أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اخر الاخبار, المقالات والبيانات - حيان نيوف - رحيل إدوارد سعيد في زمن الخريف















المزيد.....

رحيل إدوارد سعيد في زمن الخريف


حيان نيوف

الحوار المتمدن-العدد: 609 - 2003 / 10 / 2 - 04:19
المحور: اخر الاخبار, المقالات والبيانات
    


 

" باغتتني رغبة حارة بالبكاء ، وبالفعل ذرفت دمعتين يتيمتين ، لم أجد بعدهما ما أذرفه . أليس العجز عن البكاء هو جزء من هذا الخواء الداخلي الذي كان يهيء موتي ، ويعلن عنه ؟ "
ذاكرة النبوءات – سعد الله ونوس

منزل ريفيٌّ يطلّ على غابة تسكنها الأرواح المهاجرة ، مدلّلة ، طيّبة تحضنها الأوراق " المناهضة" لأشعة شمس حارقة تأتي من الشرق .
أمّ عجوز تنتظر أمام هذا المنزل الريفي . الوحشة والانتظار بين عينيها وهي تجلس على كرسيّ مصنوع من خشب السنديان . يمتدّ خدّها على يدها اليمنى ، لتصبح شاردة في قبة السماء لعلّ من تنتظر يعود مع المطر أو نسمات الهواء .
تنتظر عودته من سنين  ، وفي كل عام يحطّ رفٌّ من الدّوري على نافذة غرفتها ليقرأ سورة الغربة والحنين ، ويطير متعبا من تأملاتها المنكسرة في كل مكان نحو ما زرعه ولدها في الأرض وفي قلبها قبل رحيله : شتلة حبق ، عود مسك وياسمين ، وشجرة تين  لا تأكلها سوى العصافير الجائعة .
قالوا لها أنه لن يعود .. فقالت أنها ستنتظره حتى تموت . قالوا لها أنه مات منتحرا على أوراقه ودفاتر أشعاره في بلد المهجر .. فقالت أن الصخور لا تبدو زاهية وقوية إلا عندما تموت على صدرها أعواد الزوفا والزعتر . قالوا له أن ساحرة غربية اختطفته من أوهامه .. فقالت أن الشرقي لا يُختطف إلا من أحلامه ..
وانتظرت عشرين سنة .
مات الديك البلدي العجوز وابنها لم يعد .
تغيّرت الوجوه وتراكمت عليها تضاريس من جبال الحزن  وأنهار الدموع التي لا تجد من يمسحها لأن المناديل البيضاء سُرقت ذات ليلة ...
تغيّر اللوز ، وتدلّت أشجار العنب بين الحجارة هربا من الدوري والدرغل وأبو حن فلم تعد هناك "فزّاعات" تُنصب في البساتين منذ زمان بعيد ...
هنا، في هذا الامتداد الروحي والمشهد المتصدّع ، لن يكون أمامك سوى أن تكتب – لا بل هذا المشهد هو الذي يكتبنا ويطوينا بين حناياه، ويضمنا إلى حين آخر نقرر فيه الهروب من الحرف والرمز كما هرب ولدها عندما كان يصرّ أن الشمس تشرق من خلف الجبال بعد صعودها على سلّم خشبي صنعه والده ، وفي المساء تغيب الشمس عندما يخطفها بحّار ويضعها في قاربه ويرجع بها إلى قريته ...
ثمة كلمة تنضح بين حروفها زفرات محزون ... وثمة حكاية تسقط حروفها مع تساقط أوراق الخريف على الأرض النائمة .

