عبدالحسين الساعدي
الحوار المتمدن-العدد: 2032 - 2007 / 9 / 8 - 10:12
المحور:
الادب والفن
منذ إن ترك مدينته القديمة مكرهاً, والتي تعلق بها وعشقها حد الجنون , لم يدر بخلده يوماً انه سيتعلق و بمثل هذه السرعة والضعف بمدينة أخرى , بعد أن خبر حقيقة و قسوة و جحود كل المدن , و كيف أنها تدير ظهرها و تتخلى عن متعليقها و عشاقها غير آبهة بما سيحل بهم من لوعات و عذابات لا ترمم .
تتداعى الصور في مخيلته , فيتذكر كيف كان ينسل داخل الغابة كالطفل الهارب إلى حضن أمه كلما أحس بالجوع أو الخوف , أو عندما يصيبه التوتر الشديد , يحس بالأمان و هو يدخل غابة مدينته القديمة , لا ينكر أن سعادته كانت تكتمل عندما يستلقي مسترخياً واضعاً خده على أخدود الوادي الممتد من شمال المدينة و حتى جنوبها , و الواقع بين الهضبتين اللتين طالما حلم أن يبني بيته فوقهما , كانتا كأطلال مدينة سومرية شامخة تتحدى الزمن , من هناك كان يستغرق في النظر و يرقب بريق الضوء المنبعث من عيون الماء كأنها شلالات من حبات الكريستال أو اللؤلؤ المتناثر فوق السفح المنبسط بدعة , تحكيان قصة الزمن اللا متناهي , كان يسبح في العين التي تتوسط المدينة , و يبلل جسده بماء الحياة المقدس المتدفق من تلك العين , حاساً بالعشب الندي يدغدغ خده , فتسري به رعشة تشده أكثر فأكثر نحو ذلك الينبوع الأزلي .
لم تحفظ ذاكرته خارطة مدينة مثل مدينته القديمة ، لقد خبر كل طرقاتها ,و لعب و عبث بصبيانية غير طبيعية فوقها ,و كان عند التلال المنحوتة بأزميل نحات ملكوتي ماهر كأنها قباب الأندلس , يتسلق أشجار "السبندار " العالية الفارعة الطول , و كأنها سيقان راقصة الباليه , يتلذذ أيما لذة و هو يتحسس نعومتها , لقد حباها الله بجمال ساحر خلاب آسر قلما سمع أو قرأ أو شاهد من مثلها .
لم يلحظ منها أي تذمر و شكوى , بل كانت تشاكسه لتشاطره فرحة الطفولي , وديعة دافئة المواسم , تفوح في أجواءها رائحة عبقة زاكية طالما ملا رئته من شذاها المشبع برائحة العنبر , ذاق عسيلتها و ذاقت عسيلته .
لكن و بدون سابق إنذار وجد نفسه خارج المدينة كشخص غير مرغوب به بالمرة , قيل له انك هجرتها و لم تشاركها إحزانها و فرحها و لم تستطيع أن تدفع الذين يحاولون النيل منها كما انشغلت بالترحال بحثا عن هم غيرها لم تكن همك الأوحد , و بالرغم من دفاعه المستميت و تبريراته الصادقة و تمسكه بمواطنته , و بحقه المكفول كونه مزارع فوق أرضها , و مغروسا ته قد تشفع له بالبقاء , لكنها لم تجدي نفعا , فذهبت كل توسلاته ودفوعاته في مهب الريح , و على حين غرة أصبح المطرود الأول و الأخير من فوق أرضها , و تحول إلى متسكع دون وطن بعد أن كان مواطن من الدرجة الأولى بل كان سيد المدينة و غطريفها, و مثل فرس جموح كان يصول و يجول كيفما يشاء في هذه المدينة التي طالما اعتبرها فردوسه الدنيوي و الأخروي .
