أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مهدي النجار - الانهيار الحزين















المزيد.....



الانهيار الحزين


مهدي النجار

الحوار المتمدن-العدد: 1969 - 2007 / 7 / 7 - 11:15
المحور: الادب والفن
    



[ 1 ]

خرجت تلافيف دماغي من أي يقين وأتمتع الآن بصفاء متوتر، ليس من شيء أكيد بعد الآن،هذا أمر مؤسف، ولكن هنا يكمن الفرق الجوهري بيني وبين الناس الأسوياء ذوي الحيوات المألوفة، المطمئنة. عندما يتوتر السوي يغوص في ذكرياته ويلف حوله مثل عنكبوت خيطا تلو آخر من خيوط "الحقائق" سواء الخاطئة أو الصحيحة ثم يستقر هانئا، منتشيا. أما أنا فذكرياتي عقبة في مسار حياتي، عبارة عن جيشانات وجنونات، حين اتصل بها تتوثب كحشرات لاسعة تنهشني، تفرز هيجانات تحرق جلدة رأسي، تجعلني أر تكس وأمزق كل الصلات، واقذف بأيقونات الماضي في الهباء، أحس باني مطرود وملعون من أبناء جلدتي، من النوع البشري الآمن،المستقر، فافلت في جو مضبب أرى فيه الحقيقة متوهجة تشبه حمم بركانية، امسكها بكبرياء، أنا الوحيد الذي يتسامى ويمسك الحقيقة. لكن أتساءل بخيبة، ماذا تعني الحقيقة؟! ولا شيء سوى جواب جاهز مكرر، جواب يقترب من المثال: "الحقيقة هي الحرية" أو شيء اقرب إلى هذا، رأيت الحرية حلما مسلوبا يلمع في الكون مثل شموس، ورحت ُأنفى في لمعانات هذا الحلم الحمراء، وكلما عدت من منفاي أجد نفسي غارقا في ليالٍ دامسة من الذكريات، تُرعبني الليالي وتقهرني، خاصة تلك التي تقذفني إلى "فضوة المشراق" حيث ولدت وعشت طفولتي وعاش معي ذاك العمود الحديدي،القاتم، الشاهق، الأملس، البارد، والذي ينتهي بذراع معقوفة ثبت فيها مصباح بواقية دائرية مقعرة بيضاء، ينبعث ضياء المصباح بعد غياب الشمس واهنا بادئ الأمر ثم يتوهج حين يتدامس الظلام بأشعة حليبية،لاما حول هالته آلاف الحشرات

تدور بشراسة وصخب كأنها غيمة مرعوبة هائجة، ظل العمود القاتم من أكثر أشياء الفضوة جاثما على صدر ذكرياتي، يستفزني باستمرار، اعتقد لأحد هذين السببين وليس بسبب كونه المصدر الضيائي الأكثر توهجا من جميع مصادر اضوية الفضوة الشحيحة، السبب الأول هو موقعه المتميز في بداية الزقاق المفضي إلى مدرستنا الثانوية واستطيع أن اجزم بان اغلب الطلبة لامسوه أو استندوا عليه بقصد أو دون قصد، أما السبب الثاني والأكثر ترجيحا هو إن خالتي صفية كانت توقظني في غبشة بعض الأيام النادرة لاشتري حليب الإفطار من امرأة تربط حبل بقرتها بالعمود وتجثو متكئة عليه، في غبشة احد الأيام وأنا ذاهب لاشتري الحليب لم أرَّ البائعة ولا بقرتها، إنما رأيت شيئا مثل شبح مفزع، رأيت جثة تتدلى بحبل من الذراع المعقوفة، رجعت راكضا مذعورا: "خالتي…خالتي!!" بعد وقت قصير لمت اذنتاي الصغيرتان وهما تقشعران من الهلع بضعة حكايات مقرفة وشائعات مخيفة عن الرجل الذي رايته يتدلى من العمود، أصرت خالتي صفية على انه "ابن العلوية"، قال آخرون: " انه خائن، مهرب، قاطع طريق" والأغرب من ذلك وصفه البعض: "متوحش، يأكل قلوب الأطفال". في ضحى نفس اليوم شاهدت الناس متجمهرين بقنوط وجزع حول العمود يتطلعون إلى الجثة المدلاة بلحمها الذابل المزرق، ثم رأيت فرج الناهي هو وبعض الأفراد يشقون طريقهم، يقطع الناهي الحبل المدموم وينزل هو وجماعته الجثة بحذر وحزن ويضعونها في تابوت شاحب، ينصرفون مع تابوتهم بسرعة وارتباك كأنهم لصوص، منذ الآن تسمرت صورة فرج الناهي في رأسي، صرت لا ادري مسحورا به، حاولت أن أجد تفسيرا لاندفاعه نحو الجثة وكذلك توتره الدائم وشغفه بمتابعة أخبار الناس.



كان فرج الناهي في هذه السنة قد أنهى دراسته الثانوية والتحق في "دار المعلمين"، ويعمل إضافة على ذلك، بعد الظهر في مصنع صغير للحلويات، نراه في ملابسه الغامقة، من خلال نافذة المصنع يتحرك بنشاط بين الأواني الدهنية السوداء هو وبضعة عمال آخرين، يدأبون على العمل حتى ساعات متأخرة من الليل وفي بعض المناسبات يظلون يعملون لغاية الفجر، يخرج الناهي أحيانا متعبا،معروقاً، يقف بباب المصنع الخشبي الشبيه بأبواب البيوت العتيقة العادية، يقف كأنه خرج من واد سحيق، يشم الهواء بتلذذ يسحب أنفاسا عميقة من سيجارته، يظل بصره عالقا بوله في الأفق وبالضبط في المصباح المعلق في نهاية ذراع العمود المعقوفة.
طردني بائع الكتب بهزة رأس مستاءة،كان وجهه ضامرا، غامضا يشبه كتابة هيروغليفية، وكان يضع فوق رأسه "كشيدة" تشبه طربوش مصري لُفت حوله عمامة خضراء، طردني عندما طلبت منه كتابا لسلامة موسى…لماذا طردني؟! لم يلتفت البائع نحوي إنما مط شفتيه بازدراء وعكف ينظف سطح مكتبه.
بعد أسبوع واحد فقط طلبت بإلحاح بليد من مدرس اللغة أن يرشدني إلى كتب سلامة موسى أثناء حثه لنا على توسيع قدراتنا الإنشائية ومعلوماتنا الأدبية خارج نطاق المنهاج الدراسي المقرر، غضب المدرس مني بعنف، راح يشهر بي أمام زملائي الطلبة، يشير ألي بازدراء وتهكم، حولني إلى أضحوكة، يالها من حماقة، عن ماذا يتكلم سلامة موسى؟! كنت اسمع خلال التعنيف دقات قلبي كأنها تهز الصف، بقيت مطاطا الرأس ومسحت دمعة أو أكثر سقطت من عيني، استعصى علي فهم سر خطورة طلبي، قال المدرس بلهجة تأديبية قاسية: "هذه نزوة تؤدي إلى الانحطاط، وزعزعة في اليقين!!". خطرت ببالي وأنا مطرق تحت عذابات التأنيب الشديدة صورة عناد ابن خالتي صفية، يكبرني عناد بعام واحد ولكن وزن جسمه

وحجمه اكبر مني بأربع مرات،، حين كنا صغارا نذهب أنا وإياه إلى البرية، هناك نبيع ماء الشرب لأهل الموتى، يصرف عناد آخر فلس مما كسبه من بيع الماء في نزوات ما يشتهي في حين أعود أنا ومعي كامل نقودي، اجمعها عند خالتي صفية لسد نفقات دراستي، يعود هو مبتهجا، خالي الوفاض، خالتي صفية لا تحرك ساكنا، تفرح عندما تراه يترهل في سمنته، ينتفخ مثل بغل، لكن ما فائدة ذلك، فجأة مات الولد!! … أنت السبب يا خالتي، كانت تطعمه عشرين مره في اليوم، نصحوها الجيران أن لا تفعل ذلك، كان الولد يتورم، خالتي لا تبالي، كانت تحب نوم الضحى، تستيقظ في الفجر الباكر، تغزل الصوف الخشن في باحة الدار بعدما تنظفه بالأمشاط الحديدية وتنفشه بعناية فائقة، وحين تعلو الشمس تكور نفسها بعباءتها السوداء العتيقة، وتغفو بهدوء قرب أدوات الغزل، لم تعد تفعل ذلك، فقد مات عناد!! وجدناه بلا نفس دون سبب، لطمت وجهها صفية، قدت ثيابها، ملشت شعر رأسها المشتعل بالبياض، قلبت الدنيا، وظلت تدفع وتدفع ضريبة فقدان الولد، تدفع مزيدا من الحزن والنواح والبكاء،أظن أنها بكت على ابنها أكثر من كل أمهات العالم، نشفت دموعها واستحال جسدها قصبة متلفعة بالسواد من رأسها إلى أخمص قدميها.فقدت زوجها ثم الولد، تشبثت بي، أنا فاقد الأبوين منذ الصغر، تشبثت بي لتعوض عن خساراتها المفجعة والفادحة.
يتحدث سلامة موسى عن أصل الأنواع، هل صحيح نحن أبناء قرود؟! عثرت على كتابه "محاولات" صدفة عند بائع الكتب العتيقة فوق الرصيف ، عثرت عليه مهملا، متشقق الغلاف، قرأته بسرية كأنني ارتكب خطيئة، قرأته ثانية وثالثة وفي كل مره أفتش فيه عن أسرار، أتكون فيه مثلا أسرار دامغة لتخليص الإنسان
من آلامه وعذابا ته؟لم اعثر فيه على مثل ذلك، ربما لأني لم افهمه جيدا لذا احتفظت به كأنه أنفس حاجياتي.
يتوقف مصنع الحلويات عن العمل يوم الجمعة، وفي هذا اليوم اعتاد فرج الناهي النزول من غرفته فوق المصنع والجلوس على عتبة الباب الكونريتية بعد أن يفرش فوقها قطعة من الكارتون كي لا تتسخ ملابسه البيضاء الناصعة، يظل يبحلق بالناس المارين وأحيانا يضع بجانبه كتابا لا يقراه، وحين يضحك تظهر أسنانه صفراء ، غير مرتبة، أشار نحوي بأصابع يده الطويلة السمراء، سألني عندما اقتربت منه:
ـ كيف تسير أمور دراستك؟
ـ لا باس…
ـ ما هذا الكتاب في يديك؟
ـ كتاب سلامة موسى.
ـ أتقرأ سلامة موسى؟!!
لم يستأنف حواره معي، جاءت شلة من الشبان، صافحهم بود وأهملني ثم صعدوا بوجل إلى غرفته. وجدت نفسي مرتابا كأنني لأول مره أرى فيها "فضوة المشراق"، رايتها على شكل صحن دائري كبير مغطى بالإسفلت، تجثم حوله خمسة أفواه لخمسة أزقة بدروب ضيقة تتلوى كأنها أفاع، أحدها زقاق خالتي صفية، يتلوى طوليا دون تفرعات وينتهي عند سور المدينة الأثري، ثم من السور يظهر فضاء البرية الترابي الشاسع وهو يحتضن مئات الآلاف من القبور، كنا أنا وعناد نسلك هذا الطرق يوميا، نذهب حفاة بعد الظهر قاصدين البرية، حيث هناك عند فسحتها العريضة نمارس عملنا، عدتنا كوز فخاري وطاسات من

الفافون، نبيع الماء للمارة وأهل الموتى، معنا بائعون آخرون، كبار السن وصغار السن، بائعو ماء وحلويات وبخور وشموع وعطور، بائعو ملخصات دينية وأدعية صغيرة وخواتم ومسابح وشاي وأرغفة خبز، اغلب أهل الموتى غرباء يفدون من مدن نائية ومدن قريبة، يمشون خلف جنائزهم متعبين،ساهين كأنهم فاقدي الأعصاب والبصر، ننتزع منهم النقود بطرق ماكرة، وبفضل حواسنا المهنية نستطيع فرز الكرماء من سحنتهم فنتملق لهم ونتوسل السخاء فيهم، وقبل الغروب بساعة أو اقل نؤوب مسرعين نخاف أن يداهمنا الظلام حيث يقال إن السعالى والجن وكائنات القبور الأخرى تنهض ساعة اختفاء الضياء،لذا لم نتوغل شبرا واحدا في ظلام البرية الموحش.

* * *

مات عناد، وجدته أمه جثة باردة، غطوه ببطانية رمادية فيها مربعات بيض ذات أضلاع سميكة سوداء، ثم وضعوه في تابوت خشبي، رأيت عناد ميتا قبل أن يغطوه، لم أرَّ ميتا حقيقيا طيلة عمري، رغم أني ترعرعت وقتا طويلا بين ممرات القبور، نلعب ونتقافز فوقها، وشاهدت عشرات الجنائز تمر أمام وجهي كل يوم دون أن اشعر بأسى أو اكترث بها، الآن فقط انتابتني لوعة شديدة، أحسست بحزن عميق حين حملوا عناد ميتا إلى مثواه عبر نفس الطريق الذي كنا ،أنا وهو نسلكه معا للذهاب إلى العمل.قررت أن لا أطأ هذا الدرب ثانية.
في بداية الزقاق المجاور لزقاق خالتي صفية،تقع المدرسة الدينية ويطلق عليها مدرسة "البهبهاني" ، عبارة عن بناء ضخم له باب من الخشب الصاج المنقوش ينتصب على ثلاثة سلالم طويلة صقيلة سوداء، لايسمح بدخول المدرسة لغير طلابها ومنتسبيها، مرة واحدة رايتها من الداخل، كانت لها فسحة واسعة، مستطيلة، مفروشة ببلاطات إسمنتية ناعمة، وحولها غرف كثيرة بطابقين، تقع
الغرف داخل ايونات تراثية مزخرفة باجر ازرق، وفي وسط الفسحة يمتد حوض انتصبت على جانبيه الطويلين مواسير مائية بأعناق فضية مقوسة، وقد نبت بين ثغرات بلاطات الفسحة القريبة من الحوض عشب ناعم زاهي الاخضرار. يقطن المدرسة طلبة الحوزات الدينية من جنسيات متنوعة: فرس وأفغان وهنود وأتراك وبنغال… الشيخ عبد الرسول الطرفي هو الطالب الوحيد من عرب الاحواز يسكن معهم، يجيد العربية والفارسية ويرطن بلغات أخرى، له وجه اسمر ينتهي بعمامة بيضاء متوسطة الحجم، ورغم مظهره القميء ورجله اليسرى القليلة العرج، إلا انه اثبت تفوق قوته الفولاذية من خلال معركة حامية الوطيس حدثت على مرأى ومسمع الجميع ،رأيناه يتقدم بشجاعة نحو حميد "ابوقامة" وهو احد اعتي أشقياء الفضوة، وضع كتبه جانبا وخلع عمامته ووضعها فوق الكتب، وبعد تنابز وصياح فاجر علني هجم الشيخ الطرفي مثل برق على خصمه، شد يديه ككلاب حديدي حول بطنه ورماه أرضاً، الكل تنفس الصعداء، صفقوا وهتفوا للشيخ، لموا أوراقه وكتبه المتطايرة، قدموا له عمامته بوقار، ضمدوا جرحا ضئيلا حدث عند شفتيه،بينما دلع هو صدره إلى الأمام وقوس يديه مثل فارس من القرون الوسطى، دخل المدرسة بهيبة وإجلال ودخلنا خلفه كاتمين الأنفاس، هذه هي الحادثة التي جعلت الشيخ الطرفي يعامله الجميع باحترام وهيبة ويحسبوا له ألف حساب، وهي نفسها الحادثة التي سمحت لي أن أتخطى عتبة المدرسة واراها من الداخل.



زقاق ثالث على شكل قوس نحيف يمتد على صحن الفضوة،يسكن هذا الزقاق فيء دائم ويزفر هواء عتيقا رطبا فيحوله إلى شبه قبو معزول نادرا ما يمر به المارة،تطل من على جانبيه بيوت تكاد أن تكون أشكالها المعمارية متشابهة، ذات اجر اصفر باهت مكحل بخطوط إسمنتية رفيعة سوداء، تظل هذه البيوت مغلقة حتى يؤمها زوار العتبات المقدسة الأجانب في مناسبات السنة الدينية واغلبهم من الأسر الهندية الثرية وبعضهم من اسر تجار الإحساء والقطيف ومسقط وبلاد فارس.


كلما اقترب من الزقاق الرابع تختنق أنفاسي برائحة زفرة مقززة، حيث يستوطن وسطه بائعو السمك النيئ الطازج والعتيق، وهو من أكثر أزقة الفضوة ضجيجا وحيوية، تجوبه النساء للتسوق خاصة في الصباح،بيوته قديمة تكاد شرفاتها المصنوعة من الخشب والطابوق أن تتلاصق عند الأعلى بعضها ببعض، ويخيل للمرء من شدة ميلانها إنها ستهوي بين لحظة وأخرى، تتفرع من الزقاق عدة تفرعات جانبية، بعضها مغلق النهايات وبعضها تحول إلى أسواق شعبية مختلطة ومتداخلة تعج بباعة الخضر والفواكه واللحم والدجاج المحلي وباعة الخردة والسلال والحاجات المنزلية الرخيصة.
أعتاد فرج الناهي الذهاب والإياب عبر الزقاق الخامس، وهو زقاق عصري، عرضه ثلاثة أمتار ونصف، ذات أرضية نظيفة مبلطة بالإسفلت تشقها من الوسط ساقية تنساب بها المياه الزائدة والقذرة. يفضي الزقاق مباشرة ودون التواء أو تفرعات جانبية إلى فسحة واسعة ومن الفسحة يظهر صحن الإمام بقبته الذهبية الوضاءة ،المتلألئة، تسميه خالتي صفية وآخرون : "دربونة الإمام"، خالتي صفية لها قاموس عجيب من التسميات والتفسيرات، تقول انه الدرب الوحيد الذي لا تدوسه الشياطين والجنيات لأنه معفر بأقدام الزوار، لذا كنا نسير به مطمئنين في

ساعات الليل المتأخرة، يضاء الدرب عادة بثلاث مصابيح ضئيلة النور، وفي وسط الزقاق يطل دكان بائع المسابح، رجل مفرط في سمنته وله وجه عبوس، أراه جالسا على الدوام مثل تمثال خلف صندوق زجاجي يحتوي مسابح متنوعة الأحجام والأشكال والأصناف ويحتوي خواتم وأحجار غريبة وخرز سحرية وقواقع بحرية ويحتوي أيضا عملات نادرة وطنية وأجنبية، أرى الرجل جالسا يُرتب حاجاته بكسل بالغ أو يدخل الخرز في الخيوط أو يضع نهايات جميلة للمسابح من خيوط البريسم الملون، أحيانا أشاهده جالسا يغط بنوم هادئ أبله عميق، يتدلى رأسه فوق صدره كأنه بطيخه، وغالبا ما أرى فرج الناهي يجلس عنده دون أن يتكلما، قال الناهي حين راني:
ـ هل انتهيت من الكتاب؟
ـ أتقصد كتاب سلامة موسى؟!
هز رأسه بتريث وتكلم:
ـ أرجو أن تعيرني إياه.
كأنه غمرني بسعادة فرجعت إلى البيت مسرعا وجلبت له الكتاب، قلبه فرج الناهي بإمعان وكان يقف وأنا أقف حذوه وكان بائع المسابح يتأمل حاجياته ولا يكترث لشيء منزويا في اناى نقطة من العالم، قرأ فرج الناهي فقرة من الكتاب بصوت يشبه أصوات المعلمين: "يجب لذلك أن لا نقاوم الخوف وإنما نعالجه والعلاج الأول هو الامتناع عن الكظم" !!…ثم رمقني بنظرة متسائلة ظهر منها بريق عينيه السوداويتين وتابع بلهجة تدعو إلى الانتباه:
ـ ومتى تخلصنا من الخوف استطعنا أن نتقدم خطوة نحو تحسين حياتنا…
استمر في كلامه على نحو غريب ولهجة صافية، كنت استمع له مثل ولهان وراح قلبي يهذي بدقات صاخبة عشوائية، لأول مرة استمع إلى كلام فيه "زعزعة" وكنت احسده على طريقة كلامه، فهو يسال وبعد ذلك هو نفسه يجيب بلهجة خلابة وتأكيد يثق به ثقة كبيرة.


