يشتد الصراع في المجتمع حول محتوى وشكل الإصلاح الاقتصادي المرتقب مما يدفع الكثير من المختصين أن يدلوا بدلوهم في هذا المجال، وكان آخر ما صدر هو تصريح د. نبيل سكر مدير عام المكتب الاستشاري السوري للتنمية والاستثمار لجريدة «الشرق الأوسط» اللندنية في 18 تشرين الثاني الماضي.
والمفيد في هذا التصريح أنه يضع النقاط على الحروف فيما يخص الموقف الحقيقي الذي تنتهجه قوى السوق، والذي يعتبر د. نبيل سكر أحد ممثليها الهامين، والجدير بالذكر أنه عمل سنوات عديدة في البنك الدولي بواشنطن.
مفهوم المفاهيم
خلال الفترات الانعطافية يكثر الكلام أحياناً، لتغطية المفاهيم والأغراض الحقيقية، وأحياناً أخرى، تسمى الأشياء بمسمياتها.
الموقف الأول:
يقصد منه خداع الناس وجرهم إلى حيث لا يدرون ليصلوا إلى وضع تقع فيه الفأس على الرأس، ويصبح فيه الندم لا فائدة منه، وما جرى في أوروبا الشرقية دليل على ذلك، فالتكتيك كان كالتالي:
1. الاستفادة من السلبيات القائمة وتعبئة الناس ضدها باتجاه تغيير النظام الاقتصادي ـ الاجتماعي كله.
2. الدعوة لإحداث تغييرات فقط باتجاه اقتصاد السوق حيث أنهار الحليب والعسل بانتظار الجميع.
3. بعد إنجاز النقطة الأولى والثانية «وخراب البصرة» الاعتذار من الناس على أساس «ما هيك كان قصدنا» وهو ما يفعله اليوم في أوروبا الشرقية الإصلاحيون القدامى، دعاة اقتصاد السوق.
الموقف الثاني:
حين تسمية الأشياء بمسمياتها، تكون درجة الثقة بالنفس وبالقوى التي تقف وراء هذه النفس كبيرة لدرجة أنها تسمح بتجاوز المناورات الكلامية السابقة التي تفرضها الحالة الأولى.
من هنا فالمفاهيم المتغيرة الشكل تخفي مفهوماً واحداً، المطلوب استكشافه واكتشافه وطلب رأي الناس فيه بصراحة وشفافية وعلنية.وهو ما سنفعله حينما سنعرض أدناه بعض آراء د. نبيل سكر التي عرضها في ندوة الثلاثاء الاقتصادية في آذار 2000 ومن ثم آراؤه الجديدة في تشرين الثاني 2002.
مفاهيم آذار 2000
■■ بالنسبة للقطاع العام فقد ساعدت أموال النفط على إعادة تشغيله بعد أزمة منتصف الثمانينات، لكن الدولة لم تقم بمحاولات جدية لإصلاحه. (ص5)
■■ في ظل الإصلاح المتردد لم يتم تفعيل القطاع العام. (ص5)
■■ وجود قطاع عام ضمن هرم اقتصادي مرهق منعه من الحركة. (ص6)
■■ تجديد دور كل من القطاع الخاص والعام ودور التخطيط ونظام السوق في توزيع الموارد. (ص9)
■■ مقررات المؤتمر القطري الثامن لم تعد صالحة كإطار نظري للقرار الاقتصادي….. هناك ضرورة لبلورة إطار نظري جديد في وثيقة جديدة تطرح في مؤتمر قطري. (ص10)
■■ السوق والدولة مكملان لبعضهما البعض وليسا بديلين. (ص10)
■■ الخاص والعام شريكان في عملية التنمية. (ص10)
■■ إذا كنا نريد القطاع العام لمواجهة الشركات العالمية العملاقة لمنع فرض سيطرتها كيف يكون ذلك. (ص16)
■■ أعتقد أنه من الحكمة بمكان تجميد القطاع العام الاقتصادي ضمن حدوده الحالية إلى أن يتم وضع خطة… لجعله فعلاً قطاعاً عاماً رائداً في العملية الإنتاجية. (ص17)
هذا ماقاله د. نبيل سكر في آذار 2000 وقد اختلفنا حينذاك معه على صفحات «نضال الشعب» حين قلنا له: المشكلة أن هناك إصلاحين: إصلاح تحت شعار الإصلاح يريد ردنا إلى الوراء عملياً، وهناك إصلاح آخر قد لا نعرف جميع مكوناته وإطاره بكل تفاصيله ولكن معروف بجوهره وعنوانه التنمية المتوازنة المستقلة التي تحقق مصالح الناس، هذا هو الإصلاح الذي تريده الجماهير في نهاي المطاف (نضال الشعب ـ 693 ـ ص8)
وقد لامنا البعض حينذاك على قسوة الطرح مقابل طرح د.نبيل سكر المعتدل، فقلنا إن هذا الطرح المعتدل هو الشكل لمضمون غير معتدل واضح المعالم يجب توضيحه منذ الآن لأنه عاجلاً أم آجلاً سيظهر الشكل الحقيقي المتناسب مع هذا المضمون. وهذا ما حدث.
مفاهيم تشرين الثاني 2002
(الشرق الأوسط 18 تشرين الثاني):
■■ السلطات مهووسة بإصلاح القطاع العام وفي رأيي القطاع في حالة احتضار وبالتالي فالأحسن لنا أن نتركه يموت موتاً طبيعياً بدلاً من أن نبدد الإمكانيات في محاولة إنقاذه. دعني أقول إنني أعارض التخصيص لأنه لا يوجد شخص يشتري مؤسسة عامة عفا عليها الزمن وعديمة الفعالية ومجلبة للخسائر.
