■ الرساميل الخارجية لايمكن أن تحل مهمة النمو بشكل كاف وصحيح
■ النمو شرط ضروري للتنمية، أي لاتنمية بدون نمو
■ رفع وتائر النمو ضرورة وطنية واجتماعية قصوى
■ النمو المنخفض يعيق تحسين مستوى المعيشة ويزيد البطالة
■ وسطي النمو المحقق 3.5%، المطلوب: حوالي 10%
--------------------------------------------------------------------------------
إذا كانت التنمية تعتبر، بشقيها الاقتصادي والاجتماعي المعيار الأساسي لتقييم إنجازات أي نظام اقتصادي ـ اجتماعي، فإن النمو الاقتصادي الذي تعبر عنه أرقام الدخل الوطني من خلال تطوره السنوي، هو الشرط الضروري لكل تنمية، وإن كان غير كاف. فالنمو إذا تحقق يمكن أن لايؤدي إلى تنمية، إذا لم ترافقه إجراءات اجتماعية ملموسة لصالح أكثرية الناس، وبالمقابل فإن التنمية لا يمكن التفكير فيها بدون معدلات نمو معقولة .
--------------------------------------------------------------------------------
فماهي هذه المعدلات؟ إن التجربة التاريخية تبين أن بلداناً مثل الاتحاد السوفييتي والصين قد أمنت بتطورها خلال فترات لابأس بها، نسباً وصلت إلى 15% سنوياً، أي أنها كانت قادرة على مضاعفة الدخل الوطني خلال خمس سنوات تقريباً.
إن وضع البلدان التي كانت، ومازالت تعتبر متخلفة قياساً للدول الرأسمالية المتقدمة، يبين أنها بحاجة إلى نسب نمو عالية لردم الهوة الكبيرة بينها وبين الدول المتقدمة النمو. وهذا لم يتحقق طبعاً خلال الفترات الماضية وله أسبابه.
وتائر النمو المتحققة
إن نظرة سريعة لوتائر نمو الدخل الوطني في سورية خلال السنين العشر الماضية تبين أن وسطي نمو الدخل سنوياً قد وصل إلى 3.5% سنوياً، وكان يتراوح خلال هذه الفترة من حد أدنى (3.55 ــ %) إلى حد أعلى (7.3%)، وهذه النتيجة تعني فيما تعنيه أن الزيادة في الدخل الوطني لاتكاد تغطي الزيادات السكانية. فكيف الحال بمعدلات النمو الضرورية للتنمية، وبضرورات تحسين معيشة الناس، وبمواجهة الاستحقاقات التي تفرضها الظروف العالمية والإقليمية المستجدة؟!
إن رفع وتيرة نمو الدخل الوطني إلى أعلى المعدلات الممكنة أصبح ضرورة وطنية واجتماعية قصوى، وهذا لم يتحقق خلال السنوات العشر الماضية، وليس هناك مؤشرات جدية تدل على إمكانية تحقيقه خلال الفترة المنظورة القادمة إذا كان الاعتماد سيبقى قائماً على احتمال تدفق الاستثمارات الخارجية من أجل حل هذه المهمة.
أسباب انخفاض النمو
لذلك فإن قضية معرفة أسباب ضمور نمو الدخل الوطني ترتدي أهمية كبيرة. هناك من يبسط القضية، إذا كنا لانريد أن نتهم أحداً بسوء النية، بالقول: إن السبب هو قطاع الدولة والبيروقراطية التي تمارس في إدارة أعماله، فإننا نعتقد أن السبب أعمق من ذلك بكثير، والوصول إليه ومعالجته يرتدي أهمية منهجية كبيرة.
إن كل التقديرات تتفق، تقديرات الذين هم ضد قطاع الدولة ومعه، فإن الفاقد من الدخل الوطني بسبب النهب الكبير الذي يتعرض له الاقتصاد الوطني، وقطاع الدولة خصوصاً، الذي هو أحد المكونات الأساسية لهذا الاقتصاد، هو سبب أساسي، وتصل التقديرات إلى أن حجم هذا الفاقد يعادل في أحسن الحالات (20%) من الدخل الوطني المنتج سنوياً، ومن نافل القول إن النهب بهذه الحالة قد تحول إلى سبب لقصور النمو، وإلى نتيجة من نتائج النمو القاصر، لأن هذا الحجم من الدخل الوطني المقتطع يحول دون التراكم الضروري للاستثمارات التي لابد منها للنمو اللاحق، ونظرة سريعة لمعدل نمو الاستثمارات خلال فترة السنوات العشر الماضية تبين أن المعدل الوسطي لنمو الاستثمارات سنوياً كان بحدود 2.5%، وهي نسبة لايمكن أن تحل المهمة المطلوبة. كما أن الدراسات تبين أن حجم التراكم للدخل الوطني، رغم ازدياد الدخل الوطني بحدود (35%) خلال الفترة المدروسة، لم يتجاوز (15%)، وهي نسبة متدنية، فما هي الإشكالات التي يسببها نمو منخفض نسبياً؟!
