سوء توزيع الدخل الوطني يزيد من حدة تراجع القيمة الحقيقية للأجور
عقدت يوم الثلاثاء في 24/4/2001 ندوة الثلاثاء الاقتصادية ضمن سلسلة الملفات الاقتصادية حول التنمية الاقتصادية والاجتماعية في سورية، ندوة "الأسعار والأجور" شارك فيها الرفيق د. قدري جميل و د. فهد الخطيب و د. جمال السطل.
وفيما يلي مقتطفات من مداخلة الرفيق د. قدري جميل:
كانت مداخلة الرفيق د. قدري جميل تحت عنوان: "إزالة الخلل بين الأجور والأسعار ضرورة للإصلاح الاقتصادي" حيث بدأ بالقول: إن الخلل بين مستوى الأجور والأسعار أصبح موضوعاً محسوماً والكل يتفق اليوم على إصلاح هذا الخلل.
ولكن النقاش مازال مستمراً حول الأسباب الرئيسية لهذا الخلل وحول نتائجه وآثاره على تطور الاقتصاد الوطني.ِ
لاشك أن السياسة الأجرية تلعب دوراً مفتاحياً في صياغة أية استراتيجية للإصلاح الاقتصادي، فأية سياسة أجرية نريد؟ وما هو دورها الحقيقي في التأثير على التطور الاقتصادي؟.
لست بصدد الحديث عن علاقة السياسة الأجرية بتحقيق العدالة الاجتماعية، فهذا الموضوع بعيد المنال اليوم نسبياً، ولا يمكن حله جذرياً بوجود وسيادة الملكية الخاصة على وسائل الانتاج التي تعني في عالم اليوم مركزة الرأسمال والأرباح في أيدي قلة قليلة.
وإنما بصدد الحديث عن عقلنة التطور الاقتصادي وإيجاد التناسب الضروري والطبيعي بين الأجور ومستوى الأسعار، أي بين الأجور والأرباح. إن هذه العقلنة إذا ما تمت ستسمح بإيقاف تدهور الوضع المعاشي للأكثرية الساحقة من الناس وستفتح الطريق لنمو اقتصادي متوازن، تخفف فيه بالتدريج التشوهات القائمة بين التناسبات الأساسية للاقتصاد الوطني.
لذلك يجب الإجابة على أسئلة كثيرة وهي: لوحة تطور الأجور الفعلية خلال الفترات الماضية وعلاقتها بتطور الأسعار والأرباح التي تعتبر الكفة الثانية لهذه المعادلة وصولاً إلى اكتشاف موطن الخلل وإيجاد السبيل إلى إصلاحه.
وبعد أن تحدث عن حجم الهوة بين الأجور والأسعار، انتقل إلى الحديث عن العلاقة بين الحد الأدنى للأجور والحد الأدنى لمستوى المعيشة الذي أصبحت الهوة بينهما لا تقل عن ثلاثة أضعاف الحد الأدنى للأجور.
أسباب تراجع الأجور
وانتقل إلى الحديث عن الأسباب الأساسية لتراجع القيمة الحقيقية للأجور قائلاً:
يمكن تلخيص أسباب تراجع القيمة الحقيقية للأجور بالأسباب الأساسية التالية:
آ ـ تراجع حصة الفرد من الدخل الوطني.
ب ـ عدم عدالة توزيع الدخل الوطني بين الأجور والأرباح.
آ ـ تراجع حصة الفرد من الدخل الوطني.
لاشك أن الدخل الوطني قد ازداد في الفترة الواقعة بين 1975 ـ 1997 بنسب عالية وصلت إلى 3528% ولكن ازدياد حصة الفرد ازدادت بنسبة 1725% تقريباً أي أنها انخفضت بالنسبة لعام 1975 حوالي 50%. فهل يكمن السبب الحقيقي وراء ذلك في الزيادة السكانية، أم أن هنالك أسباباً أخرى أكثر عمقاً وتكمن في انخفاض وتيرة تطوره عن النسب المطلوبة التي تمنع انخفاض حصة الفرد، الأرجح أن الخلل في عملية إعادة الإنتاج الاجتماعي التي تتطلب إنتاجاً موسعاً يجاري التطور السكاني هي السبب الحقيقي، ولكن لماذا يحصل ذلك، للإجابة على هذا السؤال لا بد من دراسة العلاقة بين الأجور والأرباح.