■■ إن المستثمرين المرتقبين يشعرون أن سورية لم تحقق قطيعة كاملة مع النظام القديم، وحينما ستفعل ذلك فستصير مكاناً جاذباً للمستثمرين.
■■ بمجرد أن يتغير المناخ السياسي والاقتصادي فإن الناس سيتعلمون بسرعة قواعد اقتصاد السوق. لقد رأينا كيف أن أعضاء الأحزاب الشيوعية في روسيا وأوروبا الشرقية حولوا أنفسهم إلى رجال أعمال أقوياء خلال سنوات.
■■ أظهرت تجربة العديد من البلدان من روسيا إلى الجزائر، أن تخصيص المؤسسات التي تملكها الدولة ليست قاعدة فعالة لتحديث الاقتصاد، فلماذا تبدد الأموال في محاولة تأهيل قطاع عام لم يعد ذا جدوى!؟
■■ حزب البعث الحاكم، والذي يزعم أنه جزء من عائلة اشتراكية، فإنه لم يظهر الشجاعة والرؤية المطلوبتين لمراجعة أيديولوجيته وسياساته….. واستمر متشبثاً بأفكار ومناهج تنتمي لعصر آخر.
هذا بعض ماقاله اليوم، فماذا يريد من هذا الطرح فعلاً؟
قطاع الدولة والأمن الوطني
«السلطات مهووسة بالإصلاح في القطاع العام، وفي رأيي أن القطاع العام في حالة احتضار وبالتالي فالأحسن لنا أن نتركه يموت موتا ًطبيعياً بدلاً من أن نبدد الإمكانيات في محاولة إنقاذه»
■ د. نبيل سكر. الشرق الأوسط 18 تشرين الثاني /2002
علّة قطاع الدولة:
يتفق الجميع اليوم على توصيف أعراض أمراض قطاع الدولة، يميناً ويساراً، مستفيدين منه ومتضررين، مؤيديه ومعارضيه. والسبب هو أنها أصبحت واضحة للعيان لا يمكن تجاهلها ولا إنكارها وهي:
■ ضعف مستوى الإنتاجية وإنتاجية العمل فيه.
■ مستوى الأجور المنخفض بالمقارنة مع مستوى المعيشة الضروري.
■ الفعالية الاقتصادية المتدنية فيه ـ أي ضعف أرباحه بالمقارنة مع الرساميل الكبيرة الموظفة فيه.
■ كل هذه العوامل تؤدي إلى انخفاض نسب نموه التي تؤثر سلباً على نمو الاقتصاد الوطني بمجمله.
ولكن الاتفاق على الأعراض لا يعني الاتفاق على التشخيص، مما يؤدي إلى اختلاف طرق المعالجة، وصولاً إلى أن يقول البعض «دعه يموت».
فهناك إذن تشخيصات عديدة لأسباب عوارض المرض نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
■ البيروقراطية.
■ الهدر.
■ الفساد.
■ الأخلاق.
■ النهب الرأسمالي العالمي والبرجوازي الطفيلي والبرجوازي البيروقراطي.
فإذا كان سبب المرض هو البيروقراطية بالمعنى الكلاسيكي فالحل سهل، فبمجرد تغيير الإدارات ستحل المشكلة.
أما إذا كانت المشكلة في الهدر فرقابة جيدة تحلها.
أما إذا كان السبب الفساد فحملة واحدة قوية كفيلة بإنهائه، وإذا كان السبب الأخلاق «فالقصة طويلة»، وحلها يتطلب «ترباية» أجيال وأجيال.
ولكن، إذا كان السبب هو النهب الكبير الذي تعرض له قطاع الدولة سنوات وسنوات استنفدت خيراته وأنضبت موارده فالحل لا يكون إلا باجتثاث النهب، وإيقاف الناهبين الكبار عند حدهم، مما يتطلب كسر آليات النهب المتمركزة في الحلقة الواصلة بين السوق الداخلية والخارجية من جهة، وبين الإنتاج والاستهلاك من جهة أخرى. لقد وصل حجم التقديرات لأموال السوريين المودعة في الخارج، حسب تصريحات وزير الاقتصاد، إلى حوالي 100 مليار دولار، والأرجح أن قسماً ليس قليلاً منها ليس «مالاً حلالا» بالمقاييس القانونية الحالية.
إذاً علة قطاع الدولة قابلة للشفاء، إذا كانت النهب، ولكن المشكلة اليوم هي أن الناهبين الكبار والمتواطئين معهم، بعد أن جففوا خيرات قطاع الدولة، يذرفون دموع التماسيح عليه ويقوم المنظرون لهم بالادعاء أن قطاع الدولة هو في حالة موت سريري لا أمل من برئه والأفضل تركه يموت موتاً طبيعياً لأنه خاسر بطبيعته. فهل الأمر كذلك؟
قطاع الدولة مخسَّر أم خاسر؟
إذا كان قطاع الدولة خاسراً، وإذا كانت هذه الصفة ملازمة له بشكل دائم فهذا يعني أن هناك مشكلة عضوية في بنيته لا حل لها، وفعلاً يبدو قطاع الدولة في أجزاء هامة منه خاسراً من خلال الحسابات الورقية، مع أنه بمجمله مازال مورداً أساسياً للموازنة السورية، مع الاعتراف بأن فعاليته منخفضة جداً، أي نسبة أرباحه إلى الرساميل الموظفة فيه، ولكن... هل هو خاسر فعلاً؟ فلنحدد مقياس الخسارة.
■ إذا كان مقياس الخسارة هو حجم الأرباح المتوضعة في شركاته في نهاية المطاف فهو خاسر.