إشكاليات النمو المنخفض
1. في ظل شكل توزيع الدخل الوطني المختل بين الأجور والأرباح لصالح الأخيرة لايمكن تأمين متطلبات تحسين مستوى المعيشة. والمعروف أن الدراسات المختلفة قد بينت أن مستوى الأجور الحالي هو أدنى من المطلوب بثلاث مرات، مما يتطلب إصلاحاً اقتصادياً جوهره رفع نسب النمو وتصحيح الخلل بين الأجور والارباح.
2. إن نمواً بهذا الحجم لايمكن إلا أن يراكم من مشكلة البطالة من خلال عدم قدرته على تأمين فرص العمل الضرورية لليد العاملة الجديدة التي تدخل سوق العمل سنوياً، والتي هي بحدود (200) ألف شخص، لايجري امتصاص إلا ربعها في أحسن الأحوال، وغني عن البيان أن تراكم نسب البطالة خلال فترة زمنية لاحقة سيزيد من نسبة البطالة التي وصل حجمها اليوم إلى (20%) من قوة العمل.
3. إن النهب الكبير الذي يسبب تخفيضاً للنمو يؤثر بشكل مباشر على عائدية الرساميل الموظفة في الاقتصاد الوطني ويجعلها في أحسن الأحوال لاتتعدى الـ(20%) أي أن كل خمس ليرات موظفة في الاستثمار تعطي مردوداً قدره ليرة سورية واحدة، لذلك من غير المعقول رفع نسب النمو دون رفع عائدية الرأسمال الذي لايمكن أن يتحقق دون إيقاف النهب.
4. كما أن هذا النهب يؤدي بدوره إلى تخفيض نسب التراكم التي يجب أن تصل بحدودها الدنيا في ظروفنا الحالية إلى (25%) من الدخل الوطني، وهذا مالم يتحقق خلال أي سنة من السنوات العشر الماضية.
لذلك يصبح من الواضح أن رفع نسب النمو ليست قضية اقتصادية صرفة، بل هي قضية اجتماعية وسياسية، ولايمكن القول إلا أنها أصبحت قضية وطنية من الدرجة الأولى. فكيف السبيل إلى معالجة هذه القضية؟!
الحلول
من الواضح من خلال كل ما تقدم أن الوصول إلى نسب نمو عالية، وفي ظروفنا، الأرجح يجب أن تكون بحدود (10%) سنوياً لحل مختلف المهام المنتصبة أمامنا، مما يعني مضاعفة الدخل الوطني خلال (7 ـ 8) سنوات، يتطلب حل مشكلتين اقتصاديتين، وهما: عائدية رأس المال، ونسبة التراكم في الدخل الوطني. وأصبح واضحاً أن حل هاتين المشكلتين لايمكن أن يتم بأي شكل من الأشكال دون القضاء على النهب الكبير والفساد، وهذه القضية بآثارها الاقتصادية هي قضية سياسية ـ اجتماعية، أي أن عدم حلها يخدم مصالح ذوي الدخل اللامحدود ويضر الاقتصاد الوطني ويمنع البلاد من حل المهام الكبرى المنتصبة أمامها. أما حلها فسيؤدي إلى التلبية التدريجية لحاجات الجماهير الشعبية وإلى تحسين وضع الاقتصاد الوطني، مما يسمح بحل المهام الكبرى المطلوبة.
إن الحديث عن استدراج رساميل خارجية لحل المهام المحلية في ظل الإحداثيات التي عرضناها أعلاه غير ممكن، بل إن حل المهام المطلوبة التي من ضمنها رفع عائدية رأس المال الموظف هو العامل الجاذب الوحيد للرساميل الخارجية، إذا احتجنا إليها فعلاً بعد تعبئة كل الموارد الداخلية، والأرجح أنه إذا حدث ذلك لن تعود هنالك حاجة ماسة لاستقدام أية رساميل إضافية.
إن حل هذه المهمة سيؤدي إلى امتصاص البطالة بالتدريج، بل سيخلق طلباً على اليد العاملة أكثر من الحجم المتوفر منها. كما أنه من خلال رفع وتائر النمو وتأمين عدالة توزيع الدخل الوطني سيمكن رفع مستوى المعيشة للجماهير الشعبية خلال فترة زمنية معقولة نسبياً، مما سيؤدي إلى رفع إنتاجية العمل المنخفضة أصلاً والتي هي شرط ضروري لابد منه لأي تنمية اقتصادية اجتماعية بشرية، وهذا الشرط الضروري سيخلق الظروف المواتية لتأمين الشروط الكافية اللاحقة للتطور، والتي يكمن جوهرها في تمكين الناس من المشاركة الواسعة في اتخاذ القرارات التي تهم حياتهم اليومية.
■ د. قدري جميل