ب ـ الأجور والأرباح:
تعادل كتلة الأجور في الدخل الوطني حوالي 150 مليار ليرة سورية، وهذا يعني أن كتلة الأرباح تساوي عام 2000 حوالي 550 مليار ليرة سورية، أي أنها تساوي 366% من كتلة الأجور. وقد بلغت زيادات الأرباح خلال السنوات العشر التي سبقت عام 2000 (400 مليار ليرة سورية) بينما بلغت زيادة الأجور 75 مليار أي أ، الأجور كانت تزداد سنوياً بقيمة وسطية قدرها 10% بينما الأرباح كانت تزيد بنسبة 36% مما أدى عملياً إلى درجة عالية من تمركز الرأسمال سمح بحجب الجزء الضروري منه عن عملية التراكم التي تتجلى بالاستثمار الذي نتج عنه عملياً تخفيض وتيرة النمو الضرورية للدخل الوطني كي يغطي الزيادة السكانية وارتفاع متطلبات المعيشة.
إن سوء توزيع الدخل الوطني يزيد من حدة تراجع القيمة الحقيقية للأجور بشكل مباشر وغير مباشر، مباشر بإيجاد خلل بين استهلاك الشرائح العليا والشرائح الدنيا من المجتمع وغير مباشر عبر منع عملية إعادة الإنتاج من أن تأخذ حجمها الضروري لتأمين التطور اللاحق.
إن حجم الاستثمار الضروري لإعادة الإنتاج الموسع يجب أن لا يقل عملياً عن 25% من الدخل ا الوطني وهو لا يحصل بسبب سوء توزيع الدخل بين الأجور والأرباح.
إن الوضع الحالي يجعلنا ندرك أهمية التوزيع العادل للدخل الوطني وإيجاد نوع من التوازن بين كفتي الأجور والأرباح من خلال إعادة النظر بآلية توزيع الدخل الوطني، فالسياسات الاقتصادية والمالية التي اتبعت في الفترة السابقة حفزت تكون الأرباح على حساب الأجور مما اضر بالإنتاج الوطني وبمستوى معيشة الشعب، فرغم أن معدل النمو السنوي للدخل الوطني قد بلغ 7% سنوياً إلا أن هذا التحسن لم ينعكس إيجابياً على مستوى معيشة الناس، بل زاد الأغنياء غنى والفقراء فقراً. وهذا ما نجده في كل مظاهر الحياة اليومية.
ماذا يعني الخلل بين الأجور والأرباح والأسعار؟
إن الخلل بين الأجور والأسعار الذي ينعكس بازدياد غير عقلاني للأرباح له آثار سلبية كبيرة وبعيدة على الاقتصاد الوطني، فهو يعني:
ا ـ عدم تجديد قوة العمل:
إن كون سعر قوة العمل عملياً أدنى من قيمتها بكثير، يعني تآكلها وانهيارها التدريجي بما يعنيه ذلك من آثار سلبية على مستوى المعيشة التي تظهر عبر انخفاض المستوى الصحي وصولاً إلى انخفاض وسطي العمر المحتمل للقوة السكانية الفاعلة. إلى جانب انخفاض الكفاءة وتسريع دوران اليد العاملة مما يؤثر بشكل كارثي على العمليات الإنتاجية.
ب ـ تمديد يوم العمل:
بواقع الأجر الحالي، أصبح يوم العمل الفعلي لا يكفي لسد الرمق، مما يجبر اليد العاملة على البحث عن مصادر دخل إضافية تعني عملياً إطالة يوم العمل إلى 12 ساعة و16 ساعة وبذلك يتم التراجع فعلياً عن مكسب كبير حققته الطبقة العاملة بتحديد يوم العمل بثماني ساعات. وما زالت صحيحة المقولة التي تفيد أن درجة حرية المجتمع تقاس بحجم الوقت الحر الذي يوفره لأفراده.
ج ـ زيادة البطالة:
إن تحديد يوم العمل يؤدي عملياً إلى زيادة المنافسة في سوق العمل ويخفض فرصة الفرد الواحد في الحصول على فرصة عمل واحدة. إن رفع الأجور لتصل إلى مستوى قيمة قوة العمل الحقيقية التي يجب أن تغطي تكاليف الحد الأدنى للمعيشة، يعني عملياً امتصاص جزء كبير من البطالة التي تزداد سنوياً بواقع 150 ألف فرد.
د ـ زيادة الفساد:
إن انخفاض الأجور والحد من فرص العمل يؤدي إلى زيادة الفساد الاجتماعي وتوسع رقعته، وإذا ترافق ذلك مع الاستهلاك الترفي الاستفزازي للشرائح العليا، يزداد الطين بلة، فظواهر الرشوة والسرقة والنهب ومختلف أشكال الانحلال الاجتماعي هي نتيجة مباشرة لتوسع الفقر وتمركز الغنى.