■ أما إذا كان مقياس الخسارة هو مدى فعاليته أي علاقة أرباحه العامة بالتوظيفات فيه فهو «نص، نص».
■ أما إذا كان مقياس الخسارة هو حجمه الفعلي في إنتاج الدخل الوطني، أي الثروة المنتجة مجدداً، والتي تضاف كل يوم إلى الثروات السابقة، فمن الصعب جداً القول عنه بأنه خاسر لأنه حتى هذه اللحظة ينتج أكثر من 50% من الدخل الوطني.
إذاً ما المشكلة؟ أهي في طرق القياس أم في شيء آخر؟
وبحساب بسيط يتبين أن قطاع الدولة يملك أكثر من نصف الأصول الثابتة في الاقتصاد الوطني، وينتج أكثر من نصف الدخل الوطني، ولكن أرباحه المتحققة أقل بكثير من نصف الأرباح التي تتحقق على مستوى الاقتصاد الوطني. وهذا يعني أن الفارق بين أرباحه الحقيقية التي يجب أن تتطابق مع حصته من الدخل الوطني، وبين أرباحه المتحققة، أي التي تظهر على الورق بشكل نهائي قد تسرب إلى مكان ما، وهو ما يسمى بلغة الاقتصاد السياسي «إعادة توزيع»، أي أنه في مرحلة ما، يتم إعادة توزيع ما ينتجه قطاع الدولة لغير صالح قطاع الدولة، وحجم إعادة التوزيع هذا هام جداً إذ يصل تقريباً إلى نصف حصته من الدخل الوطني التي تتحول إلى أرباح «حلال زلال» إلى جيوب الآخرين، من ناهبين كبار ووسطاء وسماسرة وتجار إلخ...
وفعلاً فالمواطن البسيط يطرح سؤالاً مشروعاً منذ زمن طويل وهو: كيف يمكن أن يخسر القطاع العام، وكل الذين يتعاملون معه ومن حوله يربحون.
أي بكلام آخر، اكتشف هذا المواطن سر المعادلة التي فحواها «شفط» الثروة المتكونة في قطاع الدولة إلى خارجه بطرق مختلفة، وهذا ما سميناه بعمليات النهب الكبير التي قامت بها طوال سنوات قوى البرجوازية الطفيلية والبرجوازية البيروقراطية.
إذاً يتبين أن قطاع الدولة حسب مقاييس السوق نفسها ليس خاسراً، وإن كنا نرى أن باستطاعته، ضمن ظروفه الحالية، تحقيق فعالية أكبر، ولكنه مخّسر، أي أنه رابح خلال عملية الإنتاج وخاسر خلال عملية التوزيع.
لماذا مطلوب رأس قطاع الدولة؟
السياسة النيوليبرالية المعولمة تطالب برأس قطاع الدولة في كل مكان وسورية ليست استثناء.
وهذه السياسات تطالب بذلك لأن قطاع الدولة كرأسمالي كبير قادر على المواجهة في المنافسة وله مصالحه التي تمنعه من فتح الحدود للرأسمال المعولم الذي يريد حلاً لأزمته.
لقد مرت سياسات الرأسمالية تجاه قطاع الدولة في العالم الثالث في العقود الأخيرة بمرحلتين:
المرحلة الأولى: جرى فيها تكتيفه وإفساده. تكتيفه داخلياً عبر الشروط المفروضة بأشكال مختلفة بوصفات المؤسسات الدولية، والتي مررت عبر بعض مؤسسات الدولة وبعض وزاراتها، وقد كانت هذه اللعبة، كما يتبين، معقدة وبعيدة المدى. وإفساده عبر الصفقات المشبوهة التي أدخلت رموز البرجوازية الطفيلية والبرجوازية البيروقراطية في دائرة مصالح الرأسمال المالي العالمي.
المرحلة الثانية: يجري فيها إنهاؤه عبر خصخصته بالدرجة الأولى وإذا كان ذلك صعباً فمحاصرته وقطع خطوط الأوكسجين عنه (أي الاستثمار) وتركه يموت موتاً بطيئاً يمتع البعض الذي لم يستطع القضاء عليه بالضربة القاضية.
لا نريد التطرق لنتائج السياسات النيوليبرالية المطبقة في الجوار من حيث تفاصيلها الاقتصادية، ولكن من الهام أن نكتشف علاقة هذه التفاصيل بالأمن الوطني. فالذي يتبين اليوم مثلاً من تجربة مصر أنها بركضها وراء الانفتاح خسرت أمنها الوطني ولم تربح اقتصادها فلندع الأرقام تتكلم:
■■ اشترى الرأسمال الأجنبي 64% من شركات القطاع العام والخاص التي بيعت بين أعوام 1998 ـ 2002.
■■ تمركز الاحتكار الخاص في الحديد والأسمنت والدواء والأسمدة والفحم.
■■ سيطرت الشركات الأجنبية على النشاطات ذات الطبيعة الاستراتيجية كالأسمنت والأسمدة والصناعات المعدنية كما توجهت بقوة نحو مشروعات الأمن الغذائي حيث اشترت أسهم 36 شركة.
■■ كل زيادة قرش واحد في سعر الجنيه تؤدي إلى ازدياد دينها الخارجي 170 مليون جنيه أي خلال السنوات الأربع الأخيرة انخفض سعر صرف الجنيه 54% وزادت الديون أتوماتيكياً 21 مليار جنيه.
■■ انخفضت معدلات النمو إلى 1 ـ 2%.
■■ العاطلون عن العمل 6 ملايين، 94% من قرى مصر محرومة من الصرف الصحي ويقطن 13 مليون مواطن مناطق سكن عشوائي مخالفة.