كانت مؤخرة الشيخ الطرفي مستديرة وصغيرة ومندفعة قليلا إلى الوراء بينما كان صدره بارزا إلى الأمام من منطقة الحوض حتى رقبته الطويلة النحيفة المنتهية برأسه المعمم على شكل قدح موطا، دائما كان يسير بسرعة منقطعة النظير لا يجيدها الناس العاديون، كنت أسير خلفه واتامل عمامته البيضاء وعباءته السوداء المسحوبة خلفه مثل عباءات الأباطرة، أحس بوجودي خلفه من خلال حواسه التي تشبه حواس القطط، تباطأ ثم التفت نحوي، ابتسم وغازلني على نحو مفاجأ، قال متلكئ:
ـ أحذرك من فرج الناهي…
ـ ماذا تقصد؟!
ـ أراك كثير التقرب منه، من الأصح أن تبتعد عنه…
ربت على كتفي واخرج كتابا عتيقا من تحت عباءته:
ـ هذه "ألفية ابن مالك" تفيدك في النحو!
ضغط على ساعدي بقوة قززتني، ابتسم هو وظل واقفا وسط الزقاق يداعب خرزات مسبحته الطويلة السوداء بينما نظرت أنا إليه بقرف وانصرفت، تحاشيت رؤية أصدقائي الجالسين على دكة باب عيادة الطبيب المغلقة. كان نور الفضوة مطفأ، عندما كنا نؤوب أنا وعناد في ساعة متأخرة من الليل ونجد النور مطفأ، نلمُ بعضنا إلى بعض ونبدأ بالغناء أو نطلق أصوات متلعثمة عالية، أحس بنفسي مرعوبا في حين كان عناد يواري خوفه بحركات بهلوانية توحي إلى مقدرته على

مقاتلة الجن والعفاريت،يثير بنا مدخل البيت مخاوف مضاعفة أكثر من أي مكان في المدينة، فهو حقيقة يشبه مخدع وحوش، لا ادري من أي العهود البائدة استورثته خالتي صفية، يتكون المدخل من قبو بثلاث درجات هابطة إلى الأسفل، تآكل معظم آجرها حتى غدت جحورا لشتى أنواع القوارض والحشرات، ثم بعد الدرجات يأتي دهليز موحش ضيق، كلما دخلته يتخيل لي أن ثورا بشعا اسود اللون بعينين حمراوين واسعتين، وفوق رأسه قرنان حادان كأنهما مخارز حديدية يقف وسطه، لا يتسع عرض الدهليز لأكثر من شخصين وطوله عشرة أمتار وعلى المرء أن ينحني قليلا عند دخوله حيث وجد حمالو جثة عناد صعوبة في إخراجها من البيت بل اضطروا إلى ميلها بسبب ضيق الدهليز من ناحية ولثقل الجثة الذي احدث خللا في التوازن من ناحية ثانية، لم يكن موتا وهميا، كان موتا حقيقيا أراه بعيني، أول الأمر بدا القدمان الأسمران الظاهران من الثوب الأبيض يتضخمان ويزرقان، ثم بدا الوجه تدب به سيماء غريبة غير مألوفة تشبه التورمات في حين انطفأت العينان تماما، لم تعد خالتي صفية تهمها أسباب الموت إنما كانت تقف مذهولة من الحادثة الصاعقة وتصرخ: "صحيح مات؟!" تسال ببلاهة كأنها لم تر الموت أمام عينيها، تجأر مثل حيوان مصيود، تجأر نحو السماء: "عنودي تعال!!". منذ كنا صغارا كانت ترعاه بحنان مفرط، أراها في الليل وأنا أتظاهر بالنوم،أراها تشمه، تعانقه، تقبله، تناغيه، تتفقده وتدثره بعناية…ربما كان عناد هو نفسه العقبة الكئود في حياتي والتي سببت هذا الشرخ الواسع على الصفحة المبكرة من عمري، بدأت تستهويني رغبة الانفلات من وضعي، رغبة تجاوز التفاوت الذي صنعه عناد في المضغة الأولى من سنين إدراكي. ظلت خالتي صفية هائمة، صارت مشدودة لجهاز الراديو الخشبي القديم، تهتم به وتنظف جسده، تكونت آصرة بينها وبين هذا الجهاز الذي اشتريته أنا من سوق الهرج، لا تهمها أخبار فيتنام أو الأرض المحتلة أو القهر الكوني، لايهمها عن ماذا يتحدث وعن ماذا يعلن،كل ما يهمها الانتظار، فقط تنتظر وهي ناضجة من اجل البكاء، تنتظر يوم، أسبوع ، شهر، حتى تسمع الأغنية الريفية: "عيني ومي عيني يا عنيد ييابه" عندها تزخ عيناها حبات دمع مكتهلات، تتشظى لوعة واسى، تدق صدرها وتضرب وجهها بعدها تهرع على نحو مخبول إلى ضريح الإمام، تنحشر بين الجمع المنضوي تحت السقف النوراني المهيب، تتنفس بارتياح، تدور عدة دورات حول شباك المرقد الفضي وفي كل دورة تمسك عروته مثل غريق، تدقها وكأن سنوات عمرها كلها معها تدق، تحس بشيء يشبه الثلج يسري في عروقها فيهفت سعير روحها، ترفع رأسها منتشية إلى الأعلى، تنبهر بسقف الضريح المرصع بالمرايا اللامعة بأشكالها الهندسية المتنوعة ،الدقيقة الخلابة البارعة،تتدلى من السقف ثريات كبيرة متوهجة مثل شلالات نورانية، تختلط داخل الضريح أنفاس العباد مع روائح العطور والبخور الهندي،تعود خالتي صفية خالية من الأحزان والأوجاع مثل تنور مطفأ.







[ 2 ]
اشتغلتُ بعد الدوام الرسمي في خياطة "النوارس" التي تقع في نهاية درب الإمام المفضي إلى دورة الصحن ويطل قسم من واجهتها الزجاجية الضيقة على فسحة الشارع العريض، في مقابل الواجهة نصبت منضدة خشبية صقيلة للتفصيل بُسط عليها قماش قطني رصاصي اللون، يقف صاحب الخياطة محسن فياض خلف المنضدة حتى صرة بطنه، يقف منتصباً ويحرك مقصه الحاد الأسود الشبيه بمنقار طائر مائي حركة رشيقة بارعة تسير على خطوط بيضاء خطها من قبل بقلم الطباشير فوق القماش، ومع حركة المقص تظل عيناه شاخصتين بفتنة نحو الخطوط المقصوصة وحين ينتهي من تقطيع وصلة القماش يُطلق صفيراً فرحاً ويلمها باحتراس ثم يضعها على حافة ماكينة الخياطة ليقوم بتخييطها في وقت لاحق على نحو دقيق وسريع.
بعد أسبوع من عملي الدائب والممتع معه قال لي فجأة:
-من الممكن أن تصبح ماهراً...
أضاف بلهجة أكيدة ومتفائلة وهو ينظر نحو الخارج بينما كنت أنا استمع له وأحاول أن افرز الشعرات البيض التي تسللت إلى غابة شعر رأسه الأسود:
-هذا ممكن إذا وضعت أمامك أمرين، أولهما أن تعشق المقص، والأمر الثاني أن لا يغيب عن بالك المثل الصيني القائل: قِس ألف مرة وقص مرة واحدة !!
كانت قامة محسن فياض نحيفة وطويلة تشبه قامة لاعبي كرة السلة وكان وجهه حيوياً نادراً ما تسكنه أمارات الحزن، يتناول الكلام بطريقة رخوة وعابرة ويتحدث مع زبائنه باسترخاءات وقهقهات وغالبا ما يُجمل حديثه بأبيات أو مقاطع من أبيات شعر، يرفع يده ويؤشر بسبابته وإبهامه بعد أن يلصق نهايتيهما:


سأضع النقاط على الحروف !! يقول ذلك بمناسبة أو دون مناسبة ويضحك بتهكم صاخب. يتهمه صديقه فرج الناهي الأصغر منه سناً بالخوف، يقول له:هذه صراحة مغشوشة، لا فائدة منها...يقول له أيضا: إذا كانت الحروف نفسها مبهمة فما فائدة وضع النقاط فوقها، أنا اغتبط حين تشب بينهما معارك كلامية، خاصة عندما يصل النقاش ذروته. يدافع فرج الناهي بحماس وأعصاب متوترة عن الشعر الشعبي:
-يا أخي هذا الشعر هو التعبير الحقيقي عن معاناة الناس !
يفزعه فياض بجملة مفخخة بألغام التهكم والازدراء:
-بل هو تهديم للغة!!
يتابع دون حزم مشيراً للفضوة:
-من هنا خرجت نخبة الفطاحل، من هنا خرجت أعمدة القريض: الصافي والشرقي والشبيبي وشيخهم الجواهري...قل لي أين الشعر الشعبي من هؤلاء الأعلام ؟!
يستغرب فرج الناهي ويسال باندهاش:
- حيرتني يا رجل، والله حيرتني...أسمعك يوماً تهاجم الشعر القريض وها أنت الآن تهاجم الشعر الشعبي، ما الأمر يا ترى؟!!
يضحك محسن فياض ويحول كلامه إلى مجرد نكتة. يترك في العصاري وقبل الغروب منضدة التفصيل وماكينة الخياطة ويتكأ على أطار باب الدكان، يشم رائحة النساء المارات، آسرته هذه الساعة من العصاري، يتلو أثناء تفحصه لوجوه النساء أبيات من الشعر، يكرر بعضها، يقرا البعض الآخر مُغنى، يخضع بعضها للزيادات أو الحذف. تكونت في راسي حافظة عجيبة تلتقط بسرعة ما يردده من


شعر، اسمع أي شعر مرة أو مرتين فأحفظه بيسر، حين يشم محسن فياض رائحة النساء المارات تشب في قلبه النابض جمرات عشق ووجد. يصرخ بأعلى صوته: يا ناس الله يحب الجمال!! عثر علي ذات مرة وأنا منهمك في قص بعض الخرق الزائدة، ضحك ونظر نحوي بارتياب:
-يا أخي عمل الخياطة عملا خطير، لأنه يتعلق بمظهر الإنسان ولياقته...
مشط شعر رأسه بأصابعه وتابع:
-هل فهمت كلامي، الخياط الماهر مثل المهندس يقيس كل شئ بدقة ويضع الخيوط في مكانها المناسب....تستطيع الملابس أن تصنع إنساناً فاخراً، رفيعا وكذلك تستطيع أن تصنع منه إنساناً باهتاً، بلا معنى، أو قل بأبعاد مشوهة !!
فرحت خالتي صفية عندما قال لها محسن فياض: "الولد بارع سيُتقن الصنعة" ، أنا وخالتي نعيشُ في دار يشبه آثار لأناس مندرسين فيها باحة مربعة وغرفة واحدة مربعة رطبة، احدنا يبتعد عن الآخر،وكلما حلَّ يوم جديد تباعدنا أكثر، ظلت تندب عمرها بموالها الحزين وتقتل ساعاتها بأدعية وتسبيح وبلسمات ودموع وهمية، لم تعد عيونها البالية صالحة لذرف مزيداً من الدمع. ذرفت اغلب خزينها من الدمع عندما صدمها الموت، موت ابنها عناد، ابنها الواحد الأحد. في الأسبوع الأول لم تَصَب عيونها دمعة واحدة من فرط انشداهها، كانت فاغرة الفم، لآوية العنق، تبحلق بنساء الفضوة وهن ينحن ويلطمن، ثم بعد أسبوع بدأت الدموع تنهمر حتى احمرت عيناها. بكيت أنا في اليوم الأول بحرارة حين مات عناد رغم أني وقبل موته كنت لا أميل لبقائه على قيد الحياة لأنه كان من بين أكثر الأشياء التي تزاحمني في حياتي، يفترس مكتسباتي ويتجاوز حتى على لقمة غذائي، يبغضني، في احد الأيام ربط حول عنقي حبلاً وسحبني بعنف،


اختنقت وجحظت عيناي، كان بيني وبين الموت شعرة لولا تدخل امرأة من الجيران فزعت لإنقاذي، حدث ذلك بسبب تافه، بسبب امتناعي من اللعب معه لعبة "الدعبل" ...لا ادري لماذا اكتأبت وبكيت عليه بحرارة، ربما بسبب اشمئزازي ورعبي من الموت !!عندما كنت ابكي عليه وأنا جالس على سلالم قبو الدار، جلست قربي سوسن راضي، كانت فتاة صغيرة ركبتيها حريريتين مدورتين وشعرها فاحم ناعم، وضعت يدها بود على كتفي وقالت: "عيب البكاء للحريم !!" ...كانت سوسن تجئ مع أمها طيلة فترة المأتم، تترك أمها داخل البيت وتأتي تقرفص قربي مثل قطة، تنطق كلمات قليلة وهي تعبث بنهايتي ضفيرتيها.
كبرت سوسن راضي، رايتها أكثر من مرة وفي كل مرة نتبادل نظرات ودِّ دون أن نتكلم، كان وجهها ابيض يشبه قمر يظهر من نهاية ليل العباءة الأسود، يقع بيتهم في نهاية الزقاق المؤدي إلى السور وعرفت من خالتي صفية أنها طالبة في المدرسة الثانوية ...بعد الغروب بساعة انصرف أنا من الخياطة بينما يظل محسن فياض يواصل عمله وعندما أكون فارغاً من الدراسة أظل اعمل معه حتى أواخر الليل، اكتشفت بان فياض كان يرشف بسرية جرعات من الخمر المحلي ذي النكهة المقززة، يضع قنينة "العرق المستكي" والقدح في جرارة المنضدة ومعها فصوص من الثلج وبضعة ثمرات فواكه أو حبات كرزات، سمعته يسال نفسه بسخرية: " لا ادري كيف نصبوه أميرا على الشعراء ؟!" ثم يجيب: "هذا حرام...الشعر عالم بلا أمراء !!" بعد ذلك يغني بصوت فوضوي:
[ قيس جُئت تطلب ناراًً
أم تشعل الدار نارا...]


يهز رأسه وبعيون جاحظة يقول: "شوقي رائع !!" يستأنف باستنكار: "أنا أمزق الشعر بصوتي !" وحين يدخل الخياطة فرج الناهي يصعد فياض فوق منضدة التفصيل ويبسط كفه صارخاً:


[ سلامٌ على جاعلين الحتوف
جسر إلى الموكب العابر
سلامٌ على نبعة الصامدين
تعاصت على معول الكاسر ]

يضحك الناهي ، يمسك يده وينزله بهدوء:
- ستخيط ازرارات ثياب الناس في أذيالها!!
تشبه رائحة الناهي رائحة الزلابية ورائحة السكر المطعم بالهيل. التفت نحوي وقال باهتمام:
-عليك أن تأخذ إجازة من العمل فقد اقتربت الامتحانات...
عندما يمرُّ الشيخ الطرفي من أمام خياطة "النوارس " تحدث كارثة، لابد من أن يكون محسن فياض قد جهزَّ جملة أو نصف جملة تثير الشيخ وتزعجه، لذا كان يسير في أقصى سرعته حين يسلك مضطراً هذا الطريق، يتحاشى تهكم محسن فياض، ينظر إلى الخياطة بازدراء وأحيانا يبصق عليها، يمتلأ فم محسن فياض بقهقهات صاخبة ويردد: "عفن!!". ضبطوا الطرفي متلبساً بجريمة أخلاقية فطردوه من المدرسة الدينية، هكذا ظهرت التقولات إلا انه ظل يدافع عن سلامة موقفه


ببسالة، يقول مجرد شائعات، ويؤكد بان الطلاب العجم لفقوها ضده، على أي حال لم يعد يمر من أمام الخياطة بعد طرده من المدرسة الدينية، أراه مع شلة من محترفي قراءة الصلاة على جنائز الموتى، أراهم قاعدين أو جالسين عند " باب الطوسي" ينتظرون بلهفة ورود الجنائز، تتحرك عمائمهم البيض والسود وتنفرج أساريرهم ويرتبون جببهم ويمشطون لحاهم بأصابعهم عندما يلمحون جنازة قادمة من بعيد، اعرف جيداً سر هذه اللهفة فقد كنا أنا وعناد ننتظر أيضا الرزق
من جيوب أهل الموتى بفارغ صبر.






* * *



اشتريت دراجة هوائية زرقاء يلمع بدنها مثل زرقة السماء، هي أثمن شئ اشتريته في حياتي من مدخلي الشخصي، خزرني الطرفي بنظرات وقحة حين راني امتطي الدراجة، ابتسم وأوقفني ثم تقرب مني وهمس:
- ابتعد عن فرج، هذا متورط في قضايا سياسية خطيرة !!


اذهب فوق الدراجة بعيداً عن الفضوة، اسلك عبر الميدان الشارع الرئيس المبلط الذي يربط المدينة بسائر أنحاء المدن الأخرى، ثم أدور في شوارع "حي السعد" أشم روائح حدائق البيوت الحديثة الجميلة الفارهة، اختال بدراجتي وأحس بامتلاء رئتي بالندى والعذوبة، اردد بصوت عال الأشعار التي سمعتها من فياض، أتمايل مزهواً واغني كأني فارس يفتح مدناً مغمورة بالضياء والفرح، يتراءى أمامي وجه سوسن راضي عذباً رقيقاً قلقاً،تحدث داخلي توترات واهتزازات، اشعر بنبضات قلبي صاخبة تدق مثل دقات طبل مثقوب. اقتنيتُ دفترا أنيقا بستين ورقة ورسمت في صفحته الأولى وردة صفراء وعلى جانبها عصفور شارد، رسمت تحت الوردة قلباً مدمى، رسمت كل ذلك بعناية فائقة وبألوان ساحرة، كتبت بخط عريض بارز في أعلى الصفحة ومن جهتها اليمنى:"رشيد الهجري" ثم كتبت في وسط الصفحة: "محاولات شعرية شابة" وأسفلها كتبت: "مهداة إلى س " دأبت بين حين وآخر على كتابة أشعاري،التي خيل لي أنها من أجمل الأشعار، اكتبها بعناية وكبرياء حتى كاد الدفتر يمتلأ، لم اقرأ ما اكتب لأحد، اقرأها بزهو لنفسي فأضيع في نشوة لا يعرفها احد، تمنيت أن اقرأها على مسامع محسن فياض ولكن سيجعلني هذا المثرثر الفضائحي اهزوءة بين الرائح والغادي، يضع النقاط على الحروف ويصرخ:أنت خربت الشعر يا ولد !!...لولا ميول الطرفي اللوطية لاستعنت به في معرفة أصول الشعر وقواعده فله باع طويل في هذا الشأن.






اذهب فوق الدراجة إلى نهاية الزقاق المفضي إلى السور القديم، أحوم مثل طائر هائم حول بيت سوسن راضي، افعل ذلك مرة أو مرتين في الأسبوع، اعثر عليها وقت الغروب، تمدُّ رأسها من شرفة السطح، أرى شعر رأسها بلا عباءة يرتعش بنعومة حول وجهها القمري الفاتن، تحييني بكتابها وتختفي بسرعة، أظل شارداً ومهموماً، صارت سوسن اشتعالاً عذباً في داخلي. تتاح لنساء الفضوة في شهر عاشوراء فرصة للخروج من دورهن، خاصة العشرة الأولى من الشهر حيث يتنقلن من دار إلى دار ومن زقاق لآخر يمارسن زيارة المآتم والطقوس العاشورية بعباءات سوداء وثياب سود، رغم بحثي الدائم عن سوسن راضي بين نساء الفضوة إلا إنني لم اعثر عليها، شاهدتها مرة واحدة، حسناء تتهادى وسط صديقاتها، رمقتني من بعيد بنظرة فاتنة جعلتني افقد عقلي ثم بعد وقت قصير عادت لوحدها ووقفت أمامي باعتداد، ابتسمت ومطت شفتها الطفولية استياءً وقالت:
-هذه أوقات امتحانات ودراسة، أنت على هذا المنوال ستضيع فرصتك في النجاح !!
وضعتني بعذاب مبرح وانصرفت على عجل... رجعت بائساً ضجراَ إلى مركز الفضوة، وجدتُ الناس مزدحمين بشكل صاخب، كانوا يتوافدون دون انقطاع وتتشكل منهم تجمعات كثيفة مهتزة، سيسهرون هذه الليلة الداكنة حتى الصباح، ليلة مقتل "سيد الشهداء"، انه أبشع حدث تاريخي عرفته الفضوة، تتشكل




المواكب الطقوسية على نحو تدريجي بينما تتفرج النسوة ،يلطمن وينحبن ويطلقن العويل. يتكون من كل طرف من أطراف المدينة موكب عزاء ضخم، كل موكب يتباهى بعدته وعدده، ينطلق موكب "المشراق" من الصحن الدائري للفضوة ويدخل السوق الكبير عبر ميدان المدينة ليصل بعد ساعات طويلة إلى صحن ضريح الإمام.الأزقة وما خلفها تدفع الناس نحو مركز الفضوة قرب عمود الضياء القاتم، تدفعهم حُفاة، حليقي الرؤوس أو على رؤوسهم طاقيات وكوفيات بيضاء ويشماغات، يرتدون الدشداشات السود أو البيض، يتهيأ أصحاب الأبواق والصنوج والطبول فيجربون آلاتهم فتُحدث بأبدان الجماهير ارتعاشات واضطرابات. رأيت محسن فياض يقف على دكة عيادة الطبيب المغلقة ويتفرج

بعينين تائهتين على وجوه الناس، شققت الزحام بصعوبة وصعدت الدكة ثم وقفت بجانبه. سال بلهجة شاحبة دون أن يهمه إصغائي:
-أتراهم يستطيعون أن يتخلصوا من آثامهم ؟!
قلت له باستغراب:
- أي آثاماً تعني ؟!
-باعوا مُخلصهم إلى الطغاة، خذلوه وقت المحنة !!
- لا يتحملوا الآن وزر أجدادهم...
هز محسن فياض يده وقال:
-لا فائدة...
بعد أن حكَّ جانباً من جبهته استأنف:
-صدقني لو ظهر الحسين ثانية لانقلب هؤلاء الرثاة إلى شئ آخر، ربما إلى قتلة وسفاكين !