هـ ـ الحد من فرص الاستثمار:
إن أسطورة «اليد العاملة الرخيصة هي محفز للاستثمار» هي مقولة فاسدة وغير صحيحة من حيث الأساس. فكل الحديث والدعاية عن جلب استثمارات لا قيمة له بالنسبة للمستثمر الجدي لأن اليد العاملة الرخيصة تعني بالنسبة له:
1 ـ انخفاض تأهيلها وبالتالي إنتاجية اليد العاملة.
2 ـ انخفاض الطلب الداخلي لا يشجع المستثمر على أي مخاطرة .
3 ـ والأهم احتمال عدم الاستقرار الاجتماعي بسبب التوتر الاجتماعي الذي تفترضه الأجور المنخفضة عدة مرات عن حدود مستوى المعيشة اللائق.
ما هو الحل؟..
إن المستوى الذي وصل إليه علم الاقتصاد نظرياً، إلى جانب التجربة العملية المتراكمة تسمح لنا بالتأكيد أن التطور الاقتصادي ما هو إلا وسيلة لتأمين مستوى معيشة لائق لمجموع العاملين بأجر. إن فعالية وإنسانية أية سياسة اقتصادية يجب أن تقاس عبر هذا المعيار: معيار سعيها لتلبية مصالح الناس وحاجاتهم الأساسية.
لذلك تصبح السياسة الأجرية هي محور أي إصلاح اقتصادي حقيقي. وعليه يمكن القول أن تغيير السياسة الأجرية القائمة هو مطلب ضروري لإنجاح أي تطور للاقتصاد الوطني فما هي مكونات هذه السياسة بعدما أثبتت الحياة فشل وفساد السياسات الأجرية المتبعة حتى الآن؟.
أولاً: ربط الحد الأدنى للأجور بالحد الأدنى لمستوى المعيشة:
إن رفع الأجور دون إعادة النظر جذرياً بالحد الأدنى للأجور لا معنى له في نهاية المطاف إذ أنه يرقع المشكلة دون الوصول إلى جذورها من أجل حلها.
إن تأمين الحد الأدنى لمستوى المعيشة لأجر الحد الأدنى يعني رفع سعر قوة العمل إلى قيمتها الحقيقية وبعدها يصبح ممكناً تحريك كل سلم الأجور نحو الأعلى على هذا الأساس.
ثانياً: الربط ا لدوري للأجور بالأسعار:
ٍإن السباق الجاري بين الأجور والأسعار يؤدي عملياً إلى تخفيض مستوى المعيشة مع ما ينتج عنه من انخفاض للطلب الذي يؤثر سلباً على الإنتاج في نهاية المطاف. لذلك يصبح ربط الأجور بتطور الأسعار مطلباً ضرورياً على استمرارية عملية إعادة الإنتاج الاجتماعي بما تعنيه من إنتاج وتبادل وتوزيع واستهلاك.
وهذا يتطلب عملياً إيجاد سلة للأسعار يراقب تطورها جهة وصائية من قبل الدولة إلى جانب سلة أخرى يقوم بمراقبتها وحسابها اتحاد نقابات العمال بشكل مستقل. وعلى أساس تطور هذه السلة يجب أن يجري تعديل الأجور أتوماتيكياً بشكل دوري (شهري أو فصلي) إذا تطلب الأمر. وغني عن القول أن هذا الإجراء لا معنى له دون القيام بالإجراء الأول وهو إعادة النظر بالحد الأدنى للأجور.
ثالثاً: تمويل الزيادات من مصادر حقيقية:
بعد الإجراءين أعلاه يجب البحث عن مصادر تمويل حقيقية ولا تضخمية كما كان يجري حتى الآن. أي أن مصدر زيادة الأجور يجب أن لا يكون بأي حال من الأحوال زيادات في الأسعار وخاصة على أسعار مواد أساسية مثل المحروقات التي يؤدي رفعها إلى سلسلة ارتفاعات لا نهاية لها على كل المواد.إن المصدر الحقيقي للزيادات على الأجور يجب أن يكون على حساب الأرباح، إذ أن كل زيادة في الأسعار تعني زيادة موازية في الأرباح. والطريقة المثلى والأساسية لتحقيق ذلك هي إعادة النظر بالسياسة الضريبية كي تصبح فعالة وعادلة وتتحول إلى رافعة لتطور الاقتصاد الوطني وليس كابحاً له. طبعاً يجب أن يجري ذلك إلى جانب إجراءات أخرى مثل الحد من الإنفاق الحكومي غير الاستثماري.
وقال في ختام مداخلته:
إن تحقيق هذه الإجراءات أعلاه ممكن وعملي وهو سيسمح بتحسين المستوى المعيشي للأكثرية الساحقة من الناس، كما سيؤمن استمرارية الدورة الاقتصادية مما سيسمح بإيجاد مصادر حقيقية وفعالة للتراكم والاستثمار اللاحق.