■■ الهاربون بأموال البنوك من رجال الأعمال الجدد سرقوا 45 مليار دولار بينما توقف عدد آخر منهم عن سداد 40 مليار دولار ديون، أي تم عملياً نهب 25% من أموال المودعين الصغار في بنوكهم.
■■ نصيب الفرد من اللحمة يومياً 12.5 غرام.
الأمن الوطني
إن الأمن الوطني، كما هو معروف، ليس مفهوماً عسكرياً فقط، بل هو مفهوم اقتصادي اجتماعي وسياسي، وأخيراً عسكري.
فإذا كانت الشركات الأجنبية تسيطر على الاقتصاد الوطني، وإذا كان مستوى معيشة الشعب متدهوراً فعن أي أمن وطني يمكن الحديث.
إن أصحاب النظام العالمي الجديد يفهمون أن أرخص طريق للقضاء على أمننا الوطني هو القضاء على قطاع الدولة.
ونحن نفهم أن قطاع دولة قوي متطور متخلص من أمراضه هو أفضل ضمانة للحفاظ على أمننا الوطني، وتاريخنا القريب يحمل شواهد كثيرة على ذلك. فلولاه لما كان ممكناً خوض المعارك المختلفة ضد المخططات الأمريكية ـ الصهيونية في المنطقة.
لذلك فإن المطلوب، لاستمرار صمود سورية، إنقاذ قطاع الدولة من ناهبيه الذين يهيئون موضوعياً لموته بينما تهيئ نفسها قوى السوق لقراءة الفاتحة عليه وتشييعه ودفنه.
حول لعبة «مصطلح» اقتصاد السوق..
«يجب على الحكومة أن تسمح لرجال الأعمال، سواء كانوا سوريين أو أجانب، أن يستثمروا وينتجوا ويشتروا ويبيعوا وهكذا ينشأ اقتصاد سوق حقيقي.
وقد أظهرت تجربة العديد من البلدان، من روسيا إلى الجزائر، أن تخصيص المؤسسات التي تملكها الدولة ليست قاعدة فعالة لتحديث الاقتصاد. فلماذا نبدد الأموال في محاولة تأهيل قطاع عام لم يعد ذا جدوى؟»..
■ د. نبيل سكر. «الشرق الأوسط» 18 تشرين الأول 2002
«بمجرد أن يتغير المناخ السياسي والاقتصادي فإن الناس سيتعلمون سريعاً قواعد اقتصاد السوق. لقد رأينا كيف أن أعضاء الأحزاب الشيوعية في روسيا وأوروبا الشرقية حولوا أنفسهم إلى رجال أعمال أقوياء خلال سنوات».
■ نفس المصدر
يكثر الحديث عن اقتصاد السوق منذ أواسط الثمانينات. والملفت للنظر أن أشد المتحمسين له يتجنبون دائماً وضع تعريف محدد له، ويركزون في أكثر الأحوال على أنه يعني تنشيط رجال الأعمال في عمليات «الاستثمار، الإنتاج، البيع، الشراء»
فلنبحث الموضوع من وجهة النظر التاريخية والعملية الآنية.
مصطلح اقتصاد السوق:
فاقتصاد السوق هو الاقتصاد الذي يعتمد على التفاعل بين العرض والطلب ولكن المشكلة أن البشرية خلال تطورها وخاصة منذ سيادة نمط الإنتاج البضاعي في الرأسمالية عرفت أشكالاً عديدة من هذا التفاعل بين العرض والطلب وهي على الأقل عرفت أربعة أشكال من اقتصاد السوق، أي أربعة أشكال من تفاعل العرض والطلب. لذلك من الطبيعي أن نطرح سؤالاً مشروعاً على الداعين إلى اقتصاد السوق: أي اقتصاد سوق تريدون؟ وهم لا يحددون أبداً كنه اقتصاد سوقهم، وعلى الأرجح كي يضللوا الناس بلعبة «الكشاتبين» التي يمارسونها باستخدامهم لمصطلح قابل للتأويل، أي أنهم يستخدمون بمهارة، وهو ما يجب الاعتراف به، لعبة المصطلحات التي تطورت جداً وتستخدم بكثافة منذ أوائل التسعينات في الإعلام الغربي وملحقاته. فمنذ ذلك الحين ظهرت جملة من المصطلحات كالفطر بعد المطر مثل:
«النظام العالمي الجديد»، «العولمة»، «النظام الشرق أوسطي» و «حقوق الإنسان» إلخ… وميزة هذه المصطلحات أنها تؤدي وظيفة محددة موجهة نحو الوعي الاجتماعي، مهمتها تقديم شكل سهل الابتلاع، يقوم بدور الفيروس، ويخفي مضموناً لا يفصح عنه إلا بقدر ضرورة تسويق المصطلح الذي يلعب دور رأس حربة لتطويع الوعي الاجتماعي الذي إذا ما قبل بالمصطلح بعد دعاية قوية ومستمرة له يصبح قبول مضمونه تحصيل محصل، يجري بأقل ما يمكن من المقاومة.
■■ فـ «النظام العالمي الجديد» الذي أعلنه بوش الأب بعد حرب الخليج الثانية مباشرة تبين للجميع، بعد سنوات أنه ليس جديداً البتة، بل هو شكل مركب لشكلين سابقين من الاستعمار، الاستعمار القديم والاستعمار الجديد، كما تبين أن هذا النظام هو نظام فوضى عالمية يصب في مصلحة الإمبريالية الأمريكية بالدرجة الأولى كي يبقى الطلب قائماً على قوتها العسكرية الضرورية جداً لاستمرار اقتصادها المأزوم.