طقطق بمسبحته ذات الخرزات الناعمة الشبيهة بحبات الفستق السوداني ومضى يتحدث بيأس:
-حين يولد مُخلص في هذا البلد فانه لا محال يقع فريسة الغدر...قتلوا صاحبهم أبشع قتلة ومذ تلك المذبحة الرعناء ضيعوا الحكمة !!
تابع ببرود:
-هاهم في تمزقات وعذابات رهائن تأنيب ضمير جائر، يضربون رؤوسهم بالمديات والسيوف، يلطمون صدورهم، يجأرون، بكاء ، بكاء، حداد سمج...ليس كل هذا غير نوع من أنواع الاعترافات والتانيبات للوصول إلى حالة تطهير وهمية... لأول مرة اسمع فياض يتفلسف ويواصل كلامه بجدية ولهجة حازمة، التفت نحوي وقال:
-عندما تضيع الحكمة عند شعب من الشعوب يفقد مستقبله !!
كانت راية حمراء عملاقة ترفعها سارية طويلة في نهايتها شرا شيب خضر وصفر وطاسة فضية على هيئة قمع قد بدأت تخفق فوق رؤوس الحشد، رأيت فرج الناهي يتنقل بين الناس يرتدي ثوباً ابيض ويلف فوق رأسه كوفية خضراء من قماش صوفي ثمين، يلفها على هيئة عمامة كبيرة ويتحزم بلفة قماش ناعم اخضر ويتدلى فوق صدره سيف له مقبض فضي وغمد مرصع بياقوتات كبيرة متلالاة، ملونة وبارزة كأنها عيون سمك ومن حمالة السيف تتدلى ثلاث شراشيب بحجم الكمثرى زرقاء وحمراء وصفراء. يطلق الناهي عبارات ندب حزينة بصوت منغم جهور فيجمع حوله خلقاً غفيراً، يرتبهم بمهارة ويوعز لأهل الطبول والصنوج بالدق ولحاملي الأبواق بالنفخ، يرفع الناهي يديه وينزلهما مع لحن صارخ رتيب


فترتفع مع إشاراته السيوف والمديات والخناجر والعصي والهراوات والمشاعل النفطية ويعلو نحيب النسوة وصراخهن كأنهم ذاهبون إلى معركة لتحرير أنفسهم من الخطايا، يتحرك الناهي برشاقة وسط غيمة الناس، يندفع، يسير بين الأمواج البشرية دون كوابح، يزمجر، يُلهب النفوس، يشحن الأرواح، يدق الأرض صائحاً: واه حسين...يتمايل كأنه يرقص رقصة حداد جنونية وسط حميم، يجرد السيف من غمده ويهزه في الهواء هزاً عنيفاً، يقودهم بمهارة قائد متمرس. سالت محسن فياض وكان يُسبل أجفانه:
-والسيد... اقصد فرج الناهي، انه ينخرط في صفوفهم بشكل متطرف، أتراه ساذجاً ؟!
-لا...انه مفعماً بأحلام كبيرة و لا يستطيع أن يفعل غير ذلك...
تركت محسن فياض حزيناً ورحت أتابع مواكب الناس التي بدأت تزحف تحت ليل حزين راعش بطقس حدادي رهيب كأنها تلامس الانعتاق...انعتاقها المرجو.













[ 3 ]

كنا نجلس فرادى أو كل بضعة أنفار معا تحت ضياء العمود،نقرا بصمت ونسرح بأحلام كبيرة خلابة حتى ساعات متأخرة من الليل، صبية في مختلف الأعمار ومختلف المراحل الدراسية، بعضنا لايقرا، يتصيد الحشرات الساقطة من هالة الضوء أو يرسم فوق إسفلت الفضوة رسومات مبعثرة حتى إذا داهم احدنا النعاس تمطى وانصرف إلى بيته بتثاقل وهدوء، في بعض الليالي نرى فرج الناهي آتيا في ساعة متأخرة،لا ندري من أين يأتي، ولا نستطيع تمييز قسمات وجهه الضائعة في الظلام، يلوح لنا بيده من بعيد وينصرف مسرعا إلى غرفته فوق مصنع الحلويات والتي ما زال يسكنها رغم تركه للعمل في المصنع.ازدادت حركة فرج الناهي في الآونة الأخيرة بين الناس، فهو يتحرك بينهم حلزونيا وأفقيا، يستهويهم بلباقة، يسرد عليهم حكايات شعبية وأمثال نادرة وأقوال مأثورة، حين يتكلم يتفجر عن الم مثلما يتفجر في مواكب الحداد، يدق الأرض في ليلة عاشوراء ويصرخ: " الحسين نصير المظلومين"، يحول المظلومين أثناء الطقوس الحزينة إلى جيش يحملون رايات غضب، يشد أبصارهم إلى أحلام الخلاص، يقول له محسن فياض بقهقهة عالية:
ـ ستتحول إلى شهيد آخر من شهداء ألطف!!
لا يقترب محسن فياض من الأحاديث الجدية، يرفع دائما راية الحياد،آراؤه كرة مطاطية تتأرجح فوق عقل مدبب النهاية يشبه نهاية المقص، صرح ذات مرة بهمس شديد:
ـ أنا لا أؤمن بأي شيء سوى الأشياء التي استطيع لمسها ورؤيتها ووزنها وقياسها!!
يعتقد بان المشهد الأرضي لم يكن إلا متاهة ويرفض الاندفاع والتوغل بين الناس، يمارس ملهاة مطبوعة بنوع من التحرر الخلاعي المفضي إلى الخراب مع الناس.
أثقلت راسي كتاباتي في دفتر المحاولات، أحس بها نبضات شعرية صاخبة مثل شلال، أتمنى لو يسمعها محسن فباض، لو يسمعها فرج الناهي، لو يسمعها آخرون، تعذبني لأني الوحيد من يستمع إليها، قررت أن أجازف ذات مرة واعرضها على مدرس اللغة العربية، كنت مثل سعفة ارتجف حين عزمت على ذلك وكان المدرس يُشرف على الانتهاء من الحصة، كان ينشد ويشرح واحدة من الارجوزات،يذهب ويجيء بين مقاعد الطلبة، يرفع سبابته ويقلص عضلات وجهه، تنمو فقاعات لعابية بيضاء مثل العفن في جانبي شفتيه حين ينطق تترشرش فوق وجوهنا.اكتملت فكرة المغامرة في راسي وزاد هلعي، وضعت دفتر المحاولات فوق كتاب النصوص الأدبية، انتهى المدرس من رجزه ووقف أمامنا إمبراطورا يتطلع إلى وجوهنا بصرامة: "هل من سؤال؟" لم يسال احد، تبقت من الوقت بضعة دقائق، تصورت انه سيربت على كتفي، بالتأكيد سيدعو زملائي لان يصفقوا لي سيقول لهم: "هذه موهبة نادرة!!" وجدت يدي مرفوعة ومنها تخرج سبابة منهكة، وجلة تشبه ثمرة الباميا الذابلة،رأيت مدرس اللغة مثل غراب هائل يقف فوق راسي، وضعت دفتر المحاولات أمامه، تفرس بها مدرس اللغة وقلب أوراقها، توقف عند بعضها، تقوست حاجباه وانفرجت أرنبتا انفه، كنت أتصفد عرقا، رفع الدفتر بعنف وراح يلطمني به، بصق بوجهي، تحول إلى تنين ارعن، راح يلعن نفسه ويلعن المدرسة ويلعن أهلي، راح يشتم العالم كله، مئات الفقاعات اللعابية غدت تترشرش فوق وجهي ووجوه الطلاب بها رائحة نتنه كأنها رائحة زرنيخ.اختبص المدرس وصاح بغضب: "هذا مجون، والله مجون!!" ثم ذهب إلى مقدمة الصف ورفع يديه صارخا: "أي جيل فاسد انتم؟!…ما زال يرضع الحليب ويتحدث عن الحب والغرام؟!!" تقرب مني وأمرني بالنهوض، لم أرَّ أي شيء أمامي سوى حشرات ضياء الفضوة وهي تلسعني بشراهة، لم اسمع غير دوي الضحكات والقهقهات وهو يثقب أذناي، جرني المدرس من ذراعي ودفعني نحو الخارج بقسوة.رأيت أثناء خروجي أوراق دفتري تتساقط من الأعلى كأنها طيور بيضاء منتوفة الريش، تقع على الأرض دون صوت فيسحقها المارة وتدوسها أحذية الطلاب.
انقطعت عن المدرسة وعن العمل في الخياطة وبعد يومين أخبرت محسن فياض بما حدث لي وعن الورطة التي وقعت بها، فغر فياض فاه: "لا تهتم…الشعراء هكذا دائما يبدؤون بخطوات صعبة!".لم أجد عند خالتي صفية ما افرغ به أحزاني، فقد حولت نظام حياتها الخرب إلى ساعات من النوم الثقيل البليد، تجلس وهي نائمة ، تأكل وهي نائمة ، تمشي وهي نائمة، لا فرق عندها بين الاماسي والصباحات والليالي والنهارات، تقرفص بإعياء عند عتبة الباب المطلة على الدهليز تاركة الباب مفتوحا وتشرد في تأمل لذيذ، مبهم وخائب، تتأمل عودة الابن الغائب، الولد الذي ذهب فجأة عن الأرض.
استدعت إدارة المدرسة ولي أمري وحين أخبرت محسن فياض، دق صدره بابتسامة وقال:
ـ أنا سأذهب معك!
ذهبنا إلى المدرسة، كان يسير أمامي ويتكلم بانزعاج:
-هؤلاء متحجرون، لا تتورط معهم… استدار نحوي وسال بلهجة عتاب:
ـ ألا تدري كم أنا مغرم بالشعر!!
فتح ذراعيه كأنه يستقبل شيئا ما ثم راح يصفق بيديه، كان يرتدي قميصا ازرق باهتا به وردات صغيرة رمانية اللون، كنت ابحث في غابة شعر رأسه الأسود المفروق من الوسط عن بضعة شعرات بيض تسللت بخوف في أنحاء الغابة.كان وجه فياض مستديرا، حليق الشاربين واللحية، حين اقتربنا من المدرسة التفت نحوي وقال بلهجة ودودة:
ـ كان الأجدر أن تقرا أشعارك هناك…تصعد منصة الخياطة وتقرا دون خوف أو رقيب!
اعتذر محسن فياض نيابة عني إلى المدرسة وتعهدت أنا بعدم تكرار ذلك، خصم المدير عشرة درجات من سلوكي وألقى علينا درسا طويلا في الأخلاق والسلوك الاجتماعي.عكفت بعدها على الدراسة وابتعدت عن المحاولات وقتلت داخلي الرغبات والتطلعات والغطرسات. هربت من حماقات الشعر والشعراء، انطويت على نفسي وأزغت سمعي عن هذيانات محسن فياض وتبجيله المغالي للشعر، مسحت من ذاكرتي أشعار المعلقات، لم تعد تستهويني سوسن راضي، تحولت عذوبتها إلى غيمة كئيبة، لم يعد التفكير بها سوى حماقة أخرى تضاف إلى سلوكي الشائن، لم يعد فرج الناهي المثال الذي أترصده، احترق سحره القديم وانهار اعتقادي انه يملك مفتاحا لحل معضلات الحياة، ماذا لو أوقعني في مصيدته السياسية، اصعد دراجتي الهوائية الزرقاء وأقول لها: مرحى!! انطلقي بي بعيدا، بعيدا جدا إلى فضاءات خالية من التعلقات الوهمية والمطبات، أسوق دراجتي جذلا نائيا عن الفضوة، هناك في الأطراف السكنية الجديدة التي غدت بها ساحات ملاعب وحدائق غناء، زحف أغنياء الفضوة تدريجيا نحو الأحياء الفارهة، حتى أهل سوسن راضي باعوا بيتهم العتيق ونزحوا إلى "حي السعد"، ظلت أزقة الفضوة لوحدها تتفشى فيها العفونات وتتكاثر، صفية لا يهمها تكاثر العفن الناشط، تحصنت روحها بغيبوبة تامة، لا تحرك ساكنا حتى لو عشنا على أكوام براز الدجاج وبين القوارض والجنيات والعفاريت والزحف اليومي البشع لجيوش الحشرات السامة والأليفة! مرَّ خبر اعتقال فرج الناهي على مسمعي باهتا مثل طلق خلب، ولم اشعر نحوه بأي عذاب أو أسى، حكوا لي صبية مصنع الحلويات بان رجال الأمن طوقوا غرفته ثم قبضوا عليه هو ومجموعة من الشبان، اخرجوا معهم أوراقا كثيرة وآلة طابعة، أضاف الصبية بأنهم شاهدوا كل شيء بعيونهم، شاهدوا فرج الناهي ثابت الجأش إنما كان الشبان الذين معه مرتبكين.
حين راني الشيخ الطرفي تغامز وانفرجت أساريره وأصر على إيقافي، ربت على مقود الدراجة بشماتة وقال ساخرا:
ـ أين صاحبك؟!:
كان يعني فرج الناهي، تابع باغتباط:
ـ زنادقة!!…كان يسعى إلى توريطك في السياسة!
صار الشيخ الطرفي أنيقا وحديثه مثقلا بالرزانة، مثل فار يختبأ في جبة سوداء داكنة ونظيفة تحتها يرتدي قميصا ابيض مكوي وفوق رأسه عمامة ناصعة البياض لُفت بأناقة تجذب الانتباه وفي أقدامه مداس لامع الصفرة. ينتظر كل يوم هو وشلة من الأشياخ عند "باب الطوسي" ينتظرون الجنائز بلهفة ليصلوا عليها مقابل أجور مجزية، تخلص من فاقة الرسوخ في العلم، وقراءة الكتب الثخينة الصفراء ذات الطباعة المنهكة والحروف المتعبة، تخلص من الشروحات والتفسيرات وقواعد الفقه واللغة، ابتعد عن الطلبة الذين يقتلون أحلى أعمارهم غرباء في حوزاتهم الدينية داخل حياة متقشفة ومريرة.
ليس الشيخ وجماعته وحدهم من ينتظر الموت، المدينة برمتها تنتظر ذلك، تدفن الموتى في بطنها باسترخاء، السوق الكبير الواصل بين الميدان والصحن يطلقون عليه شريان الحياة، سوق طويل لا ترى نهايته مثلما الشبح ذات سقف من الصفيح على شكل خيمة، مثقب في اغلب جهاته اثر طلقات نارية أطلقت أثناء حوادث ووقائع قديمة، يترقب السوق الكبير الجنائز وأهل الموتى من المدن القريبة والمدن النائية ومن مدن خارج الوطن، يستوطن عند فوهته متطفلون ودلالون ومخلصون أدعياء وأطباء مشعوذون بثياب وسحن وقورة ومهيبة، تظهر على جانبي السوق دكاكين تشبه أفواه الحشرات القانصة، صائغو ذهب يعرضون سبائكهم المغرية عبر زجاجات واسعة لامعة،بائعو أقمشة من درجات مختلفة وبائعو ملابس وأحذية وعطور وكماليات وتحف وحلويات، أصحاب المتاجر والسماسرة والمرابون والأتقياء الكذبة يتكاثرون ويتضخمون بسرعة رهيبة، نظل نحن نتآكل على هامش البيع والشراء ، على هامش النقد، لا نبيع ولا نشتري، نعيش في آلية واهنة،راكدة، نروض آلامنا وجوعنا ومصائبنا بالدق على الأرض، ندقها بأقدامنا، نريدها أن تتفجر، نريد من الغائبين أن يظهروا لتخليصنا من محننا وأوجاعنا، نتشبث بعروة شباك الضريح تشبثا عميقا ونصرخ من الأعماق: "يا باب الحوائج أغثنا…يا قريب الفرج! " ولكن لا جدوى، في نهاية المطاف الصوب الآخر هو الذي ينتصر، السوق هو الذي يأخذ بالناس إلى الرفاه، على المحرومين أن يهاجروا نحوه فورا وإلا انتهوا إلى العذابات، عليهم أن يتقنوا لغة السوق وإشاراته ورموزه ومعادلاته النقدية وإلا تيبست أقدامهم، صفية لم تعد لها أقدام، صارت أقدامها حجرا ثقيلا لا تستطيع أن تعبر به ساقية، أنا رشيد الهجري أنط خلفها مشلول الأقدام، أقدامه شلها خوف الانشداهات و الاسئلات ، عليك أن تعبر يا رشيد وإلا وقعت في أعمق هوة زمنية.آه،لطمني أقسى لطمات ومزق أشعاري التي كانت تسكن فؤادي، اتركها يا رشيد وتوغل في مضاربات السوق، اتركهم جميعا، اترك محسن فياض قابعا في زجاجة الخمر، يلعلع ليل نهار ويتنبأ بثورات ماجنة للحب، اترك فرج الناهي في قبوه الأمني يتنبأ بثورات كاذبة للفقراء، لاحظت فرج الناهي آخر أيامه أكثر انعطافا نحو الناس يؤلب فقراءهم على أغنياءهم، يندس بينهم في الليل وداخل المخابئ السرية، يجرهم عبر اعتقاداتهم السماوية إلى تفجير الأرض، صار فيه هوس لان يصنع من محنتهم خميرة للاندفاع والانفلات صوب عالم فيه قدر من الحرية والعدالة.




