تصادف أن يرحل إدوارد سعيد في الخريف ، فلما ُيكتب على الكثيرين من كتابنا ومفكرينا أن يرحلوا في زمن الخريف أو الشتاء ؟! . لقد رحلوا مرتين : المرة الأولى عندما ُشردوا من أرضهم وأوطانهم ، والمرة الثانية عندما مرضوا وماتوا في أزمان الخريف والشتاء . مع تساقط أوراق الخريف والتحافها بوجه الأرض النقي ، كانت من بين هذه الأوراق ورقة كبيرة تشبه القلب ويسهل عليها انزلاق الدمعة – ورقة اسمها إدوارد سعيد . وكم كان عصيا على العقل البشري المحاط بأشرطة شائكة ، لا ينصبها النواطير بل ينصبها آخرون ، أن يخرج من التيه ومن أسئلة الكون ! وبنفس القدر سيصعب علينا أن نجد دائما أمثال إدوارد السعيد الذي يقول كلمته ويمشي دون خوف ، ولكن بحب للأرض البعيدة هناك خلف العالم المنسي .. . بجدارة ، نعم بجدارة ، نعيش خريفين هذا العام : نعيش نهاية فصل جميل من حكاية محزنة من حكايا أوطاننا اسمها إدوارد السعيد ، والخريف الآخر نعيش فيه ويعيش فينا حتى تكونت بيننا صداقة طويلة. 

إدوارد سعيد ، الذي ولد في الشرق ومات في الغرب ليُحمل نعشه على الأيدي ، لن يتكلم بعد اليوم عن الشمال والجنوب أو الثقافة والإمبريالية . خفت صوته واختطفه مرض خبيث كما اختطف من قبله سعد الله ونوس وكثيرين دون إذن منهم لأنهم أحبوا الحياة ورفضوا الإذعان بسهولة ، وقبل أن يختطفه المرض والموت كان قد اختطفه الاحتلال وأجبره على العيش في المنفى .

سنفهم كلام إدوارد سعيد كثيرا لو قرأنا روايتين مهمتين من أدب " ما بعد الكولنيالية " Post Colonialism   : الرواية الأولي هي "موسم الهجرة للشمال" Season of Migration to the North للروائي السوداني الطيب صالح ، والرواية الثانية هي "أشياء تتداعي" Things Fall Apart  للروائي النيجيري شيناو أشيبي . ففي رواية الطيب صالح سنجد أكثر من شخصية تستخدم لغة المستعمِر لتحدثه وتنتصر عليه بلغته أي محاربته بسلاحه ، وقد نجح الطيب صالح بذلك لأنه قام بتفكيك لغة الاستعمار وخطابه وتحويلها إلى مفردات قابلة للتلاعب من قبل الشعوب المستعمَرة وهذا ما ندعوه بالإنكليزية : Deconstruction of Language  . إضافة لفكرة الحنين للوطن الموجود في الجنوب Nostalgia  . وأما رواية شيناو أشيبي فقد تناولت بتعمق علاقة أهل الجنوب بالأرض ، وهو يكرر في روايته التركيز على الشبه الكبير بين الأم والأرض إلى درجة أصبحت فكرة الأم هي الجنوب وسنجد أن جملة من قبيل Mother is Supreme     قد باتت محورا رئيسا في بنية الرواية . وهذا ما ندعوه بلغة تحليل النص الأدبي في الأدب ما بعد الاستعمار" الأمة والسرد"  Nation and Narration ؛ لنسأل سؤالا في هذا الأدب : أيهما يصنع الآخر الأمة تصنع السرد أم أن السرد يصنع الأمة ؟ وما نلبس نخلص من هذا السؤال حتى ننتقل إلى سؤال آخر أكثر صعوبة واجتهادية : هل هذا السرد ، الذي يصنع الأمة ويكون سلاحا للمواجهة ، يصبح هوية الأمة ؟

تحدث إدوارد سعيد عن كل هذه المفاهيم الأدبية، وحاول دائما أن يجعلها وثيقة الصلة بالأرض وكيفية استمرارها في مواجهة الثقافة المنتشرة من حضن الإمبريالية .  لكن هنا سيخطر ببالي أن طرح مفهوم أدب ما بعد الكولنيالية والاهتمام بدراسته وتحليله كان فخا كبيرا سقط فيه المبدعون غيلة لأن ذكر " ما بعد " يعني أن الكولنيالية قد انتهت وهذا غير منطقي باعتبار أن الكولنيالية استمرت ولو بأشكال جديدة ؛ ومهما كانت هذه الأشكال فإنها حرمت إدوارد سعيد كما حرمت غيره من الأرض " والمكان " .