■■ أما «العولمة» التي ملأت الدنيا وشغلت الناس كونها حولت العالم إلى قرية كونية صغيرة، وحولت العالم إلى سوق واحدة، فيتبين الآن أن استمرارها مرهون باستمرار تفتيت كل شيء، الدول والشعوب والقوميات والأديان والطوائف والاقتصاد والقيم والثقافة الخ...
■■ و«النظام الشرق أوسطي» الذي قدم له منظر الصهيونية شمعون بيريز على أنه ازدهار وتقدم المنطقة، وخدع الكثيرين به لأول وهلة، تبين فيما بعد أنه يخفي طموحات إسرائيل الصهيونية بالتحول إلى قوة عظمى تتقاسم كعكة العالم مع المراكز الإمبريالية الأخرى، مستندة إلى استعمار منطقتنا بكاملها من المحيط إلى الخليج غير مكتفية بشعارها التقليدي من «الفرات إلى النيل».
■■ أما مصطلح «حقوق الإنسان» الذي كان هاجس الثورات الكبرى والحروب الوطنية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر فتحول إلى غطاء للدوس على حقوق الشعوب والأمم والدول في آواخر القرن العشرين.
واقتصاد السوق لا يخرج عن باقة المصطلحات هذه فلنرى كيف؟
أشكال اقتصاد السوق:
إذا كان اقتصاد السوق هو تفاعل العرض والطلب في السوق أي خلال عمليات البيع والشراء، فإن هذا التفاعل يؤثر مباشرة على السعر، سعر البضاعة. والسعر يتحرك دائماً بسبب العرض والطلب حول ثابت محدد هو قيمة البضاعة، فالقيمة هي كميات العمل السابق والحالية المتجسدة في أي بضاعة.
هكذا إذن فالسعر هو انحراف عن القيمة سببه العرض والطلب. فحينما يكون عرض بضاعة ما أعلى من الطلب عليها يصبح سعرها أقل من قيمتها وحينما يكون عرض بضاعة ما أقل من الطلب عليها يصبح سعرها أعلى من قيمتها، فقط في حال تساوى العرض والطلب وهو أمر نادر الحدوث في اقتصاد «حر» رأسمالي يصبح السعر مساوياً للقيمة.
لقد أثرت السوق خلال تطورها على السعر بأشكال مختلفة:
■ الشكل الأول: في مرحلة المنافسة الحرة التي انتهت بحلول الرأسمالية الاحتكارية في أوائل القرن العشرين، كان العرض والطلب يتحركان بشكل عفوي راكضين وراء السعر الأعلى وكانت الأزمات الدورية التي تحدث عنها ماركس هي المنظم للسوق لإعادة التوازن بين العرض والطلب عبر الإبعاد المستمر للخاسرين في سباق الركض نحو السعر الأعلى، مما أسس للمرحلة اللاحقة مرحلة الرأسمالية الاحتكارية.
■ الشكل الثاني: حينما استتب أمر السوق أي أمر التحكم بعمليات البيع والشراء بيد قلة قليلة من الرأسماليين، ظهر الاحتكار الذي مكَّن المحتكرين من التحكم بالعرض والطلب بحيث يبقى الطلب متفوقاً على العرض ولو بشكل مصطنع للحفاظ على السعر الأعلى وصولاً إلى التحكم بكل السوق لإملاء السعر الأعلى بشكل دائم الذي سمي بالسعر الاحتكاري وكانت هذه المرحلة الأولى في التحكم في العرض والطلب لصالح الرأسمال الاحتكاري. مما جعل الحديث عن اقتصاد «حر» مجرد لغو فارغ لا معنى له، اللهم إلا حرية رفع السعر لرفع الربح قدر المستطاع. وفي هذه المرحلة الاحتكارية التي تكونت فيها الإمبريالية جرى اختراق السلسلة الرأسمالية بثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى مما سمح بتقديم نموذج جديد لاقتصاد سوق.
■ الشكل الثالث: بانتقال السلطة السياسية لأيدي العمال والفلاحين، بدأ التخطيط الشامل لكي يتناسب العرض مع الطلب مما سمح بالتحكم الواعي بالسعر لصالح المجتمع. فأسعار ملابس الأطفال واللحوم تباع بسعر أقل من قيمتها لإيصالها إلى أوسع فئات ممكنة. بينما يرفع سعر المواد الكمالية والمشروبات الروحية إلى سعر أعلى من قيمتها كي تغطي الفارق بين السعر والقيمة في مجموعة البضائع الأولى. أي أن هذا الشكل من اقتصاد السوق المخطط انطلق من ضرورة تلبية حاجات الناس أولاً واستخدام السعر عبر تخطيط السوق كأداة لتحقيق هذا الهدف. والمعروف من تاريخ التطور الاقتصادي اليوم إن الاتحاد السوفييتي حقق أكبر معدلات نمو اقتصادي سنوي معروفة في التاريخ وصلت أحياناً إلى 30% من جراء هذا التحكم الواعي لصالح المجتمع.
والمعروف أن وتائر نموه بدأت بالانخفاض وصولاً إلى ما حول الصفر سنوياً في الثمانينات من القرن الماضي بسبب انخفاض التحكم بين العرض والطلب الذي لعبت فيه البيروقراطية دوراً هاماً من أجل تأمين أرباح «ظل» غير مشروعة لها بالتواطؤ مع قوى المافيا التي كانت قد بدأت بالتشكل بالتدريج في السوق. مما وضع الأساس لظهور النموذج الرابع من اقتصاد السوق والذي انتشر بشكل واسع في بلدان العالم الثالث في النصف الثاني من القرن العشرين. وبالتحديد تلك التي نما فيها قطاع دولة واسع.