[ 4 ]


فركت جبهتي لأتأكد أن سوسن راضي هي التي تقف هناك، صحيح هي وأمها كانتا يقفان عند باب مراب السيارات،أميرة من بنات الفضوة، حلوة فاتنة، وجه قمري بخدود تفاحية وانف ممشوق لافت للأنظار، عندما رأتني قدحت عيناها بسحر عجيب، ثم همست بإذن أمها، ظلت تشاورها وتبتسم بعدها تقدمتا نحوي كنت احمل إضبارة التقديم إلى الكلية،توقفتا جنبي ثم سألتني أمها عن حالة خالتي صفية بينما سألتني هي عن نتيجة قبولي في الجامعة:
ـ قُبلت في كلية الفنون…
ـ أكاديمية الفنون الجميلة…وبأي قسم؟!
ـ ارغب في قسم المسرح…وأنت أين قبلت؟
ـ في كلية الصيدلة.
كان ازدحام الناس شديدا على السيارات الذاهبة إلى بغداد، تبعد بغداد عن الفضوة بحوالي مائة وثمانين كيلو مترا، أعطيتها إضبارتي واقتحمت الازدحام بصعوبة بالغة، حجزت بعد جهد عنيف ثلاثة مقاعد في مؤخرة السيارة، مرتان فقط رأيت العاصمة بغداد، المرة الأولى ذهبت مع محسن فياض، اشترينا أقمشة من سوق "الشورجة" ودخلنا في الظهيرة إلى السينما، شاهدنا فلما هنديا مليئا بالحب والعواطف استلذ فياض برؤيته ورجعنا مساء نفس اليوم.في المرة الثانية أرسلتني خالتي صفية كي أجلب لها أقراص ارتفاع ضغط الدم، جلبت لها الأقراص من صيدلية تقع في ساحة "النصر" واشتريت أثناء ذلك بعض المجلات والكتب وتأملت في تمثال "السعدون" ، كانت سوسن راضي أثناء سير السيارة تتحدث مع أمها بهمس، أشم رائحتها وأتعذب بداخلي، كنت أقرا مجلة أدبية وبين حين وآخر أسهو:
ـ كم ستمكث في بغداد؟
سألتني أمها فجأة، فقلت:
ـ سأرجع مساء هذا اليوم…
ـ نحن نظل يوماً أو أكثر حتى تكتمل معاملة سوسن…
ـ تمكثون في الفندق؟
ـ لا.في بيت أختي، أليس لديك أقرباء في بغداد؟
ـ أنا سأذهب وأعود حتى يبدأ الدوام .
سالت سوسن راضي:
ـ هل توجد أقسام داخلية؟
ـ بالطبع ولكن للطلبة الفقراء فقط!
ـ كلنا فقراء…
قالت ذلك وهي تضحك


* * *

ظلت سوسن راضي نارا تلتهب في قلبي، أتذكرها فاستعر اشتياقا إليها،حان الوقت لكي ارحل عن الفضوة بصورة جدية والتحق بالدراسة، بكت خالتي صفية وقبلتني كثيرا عندما غادرتها، صاحبني محسن فياض إلى مراب السيارات.قال فياض بنبرة حزينة:
ـ لا تنسى اهلك، عُد في أول فرصة، لا تغب كثيرا…
سألته:
ـ كيف هي أخبار فرج الناهي؟!
ـ لا شيء!…جاء أهله من "السماوة" حاولوا الاهتداء إلى مصيره فلم يفلحوا…
عندما انطلقت السيارة باتجاه بغداد، أحسست بقشعريرة وشعرتُ بوحشة خانقة، تراءت لي الفضوة من خلال ضجري كأنها تسبح بأنوار نيران المشاعل الضخمة، يطلق أهلها عويل استغاثات صاعدا في طبقات السماء، يقودهم فرج الناهي بمواكب حزينة إلى تخوم مضرجة بدمع ودم، هاهم يستيقظون على بكرة أبيهم في صبيحة العاشر الباكرة من عاشوراء، بعد أن قضوا ليلا ساهرا من التذكر التاريخي المؤلم، لا تفارق لحظة واحدة ذاكرتهم تلك الجثة الطاهرة الملقاة دون رأس على ارض ألطف، ينهضون بهلع كأنهم يبحثون عن مخلصهم، يرتدون فوق ثيابهم الأكفان البيض أو بدون أكفان، حاسري الرؤوس واغلبها حليقة، حفاة مفجوعي الضمائر والأرواح ثم حين تتصاعد أصوات الطبول والصنوج والأبواق، تتصاعد صيحات النسوة وعويل الشيوخ، تحدث بداخل الجميع ضجة وهوس، ينشطون بعنف، يطبرون رؤوسهم بالسيوف والمديات الحادة، حتى بعض الصغار بأعمارهم الأربعة أو الخمسة تنذرهم أمهاتهم لمشهد النزف الدموي، تتفجر من سطوح جماجمهم نافورات قرمزية وتتخثر خيوط حمراء مسودة فوق جباههم وخدودهم وأعناقهم، يحثهم الناهي إلى مزيد من التفجر ، إلى مزيد من الغليان: " هوذا يومكم يا أصحابي…هوذا يوم الشفاعة ودفع الكفارات!!".
حين يجنح الليل وتهمد المدينة وتخلد إلى السكون الموحش، يتخفى الناهي بينهم، يوقظهم من جديد، يدس بأيديهم المنشورات الممنوعة أو يعقد بينهم الاجتماعات السرية الطارئة، يحثهم هذه المرة إلى قلب الدنيا وتأسيس نظام اخوي جديد تخفق فوقه أعلام الحرية والعدالة، لا ادري كيف استطاع أن يوائم، هذا المقلق الدائم الانفلات، بين غيبوبة مضرجة بالدماء وصحوة تتأمل حياة رغيدة، يضحك محسن فياض ويفر بيده: "حيرني هذا المتطرف يسير مع الخطاة والصالحين في درب واحد؟!". كان فرج الناهي يحدثني ومعي بعض الشبان عن بقعة ضوء في العالم، كأنه يريد منا الانخراط في خلاياه السرية ونتعلم الحروف الأبجدية للكتابة على النار، يُعطينا فصلا تلو آخر من كتاب محو الذات لكي تتوسع بقعة الضوء ونعم الفضوة وكل أرجاء المعمورة. مرَّ الناهي مثل طيف باهت في حياة بعضنا وفي حياة بعضنا الآخر انتهى إلى رجيم. لم تعد تشغلني دروسه وتعاليمه الثورية، ولم تعد تشدني بقعة الضوء الفاتنة التي كان يغرينا بها، بدا قلبي يدق على وتر الأشواق واللوعات، صارت سوسن راضي بقعة ضوء تستهويني ليل نهار، لم اعثر عليها لا عند عودتي إلى الفضوة ولا في بغداد، أتسكع هنا وهناك مثل خروف ضال، اجترُ ذكريات ضئيلة تربطني بها، اخرج من القسم الداخلي وأجوب الشوارع المحيطة بالقسم، أخاف الابتعاد عن المنطقة، أدور في " باب المعظم" و "الميدان" لا افترق عن هاتين الساحتين.
اجلس لوحدي في مقهى تطل على ساحة "باب المعظم"، يجلس معي أحيانا فخري أمين زميلي في الدراسة، له قامة مربوعة ووجه دائري ابيض يشبه رغيف خبز وتستقر فوق عينيه نظارة طبية مستديرة بإطار قمحي اللون، يطالع فخري المجلات والصحف وملخصات الكتب الصغيرة بنهم مفرط ويحفظ عن ظهر قلب قائمة طويلة من أسماء مشاهير الأدب المحلي والعالمي وكذلك أسماء كتبهم وجنسياتهم، أفشيت له بأسراري ، حدثته عن سوسن راضي بلا خجل أو عناء، شكوت له أشواقي ولوعتي، قلت له:سلبت عقلي!، استمع إلى قصتي بشغف واكتراث، ضحك ووصف حالتي بلهجة حكيم من القرون الوسطى: "هذه نزوة!" أضاف بتأكيد:" ستؤدي إلى تفجر غير مجد ينتهي بخيبات!"
وجدتُ حلا مناسبا، اهرب في الأسبوع مرة أو مرتين من دوام الكلية واقفُ تحت شجرة يوكالبتس باسقة تبتعد قليلا من النقطة المقابلة لباب كلية الصيدلة، انتظر أكثر من ساعة حتى يخرج الطلبة، تخرج سوسن راضي ومعها زميلاتها بوجوههن العذبة الخالية من المساحيق وأفواههن الشبيهة بالجروح، يتهادن في خطواتهن رشيقات بينهن سوسن راضي تفاحة مغرية، انظر إليها دون أن تراني ، اتبعها بنظري لآخر نقطة اختفاء، اشعر بحزن بالغ وأسبح ببحر من الخيالات، اكتب لها قصائد ورسائل أشواق، حين تغيب أظل لوحدي تحت الشجرة بجسد واهن، أعود نحو الشوارع خاويا وبداخلي جثة فاسدة ، جثة ابن خالتي عناد، جثة بنفسجية داكنة متورمة الأطراف، فيها قروح تنز سوائل كريهة جذبت إليها ديدان غريبة الأطوار بدأت تمتص السوائل القيحية بشكل مسعور، تمتص فؤاد صفية، انهارت صفية، لم تصدق موت ابنها عناد، هذا شيء فوق حاجز العقل، كل شيء يصدق إلا موت عناد!!. ظل فرج الناهي يندفع بصورة محمومة، يندفع وهو يتأرجح بين نشور الغيب ونشور الواقع، يقين الموت ويقين الحياة، حمل راية جديدة وعصف بها فوق رؤوس المتعبين، يبشر ببعث جديد، أخوة بشرية تنتهي بها سمنة البعض على حساب جوع الآخرين، التفوا حوله كأنه رسول عن مبشرهم المقتول،حاول جري معه إلى اندفاعاته، كان الشيخ الطرفي يحذرني: "هذا عضو خطير في منظمة سرية!!".حاول الطرفي نفسه اصطيادي ولكن إلى مصيدة أخرى، كان يتبع الصبية بلهفة وحامية تنطوي على مقاصد فاجرة،سمعت آخر نبا من الفضوة وأثلج قلبي: وجدوا الطرفي مقتولا، مضرجا بدمائه الفاسدة،بطنه مقددا بالسكاكين، قتلوه قتلة قذرة اثر ضبطه متلبسا في الأخطاء، وأهالوا عليه التراب دون شفقة ولا رحمة.
أرشدني فخري أمين إلى المكتبة المركزية، من هذا التو نشأت بيني وبين المكتبة صلة حميمية قوية، فخري أمين لا تستهويه القراءة الجدية، يقلب عينيه في صفحات الكتب ، هوايته حفظ عناوينها وأسماء مؤلفيها خاصة تلك الترجمات الصادرة عن بيروت، يلفظ الأسماء بتضخيم أوربي: جان بول سارتر!.أنا عندما افتح كتابا أجد نفسي في موضع من يريد تصفية الحساب معه،غدوت رائدا محترما من رواد المكتبة، عرفني موظفوها وتعاطفوا معي.سألني فخري أمين:
ـ ماذا تنوي من هذه القراءات؟!
ـ لا ادري!
ـ عندما يقرا المرء ينبغي أن يعرف ماذا يريد…
ـ أنا فقط أحس بالخواء وأحاول الامتلاء.
ـ هذا سبب لا يكفي!…أنت في متاهة!
خرجنا من المكتبة المركزية وكنا نسير باتجاه" الباب الشرقي" عبر شارع "الجمهورية" وقد اتفقنا أن نزور صالة الفنون التشكيلية.كان فخري يراقبني من تحت عدستي نظارته بوجه غفل لا تعبير فيه:
ـ لماذا لا تنشر قصائدك في إحدى الصحف؟!
ـ أرسلت بعضها ولكن لم تنشر، سأرسلها إلى القاهرة…
ـ ألاحظ في قصائدك قطيعة شديدة مع أولئك الذين تردد أشعارهم وتحبهم مثل طرفة بن العبد والمعري وحتى المتنبي!!
فجأة وجدت في نفسي رغبة التحدث بإسهاب:
ـ هؤلاء الذين ذكرتهم وغيرهم يا فخري شعراء كبار، هؤلاء قمم عصرهم، نحن بحاجة إلى عودة نقدية إليهم لا عودة تقليدية، حتى إذا اقتضت هذه العودة قطيعة فنية وفكرية معهم فلتكن…
مسكته من ساعده وقلت:
ـ علينا البحث عن بدائل عصرية ليس في الشكل فحسب، ليس في الكلمة من حيث قيمها الصوتية وجرسها ولا طريقة الترتيب في الكتابة وتوزيع الأبيات، نحن بحاجة إلى توغل شجاع في مناطق السر، في دوائر المسكوت عنه، لا تخفق الروح شعرا مالم تكن على تماس مع الكون، هذا الخفق الخارج من داخل الإنسان هو الشعر الخلاق الذي تعطيه الروح إن كان ثمة ما تعطيه!
ادخل فخري سبابته تحت عدسة نظارته اليمنى وفرك عينه ثم سألني باستفزاز:
ـ جيد، ما هي خلاصة الفكرة الجديدة التي تكونها عن الشعر؟!
ـ باختصار إنني اذهب إلى ابعد الحدود أو قل بلا حدود كي اسبر الأبعاد المجهولة للوجود والى استشراف المصائر الكبرى للإنسانية…مطمحي أن يكون الشعر فعلا عظيما من أفعال تحقيق الحرية…
كان يستمع إلي بهدوء فشجعني لكي أتابع:
ـ الفكرة الجديدة تقتضي إيقاع الاختلال في جميع الحواس البشرية وهذا يتطلب استبدال في نظام اللغة وطريقة نحتها وكذلك ثورة في نظام الحواس.
صمتنا لحظات ثم سال فخري أمين:
ـ هل هذا يتوافق مع آراء الأستاذة صاحبة النزعة التجديدية؟!
ـ أتعني دكتورة سميرة…نعم، البعض منه ينتمي إلى نفس الأفكار، فهي أستاذة عظيمة استطاعت أن تؤسس أو هي رائدة من رواد تأسيس النظام اللغوي الجديد لكنها ظلت تقليدية فقد أخفقت في قلب نظام الحواس أو إن صح التعبير في نظام التلقي!.
تذكرت وجه الدكتورة سميرة، أستاذة مادة الأدب في الكلية، كان وجهها مخمليا تتضح فيه قسمات رائعة العذوبة، كانت تثير قلقي وانتباهي، يحتاج المرء إلى خيال جم لكي يصف حركة جسدها المتوترة الصارمة التي يرتفع معها صدرها الصغير وينخفض أثناء إلقاء مادتها بنسيج من الصوفية والهيام الرومانسي، لم أر شعرها الغزير المخضب بأصباغ عسلية هادئة منثورا في يوم ما، كانت على الدوام تلمه إلى الوراء وتعقصه بخيط فضي.تذكرت في نفس الوقت مدرس اللغة في الثانوية، كان يجهل تماما تصفيف الشعر، كان يهمل شعر رأسه بصورة بدائية، أتذكره جيدا وأتذكر سترته ذات المربعات البيض التي يغلقها على نفسه بإحكام والتي تشبه إلى حد ما البطانية التي غطوا بها جثة عناد، أتذكره مثل عمود ثقيل منغرس في ذاكرتي:انف مدبب وآذان نبت خلفها الشعر فبدت كآذان ماعز، وعيون حادة وصوت أجش، لطمني بدفتر محاولاتي البكر وأمعن في تنكيلي،كان مثل اسطوانة عتيقة لا يمل من تكرار أبيات شعر متحجرة خاصة الارجوزات،يُفرط في رجزها إلى حد الملل، يجتر بأعصاب منهكة بحر الاروجوزة متوافقا مع ضربات كعب حذائه على الأرض، يكرر ست مرات تلو ست: "مستفعلن مستفعلن مستفعلن مستفعلن مستفعلن مستفعلن" يخرج زياد مصفر يشبه براز الطيور المصابة بالإسهال من زاويتي شفتيه.
كانت الدكتورة سميرة كائنا أنثويا رائع الجمال تتجاوز حدود اللياقة التدريسية التقليدية فتعقد مع الطلاب صداقات حميمية ناضجة مُكتسبة بذلك ود واحترام الجميع، شعرتُ بأنها تتعاطف معي بصورة خاصة وترعاني رعاية زائدة عن الاعتيادي، تترك لي متسعا من الحرية والوقت لأخوض معها نقاشات أدبية تخرج عن نطاق الدرس التعليمي، أشادت بقدراتي الشعرية أمام زملائي الطلاب.هي أيضا شاعرة مرموقة إضافة إلى كونها تدريسية من طراز فريد، أهدتني نسخة من ديوانها "الهشيم" دون أن تعلق على ورقته الأولى أية عبارة إهداء، طلبت مني رأيا في ديوانها الشعري، كنا نسير أنا وهي ببطء في الممر الواصل بين قاعة المحاضرات وغرفة التدريسيين، لم تدخل الغرفة إنما واصلت طريقها في الممر وفجأة توقفت عند فسحة تطل على الحديقة الخارجية وطلبت مني أن أقرا آخر قصيدة كتبتها، شعرت بقلق وقرأت برهبة:
[ يا بذرة في ظلمة الجليد والرماد
تدوسها الأرجلُ في بلادي
تدوسها الذئاب
تمخضي: فراشة ووردة وغاب ]
لاحظتها حين كانت تصغي لا تنظر نحوي، تبحلق في الفراغات والأشياء البعيدة وتفرك جبهتها برقة وأحيانا تكرر الضرب الرتيب المتوتر بسبابتها فوق شفتيها، عندما انتهيت من القراءة اهتز رأسها قليلا واستدارت صوبي ثم رايتها تبتسم وترمقني بدهشة:
ـ رشيد ألا تشعر بان لديك موهبة متميزة وممتازة؟!
وعندما لم انبس أنا سالت هي بحذر:
ـ ما هو رأيك في قصائد الهشيم؟
قلت لها باحترام وبشيء من الانتهازية:
ـ أكن لقصائدك يا أستاذة بالغ التقدير، هي بحق حية ومشغولة بقلق التجديد وتحاول بشجاعة انتزاع الراية من العموديين!
وقلت لها أيضا بعد أن وجدتها تعتز بأفكاري:
ـ وبصراحة اغلب قصائد الهشيم تخوض حربا عنيفة مع الأشكال التقليدية وتمتلك تقنية باهرة في استخدام المفردة اللغوية الجديدة وبذا حازت على فضيلة التأسيس، ولكن من ناحية ثانية وربما أنا مخطأ، أجدها مثقلة بالروح الرومانسي!
قاطعتني بلهجة شديدة الاعتداد:
ـ لا أرى في الرومانسية مثلبة في المشروع الجديد، ألا قرأت ما قال النقاد عن الهشيم؟!…جاء الاعتراف به مشروطا بشروط النقاد الأدبيين وليس بشروط جهات فكرية أو سياسية معينة…
اعترضت عليها بعد أن مسحتُ عرقا تصبب من جبيني:
ـ لا يهم الاعتراف ولا تهم الجهات، أستاذتي الفاضلة المهم التوغل، أترانا نستطيع التوغل ابعد من هذا في الأماكن السرية من الروح البشري ونلامس شغاف الكون؟!…بهذا فقط تتحول كلماتنا إلى شيء مقلق، يثير الزعزعات والاحراجات ويقتحم المكرر والتقليدي…
وضعت قفَّ يدها على فمها وطفقت تضحك ضحكات قصيرة تُشبه البلورات الثلجية المتساقطة على الزجاج، ثم قالت وهي تنصرف بلهجة مداعبة:
ـ أنت تراهن على حماقات أيها المشاغب الصغير!!