في كل خريف نخسر مفكرا من هذا الوطن ، وكلما حاولنا نسيانه لترتاح أرواحنا، يذكرنا بموته موت مفكر آخر في وقت مبكر قبل أن يصيح ديك العالم العربي وقبل أن يستيقظ الحلم على رنة منبه الكون المجنون . ضاع خيالنا يا إدوارد ، وأصبح الحلم شوكة في خاصرتنا . وداعا إدوارد سعيد على أمل اللقاء يوما في عالم أكثر نبلا وجمالا من عالمنا هذا حيث قد نجد الحرية والأرض ولا يشردنا الأشرار من أرضنا . وداعا ..

حيان نيوف
كاتب سوري

هاتف
00963 41 810568

 



#حيان_نيوف (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- منع - الجزيرة - و - العربية - من تغطية بعض الأخبار في العراق ...
- حكايات القبّيضة ...
- من وحي شاعر لا ينتمي ...
- انطلاق العدد خمسمائة من نشرة الحوار المتمدن
- حذاء عن حذاء يختلف
- الفن و-مذهب التكذيبية- ..
- سعد الله ونوس يعود للذاكرة الدمشقية ..
- صحفي عن صحفي يختلف ...
- قذائف الديمقراطية تسقط على الصحفيين


المزيد.....




- الصفدي لنظيره الإيراني: لن نسمح بخرق إيران أو إسرائيل للأجوا ...
- عميلة 24 قيراط.. ما هي تفاصيل أكبر سرقة ذهب في كندا؟
- إيران: ماذا نعرف عن الانفجارات بالقرب من قاعدة عسكرية في أصف ...
- ثالث وفاة في المصاعد في مصر بسبب قطع الكهرباء.. كيف تتصرف إذ ...
- مقتل التيكتوكر العراقية فيروز آزاد
- الجزائر والمغرب.. تصريحات حول الزليج تعيد -المعركة- حول التر ...
- إسرائيل وإيران، لماذا يهاجم كل منهما الآخر؟
- ماذا نعرف حتى الآن عن الهجوم الأخير على إيران؟
- هولندا تتبرع بـ 100 ألف زهرة توليب لمدينة لفيف الأوكرانية
- مشاركة وزير الخارجية الأمريكي بلينكن في اجتماع مجموعة السبع ...


المزيد.....

- فيما السلطة مستمرة بإصدار مراسيم عفو وهمية للتخلص من قضية ال ... / المجلس الوطني للحقيقة والعدالة والمصالحة في سورية
- الخيار الوطني الديمقراطي .... طبيعته التاريخية وحدوده النظري ... / صالح ياسر
- نشرة اخبارية العدد 27 / الحزب الشيوعي العراقي
- مبروك عاشور نصر الورفلي : آملين من السلطات الليبية أن تكون ح ... / أحمد سليمان
- السلطات الليبيه تمارس ارهاب الدوله على مواطنيها / بصدد قضية ... / أحمد سليمان
- صرحت مسؤولة القسم الأوربي في ائتلاف السلم والحرية فيوليتا زل ... / أحمد سليمان
- الدولة العربية لا تتغير..ضحايا العنف ..مناشدة اقليم كوردستان ... / مركز الآن للثقافة والإعلام
- المصير المشترك .. لبنان... معارضاً.. عودة التحالف الفرنسي ال ... / مركز الآن للثقافة والإعلام
- نحو الوضوح....انسحاب الجيش السوري.. زائر غير منتظر ..دعاة ال ... / مركز الآن للثقافة والإعلام
- جمعية تارودانت الإجتماعية و الثقافية: محنة تماسينت الصامدة م ... / امال الحسين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اخر الاخبار, المقالات والبيانات - حيان نيوف - رحيل إدوارد سعيد في زمن الخريف