■ الشكل الرابع: والواقع يؤكد أن البيروقراطية في جهاز الدولة السوفيتية تحولت مع الوقت، ونتيجة لكبح تطور الديمقراطية للجماهير الشعبية كي تمارس رقابتها على الإنتاج والتوزيع، إلى برجوازية بيروقراطية. فهي مستفيدة من موقعها المتحكم بالعرض والطلب والمؤثر على السعر أخذت تصطنع اختناقات في السوق بعرض وطلب غير متناسب وبشكل مقصود، مما أنشأ اقتصاد ظل فيه سعر مواز للسعر الرسمي، وفيه بضائع «ظل» محتكرة. مما ساعد على تكوّن ثرواتٍ غير مشروعة لايمكن استخدامها، باستمرار النظام السياسي القائم، مما استوجب على هذه الفئات تغيير النظام السياسي كي تنعم بما راكمته في الخفاء وهذا يفسر كون قوى الردة هي نفسها القوى الحاكمة في نهاية عمر الدولة السوفيتية الأولى. فهذه القوى عبرت عن مصالح فئة هامة متحكمة بأعصاب الاقتصاد الوطني وكانت الضرورة الجديدة تتطلب منها إسقاط القناع عن وجهها فقط لاغير وهو ما جرى. وفي تجربة دول عديدة في العالم الثالث، ما يحاكي التجربة السوفيتية في سنواتها الأخيرة. فقطاع الدولة الذي انبثق لتسريع النمو ونتيجة لظروف مشابهة تحول بفعل قوانين السوق المنفلتة إلى بقرة حلوب تستفيد منها القوى الفاسدة وقوى السوق التاريخية في هذه البلدان واليوم بعد أن استنفد هذا القطاع دوره برأيهم في تكوين وتعظيم الرساميل الأولية آن الأوان لإطلاق رصاصة الرحمة عليه.
نعود إلى سؤالنا: أي اقتصاد سوق يريدون؟ ماهو اقتصاد السوق الحقيقي برأيهم؟
أمامنا نماذج أربعة والأرجح أن أحدها هو خيارهم فلنبحث عنه:
■ النموذج الرابع: إنهم يطالبون اليوم بالقضاء عليه لأن حجم مشاركتهم في نهب قطاع الدولة غير كافية برأيهم. والظروف الدولية والإقليمية تسمح بشروط نهب أفضل لهم.
■ النموذج الثالث: إنهم يعلنون العداء السافر له.
■ النموذج الثاني: الوصول إليه مستحيل لأنه ممكن فقط في البلدان الرأسمالية المتقدمة أي التي تسود فيها الرأسمالية الاحتكارية وحتى لوكان هذا نموذجهم فإنه مرفوض عقلانياً وأخلاقياً.
■ بقي النموذج الأول؛ وهو على الأرجح ما يدعوننا إلى الالتحاق به: هذا الشكل الذي يتطلب العودة 150 سنة إلى الوراء اقتصاديا ًوسياسياً من أجل إيجاد حل لأزمة الرساميل العالمية التي طبقت النموذج الثاني لديها وتراكمت لديها أرباح هائلة بصورة رساميل نقدية تتطلب الضرورة تدويراه بسرعة وإلا على الدنيا السلام.
إذن هذا هو اقتصاد السوق الحقيقي حسب رأيهم وهو قد طُبق بنجاح في بلدان عديدة مثل روسيا ومصر، أما النتائج فكانت انخفاض معدلات النمو الى مايقارب الصفر، وهو المطلوب، وانخفاض مستوى معيشة أكثرية الناس بشكل مريع وهو المطلوب، وكذلك نهب ثروات هذه البلدان بحجة الانفتاح على العالم الخارجي وهو المطلوب أيضاً.
يبقى سؤال لابد من الإجابة عليه: إذا كان تخصيص مؤسسات الدولة ليس مطلوباً لعدم تبديد أموال القطاع الخاص على قطاع لم يعد ذا جدوى، كما جرى في روسيا مثلاً، فكيف نربط هذا الموقف بفكرة ظهور رجال أعمال أقوياء في روسيا وأوروبا الشرقية داعياً هذه البلدان إلى الاحتذاء بها، من تغيير المناخ السياسي إلى تعلم قواعد اقتصاد السوق إلى تحول رجال الأعمال إلى أقوياء.
رجال الأعمال الأقوياء أصبحوا «أقوياء» في هذه البلدان لأنهم مافيا إجرامية بكل معنى الكلمة، نهبوا الأخضر واليابس من خلال إخضاعهم السلطة السياسية لمصالحهم التي هي جزء منهم والتي غيرت المناخ السياسي فعلاً باتجاه تأليه النموذج الرأسمالي الغربي الذي لم تجن منه شعوبها إلا الفقر والمرض والموت وماتعلم قواعد اقتصاد السوق في هذه البلدان إلا تطبيق معادلة «إذا لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب»، هذه القواعد التي نشرت الإجرام والدعارة والفساد والبطالة.
■■ أخيراً يجب أن نفهم أنه إذا كان النموذج الروسي وغيره ليس نموذجاً يحتذى فلماذا الاستشهاد به وضرب المثل برجال أعمالهم الأقوياء الذين ما اغتنوا إلا من جراء الخصخصة التي كانت أكبر عملية نهب شهدها التاريخ. هذا ما سنأتي عليه لاحقاً.
الاصلاح الحقيقي والإصلاح المُزَيَّف
«الكثيرون ممن يعلقون آمالهم على حزب البعث الحاكم، كالبيروقراطيين والقطاع العام والجيش وأجهزة الأمن يشعرون بتهديد الإصلاح الحقيقي لمواقعهم، إنهم لا يستطيعون أن ينهوا الحديث عن الإصلاح ولا أن يوقفوا اتخاذ بعض الإجراءات. لكنهم يستطيعون، وقد فعلوا، إبطاء العملية».