[ 5 ]



انصرمت السنتان الأولى والثانية في كلية الفنون ولم افلح بتوطيد علاقة جيدة بمواد المنهج الدراسي، كنت أتلقى المواد بملل وأهضمها بعسر بليغ فجاءت معدلات درجاتي متوسطة أو دون المتوسط،لا أحس بميل نحو الدروس الأكاديمية، إلا أنني كنت اعشق مسرحية آرثر ميلر: "موتُ بائع جوال"، كنت أحرك أبطالها داخل نفسي حسبما اشتهي، اصنع مسرحا وهميا في رأسي واخرج المسرحية وفق هواي، أكاد أحفظ فقرات طويلة من حواراتها، أضع بين الحوارات نصوصا شعرية أنتقيها من "الأرض الخراب" و"أربعاء الرماد" لاليوت.
كنا نلتقي أنا وفخري أمين وبعض الطلبة المتوترين ـ اغلبهم من مدن وأرياف خارج العاصمة ـ نلتقي في مقهى "دجلة" على ضفاف "أبو نؤاس" نتذاكر المسرحيات والقصص والأشعار واللوحات التشكيلية ونتبادل المجلات والكتب والكراسات الثقافية والسياسية ونفكر بتأسيس فرقة مسرحية أو تجمع ثقافي، تتخلل أحاديثنا ثرثرات سياسية متطرفة والغاط جنسية متوترة، تدب في رؤوسنا أحلام واسعة كبيرة تنتهي بفوضى ومغامرات طائشة، بعضنا يتخفى لا ندري أين يذهب وبعضنا يهرب إلى الحانات آخرون يهيمون في الشوارع بحثا عن اللامعقول، كنت وحيدا بينهم الوي عنق رغباتي وأدوسها تحت أقدامي مثل جزار، ألج أنفاق الوعي الوعرة وامسك بتلابيب"الغزالي" و"ابن رشد" أغور في أعماق سرديات"الطبري" ثم أتأرجح بين "رأس المال" و"الوجود والعدم"…آه، ماذا فعلت بي بنات الكلب هذه الكتب، مع الأسف دمرت أحشاء رأسي!!…ومع هذا فأنا اجلُّ أصحابها هؤلاء الشيوخ العظام، رغم اختلاف مشاربهم ومذاهبهم فقد كانوا وسيكونون أخوتي، أعضاء أسرتي وليس لي من أسرة أخرى.
أنأى بعيدا عن شلة القلق، أتمتم بأشعار "الطواسين"، أتعثر وسط ظلام سحيق وبين قبور يئن تحت وطأتها موتى معتمين دون عيون أو أمخاخ كأنهم متعطشون للاستيقاظ ونهب الدنيا من جديد، هي تلك الأزقة الأفاعي الملتوية الداكنة وضعت أمامي ركامات هائلة من قسوة عصر عارم بغيض، نمت مخاوف على شكل زغابات فوق جسد أيامي، كنت لا اكترث بها في يوم ما، كان عناد ابن صفية الزغابة الأولى ثم تلاه نمو مفرط، متوحش من الزغب حتى غدا الجسد كله، جسد أيامي مزروعا بالمخاوف،لوحدك يا ابن الهجري عليك أن تُسرع بانتزاع زغب الخوف وتُطهر روحك من الارتعاب!
في نهاية السنة الدراسية الثانية حزمنا أمتعتنا نحن الطلبة الغرباء عن العاصمة وافترقنا نحو محافظاتنا.قال لي فخري أمين في نهاية المطاف:
ـ أنت إنسان مُرتعب يا رشيد…وحدك دائماً!!
كان مقطب الوجه، وكانت نظارته تشبه قرصا شمسيا بدت عيناه من وراءهما مثل جمرات بيض، ارتميت على كتفه، شممتُ فيه رائحة أخوية عظيمة فيها سر من حنان غير معلن، أفزعتني رائحته وحفزتني فجأة على البكاء، وجدت دموعي تنهمر دون حياء، لا أتذكر متى انهمرت دموعي، الآن أحسست بها تنهمر برغبة على كتف فخري أمين الواسع اللين وظلت تنهمر بغزارة ومعها تخرج من داخلي أنات يابسة مبحوحة، أجهش فخري وطبطب على ظهري، حاول طرد أحزاني الملتهبة. كان مراب السيارات مقفرا ولم تكن معي أية حقيبة أو أمتعة سوى معطفي الأزرق الغامق ونسخة مندسة من ديوان " الحلاج"، كنت أقف مشدوها ولم تطرأ على بالي أمنية لقاء سوسن راضي إنما فعلا رايتها مثل حلم، صورة رقيقة يسكنها جمال هادئ خلاب انتزعتني بقوة من قلقي وضجري وأحدثت بي توترا جديدا، تقدمت منها بلا خشية، رايتها مضطربة، وضعت حقيبة سفرها على الأرض وابتسمت ثم رفعت حاجبيها ونطقت بدهشة:
ـ رشيد!!
أضافت بصوت متعثر:
ـ نزلت من السماء، سيحل الظلام ولا توجد أية سيارة؟!
ـ إذن أنا البطل المنتظر لإيصالك أيتها الأميرة السماوية…
ضحكت فرأيت أسنانها ناصعة كصف حبات لؤلؤ ووجهها معروقا ابيض تميل وجنتاه إلى الاحمرار، لم أرها كذلك من قبل، رقبة صقيلة فرعاء ونهدان وجلان يحاولان الانفلات من طيات الأثواب، ملأت رائحتها اللذيذة المنعشة روحي:
ـ هل أعلنت نتائج الامتحان، أنا نجحت بمعدل متفوق!
قطعت انبهاري فقلت لها:
ـ ألف مبروك !!…ألف مبروك يا دكتورة، أما نتائج البهلوانين فستظهر بعد أسبوع أو أكثر…
لا ادري كيف صدرت مني حركة بهلوانية أثناء كلامي جعلتها تغط بالضحك:
ـ والله أتقن رشيد فن المسرح!
ـ وكذلك فن الشعر…اسمعي:
[ وتمزقتُ وقاتلتُ طواحين الهواءِ
وامتطيتُ القمر الأسود مهراً
عبر صحراء غنائي
وصنعتُ الشعر من آلام أهلي الفقراء
ثم ماذا؟
هذه أنت حزينةْ
تمضغين الثلجَ والأوراق في ليل المدينة
تلعنين الموت بالجهر، وسراً تعشقينه
تلعقين الدمَ من قلبي
وتبكين حزينة
ثم ماذا؟ ]
بقيتُ صامتاً بينما ظلت هي تردد: "ثم ماذا؟ ".انطلقت بنا السيارة الكبيرة ذات الخمسين راكب بسرعة جنونية، كنت دائما أود الوصول بسرعة وتزعجني سرعة المركبات البطيئة، أما الآن فقد تمنيت أن تسير السيارة سير السلحفاة أو تتوقف نهائيا كي أظل منتشيا برائحة سوسن، بدا لي كل شيء فيها رائع، طريقة حديثها ومفردات لغتها واحمر الشفاه الذي تضعه فوق شفتيها التفاحيتين بدقة جذابة، قرأت لها بهمس قصيدتين واحدة من صناعتي وأخرى من ديوان شيخ الرومانسية الإنكليزي "بايرون" أثنت علي بإعجاب إلا أنها استغربت من أشكال الشعر الذي اردده. حين وصلنا طلبت أن ترى خالتي صفية بأقرب فرصة، غمرني جو من التوتر وسرحت بخيال عارم نزق ثم ودعتها على عجل وهرعت محموما إلى خياطة محسن فياض.
تسمرت في مكاني مذهولا حين رأيت محسن فياض ذابلا يجلس خلف ماكينته بوجه يائس اختفت منه الحيوية، رايته يتمطى كسولا بلا رشاقة، عندما راني نهض بوهن وضمني إلى صدره بحنان:
ـ والله أنت عاق يا ولد !!
لاحظت بدنه مترهلا انحسر عنه قوام الرياضيين المتناسق الرشيق، يداه راخيتان وعيناه مطفأة، وجدت الخياطة نفسها دبَّ فيها الخراب، الماكينة وسخة بلا دهان، منضدة التفصيل مبعثرة يعلوها الغبار، المقصات عمياء، أشياء كثيرة مفقودة، مثل خربة لا خمر ولا شعر ولا بنات حسناوات، لاضجيج ولا قهقهات،كل ما تبقى لمحسن فياض مسبحة طويلة سوداء ذات مائة وواحد خرزة ولحية بيضاء شعثاء طويلة وتهدج بنصوص مقدسة غامضة، لا ادري ماذا حدث؟! تتراءى لمحسن فياض من خلال خوفه وهلعه أنوار كثيفة وسحب غامقة، يغرق في ساعة غيبوبة عميقة ولذيذة، يُسبح ويُسبح ويسبل عينيه، معه كتيبات "زينة الأحكام" و "الدعاء المستجاب" ، عندما اقرأ له أشعارا يمتعض ، يُدير وجهه ويشير بسبابته:
ـ الشعرُ لغير مديح أهل البيت رجس!!
يبدو "أبو زمن" قد لمَّ أوراقه الدنيوية القديمة وحسم أمره أن يسير باتجاهات السماء، أراه حزينا يعزي نفسه باعترافات شنيعة عن معاص يسميها " وساخات" ويدعو مخلصا إلى إيمان خال من الأغراض والمآرب، زاغ ببصره قليلا ثم قال:
ـ رشيد، أنا اعترف بأنك من النوع العنيد وتدفع أثمانا باهظة من اجل قناعاتك،اجل…
هز رأسه وتأوه:
ـ اجل يا رشيد…بعض المرات أتيه فأجد نفسي فيك، ولكن لا…كف عن قناعتك وادخل فضاء الله، ستجد نفسك متصالحا مع نفسك ومع الناس!
أضاف بلهجة حازمة:
ـ أنت بحاجة أكثر من أي أحد لإنقاذ نفسك من المأزق الروحي لأنك متورط فقط في قناعات العقل!
كنت أصغي إليه بشرود، أتمعن فيه، أحاول العثور على أسباب انقلابه الكلي من حياة التمردات والقهقهات إلى حياة الورع والانصياع إلى أحكام الباري، ربما انقلب هكذا مذ لدغه ثعبان الموت، تراجع عن ملهاته الإباحية ملسوعا بسبب وفاة زوجته التي يحبها بقدر الدنيا، ظل وحيدا يئن ويتفجر داخله بركان الإيمان، قال باختصار:
ـ الحياة يومان…واحد للولادة وآخر للموت!
لمست تقاربا شديدا بين حاله وحال خالتي صفية أبان موت وحيدها عناد،تغلي عندما تفتح عيناها وترى الجثة، لا تصدق، تركب قارب الأولياء الصالحين، تهدأ في هذا القارب وتحس بالنجاة والأمان، مثلها "أبو زمن" فك ارتباطه مع التاريخ السابق لحياة الطيش والعربدة وركب القارب الآمن، راح يدعوني ، يدعو الآخرين بلهفة، يدعو كل دابة على الأرض، يدعو الجميع أن يصعدوا معه قارب النجاة فقد قاربت الساعة:
ـ يوم لا ينفع مال ولا بنون!
ويتساءل بإخلاص:
ـ هل عندك أي شيء تخسره؟!
ينفخ محسن فياض بكير حداد لتتشظى داخل الخياطة وداخل الناس شظايا الإيمان، استبدل صورة النساء الخليعات وهن عائمات في سفينة تشبه مشتل أزهار ترفرف فوقهن الحمامات والعصافيرـ كانت الصورة معلقة بتحد وسط الجدار المقابل للشارع ـ استبدلها الآن برقعة قماش سوداء كبيرة نقش عليها بخط ابيض مجموعة من أسماء الله الحسنى، استبدل كذلك سحنته وملابسه الزاهية، استبدل لهجته وأصدقاءه، لم تعد لديه شلة من الأصحاب الماجنين المقهقهين، وجوه أصحابه الجدد منهكة، تعبى، تتحرك شفاههم بنصوص ربانية ويقضون معظم أوقاتهم خلف متاريس التقوى، افلحوا باجتذابه إليهم، يترك فياض الخياطة على عجل ويذهب معهم إلى المساجد والمزارات يمارسون الطقوس الدينية بانتشاء وفرح، كان فرج الناهي لا يشبههم، هم خاملون عن فحوى الدنيا بينما ذاك كانت له قدمان، قدم هنا على الأرض وبين الناس، وقدم أخرى تسير باتجاه السماء يستفاد منها لأجل تجييش الناس وتعبئتهم، ينادي بأعلى صوته وسيفه يهفهف في الهواء: " كونوا أحرارا في دنياكم" مضى رشيد الهجري لا مع هذا ولا مع ذاك، مضى باتجاه غامض، تدحرج إلى أعماق صخرية حادة، عبرهم جميعا وتجاوز الحدود المعقولة واللامعقولة لفضوة المشراق في بحث مرير عن: المعنى! تجاوز فرج الناهي، كان الناهي عبارة عن كذبة كبيرة أحبها من كل أعماقه، افتتن بها ودافع عنها ، كذبة العالم المتساوي في الأجناس والطبقات والأعراق، كذبة العدالة والجمع الذي يصنع التاريخ! أخيرا ذابت الكذبة مثل فص ملح، مضى ابن الهجري وحده، كتلة قلق وقائمة استفسارات واستفهام، روح قاحلة مثل سبخاء مجة تنز ملحا على الدوام، غاص في بحر الأوراق العتيقة والجديدة بحثا عن ورقة الخلاص، سألني فخري أمين بضجر ذات مرة وأنا اقرأ:
ـ أتبحث عن شئ محدد هنا في هذه الكتب؟!
ـ المعنى، ابحث عن معنى لحياتنا فقط!
ـ هذه مسخرة!!
أضاف بجسارة ودون قيد:
ـ أنت يا صديقي مُكبل بإذلال طفولي، ولدَّ لديك مركب النقص الحاد…تحاول وهميا بشراهتك القرائية هذه أن تتشافى أو على الأقل تتخلص من عقدة النقص…
لم ترهبني وصفته القاسية أو تساور عندي شكوك وتراجعات من المضي إلى النحو الذي يشدني، في الحقيقة لم أكن أنا الذي اخترت ذلك إنما هي حالة وجدت نفسي فيها مثقلا بالهموم، احذف الملذات عن خارطة أيامي، احسب حسابات كبيرة لا شان لها بذاتي، لها شان بهذا الكون المقهور وهذه الحياة فاقدة المعنى وهؤلاء البشر التائهون في العذابات والاذلالات.
سمعت نقرات خفيفة على الباب، كانت الساعة السادسة مساء وكنت لتوي قد مزقت ثلاث أوراق حال الانتهاء من كتابتها حول ديوان "الهشيم" مزقتها وبعثرتُها في باحة الدار، حين فتحتُ الباب ورأيت سوسن راضي أمامي لم اندهش بل أصابني شبه خوار، بلعتُ ريقي ورددت تحيتها بغصة، في باحة الدار بقينا صامتين، كانت أنفاسي تمتلئ بعطر منعش، جلست سوسن على أريكة جانبية ووضعت عباءتها على كتفيها بينما جلست أنا قبالتها على الأرض، كان احدنا يحدق بالأخر، يحدق بذهول وامتلاء، يحاول كل واحد منا أن يخترق الآخر بنظراته، رددت بعفوية وارتباك:
[ تعال حبيبي، فان الظلال
وريح الشمال
ستطفئ لي شمعتي
وترحل عن ضيعتي
مُخلفة في المساء
وفي ظلمات البكاء
خيال صَبية
تصلي
تنادي
حبيبي تعال! ]
نهضنا سوية، أمسكت بكفيها وجذبتها نحوي، صار وجهها أمامي على بُعد أصابع، ألقت برأسها اللطيف إلى الوراء ثم انسحبت مثل قطة منفوشة وضعت عباءتها فوق رأسها ومضت راجف.
بقيت أتذكرها وأتعذب في الأيام التالية، اجلس في الخياطة مشدوها، سوسن راضي ليست كذبة، هي حقيقة عيانية بلحم ودم، اعترفت لنفسي صراحة بأنني أحبها ولا يمكن الحياة بدونها، انكبُ على العمل بشرود، أحاول الانفراد بأية طريقة وادفع محسن فياض خارج الخياطة بعيدا عن عزلتي، أعيد بانتشاء لحظات اقترابي من الجسد النابض الحي، أعيد مراسيم لقائنا الأول، يتورد شباب في قلبي وينزاح ماء عطن، آسن من داخلي يشبه ماء الكافور الذي يغسلون به الموتى. كنا نعمل أنا وعناد على بعد بضعة أمتار من بناية مغسل الموتى في البرية، بناية صفراء عتيقة تتربع على تلة مرتفعة قليلا، تفرغ ماءها الكافوري عبر ساقية طويلة إلى رمال البرية، تعودنا على رائحة الماء المخلوط بالكافور وآخر وساخات البَشرة الإنسانية الميتة، أخاف الدخول إلى بناية المغسل لذا لم أرها من الداخل أو أشاهد ما يجري فيها، كنت أرى الجنائز تدخل وتخرج، في بعض الأحيان يحدث زحام، ثلاث أو خمس جنائز تدخل سوية، ينتظر أهل الموتى في الخارج، ينتظرون بمضض وحزن واكتئاب، بعض الجنائز لا ذوي لها ولا قربى يحملها حمال واحد يدخل المغسل مسرعا ويخرج. دخل عناد مرات كثيرة بناء المغسل وروى لي عما يجري في الداخل بإسهاب مُضيفا إلى وصفه أشياء يؤلفها من خياله، فكما يروي: يجردون الجثة في الداخل من أكفانها أولا ثم يضعونها عارية فوق منضدة صخرية، ملساء بلون اصفر، يقف حولها رجال أشداء أطول منا بمرتين، أنوفهم طويلة وبآذانهم حلقات تشبه اسوارات الأطفال الفضية، يا أخي بالضبط يشبهون عزرائيل، عُراة إلا إنهم يلفون حول بطونهم لفافات بيض، يملا الرجال الأشداء جرارهم من حوض دائري فيه ماء ازرق فائر تخرج منه روائح غريبة تجعلك تتقيا، أبدا لا يشبه ماءنا هذا الذي نشربه بل يأتي من السماء، يملا الرجال جرارهم ويسكبون الماء بالأكفان الجديدة البيض ويضعونها في التابوت…على الجثة المسجاة وهم يتمتمون بكلمات مبهمة ثقيلة الوقع ثم يدورون مغمضي العيون عدة دورات حول الجثة بعدها يرفعونها إلى الأعلى ويغمسونها في حوض آخر فيه سائل برتقالي لزج مثل السنة النار بعد ذلك يلفونها






[ 6 ]



تعودت أن أرى سوسن راضي بين يومين ويوم ثالث، أراها من بعيد عبر زجاج واجهة الخياطة، تمر بمفردها أو مع بضعة بنات، تحدق نحوي بأطراف عينيها وتعلق على شفتيها ابتسامة منطوية على الخوف، كنت شديد الحرص على أن لا أقع في مطب الفضائح منذ ذلك اليوم القاتل وأنا في الثانوية حيث صرت ارتجف من أي سلوك مريب، ذلك اليوم الذي جرني فيه مدرس اللغة ذو الأنف المدبب من كتفي ودفعني بعنف نحو خارج الصف، رايته أثناء خروجي يمزق أشعاري ويرميها من النافذة، صرخ بوجهي: "كلب …متهور!!" ضحك زملائي الطلبة وأطلقوا أصوات استهجان بعد صرخته الأستاذية التي تشبه صرخات الوحوش، وراحوا يطلقون الأقاويل والشائعات، صرت بينهم اهزوءة: "رشيد الهجري شاعر الحب والغرام!!" جازفتْ سوسن راضي وطفرت حاجز الخوف حين أوصلت لي عن طريق صبي صغير رسالة قصيرة وخاطفة: "بعد غد سأسافر إلى بغداد، انتظرك الساعة السابعة صباحا في الكراج".

