمرة البعثية الإنقلابية التي استولت على الحكم في المؤامرة الدنيئة لإنقلاب رمضان في 8 شباط الأسود عام 1963، وعبدالسلام وزبانيته وأخيراً النظام الأرعن لللقتلة المجرمين أحمد حسن البكر وصدام حسين. وكما هو معروف فإن هؤلاء الأوباش شنوّّا نيران غضبهم وحقدهم على المناضلين العراقيين جميعاً ومن ضمنهم الكورد، وقد جنَ جنون هذه الشراذم ولجأوا إلى إصدار بيانات للقتل والإبادة الجماعية واستخدام الأسلحة الفتاكة ومن ضمنها السلاح الكيمياوي، وضرب المناطق الآهلة بالسكان في الأهوار وكوردستان ، وان الضربة الكبرى كانت من نصيب مدينة حلبجة التي قتل فيها أكثر من 5000 انسان بريء جلّهم من الأطفال والنساء والشيوخ في دقائق معدودة.
لقد تعرض الكورد مع سائر اخوانهم من القوميات الأخرى خلال 45 سنة الأخيرة إلى أبشع هجمة شرسة استخدم فيها الأعداء المجرمون القنابل العنقودية والفسفورية والطائرات والسمتيات والمدفعية الثقيلة وكل صنوف الاسلحة التي كانت تصل إلى الطغمة الدكتاتورية بصورة منتظمة.
وإزاء كل ما تقدم، وما لحق بالكورد من كوارث وويلات على أيدي الحكام الملّطخة بالدماء من أمثال : رشيد مصلح وكمال أحمد الراوي وصديق مصطفى وصدام حسين وناظم كزار وطه الجزراوي وهاشم سلطان أحمد والشريرين المقبورين عدي وقصي وغيرهم ينبري عدد غير قليل من الشوفينيين والحاقدين للتهجم على الكورد بمناسبة أو بدونها، ويذهب البعض من المنحطين من الزمر الجبانة للتشكيك بالمجازر التي اقترفها المجرم صدام ونظامه المنهار مثل مجزرة حلبجة وعمليات الأنفال السيئة الصيت والقتل الجماعي. ويقوم البعض بالترويج لسياسة العصا الغليظة تجاه الكورد وافتعال الأزمات والوقوف ضد إرادة الكورد وإطلاق النعوت الذميمة عليهم والتنكر لحقوقهم التي يطالبون بها ، وإلى دعوة القوات التركية للدخول في كوردستان " لتأديبهم " والترحيب بكل ما يعيق تطور كوردستان. ومن المؤسف أن نرى أن عدداً ممن يحلو لهم أن يظهروا بمظهر المثقفين والمفكرين والمحللين وما إلى ذلك لا يتورّعون عن إفراغ ما في جعبتهم من سموم شوفينية وأحقاد دفينة ضد كل ما يمت إلى الكورد بصلة.
في الماضي إدّعى أزلام وأذناب صدام حسين بأنّه لا فرق بين الجبايش في الجنوب وماوت في " الشمال " في إشارة واضحة منهم لطمس الحقوق القومية الكوردية المشروعة وعدم الأعتراف بها، واليوم إذ يتكاثر الحديث حول بناء العراق الجديد والتوجه الديموقراطي المنشود تحاول جماعات عديدة الإستفادة من الأوضاع الشاذة والسائدة في البلاد إلى اللعب بالورقة الكوردية والإلتفاف عليها وإسكات صوت الكورد الذين يطالبون بنظام برلماني تعددي فيدرالي، بإعتباره الصيغة الأنسب للعلاقات بين الحكومة المركزية وأقليم كوردستان.
ويحاول البعض من النفوس المريضة ومن المصابين بالعمى التصّيد في المياه العكرة لتأجيج الفتن وإشعال نار الفتنة والفرقة بين الكورد وأخوانهم من العرب والتركمان والكلدوآشوريين والأرمن ، إلا أنّه لا بدّ من القول : أن فألهم سيخيب كما خابت آمال كثيرة أخرى لهم، وإنّ النوايا الخبيثة لجميع البؤساء الخائبين ستبوء هي الأخرى بالفشل الذريع.