■ د. نبيل سكر «الشرق الأوسط» 18 تشرين الأول 2002
توصلنا إلى استنتاج حول أن الداعين المعاصرين لاقتصاد السوق لا يبغون من الناحية العملية إلاّ هدم الحواجز أمام غزو الرأسمال الأجنبي تسهيلاً لمهمته، هذه الحواجز التي أول ما يمثلها قطاع الدولة الذي أثخن بالجراح خلال هجوم قوى الفساد عليه على مدى عشرات السنين، هذا الهجوم الذي أخذ شكلاً متصاعداً، ورغم كل شيء فما زال حياً واقفاً على أقدامه ولو كان يترنح أحياناً بفضل الضربات المشتركة لقوى الفساد وقوى السوق.
وهم في دعوتهم إلى «الإصلاح» يشدون إلى الوراء نحو النموذج الأول من اقتصاد السوق، هذا النموذج الذي لا تعمل على أساسه تلك المؤسسات والأوساط والدول التي تدعونا إليه، فهذا النموذج هو في متحف التاريخ، وهو إن طُبق في الفترات الأخيرة فقد أدى إلى خراب واسع وتدمير للقوى المنتجة، انعكس بهبوط نسبة النمو إلى ما تحت الصفر، وبالتالي انخفاض حاد لمستوى المعيشة أدى في بعض المناطق إلى ما يشبه الإبادة الجماعية للسكان المتمثلة بانخفاض عدد سكان البلاد التي طُبق فيها نموذج «اقتصاد السوق الحر».
وتوصلنا إلى طرح سؤال نعتقد أنه هام، فحواه: إذا كان دعاة اقتصاد السوق في ظروف سورية أصبحوا يدعون إلى عدم تبديد أموالهم على قطاع الدولة على طريق خصخصته، كما جرى في روسيا وغيرها، فلماذا، من جهة أخرى يدغدغون مشاعر البعض بالقول: «إن أعضاء الأحزاب الشيوعية في روسيا وأوربا الشرقية حولوا أنفسهم إلى رجال أعمال أقوياء»!.
أولا،ًَ يجب التدقيق هنا. فالذي حوَّل نفسه إلى رجل أعمال قوي في روسيا وأوربا الشرقية ليس كل أعضاء الأحزاب الشيوعية بل تلك الشريحة الضيقة والقليلة العدد في هذه الأحزاب وفي جهاز الدولة، بينما الأكثرية الساحقة من هذه الأحزاب، أسوة بجماهير شعوبها تعرضت لأكبر عملية احتيال وإذلال، كان نتيجتها مثلاً انخفاض وسطي العمر المحتمل للرجال من 72 سنة في عهد السلطة السوفيتية إلى 47 سنة في عهد سلطة «رجال الأعمال الأقوياء».
والجدير بالذكر أن هذه الشريحة التي تقَّوت بالخصخصة واغتنت، كانت أصلاً تمثل في النظام القديم قوى الفساد وقوى اقتصاد الظل. قوى الفساد، أي موظفي الدولة الفاسدين الذين كانوا يراكمون ثرواتهم سراً خائفين من يوم الحساب، مما استدعاهم، حينما أتيحت الفرصة لهم، أن يطيحوا بالنظام القديم، وأن يٌخرِجوا أموالهم المكدسة من تحت الأرض وأن يبيِّضوها في عملية خصخصة المؤسسات التي كانوا يديرونها، أما قوى اقتصاد «الظل» فكانت قوى المافيا الجنينية، هذه القوى التي كانت ضرورية لرجال الفساد لتسيير أعمالهم في السوق والتي تحولت بالتدريج مع انتصار الخصخصة إلى مافيا حقيقية متحالفة مع الحكام الجدد/ السابقين.
هذه باختصار شريحة رجال الأعمال الأقوياء في روسيا وأوربا الشرقية: إما «حرامية» من الأساس، وإما «مجرمون» من الأساس، ولا يغير في الأمر شيئاً إذا تحولوا اليوم إلى مليارديرية أقوياء، إذ يبقون غير قادرين عن الإجابة على السؤال الأساسي: من أين أتوا بالمليون الأول؟.
ولكن السؤال يبقى قائماً: لماذا من جهة يقول دعاة اقتصاد السوق عن قطاع الدولة: «دعه يموت» ومن جهة أخرى يدعون البعض إلى التحول إلى رجال أعمال أقوياء؟!.
ديالكتيك العلاقة بين قوى السوق وقوى الفساد:
العلاقة بين قوى السوق وقوى الفساد معقدة يحكمها قانون وحدة ونضال الأضداد. فهم مُوحدون في نهب الشعب والدولة، ومختلفون على الحصص. وإذا كان هنالك توزيع ما ثابت نسبياً لحصص النهب فإن الطرف الأضعف سرعان ما سيطالب بتغيير شروط المعادلة، إذا شعر أن الظروف تتغير لصالحه. فلنبحث في نقاط ضعف كل طرف ونقاط قوته كي نفهم شكل الصراع على الحصص.
بالنسبة لقوى السوق «التي يُصطَلَح على تسميتها بالبرجوازية الطفيلية» فهي لها فعلاً وزن في السوق المحلية، لكن الوزن الأهم هو في السوق العالمية، نتيجة علاقاتها التاريخية وكُتب الاعتماد القديمة التي حصلت عليها والتي لم تلغ حتى الآن، والتي تؤهلها للاستمرار بلعب دور هام في الحياة الاقتصادية.
أما نقطة ضعف هذه القوى فهي أنها منذ أن أزيحت في النصف الثاني من القرن الماضي عن مقاليد السلطة السياسية الفعلية لم تستطع حتى الآن العودة إليها رغم نفوذها الاقتصادي المتنامي.