* * *

قضينا نهارا ممتعا أنا وسوسن في بغداد، سرقت نفسها من أهلها بحجة التسجيل في العام الدراسي الجديد وتحضير مستلزماته…كنا نسير ويتأمل احدنا الآخر باستغراق، كانت رائعة من جميع الوجوه، مشينا في شارع "الرشيد" بزهو وحرية، تكلمنا كثيرا عن الأدب وعن الدراسة وبطريقة غير مقصودة وجدنا أنفسنا في صف واحد نتحدث بشغف عن نظريات علم النفس وما يتعلق باحباطات الذات، كنا نضحك بين فترة وأخرى دون سبب، لأول مرة في حياتي اسمع امرأة تنفرط من فمها ضحكات بلورية جميلة وقريبة إلى هذا الحد الملامس من صوان أذني، اسمعها تكركر مثل الأطفال غير مبالية بالمارة،أكلنا لفات "سندويج" حارة، كانت تلوك لقمتها بشهية وعناية فائقة وتنظر نحو الأشياء بلا توجس، جلسنا فرحين على مقعد كونكريتي في شاطئ "أبو نؤاس" كانت مقهى "دجلة" قريبة منا. قلت لها:
ـ تلك مقهى الجماعة!
استدارت نحو المقهى ثم أغمضت عينيها بوجه الشمس الساطعة، كانت جبهتها تتلالا وجيدها يظهر دقيقا، فركت عينيها بإبهامها وسبابتها ثم قالت وهي مسترخية تماما:
ـ آه، إنها لحظات بهيجة!!
سالت فجأة بانزعاج:
ـ رشيد، قل لي أين سنصل؟!
ـ لا ادري!
ـ بالتأكيد لا يمكن أن نظل على ضفاف الأحلام…أليست لديك أية فكرة؟!
ـ لدي أفكار كثيرة ولكن كل فكرة أجدها معطلة…
ـ مثلا؟!
ـ أتقبلين الزواج بي؟
أطلقت ضحكة وصفقت يداها:
ـ بهذا الشكل المقتضب!!
ـ هذا الشكل يوفر علينا الكثير من المتاعب…
صمتت وداعبت خصلة شعر فوق أذنها، قلت لها بتصميم:
ـ نتزوج اليوم أو غدا…اليوم أفضل.
ـ لا يمكن!
ـ لم ؟!
ـ لم نزل طلاب وليست لدينا إمكانيات…
ـ أرجوك، أنا احبك!
ـ هيا نذهب.
ـ ألا تفهمين، أنا احبك، لقد تصورت أنت تحبينني!
ـ وأنا كذلك.
ـ قولي هذا إذا.
ـ احبك !
نهضنا باسترخاء عاجزين عن تكملة أحاديثنا، مررنا على واجهة مقهى "دجلة" ، كانت المقهى خالية تغمرها شمس حارة ويجلس فيها بضعة انفر بكسل، وكانت بعض كراسيها مقلوبة بإهمال، تضج المقهى بروادها عادة في المساء بحيث لا تجد متسعا ولا تعثر على مقعد واحد، كنت آتي إليها بمفردي في هذا الوقت من الظهيرة بالذات، اجلس تحت شجرة واستمتع بتأمل النهر وفي المساء التقي الجماعة الذين أطلق عليهم سليم الحلاوي: "جماعة القلق" ،أصبحت واحدا منهم، في نهاية السنة زادت روابطنا وتعقدت طروحاتنا وآرائنا، كنا نفكر باتجاهات متقاطعة ومتضادة ومبعثرة إلا إننا نلتم سوية تحت خيمة الاهتمام المفرط بالحرية والخلاص من القواهر والاضطهادات ونكرس جُلَّ اهتماماتنا الفنية والثقافية لأجل ذلك، طلاب ومعلمون وعاطلون عن العمل وآخرون هامشيون كلهم يجرون جريا متواصلا للامتلاء الثقافي، يقرؤون بنهم ودون انقطاع ويجوبون الصالات المسرحية والسينمائية والتشكيلية والموسيقية. كان سليم الحلاوي أكبرنا سنا وأكثرنا ثرثرة، تخرج العام المنصرم في كلية الفنون/ قسم الإخراج، يلمع بيننا ويوزع اهتماماته فينا بشكل بهيج ومراوغ، له بنية قوية وجسد ممتلئ يميل إلى الكروية ووجهه متورد الخدين حليق الشاربين واللحية، أحلام الحلاوي في سفر دائم إلى روما وباريس، اقترح علينا بقلبه الطفولي السريع الاهتزاز أن نؤسس فرقة مسرحية وسعى جادا لذلك إلا إن اقتراحه انفرط بانتهاء العام الدراسي، كان فخري أمين أكثر المنكدين عليه مشاريعه وأفكاره بدبلوماسية وبرودة أعصاب تميع الصخر…ابتعدنا أنا وسوسن عن المقهى ودخلنا احد الأزقة الموصلة إلى شارع "السعدون" ومن شارع"السعدون" ذهبنا باتجاه "الباب الشرقي". دخلنا مكتبات تبيع الكتب وتأملنا المؤلفات المرصوفة بأناقة في الرفوف وعلى المدرجات الخشبية، قلبنا بعضها وتكلمنا باختصار عن البعض الآخر، انتبهت في احد المكتبات إلى صف من المجلات وامتدت يدي تلقائيا إلى مجلة "الفصول" المصرية، قلبتها وفجأة اهتزت مشاعري، وجدت رشيد الهجري في الصفحة الثالثة عشرة:
-انظري!
اشتريت نسختين من المجلة، أعطيت واحدة لسوسن وبقيت أنا اقلب الأخرى مبهورا، قالت بهدوء:
-إذن، عليك أن تستعد لرحلة الألف ميل القادمة…
استرخيت على الخرسانة الإسمنتية الغليظة المقابلة لجسر "الجمهورية" في حين راحت سوسن راضي تقرا قصيدتي بصوت لذيذ يأتي متدفقا عبر النهر، اسمعه رائعا رخيما:
[ الريحُ والغربان تنقرُ في عيونك والدماء
صبغت حصى الوادي
وكفك للسماء
مرفوعة للنجم للأفق البعيد
وجناح نسر في الفضاء الأزرق النائي يموت
يموتُ في عينيك
والغربان تنقره
يموت
وكلابهم تعوي وقاتلك الجبان
خزيان يمسح عن حصى الوادي الدماء
ويُقبل النصل الذي-أرداك-في لؤم
ويجهش في البكاء
وكمن يقول، كمن، إلى اللص: احترس!
ولسيد البيت: الحذار!
صلى عليك وسار لا يلوي على شيء
وأمعن في الفرار
والريح والغربان تنقر في عيونك والفضاء
نعش بلا ورد وتابوت يجر بلا غطاء ووراءه تعوي الكلاب
كلابهم
تعوي الكلاب ]

تركنا العاصمة ورجعنا إلى الفضوة، كنا صامتين أثناء الطريق العسير الطويل، حاولت سوسن أن تكسر طوق الصمت ولكنها لم تفلح، انكمشت على نفسها وقطبت حاجبيها، لم أحس بها جيدا، همدت نارها وصارت باردة، تحولت النار إلى صوب آخر، تأججت بداخلي نار القصيدة، لم يعد يشتعل بي غيرها، استعار الجواهر النارية ليس مثله أي استعار آخر، القصيدة جوهرة متجمرة في قاع البحار، الملم خلاياها التكوينية من الحروف والكلمات ومن دمي أنا بالذات، عبر سنوات قهر جائرة ومخاضات مضنية، لم أتجاوب إلى حدود الرضا مع الدكتورة سميرة ومزقت كل ما كتبته عن ديوانها " الهشيم"، زخرت قصائدها بعض الوقت في وجداني ثم انطفأت مثل جنين اخدج، كانت قصائدها عليلة يسري في شرايينها دم بائد عتيق، فقط شكلها الجديد هو الذي أسرني أما الفحوى والمضامين فكانت جوفاء! يزداد قرفي منها كلما عُدت قراءتها حتى تقيأتها بازدراء.
افترقنا أنا وسوسن راضي بجفاء، ذهبت هي إلى أهلها غاضبة، مكفهرة وتوجهتُ أنا إلى ميدان المدينة، متوثبا، فرحان لا تلمني الدنيا، جريتُ في الشوارع ابحث عن ذلك المدرس الكهل صاحب الأنف المدبب، لطمني على وجهي ومزق أشعاري، هاهو رشيد الهجري أيها المغفل اسمع قصيدته تهز الدنيا!!…أنا واحد من رواد الحداثة، بل رائدها الأول، أنا نجمة الحرف الجديد الساكنة في الذرى، يا دنيا هيا اسمعي حروف وكلمات الهجري. ذهبت إلى الخياطة لأزف البشرى إلى معلمي محسن فياض، احتضنته وقبلته من جبهته وخديه عدة قبلات، كان خداه مكسوان بشعر خشن لسع انفي وفمي، فغر فياض فاه وسال بارتياب:
-ماذا حدث يا ولد؟!
ضحكت عالياً، جن محسن فياض من تصرفاتي، لم يرني طيلة العمل معه اضحك بهذا الهياج وأتحرك بهذه الرعونة، فتحت صفحات المجلة على مصراعيها وقربتها كثيرا أمام عينيه:
-اقرأ يا "أبو زمن" ،اقرأ، أقرأ رشيد الهجري، سأحطم العمود الشعري وأحطم أصنام الكعبة!!
صفق محسن فياض يديه مثل أطرش وسحب مني المجلة، راح يقرأ بصوت عال ومختل كأنه يتهجى، انتهى من القراءة دون اهتمام وقال ببرود:
-هذا جيد!
ثم تساءل بردة فعل عنيفة:
-أين القوافي وأين الأعمدة، أنستطيع نصب خيمة دون أعمدة؟!
أخذت المجلة منه بامتعاض:
-أبدا، لا يا"أبو زمن" وهذا حرفنا الذهبي المبتغى ونشيدنا المستقبلي الذي سيهز مضاجع القوافي السلفية ويسحق طغيان الخليل ابن احمد الفراهيدي!
هز رأسه فياض بسخرية وقال:
-عليك أن تتوجه صوب الباري.

* * *

في الفضوة تسمرت عيناي على باب مصنع الحلويات وخطرَّ ببالي فرج الناهي، هذا المثال المحفور في راسي مثل وشم: قامته السامقة وشعره الأسود المجعد، وجهه الأسمر المتغضن الحزين وشارباه الكثان الفحميان، إيماءاته الدقيقة بواسطة أصابع يديه الطويلة وفتحتي عينيه الواسعتين، اندفاعه الباسل المخيف، حكاياته وأمثلته المتناثرة المتشعبة الغارقة في أعماق التاريخ، كل ذلك يوحي لك بأنه انتزع زعامته الجماهيرية عن طيب خاطر، هذا الذي جعلني أتذكره دائماً واسأل عنه كل من يعرفه،عصبته التي وقعت ووقع معها في قبضة رجال الأمن مطلقي السراح لا يعرفون أي شئ عنه، سافرت إلى "السماوة" مسقط رأسه، سالت عنه ذويه وأهله، لا احد يعرف مصيره، وجدت أهله "السادة" غير مهتمين بضياعه الغامض. مضى فرج الناهي وخلف حكايات مثيرة وجدلا واسعا بين أهل الفضوة، خلف شعارات كبيرة مثل تلك الدعوة التي تؤمل الناس على تغيير العالم وخلقه من جديد، خلقا حرا تسود فيه العدالة.
ظلت الفضوة تمارس طقوسها الحدادية في شهر عاشوراء، لا يريد الناس التوقف عن تأنيب ضمائرهم والتكفير عن خطيئة قتل المنقذين، التكفير عن الدم العالق في رقابهم حتى اليوم الأخير. لم يعد محسن فياض متفرجا على مشهد الأحزان كما كان إنما انخرط معهم بطريقة هادئة تؤثر الابتعاد عن هذا المهرجان البشري الهادر وتخلد إلى الاستكانة والورع، إلى الاعتكاف الروحي والجهاد المتواصل ضد النفس من اجل تطهيرها وإنقاذها من الرجز، فكرت كثيرا وملياً بالبواعث التي تُقلب المرء في ليلة وضحاها من ماجن لا يؤمن إلا بالأشياء المحسوسة والملموسة إلى هائم في دروب السماء، يُطلق الدنيا ثلاث ويغرق كليا في الزهد والتعبد، يغمض عينيه ويتحدث كمن يقع تحت وطأة خوف:
-لا ادري متى يا رشيد تنتهي عذاباتي؟!
-أية عذابات يا "أبو زمن" ؟!
-في المساء استعجل النوم، وفي النوم يأتيني…
-اهو جلاداً ؟!
اطرق فياضاً وابتسم ثم استعاذ بالله وتكلم بانبهار:
-مُعلمي!!
-عن ماذا تتكلم؟!
-عن رؤيتي…
انتبهت إليه وأحسست بقشعريرة، كان يتكلم بكل جوارحه ويتكلم بغيبة عقل تامة، أسبل جفنيه وفرش كفيه على فخذيه وسرح يتحدث مثل حالم:
-أشاهد بابين، احدهما يؤدي إلى المدينة أقوم بإغلاقه إغلاقا تاما محكماً وبعد أن أرتجه اذهب نحو الباب الثاني عبر دهليز، ارفعُ ترس الباب فأجد نفسي أمام رياض وبساتين…
تنفس بارتياح وعدلَ طاقيته البيضاء ثم واصل:
- يظهر معلمي بأحسن وجه ، ترعبني هيبته وجلاله وعظمته وسناه، أقع في حيرة عظيمة من جماله وروعته حتى يتلاشى نطقي وتسكن أنفاسي،يُسلم معلمي ويبتسم ابتساماً لطيفاً حتى تتجلى نواجذه أمام حدقتيَّ، يبدأ يعلمني معلمي في مهابة حرفة الخياطة سراً بعد سر من أسرارها دون آلة ودون مادة أولية، حرفةٌ مجردة تهب الصورة إلى الهيولي…
سعلَّ وتابع بعد أن مسح شفتيه اليابستين:
-إن الخياطة هي التي تعطي القميص صورة القميص، وهي العلة الفاعلية له كذلك الخياطة المجردة، الروحية هي انتظام سلسلة الموجودات بصورة مناسبة…
بدا راسي يتصدع وأحسست بالغثيان، لا ادري عن ماذا يتحدث ولا افهم ماذا يقول، كلام يشبه الهذر ملئ بالسفسطة والألغاز، دس أصابعه المنهكة في لحيته الطويلة وحدق طويلا بالأفق ثم أضاف بوهن:
-استيقظ عند الفجر بعد استغراقي مع المعلم،أحس بأوصالي مقطعة وفؤادي مضطرب، أجد حلقي يابساً وروحي ثقيلة على كاهلي، هكذا كل يوم…
صمت وظل يتمعن في قف يده اليمنى حزيناً، رأيت دموعه متدلية مثل كثافة العسل فوق خديه، التفت نحوي وقال بنبرة رجاء:
-تُب يا رشيد وعُد إلى رشدك…هيا قم صلّ.
ظل واجماً فمنحني فرصة للتأمل فيه، تأملته كثيرا وعميقا، لاحظته في ذروة من الوهن والتفتت، تساءلت في نفسي بمرارة: كيف تحول محسن فياض ذاك، صانع القمصان الزاهية الموردة وبآخر الموضات، كان يرقص برشاقة مع صوت المقص وحركته، كان يهز رأسه وأكتافه وبطنه مع صوت الماكينة، كان يرتدي أحلى القمصان ولا يغلق ازراراتها عند الصدر، كان يتعطر باعذب العطور ويفرق شعره من الوسط، يردد أشعار لبيد وطرفة بن العبد وشوقي ولا تفارق لسانه نوادر بهلول البغدادي، كان يذوب في صوت فيروز وزهور حسين!!…كيف تحول من روح طائشة، نزقة، هائمة بالفرح إلى روح ثقيلة، مهمومة،خاشعة، متأملة ينتابها الخوف والتوجس من مصير مخيف وعقوبات قاسية، لا استطيع الإمساك جيدا بأسباب الانقلاب الروحي ذاك.
كفت صفية عن الذهاب والإياب في سفر التذكر الموجع لجثة ابنها عناد، تلاشت حاستها البصرية أو كادت، تحول بؤبؤ عينها إلى مجرد دائرة رمادية تضم خلايا عاجزة عن النظر، تدور في باحة البيت الضيقة وتصطدم بالحيطان، شمت رائحتي من بعيد فصرخت بصوت يشبه الأنين:
-رشودي!!
كأنني الأمل الوحيد الذي تبقى لها في هذه الدنيا، تتمسك بخيط واهٍ…لا جدوى يا خالتي، الهجري ومض منفلت لا فائدة ترجى منه ولا نفع، غواص وضع على وجهه صدفة سلحفاة وشدَّ على خاصرته حبال ليف غليظة وغطس إلى الأعماق، أغواه تلالا الكلمات النارية ومكنونها ألاشتعالي، يكنزها مثل جواهر جوهرة بعد جوهرة ليرميها انفلاقات غاضبة ومدمرة بوجه الزمن الوحشي!













[ 7 ]




سافرتُ إلى بغداد والتقيت فخري أمين الذي فاجأني بقصيدة "العندليب" منشورة في مجلة "الرسالة" المصرية، هتف باعتزاز وفرح عندما أعطاني المجلة:
-بدأت تتألق يا صديقي!!
هزني من أكتافي ثم قبلني:
-كيف تتدفق من راسك هذه الأشعار الساخنة التي ترجُ المشاعر؟!
تأمل قليلا ثم تابع:
-أنت لا تعرف موقعك يا رشيد!
سرنا جذلين نحو مقر جماعة القلق في مقهى "دجلة" تحدث فخري أمين بهدوء:
-أنت مغال ولا تريد أن تكتشف موقعك بسهولة!
سألته بتشنج:
-عن أي موقع تتحدث يا فخري؟!
-يا أخي انهماكك الزائد والمتطرف في صنعتك الشعرية يُعميك من أن ترى الوجه السعيد والبهي للحياة…
-ماذا تقصد؟!
-بالضبط أريد أن أقول بان لديك استعدادات، لديك مواهب تؤهلك للوصول أسرع من أي احد منا…
-إلى أين؟!
-إلى أماكن مرموقة في الصحافة، في الإذاعة والتلفزيون، في الوزارة…باختصار إلى وضع مُجدٍ…
لم نجد في المقهى غير سليم الحلاوي، حين رآنا من بعيد أشرق وجهه وقبل أن يتكلم انحنى ثم استقام بحركة بطيئة فاتحا ذراعيه:
-أهلا بسيد الشعر الجديد: رامبو الهجري!!
انتصب وردد مقطعا من قصيدتي "العندليب" ، تقدم صوبي وامسكني بحرارة من راسي وراح يقبل خديَّ ويطري على القصيدة…ذهبنا سوية إلى حانة "ليالي العذاب" وهي حانة الجماعة المفضلة، تقع في الشارع المطل على حديقة "الأمة".
تعرفت على سليم الحلاوي منذ سنة ونصف وتعرفت على حياته البويهمية الفضة وعلى قلبه الطيب لحد العجب، ملئ بالنشوة والوجود الإنساني، يفكك التعقيدات ويبسطها ولا يرى في الحياة إلا نصف كأسها الملآن، لا تقابل الحلاوي إلا ودعاك إلى وليمة، رشفة كاس، يحبب لك ذلك ويغريك مثل إبليس، لكن عليك أن تعرف بادئ بدا إن الدفع سيكون من نصيبك،فجيوب الحلاوي على الدوام بنك مغلق وضع على بابه يافطة الإفلاس. لا ادري كيف يسوي هذا الرجل أموره وكيف يعيش، منذ عامين تخرج من الكلية وترك أهله في "الحلة"، ظل يسكن غرفة وسخة في "الميدان" بين أزقة المدمنين والعاهرات، يطير عقله من الوظائف الحكومية والارتباطات الرسمية، اشتغل في سوق الهرج بائعا للملابس المستعملة، لذا كانت اغلب ملابسه من "اللنكه" يختارها بذوق مرهف وببراعة من بين الأكوام…ما أن جلسنا في الحانة ووضعت الأقداح والمزه أمامنا حتى بدأت يدُ الحلاوي ترقص بين الأواني بخفة ورشاقة، يأكل بشراهة ويتكلم بشراهة ويشرب بشراهة ويحلم بشراهة، كان يشم رائحة الخمر من كأسه ثم يرفع الكأس عاليا ويهتف:
-رائعة بنت الملعون…غَسلوني بزلالها الأبيض!
كانت الحانة متلبدة بسحب دخان السجائر ورائحة المشروبات وتضج بزعيق آلة التسجيل وأحاديث الزبائن، نهضنا ثملين ومتعبين، ظل الحلاوي يرطن بأحلامه المترامية الشاسعة، استكمل في رأسه تأسيس فرقة مسرحية تجوب البلاد وأنحاء العالم وأطلق عليها اسم:" مسرح بلا حدود".قال بتصميم متفائل وهو يتمايل مثل كرة لحمية نابضة بيني وبين فخري أمين:
-أهم شئ أن نجد صالة تدريب وعرض…سنجدها عما قريب، هذا أمر سهل.
فجأة تركنا فخري بصمت وبخطوات سريعة غير متزنة وتسلق جسر "الجمهورية"…توقفنا في مدخل شارع "الرشيد" وحين عزمت ترك الحلاوي والسفر إلى الفضوة، استغرب وامسك بي وقال بلهجة شديدة التحذير:
-أين تذهب وأنت في هذا الوضع المتعب؟!!
استأنفنا سيرنا باتجاه "الميدان".كان الشارع مقفراً والرياح شديدة وكان إسفلت الشارع يلمع تحت ضوء القمر الذي بدا يتخفى بين حين وآخر تحت غيمات كثيفة، سالت سليم الحلاوي:
-في حالة انك وجدت صالة لفرقتك، فماذا ستختار لها من الأعمال المسرحية؟
أجابني بسرعة:
-فاوست…للعظيم غوته!
توقف وعدلَّ ياقة قمصلته الجلدية السوداء، ابتعد من أمامي بضعة خطوات وانتصب مثل ممثل محترف وراح يتكلم بصوت مسرحي هادر:
-أنا اعرف ما أقول…أنت من عالم غير عالمنا…عالم الأبدية يا صديقي…ولست سوى روح وعلى هذا فليس لك فكر قط ولا تعرف الشك والبحث…وفي أعماقك ساذج للنهاية…ساذج كالنمر الذي يشتهي الفريسة، يتحول إلى غريزة مجردة…غريزة الافتراس!
صمت الحلاوي وراح يحدق بي، واصلنا سيرنا ببطء وتابع هو حديثه، كانت أصابع يديه قصيرة ومنتفخة، يومأ بها ويحركها بتناغم مذهل مع وقع حديثه:
-بهذا النص الرائع يا صديقي نفتتح أعمال فرقتنا، انه نص مفتوح ويعبر بجرأة عن آلام عصرنا الجائر، عصر التمزقات والالينات…يا أخي أحس بان المسرحية كلها عبارة عن قصيدة شعرية!!
رفع يده وانزلها بإيقاع هادئ:
-فاوست…فاوست…فاوست…ما أن يتردد هذا الاسم حتى تفيض في سمعك موسيقى فاغنر وليست وتشايكو فسكي…
-هذه نصوص معقدة، سوف تضع بينكم وبين الجمهور حاجزا خاصة وانتم في بداية الطريق…
-لا، نحن طلائع فدائية، نحن معلمون جُلًّ اهتمامنا محو أمية المسرح،نحتاج إلى صالة بأربعين مقعد وأربعين متفرج لديهم وعي حاد، هذه العينات الممتازة تكفي لان تتخرج من مسرحنا على شكل دفعات نحو الشارع لترفع من انحطاط ذوق الناس المسرحي، تسحبهم من ذوقهم الشره للحياة: المال، السلطة ،الأكل ، الملابس…غالى ذوق ارفع يحس بطعم الجمال، هم الآن بلداء في تحسسه!
أضاف بسخرية:
-لسنا بحاجة إلى كتل بشرية هامدة تدنس عتبات المسرح…
كان يستلذ بالحديث، سال على نحو مفاجأ:
-لماذا لا تمثل معنا؟!
-أنا؟!
-ولم لا، أنت طالب في قسم المسرح وعندك وعي ثاقب إضافة إلى كونك شاعرا مميزا!
-في داخلي رغبة حقيقية في التمثيل لكن لا استطيع أن امثل…
قاطعني بثقة كبيرة:
-دع الأمر لي، أنا ُمخرج فذ استطيع أن اصنع من العجينة خبزا شهيا…
غيرت مجرى الحديث فانهمك الحلاوي يبحث عن مواضيع أخرى وحين شمَّ مثل قط ثمة سمنة نقدية في جيوبي، قال:
-أتذهب إلى احد البيوت؟
غاب القمر وغابت النجوم عن السماء واظلم الشارع وسقطت زخات مطر خفيفة بللت الأرض ووجهي فأحسست بانتعاش، دخلنا زقاقاً مظلماً يتفرع عن الشارع الرئيس وتوقفنا عند احد البيوت وكان بابه نصف موارب، تكلم سليم الحلاوي بارتعاش:
-سنهضم اللحم الأنثوي بأبشع طريقة إنسانية ونتفرغ من اللبيدو!
دخل البيت بترد ودخلت ُخلفه، توقفنا في الباحة المضاءة بضوء خافت ورأينا رجلا متوسط العمر على رأسه طاقية بيضاء بخطوط صفر يجلس على سجادة حمراء باهتة ويُطعم طفلا صغيراً رثا كان راكعاً على قوائمه الأربع مثل جرو، عندما أحس بنا الطفل توقف عن المضغ وتفرس بنا باستنكار بينما أشار لنا الرجل نحو الأعلى.دفعني الحلاوي نحو السلالم وظل هو في مكانه، دخلت غرفة رأيت وسطها امرأة تجلس على أريكة وتغطي بعضا من أجزاء جسدها بقماش ازرق مورد، ناعم وشفاف وتفوح منها رائحة شراب لذيذة، سألتها وأنا أقف مذهولاً:
-من يكون ذاك الرجل في الأسفل؟
لمت عينيها المتعبتين وطلبت مني سيجارة، اعتذرتُ لعدم التدخين بينما نهضت هي ونفشت شعرها أمام المرآة فانزاح القماش المورد عن أكثر أجزاء جسدها، كانت حلمتا نهديها مكورتين تشبهان لبتي بندق لذيذتين، سألتها:
-أيكون الطفل ابنك إذا ؟
هزت رأسها ثم سألتها أيضا:
-هل هو مصاب بشئ ما ؟
نظرت إلي باستياء ثم قالت بلهجة متوترة:
-أأنت طبيب؟!
-لا. إنما كان ابن خالتي عناد يشبه ابنك كثيرا، مات عناد في سن مبكرة…
لم تستمع المرأة إلى بقية حديثي، زعقت ولطمت خدها ثم ارتدت ملابسها على عجل وهبطت السلم، هبطتُ أنا خلفها بجزع، رايتها تذهب إلى ابنها بلهفة وتقبله بحنان رغم وساخة خديه، مدت يدها تحت وسادة زوجها وأخرجت علبة سجائر، أشعلت سيجارة وهي تتمتم، نظرت إلينا –أنا وسليم الحلاوي-بنفور وازدراء وأمرتنا بالانصراف…توارينا في الزقاق مخذولين وبعد ثرثرة تأنيب ولوم سلطها علي الحلاوي شعرت بوطأة البرد، كان بطني مقروراً وخاوٍ وأكتافي ترتعش، تحسس الحلاوي جبهتي وتأبطني، انهمر المطر على أشده، سمعت صوت الحلاوي عذباً وهو يترنم بأشعار شعبية حزينة حالمة، يضع يده على أذنه ويغني بمهارة، يُعقب بعد مقاطعه الغنائية بصفير مُلحن هادئ ودقات بأصابعه قوية منتظمة…شعرت بصوته يهيمن على أوصالي وينعش روحي، خيل لي انه يقف لوحده فوق خشبة مسرح روماني بهيكل رخامي زاخر…سحب نفساً من الهواء وتوقف قليلاً ثم أعاد كفه فوق أذنه وراح بلحن عذب يغني أبياتا من قصيدة "العندليب" جعل فؤادي يخفق، لم اسمع أشعاري تُغنى بمثل هذا الأداء الجميل:

[ سكبوا فوق ثيابي الخمر، عربدتُ
من الحبْ، وراقصت الفراشات وعانقت الزهور
منحوني عندليبا وقمر
ومرايا وتعاويذ وقطرات مطر
وأنا لم أتعد العاشرة؛
فلماذا عندليب الحب طار
والمرايا صدئت فوق الجدار
ولماذا استرجعوا مني القمر
والتعاويذ وقطرات المطر
عندما قلبي على أرصفة الليل انكسر ]

عندما استيقظت في الصباح لم أجد سليم الحلاوي في الغرفة، رأيت المدفأة العتيقة مشتعلة وفوقها ابرق الشاي، بقيت أتفرج على حيطان الغرفة المزدانة بصور المسارح والممثلين والممثلات، صور لايطاليين وفرنسيين وأمريكيين، بعضها لمصريين ولبنانيين، صور أخرى لنساء شبه عاريات ورسومات تجريدية لجماجم عظمية ووجوه بشرية خاوية، تحولت الجدران إلى تشكيلة مذهلة من الصور والرسومات والكتابات. بعد قليل عاد الحلاوي ومعه ماعون قيمر وأرغفة خبز حارة:
-هذا يليق بالضيوف.
وبلهجة تثير الشفقة تابع:
-ولكن قبل كل شئ استأذنك لأنني قمت بعملية سطو على جيوبك…
-لا باس.
وأثناء الإفطار قال لي:
-رشيد لا تغادر بغداد…أنت هناك تنتحر!
-ومن أين أعيش؟
-يا أخي حرفتك ذهب، أنت خياط ماهر ! لدى احد معارفي مشغل خياطة عسكرية في "علاوي الحلة" ستعمل عنده من الغد…أما من ناحية السكن فستسكن هنا معي، وإذا شأت ستبدأ الدراسة وتذهب إلى سجن الطلبة…
-من الأفضل أن اسكن هنا….







[ 8 ]



تتجاذبني أربعة مراكز قوى عتيدة، كل واحد منها يجذبني نحوه بعنف:السنة الأخيرة في الكلية، مشغل الخياطة، المكتبة المركزية، وأخيرا سوسن راضي، أحاول الإفلات منهم جميعاً والخلاص بجلدي وروحي، الغوص بعيدا في أناى أعماق البحر الإنساني لأركب شحنات شعرية قوية وعاصفة في حلم التغيير البشري الذي بدأ يزحف نحوه الملل ويقتله الضياع، أريد الخلاص من مراكز الجذب ومن طاحونة اليومي المعاد، الخلاص منهم جميعاً، أرى كل يوم صفًا من الأساتذة يشحذون همتك على النجاح، يواجهونك في الصباح دون أن يغسلوا وجوههم البيتية، إنما تراها واضحة الاكفهرار، منزعجة ، كسولة، تفضح دون أن تدري أزماتها اليومية، أزمات مالية، أزمات أطفال وزوجات، أزمات سكن ونقل، تورطات عاطفية…لم أرهم ولا حين جادين بالعالم أو الإمساك المثمر بغثيان العصر، التبحر بالوجود، التفكر بسياط المعيوش الواقع بعنف فوق ظهور الجياد البشرية الراكضة في ساحة سباق الحياة. كانت الدكتورة سميرة، أستاذتنا في مادة الأدب، عنوان التأمل الرائق، كانت هي في جهة وبقية الأساتذة في جهة ثانية، فيها توترات مستمرة بين رومانسيتها الطائرة بأجنحتها الرقيقة وعقلانيتهم المتحجرة في المواقع التقليدية، طاردوها ببشاعة " التابو" وأشعلوا في طرقها الفتن، ظنوا إنها فريسة سهلة، زاغت ببصرها عنهم حزينة، خائفة، ثم طارت إلى "بيروت" مع زوجها الدبلوماسي ووطأت أقدامها ارض الانفتاح الثقافي والحوارات العقلية النقدية…وصلتني منها رسالة تحدثني بلهجة أخوية خالية من الاستعلاءات الأستاذية، تنبئني عن قرب صدور "الطوفان" ديوانها الجديد،في نهاية الرسالة ترحب بقصائدي ضيوفاً على عملها في مجلة "الأديب" أو إلقائها في منتدى " الأرز" الثقافي نيابة. سررت بهذا العرض النبيل فأرسلت لها قصيدتين.قالت سوسن راضي وهي تحاول ترويضي لشيء ما:
-رشيد، أمعنت القصائد في استلابك، هل أنت داخل لغز ؟!
-أنا داخل فوضى ملغزة.
أطلقت ضحكة شامتة منتصرة هزت شغاف قلبي حباً، رأيت حبات دمع مثل لألا في أطراف عينيها المكحلتين بكحل دقيق فاحم، مسحت انفها بوداعة وبعد قليل تكلمت:
-لم تعد تحدثني عن الأفكار المعطوبة ؟!
-أتعنين الأفكار التي تخصني وتخصك ؟
-بالطبع !
مسكتني من يدي وعصرتها:
-تكلم…
-سأحدثك بصراحة ياسوسن…
-أنا اعرف ولكن تحدث !
-أنا احبك !
هزت أكتافها وقالت باستغراب:
-وهل اكتشفتها الآن ؟!
-لم اكتشفها الآن …ولكن لم أفكر في يوم ما بأنني عاشق…تأكدت في الآونة الأخيرة فقط.
-وماذا بعد ؟!
-نحن عاشقان شقيين.
وضحت لها بحزن:
-انوي الرحيل.
هتفت بغضب:
-عني ؟!!
-اجل…أنا متورط في رهان لابد من كسبه.
-أنا معك حيثما تذهب !
-الأغوار عميقة يا سوسن وتسكن البحر مئات الكواسر، ربما أضيع، ربما تأكلني الوحوش، أخاف عليك من التلف يا سوسن،أنت حلوة، أنت أروع من كل نساء العالم، أنت مثل الجواهر التي ابحث عنها، أنت قصيدة من لحم ودم، إنسانة لك مشاعر رهيفة ومستقبل باهر…
كنا نجلس في مطعم عائلي صغير، رأيت وجهها يشحب وتتجمد قسماته، ظلت متوترة تحدق بالأفق، لم التفت نحوها بعد قليل سمعتها تشهق، عذبني بكائها، كانت دموعها زخات وجع آلمت مشاعري، ملتُ عليها وسحبتها من معصمها برفق وأنا انهض:
-هيا داهمنا الوقت…ستغلق أبواب دار الطالبات.
نهضت بجزع دون أن تمسح دموعها:
-دعني، لا شان لك بي، دعني أنام في الشوارع…
-سوسن…
قاطعتني بعنف:
-إذا أردت أن تتكلم معي فلا تتفلسف وتتخفى تحت جمل رنانة، قل ما تريد قوله بوضوح…
-أنا عقيم الفائدة، أنا لست جديرا بك يا سوسن، أنت مثل كل امرأة بحاجة لرجل يوفر لها الرعاية والحماية ويسعى لتحقيق أحلامها، ثقي أنا غير كفء، لست قادرا حتى على رعاية نفسي.
هزت رأسها عدة هزات ومطت شفتيها ثم تكلمت بسخرية:
-أنت مَن حتى تتكلم بهذه الصفة وتتحمل هذه المسؤولية، الست واحدا من هؤلاء البشر ؟!
لم أرها من قبل بهذه الدرجة من الاستياء والتوتر والحزن، كفت عن الكلام، كنت استحثها على السير بسرعة، عادت تتمتم:
-جنون …جنون مراهقة !!
ظلت تردد ذلك دون أن تحرك يديها ثم أضافت بعد أن توقفت والتفت نحوي بوجه صارم:
-هيه…كنت تخضعني لاختباراتك الغبية ولكن اسمع…
استأنفت بتوتر وحماقة:
-عندي مقدرة قوية لتمزيق أوصال قلبي أفضل من أن يعبث بها غيري بكبرياء فض، بكبرياء وغرور وخيلاء رجل متعطش للثأر من ماضيه !!
-هل تتصورين أنا ادفع من حياتي ومن عواطفي ومن علاقاتي ديوناً بسبب ماض مشوه، لماذا ؟!
-لان فيك إحباط مدمر، فيك شئ ما غير إنساني يحاول تحسين ماضيك.
-لا، لا .أنا فقط أحس بأن بعض عذابات العالم أتحمل وزرها.
-ليست بعض عذابات العالم، بل تتصور إن جميعها مقذوفة على منكبيك وأنت المخلص الذي عليه أن يحملها أكثر من سواه…مجرد مرض !!
وبعد صمت كئيب قلت لها بخذلان:
-ثقي أنا بحاجة إلى شفقة ياسوسن…
نظرت إلي بتعجب وازدراء وقالت وهي تهز برأسها:
-شفقة!!…فعلاً أنت بحاجة إلى شفقة !!
-أقول لك…
رفعت يدها وقالت ببلادة وحدة:
-قف لا تتفلسف براسي، لن أنصت، كف عني فانا مريضة…
من ذاك الحين غابت الاشراقة عن حياتي، كانت سوسن راضي تأتي كل يوم خميس وتنتظرني تحت مظلة حافلة نقل الركاب مقابل بوابة الكلية، افتضح أمرنا للجميع، صرنا نمارس اللقاء علانية ونتحدى به الآخرين. فجأة وضعنا النقاط على الحروف كما يقولها محسن فياض وافترق بعضنا عن بعض، سمعتها تقول آخر عبارة بيأس شديد: "الجنون جنوني أنا وإلا لماذا ركضت خلف دخان أعمى بصري، الدخان يعمي فقط لا جذوة فيه ولا اشتعال !!"…مضت تلك الحسناء في سبيلها، انفرط العقد وضاع الواحد من الآخر، ظل مجرد خيالها يقف تحت مظلة الحافلة، أراه عذباً عند خروجي كل يوم من الكلية، أتمعن فيه، أشم عطره القرنفلي المنعش، ألامس شعره الأسود الفاحم، امضغ رضاب شفتيه، أصغى إلى تمتمته ونبضاته وآهاته وكلامه الرائق الجميل…أزحتها عن طريقي بقسوة ودون مواساة، ظلت ترفس مطعونة أمام الدخان الهائج، غادرت مجالنا مقهورة، فقط كنت صادقاً معها إلى حد التهور والغباء. والآن انتظر عودتها كأنها مخلصي من الخطيئة، انتظر وأنا اعرف أنها لن تعود واضحك من ذلك ولكن ما بوسعي أن افعل غير ذلك، انتظر وانتظر…
اذهب في الصباح إلى حانة "ليالي العذاب"، أجدها مهجورة إلا من بضعة زبائن ، اجلس وحيدا وافتح أمامي قوائم طويلة من الحسابات، ارهن على صفقات مغرية، اكرع أقداح الخمر، أجد في النتيجة كل الرهانات لصالحي وكل الصفقات مربحة، أطير فرحاً وأهيم بالشوارع، أتذكر سوسن راضي رغماً عني ، أحسها نصلاً داخل أحشائي، أتذكر آخر دمعة سقطت من مقلتيها، أتذكر الفضوة التي قاطعتها بجفاء، تحول أخيرا محسن فياض إلى شبح غريب الأطوار، أغلق باب خياطته وأغلق أبواب الدنيا وانصرف إلى مسجد "السهلة" بانتظار المهدي المنظر، يرتدي ثياباً بيض وطاقية بيضاء ويهيم على وجهه يناكد الزمن العاتي بصبر عجيب، يفرغ روحه تفريغاً تاماً في أجمل أحلام زمن النشور الآتي، بصوفية لا مضاضة فيها ولا قهر : "حسبي الله ونعم الوكيل "، لا يأسف ولا يتأوه، يختصر قائمة متطلبات يومه بلقمة خبز وماء، ينام على قناعة ويصحو على قناعة، أنا الآخر شطبت على اغلب مفردات القائمة الطويلة للحاجات اليومية ونمتُ على أرزاق شحيحة ولكن ظلت في داخلي هيجانات وانشطارات، لا صحوة ولا نوم، مزقت كل أوراق حبي، مزقتها بيديَّ :
[ شمس حياتي غابت: لا يدري
احدٌ، الحبُ وجود أعمى ووحيد.
ما من احدٍ يعرف في هذا المنفى أحدا.
الكل وحيدٌ. قلبُ العالم من حجر في
هذا المنفى –الملكوتْ ]

كففتُ عن الذهاب إلى الكلية، انقطعت ثلاثة شهور متواصلة وهي المدة المتبقية من نهاية العام الدراسي الأخير،أعاقر في الصباح خمرة "ليالي العذاب" وبعد الظهيرة اجرُّ أقدامي إلى مشغل الخياطة في "علاوي الحلة" . تطالعني هناك سحنة "سيد هادي" صاحب المشغل، الرجل الذي لا استطيع إلا أن اكرهه بسبب ميوله البشعة لحب المال وإسرافه المتواصل لوعظ الناس بلهجة دينية تشم منها رائحة ألمراء والكذب. يعصرنا نحن العاملين الأربعة في مشغله بخبرة ذكية ويحول أنفاسنا وقوانا إلى نقد، إلى فائض قيمة يضيفها إلى حسابه الجاري في المصرف. رصد "سيد هادي" هبوط إنتاجي في الآونة الأخيرة وشم رائحة الثمالة أثناء العمل، انذرني لمرتين وفي الثالثة رمى بوجهي الحساب الأسبوعي وطردني.