حاول عبثاً أن يجد رابطا ولو بشكل بسيط يربطه بالمدينة الجديدة التي حط الرحال بها مرغما , و التي سكنها قريبا و هو يعتقد جازماً أنها لا تستطيع أن تعوضه عن خسارته الجسيمة فلا يرى فيها تلك الغابة و لا العيون و الشلالات و لا حتى الطرق و الممرات التي يسلكها مرغما بين الفينة و الأخرى , عله يجد فيها تعويضا بائسا و يرمم شرخ المرآة التي بداخله , و مما عزز إحساسه هذا انه منذ مجيئه و لحد الآن لم يعرف مواسمها أو يحفظ أسماء شوارعها و مداخلها , و لم ترتسم لها أي صورة راسخة في ذهنه و ذاكرته المتعبة المجروحة , و خلال كل تلك الفترة المنصرمة كان يجلس في داخله مقعى حزين كمن خسر الدنيا .
- يا للهول هل التاريخ يعيد نفسه و دورة الحياة تعود بيَّ إلى الوراء قالها في داخله
فبدون أي مقدمات ينهار عناده و تجلده و لم يسبق أن شوهد بمثل هذه الإرادة الضعيفة و التي لا تخلو من جراءة منفلتة لا توازي وقاره ووضعه , حاول للوهلة الأولى أن يكبح جماحها لكن دون جدوى أصبح كالطفل الذي يتعلق بلعبة جميلة يحاول أن يتملكها و بأي ثمن كان غير عابئ بما سيترتب على جموحه هذا .
أدرك انه في عالم سرمدي أخر و هو يقف على مشارف مدينة جديدة أخرى و التي وصلها للتو مصادفة اخذ يغذي السير نحوها دون وعي و شعور بما يفعل , أحس بقوة خفية تشده إليها , في بادئ الأمر انتابه شعور غريب لم يراوده منذ فترة طويلة , شعور يشبه إلى حد ما شعوره و هو يفتح عينيه على مدينته القديمة, كاد يكون قاب قوسين أو أدنى من أجواء تشبه إلى حد بعيد أجواء و عوالم مدينته التي لفظته قسرا , لا بل هي عوالم أبهى و أجمل , فالغابة في هذه المدينة كالليل الأمجد الشامخ و هضابها كعروش شبعاد تغفو فوقها تنهدات عذرية تأسر لب القلب تنهدات تحكي عن عطش و شبق لا يرتوي , و بريق الضوء الصافي كصفاء عين الديك تقرا فيها قصص شهرزاد و هي تحكي قصص الحب و المدن الحالمة التي لم تخذل ساكنيها , و تلالها أبدع ما تكون و كأن نحاتها وضع سره فيها .
يجزم أن المدينة لم يسلك طرقاتها و شوارعها و ممراتها احد من قبل , و عيون الماء فيها رقراقة كشلالات ضوء يدلك على مدينة صامدة قوية عصية لا تمنح حبها للدخلاء بسهولة كفرس حرناء لا تمكن أي فارس أن يعتليها .
بالرغم من قلقه و بؤسه و نضوح كأسه بعد ترحال عبثي بحثاً عن مدن أمنه وديعة هادئة .
قرر أن يحزم أمتعته و يعد أوراقه ليسكن و لو بظلال غاباتها ,ليعيد توازنه , و يسبح برضابها النازل كالمطر من السماء فيغتسل من أدران زمنه المر.
لم يأبه في تمنعها فهي لا تريد أن تفرح أو تحزن لأي احد يريد الدخول إليها , هي تريد أن تكون بمنأى عن العذابات و أن كانت فيها شيئا من اللذة .لا تريد أن تمر بأي خسارة و ألم , و غير مستعدة لتحمل أي حزن , و لا تريد التنازل عن جبروتها و غرورها لأي أحد , لها تبريراتها الكثيرة التي جعلتها وسائل دفاعاتها التي ستصبح في يوم ما اضعف ما تكون عليه , حيث يأتي الطوفان فيغرق المدينة بأكملها .
كان يود إن تدعوه لكنها ظلت تحتفظ بقوتها و جبروتها الصيد و شيئا من قسوتها و غرورها , أحب هذه القسوة وهذا الغرور , و اخذ يتلذذ بهما لتتداعى بمخيلته صور طالما أحبها و غط في وسن هو أشبه بالنوم , و أخذ يحلم .
#عبدالحسين_الساعدي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