أما بالنسبة لقوى الفساد التي يُصطلح على تسميتها علمياً بالبرجوازية البيروقراطية، فتكمن قوتها في قدرتها على اتخاذ قرارات ضمن جهاز الدولة في المجال الاقتصادي تجعلها شريكاً لا منافس له مع قوى السوق، مما مكنها ويمكنها من تجميع ثروات على حساب الدولة والمجتمع تتطلب في نهاية المطاف التدوير والتحريك والتوظيف، وهنا تبدأ بالظهور نقطة الضعف لدى هذه القوى، فالمال الحرام يتطلب تهريبه إلى مكان آمن، وليس من مكان أفضل من البنوك الأجنبية، ولكن نفوذ قوى السوق المحلية في السوق العالمية التي تشكل البنوك الأجنبية جزءاً هاماً منها، أهم بكثير من نفوذ قوى الفساد لذلك فهي مضطرة للبحث عن نقاط التقاء داخلية معها كي تحصل على رضاها الخارجي.
والجديد أن قوى السوق المحلية ترى أن الظروف العالمية والإقليمية تسمح لها بالحصول على حصة من النهب أكبر بكثير من التي كانت تحصل عليها سابقاً وصولاً إلى الاستيلاء على القرار السياسي.
ولكن مشكلة قوى الفساد الموجودة في جهاز الدولة والمحكومة به، هي في أنها لا تستطيع أن تعرض على قوى السوق حلاً يرضيها وبالسرعة المطلوبة منها، مما أدى عملياً إلى ظهور اتجاهين واضحين في المجتمع والدولة، يتصارعان علناً وفي الخفاء، اتجاه تمثله قوى الفساد يريد أن «يندلق» بسرعة على سلالم قوى السوق. واتجاه آخر وطني حقيقي، يرى مخاطر هذا التهافت ويريد الحفاظ على قطاع الدولة وتخليصه من فساده على طريق إصلاحه.
وهنا تقوم قوى السوق بمناورة واضحة، مستخدمةً سياسة الجزرة والعصا، فهي من جهة تغري رجال قوى الفساد بمستقبل باهر مثل روسيا وأوربا الشرقية، لتشجعهم وتورطهم لأنها تراهن على انقسام عميق في جهاز الدولة، ومن جهة أخرى تحذرهم من أنهم إذا لم يفوا بالتزاماتهم، فإن قوى السوق «ستحرد» ولن تعود إلى موضوع الخصخصة الذي من المفروض، إن جرى، أن تحصل قوى الفساد على حصة «مدهنة» منه، رافعة بذلك سقف مطالبها وموجهة عملياً، كما يتبين من الاستشهاد في بداية هذه المادة، الهجوم على كل جهاز الدولة وعلى جزء هام من المجتمع الذي برأيها يعيق عملية «الإصلاح» على طريقتها، وهي بهذا الهجوم تريد أن تشجع قوى الفساد على أن تحذو حذوها وأن تخلِّصه من الروابط التاريخية، إن وجدت، والتي ما زالت تربطها بجزء هام من جهاز الدولة.
وإلاّ فما معنى أن يقال: إن القطاع العام والجيش يشعران بتهديد الإصلاح الحقيقي لمصالحهم؟. فهؤلاء عددياً مع من يعيلونهم يشكلون عدة ملايين من أبناء الشعب السوري، وإذا لم يكن الإصلاح متجاوباً مع مصالحهم، فواجبهم الوطني والاجتماعي يملي عليهم أن يقاوموا إصلاحاً كهذا والذي ما هو في نهاية المطاف إلاّ إصلاح مزيف.
ما هو الإصلاح الحقيقي؟
الإصلاح الحقيقي هو الذي يتجاوب مع مصالح أوسع الناس، وأي إصلاح آخر لا يتجاوب مع مصالح الناس ليس إصلاحاً، بل هو إصلاح مزيف، وتدمير للقوى المنتجة.
الإصلاح الحقيقي يهدد مواقع الفساد والنهب ويهدد تهديداً مباشراً قوى السوق وقوى الفساد.
إصلاح قوى السوق يهدد مصالح المجتمع، الناس، والوطن، ويؤمن مصالح قوى الفساد عبر استخدام الخصخصة التي ستتحول إلى عملية نهب قانونية جديدة.
الإصلاح الحقيقي ينَّمي القوى المنتجة ويقوي الاقتصاد الوطني ويرفع وتائر النمو.
إصلاح قوى السوق في أي مكان حلَّ حتى الآن دمر القوى المنتجة، خرَّب الاقتصاد الوطني، خفض وتائر النمو إلى ما تحت الصفر.
الإصلاح الحقيقي يحسِّن من معيشة أكثرية الناس محافظاً على كرامتها.
إصلاح قوى السوق يمركز الثروة في أيد قلة قليلة ويفقر المجتمع كله.
وأخيراً الإصلاح الحقيقي يؤمن السيادة الوطنية ويعززها، بينما إصلاح اقتصاد السوق يفتح الأسوار أمام غزو الرساميل الأجنبية متخلياً عن السيادة الوطنية والكرامة الوطنية.
إن القوى الوطنية، بغض النظر عن مسمياتها الحزبية، هي مع الإصلاح الحقيقي وضد الإصلاح المزيف الذي تدعو إليه قوى السوق المتحالفة مع قوى الفساد تحت حجج ما أنزل الله بها من سلطان، مثل الواقعية، والتكيف، والحكمة، ويقولون: «العين ما بتقاوم المخرز»، ولكن الحياة برهنت، كما قال عمر فاخوري أنه دائماً كان ينبت للعين ظفر وناب!.