[ 9 ]



غمرتنا السعادة، أنا وسليم الحلاوي بعرض فخري أمين السخي إذ وجد لنا معه فرصة عمل في مؤسسة "المنار" الذائعة الصيت، لم يتحمس الحلاوي للعرض مثلما أنا تحمست، على الأقل وجدت ثغرة ولو صغيرة لإدخال عنقي في معمعان الإنتاج الثقافي.حين كنا نسير كان الحلاوي يتنقل تارة خلفنا، تارة يسارنا أو يميننا، يحرك كفيه الصغيرتين الشبيهتين بكفي طفل في إيماءات وإيضاحات حسب النوتات الصوتية لحديثه، أحيانا تظل الكفان تتحركان في الهواء دون ترددات صوتية. وضح لنا فخري أمين الأمر على هذا النحو الموجز: مؤسسة "المنار" مؤسسة قطاع خاص ولا احد يجهل امتدادها الواسع، نحن ذاهبون الآن إلى هيكل صارم ومعقد، بمعنى آخر "المنار" مؤسسة ثقافية تجارية محصنة لها ثوابتها المتينة، فلا تحاولوا التصيد في مياهها الإقليمية…
حك فخري أمين أرنبة أذنه وتابع بلهجة تأكيدية:
-تكتموا على مشاريعكم العارية وآراءكم المغالية وقصائدكم ومسرحياتكم المنشغلة بالتجديد والحريات، أسبغوا على تصرفاتكم العقلانية والحياد واحترام السلف…
صفقَّ سليم الحلاوي وهتف:
-ماذا تفعل يا فخري؟! هزت نصائحك جميع مشاعري، قل لي يا صديقي نحن ذاهبون لجز عقولنا أم للحصول على لقمة خبز !!
ربت فخري أمين على كتفي وضمني إلى جنبه، شممت فيه رائحة مالحة، كنت امشي وتتراءى أمامي أنفاقا مظلمة. وصلنا منطقة " البتاوين" وصعدنا عمارة بثلاثة طوابق، كان مقر فخري أمين في الطابق الوسط، دخلنا غرفة تشير يافطتها

النحاسية إلى قسم الإعلانات، توجد وسط الغرفة منضدة خشبية صقيلة وعلى يمين المنضدة كرسيان فاخران بينهما طاولة مستديرة عليها مزهرية بأوراد حية، شممت الأوراد وذهلت من أريجها، كلما اقترب من الأوراد والأشجار ينتابني ذهول، لم آلف في سنواتي الصغيرة النباتات أو أتعرف عليها جيدا، لا تسكن الفضوة القديمة وأزقتها وفسيح البرية شجرة واحدة أو تعيش بها زهرة،الفضوة مشبعة برائحة كافور الموتى وعطر البخور الهندي والحناء ورائحة الدم المتخثر فوق الرؤوس القرعاء. عندما نزح الأهالي الأغنياء من الفضوة إلى الأحياء الجديدة خارج مركز المدينة بدءوا يدجنون الزهور والأشجار وطيور الحب والبلابل ويشمون الهواء العذب المعطر بروائح الياسمين والياس وقداح شجر الرارنج، آنذاك كنت أسير جذلا فوق دراجتي الهوائية الزرقاء في الشوارع العريضة المكسوة بالإسفلت الناعم هاربا من اختناقات الأزقة، أشم روائح عبقة واردد أشعارا حفظتها من محسن فياض، أتخيل سوسن راضي وأتعلق بضفيرتيها السوداويتين المشدودتين بأشرطة الدانتيلا الحمراء.
جلسنا أنا والحلاوي على الكراسي بينما جلس فخري أمين خلف مكتبه بهيبة واخرج استمارتي طلب عمل أعطى واحدة لي وأخرى للحلاوي. سال سليم الحلاوي:
-أي عملاً سنمارس؟
-هذا من شان مجلس المؤسسة…
نهضنا ثم خرجنا من الغرفة بصمت، كنا نسير خلف فخري أمين مثل خراف الفت الطاعة ينخر جيوبنا ذل العوز، صعدنا الطابق الأعلى وولجنا دهليزاً قاتماً يؤدي إلى باب خشبي عريض وعلى جانبه علقت لوحة أنيقة وصغيرة كتب فوقها: "المدير المفوض". طرق فخري أمين الباب بخشوع فجاء صوت من

الداخل، صوت واهن مبحوح تخيلته يخرج من حلق ميت، أذن الصوت لنا بالدخول ففتح فخري أمين الباب، واجهتنا قطعة مرمرية نقش عليها نقشا نحاسيا دقيقا اسم:" المدير المفوض عزيز شلال" كانت اللوحة موضوعة فوق مكتب هائل الحجم وجميل الرتابة يجلس خلفه رجل متورد الوجه رغم اكتهاله، فوق عينيه نظارة سوداء جعلته رجلاً غامضاً.رحب الرجل بنا بود ثم أشار لنا بالجلوس، ولأول مرة أضحى الحلاوي اخرساً وعندما نطق قليلا تعثر بكلامه مثل طفل يتعلم اللغة، يتأتأ، يقدم الكلمات ويؤخرها كأنه انهار وفلت منه زمام التبجح المسرحي وهو أمام الرجل الصارم الشبيه بالدكتاتوريين العظام، لم يعد الحلاوي قادرا على أداء أية وصلة تمثيل، سكت خائباً ولم ذراعيه باستكانة قط أليف، نظر ألينا عزيز شلال بلطف وسرعان ما انشأ بيننا علاقة ودودة ولكنها بضوابط:
-نحن نثق بفخري، انه موظف ناشط في مؤسستنا ويتحل أعباء كثيرة وعلى هذا الأساس نطمئن باختياره لكما…
ثم تابع بإشارات داله على الامتيازات والمكافآت التي سيحصل عليها الموظف الكفء في المستقبل، كان يتحدث المدير المفوض عزيز شلال بلهجة غامضة أحيانا تضعنا في موقع مشكوك بمؤهلاته، كذلك كان يُشعرنا بين حين وآخر بضخامة المؤسسة وتقاليدها الراسخة وبرامجها المتشعبة.أصرَّ عزيز شلال على توضيح مقاصده على الوجه الآتي:
-مؤسستنا تتحمل أعباء ثقافية هائلة تتلخص بالموازنة الوسطية ما بين التراث والتيارات التجديدية، لهذا فهي درع وقائي يصد النزعات التحريفية والتطرف العدمي ضد الأصالة والروح القومي…


كان عزيز شلال يُلقي حديثه بهدوء يُطمئن النفس، كان يشبك أصابع يديه ويحرك إبهاميه وينظر نحونا باستغراق كأنه يحاول التعرف علينا بعمق.ضحك وأسفر فمه عن أسنان بيضاء متناسقة من عاج اصطناعي، تناول من فخري أمين استمارتي طلب العمل وراح يقراهما بعد أن استبدل نظارته القاتمة بواحدة أخرى شفافة، رأيت الحلاوي أثناء ذلك يعصر براحته أو يعضض شفتيه ولا يستقر على نحو ثابت فوق مقعده.ختم المدير المفوض حديثه بتوصيات عديدة وتمنيات طيبة ورسم أمامنا دوائر حلم وردية…استلفنا من فخري أمين بعض المال وتركناه في مكتبه. كان الحلاوي ممتعضاً وعندما صرنا في الشارع تنفس الصعداء، سرنا باتجاه حانة "ليالي العذاب " وأثناءها بدا الحلاوي يثرثر…


* * *

وجدت نفسي جاهزاً للعمل على نحو ملفت، سعيت سريعاً لإكمال أوراقي المطلوبة من قبل إدارة المؤسسة رغم إن ترشيحي للعمل ومكانه لم يظهرا بعد، كان فخري أمين دءوبا في عمله، يعمل ساعات أضافية، يعمل بتفان وعلى عجل، أطفأ جذوته الفلسفية وطمس حتى أذنيه في تنفيذ الأوامر الصادرة، بيده حقيبة سوداء ويتنقل بين مدن الجنوب ومدن الشمال، يغيب بضعة أيام ويعود ومعه صفقة إعلانات تجارية باهرة، يندفع بتشجيع المؤسسة وسخاءها، مات فيه روح النقد وروح الجمال، لم يعد يلتفت إلى مآرب الشباب، تخلص من القلق، يعلن عن رغباته دون خجل: "فاتنا القطار …علينا أن نلحق" ، كان يسحبني معه بذهن حاذق وشره إلى مشاريعه: مشاريع الثراء والزواج والبيت الأنيق
والسيارة الضخمة، يكرر برغبة وحماس: "سوف نصعد!"يقول ذلك بثقة وينقب بلا كلل عن التاريخ المخفي لمؤسسة "المنار" التأريخ المستتر والأيدي المحركة، لكنه يصطدم بحواجز قوية، يظل محبطاً مع موظفي الطابق الوسط، اغلبهم يُطرد من العمل أو يحال على التقاعد براتب زهيد لكن رغم فشله الصريح، يتبجح انه واحد من أهل "المنار". زفَّ لي بُشرى:
- هيا، رُشحت إلى العمل…
- أين ؟!
-مُدير مطبعة "المنار" !!
-مدير ؟!
لم يستطع إخفاء حسده، فتأوه وسال:
-كيف تمَّ ذلك؟ …دفعة واحدة مدير، والله لا ادري !!
هزَّ كتفيه ورفع حاجبيه مستغرباً:

-لا اصدق !!


تقع مطبعة "المنار" في زقاق على بُعدٍ يسير من المؤسسة، بناء اصفر بطابق واحد يشبه مخزن لمواد عتيقة.جلسنا أنا وفخري أمين في مكتب المدير الخالي، راح فخري يرمقني بفرح وغيرة، يصافحني ويربت على ظهري، لا يدري كيف يعبر عن مشاعره. غمرتني رائحة الورق ورائحة الأحبار، هزتني حركة الآلات الحديثة وهي تصنع رزم الكتب والمجلات ولوائح الإعلانات، رجعنا إلى مقر المؤسسة وهناك وقعت عقد العمل بثلاث نسخ، أعطوني نسخة واحدة واحتفظوا بالباقي.
حزنت كثيرا كذلك استاء معي فخري أمين عدما علمنا بعدم ظهور اسم سليم الحلاوي ضمن قائمة الترشيح، فقط أنا الذي رُشحت للعمل وفي موقع مرموق لم نكن نتوقعه،موقع فاخر وله أهمية ممتازة، مدير المطبعة يتصل مباشرة بالمدير المفوض عزيز شلال ذا النكهة الباردة والنظرات الثلجية الثاقبة،يعرف فخري أمين تاريخه الشخصي منذ ولادته حتى دخوله المعتركات السياسية التي أحرزت تقدما مدهشاً بتأسيس "التجمع القومي الاشتراكي" تجري في عروقه وعروق جماعته الميول الوحدوية، وحدة الوطن الأكبر واسترجاع الأراضي المغتصبة وأزالت الحدود المصطنعة، ثم فجأة بعد حماس شبابي لا يقهر ومعانات لا تضاهى توقف عزيز شلال عن المعترك واعتزل الساحة، جلس بعيدا عما يجري، عكف يدرس تاريخ الأقوام الشرق أوسطية وينقب في حفريات السومريين والاكديين وامتداد الأديان السماوية، تخثرت دماء السياسة في بدنه وتحول إلى بحاثة، أصدرت المؤسسة له عدد من الكتب الضخمة أهمها حسب علمي كتابه المرموق "حضارة بابل" ومنذ صدور جريدة "النهضة الجديدة" خُصص له عمود ثابت في صفحتها الأولى يكتب فيه ما يشاء ،يكتب عن وضع العرب النفسي، عن تاريخهم الحديث


أو القديم، عن هزائمهم وإسفين الفراق الذي دُق بينهم، وفي كل حديث من أحاديثه يحث أبناء الأمة على الصحوة، يحثهم على الوحدة والنهضة بتعاليم رحيمة وذات جمال مدهش.
بلع عزيز شلال قرصاً وقائياً لإيقاف نوبة الصداع وقال بلهجة اعتراضية محنكة:
-هذه مؤامرة لقتل الحقيقة !!
كانا يتحدثان هو والسيدة عاتكة الشيخ رئيسة تحرير جريدة "النهضة الجديدة" الأسبوعية، يتحدثان دون تستر مني وبين حين وآخر يُمجد احدهما الآخر، كنت أنا اجلس خلف مكتبي واستمع بينما يجلسان هما متقابلان في بهو المكتب خلف نصف حاجز زجاجي. كانت عاتكة الشيخ امرأة مُسنة وقوية، قلقة الوجه ،تعلق حول جيدها المتغضن قلادة ذهبية وتضع في أصابع يدها اليمنى ثلاثة خواتم احدها بخرزة فستقية جذابة، رايتها تستمع لعزيز شلال بإمعان، هو يتحدث بطريقة خلابة ويعزز أقواله بأمثلة تاريخية نادرة التداول.ضحكت عاتكة الشيخ وأكدت بتفاؤل:
-أردة الخير هي التي تنتصر.
ظلت تهز برأسها المغطى بشعر كستنائي منفوش ثم راحا يتحدثان عن ديوانها الشعري الثالث "ادم وشجرة الإغراء" ويوضعان الخطط الدقيقة واللمسات الفنية لنشره على أحسن الوجوه.بعد تأمل قصير تكلم عزيز شلال بلهجة مكترثة:
-الشعر لديك يتدفق مثل نهر من التاريخ الموغل في النفوس ويطفأ ظمأ أرواحنا…
تنفست المرأة العجوز بارتياح وطأطأت رأسها باسمة بينما ظل عزيز شلال يُناور بذكاء في اختيار انسب جُمل الإطراء لمسودة ديوانها الجديد التي اقتربت

كثيرا من الولوج في رحم الآلات المطبعية. كانت حسراتي تتكاثر وكنت اشعر بانكفاء، داخلي يتلظى واشعر بخيبة.تلقى سليم الحلاوي نبا عدم إيراد اسمه في قائمة الترشيح دون انزعاج أو اهتمام، بسرعة ودون مقدمات عَبر حدود الوطن، هجرنا إلى بلاد بعيدة، ترك مشاريعه عرض الحائط وترك مسرحه الوهمي ينهار، ترك أصدقاءه القلقين في مهب الضياع، وترك أفراد فرقته يتقهقرون.في آخر مرة زارني في المطبعة، وجدني منكباً على العمل، أتذكر خطبته الوداعية:
-سوف لا أهدا، سوف احلق من قارة إلى قارة، أجوب مسارح العالم، أتمتع بأبهى جمال اكتشفه الإنسان !
-والنتيجة ؟!
قال باستهزاء:
-منذ متى بدا تهمك النتائج يا صديقي ؟! أنا لا اهتم بالنتائج بل ابحث عن الافتتان، امنح نفسي فرصة الانغمار في نزواتها إلى أقصى الحدود وبعد ذلك ليكن ما يكن، المهم الانتشاء !
وتابع بلهجة حالمة يرسمها بكفيه وتعابير وجهه:
-اصعدُّ فوق الخشبات الذهبية…مسرح الشانزلزيه الفرنسي، المسرح الملكي البريطاني، مسرح بريشت الألماني، ومسرح غوغول الروسي…
قطع خيالاته فوراً واخرج جواز سفره وراح يمسح به فوق راسي:
-وأنت يا حبيبي ؟!…أنت سوف تتضور قهراً، أنت يا رشيد مثل شاة حية تعاني السلخ كل يوم…
صفق يديه وأضاف بيأس:

ستجد نفسك في يوم ما بعيدا عن حلم الشعراء، تجد نفسك حجراً مهملاً في شوارع بغداد، تلتاع ولا تجد من يرثيك، لا ناظم حكمت ولا لوركا ولا رامبو ولا صديقك ألبياتي…
همس بأذني كأنه يعزيني:
-وحدك تموت أيها الحجر الكريم ويحمل نعشك الزبالون إلى برية الغرباء !!
رايته يمسحُ عينيه التي سرعان ما احتقنتا ثم قبلني ومضى كأنه ذاهب إلى حتفه دون أن ينبس، خلف ذكرى عطرة تستفزني كلما مرت في راسي: كم هو حالم هذا الفتى الغريب الأطوار!!













[ 10 ]



تمرُّ أيامي قاسية عجاف، أتمشى بين الآلات الضخمة المغفلة التي تنتج الرسوم والحروف، الآلات الدءوبة في عملها المقزز القبيح وكأني ترس من تروسها الصماء. أتمنى أن أضع نفسي فيها بدل الأوراق البيضاء لأصنع كتاباً مفتوحاً أقول فيه للعالم: انك مزيف !. لا أجد في هذه الآلات الوقحة غير جهد ضائع ومكرر، رزم مطبوعة بعد رزم، رزم من النفايات، افتح بعضها فلا أشم سوى رائحة كريهة ولا أرى فوق صفحاتها غير حروف سوداء تشبه براز الفئران. تأملني فخري أمين ثم تحدث:
-حتى تصل يمكنك أن تسلك الطريق الآخر.
-أي طريق ؟!
-أن تكتب بالطريقة التقليدية كما يحلو لهم، أنت لست عاجزاً عن ذلك…اسلك الطرق الآمنة.
-يعني امسخ اكتشافاتي ؟!
-لا. يعني أن تؤجل ذلك حتى نضوج الوقت…
-أتعتقد أنهم سيرفضون أشعاري إذا عرضتها عليهم ؟
-لا تتورط…سيرفضونها بحدة، لا يرفضون كتاباتك وأشعارك فحسب إنما يرفضونك أنت بالذات، لأنك تهدد مؤسسة تاريخية برمتها !!
-ولكن يبدو أهل "المنار" في غاية التسامح !
-عندما لا يصل الأمر إلى اختراقهم.
تأتي عاتكة الشيخ مثل مكوك إلى المطبعة، مبتهلة الأسارير، شامخة، نشيطة، تعطي توجيهاتها لي وللعاملين باقتضاب وبأنف عال، أحس بأنها تشمئز مني، تتحدث معي من بعيد، أتخيل نفسي مثل غول أرعبها، تداعب قلادتها بخشونة أو تضع أصابعها في شعرها المنفوش، تسري بنا –أنا وعمال المطبعة-قشعريرة وارتباك أثناء تواجدها، تظل نصف ساعة أو اقل وتذهب بسيارتها الفخمة السوداء، امرأة صارمة وحادة، يبدو وقتها من ذهب، تتابع على طول أيام الأسبوع طبع "النهضة الجديدة" حتى صدورها يوم الأحد، لا تظهر يوم صدور الجريدة، نراها في اليوم التالي تتابع أعمالها بسعادة. تشرف عاتكة الشيخ (الأستاذة الجامعية المتقاعدة) على ثلاث دوريات منتظمة تصدرها مؤسسة " المنار" :الجريدة الأسبوعية ومجلة "النوابغ" التراثية وكتيب شهري صغير هو "عيون التراث" إضافة إلى ذلك فهي منشغلة بأعمال أخرى تتوزع في حضور المؤتمرات والندوات وكتابة القصائد في مختلف الصحف كذلك كتابة عمودها الأسبوعي في الجريدة : "نفحات أدبية" هذا العمود الهزيل الذي يشبه الماء الآسن. بات ديوانها الثالث كجنين تترعرع خلاياه داخل المطبعة، ترعاه بحنان امومي ورأفة، تتابعه بدقة وأناة.
قدمت لي المؤسسة معونات مالية تستردها بأقساط شهرية مريحة دون أن اعرف الدوافع، بعد أيام لاحقة استغربت حين وفرت لي شقة صغيرة وجميلة، هجرتُ الغرفة التي تركها سليم الحلاوي وانتقلت إلى الشقة المريحة في منطقة "المسبح". لا ادري ماذا حدث لي، أدور بين الآلات والعمال شارد الذهن متوتر الأعصاب، كلما أرى أوراق "ادم وشجرة الإغراء" قد قاربت على النضوج ينتابني وطيس من الغثيان، تمتلكني سورات غضب وحسد. في بداية الأمر وأنا اقرأ الكتب بعنف، اعتقدتُ بحيازة سلطات فردية خارقة لامتلاك الحقيقة ثم نشرها بكتب أنيقة على أوسع الخلايا البشرية. اكتشفت أخيرا بأنني مسكين، يُرثى له، يقرأ ببلاهة كتباً لا تحبها المؤسسات، اكتشفت إن مخي ممزق وان اغلب خلاياه تالفة وان جسدي ملئ بالأسقام، اكتشفت باني أمير أعمى يسير في أنفاق مظلمة سحيقة، فقدت إخلاصي الحنبلي للهذيانات والموت من اجل الدفاع عن العقائد، احسد ذلك الصبي الميت ابن خالتي عناد، آه لو يسلفني قبرهُ، اشتهي نومة عميقة في قبور البرية بعيداً، بعيداً جداً تحت الأرض، لا ضوضاء ولا أضواء ولا شراسات بشرية… هكذا كنت اغرق في غثيانات مزعجة وأنا اجلس خلف مكتبي لعدة ساعات، ثم انهض أتمشى مثل سجين بين المساحات القليلة التي تركتها أجساد الآلات الخضراء والزرقاء، مستمراً في الأحلام الأكثر كآبة. كانت عذوبة سوسن راضي قاتلة، كنت خاضعاً لها ولكني ارتكبت حماقات أسفرت عن واد الحب الجميل. قالت ذات يوم، لم تخصني بالقول إنما كانت تتحدث لوحدها بصوت عال:"كم سيبدو مضحكاً يوم لا نعود معاً…" اكتفت بذلك ولم تشرح لي حسراتها. الآن افقد صبري تماماً وأفكر بخوض غمار شائن، ارتكب خطيئة فظيعة، اعمل أي شئ يؤول إلى إحراز نصر باهر في حياتي التي لم يكن بها أي انتصار. لم أتحاور مع فخري أمين حول أفكاري وخططي الشيطانية، بدأت بمفردي أحوك مؤامرة سرية يساعدني فيها واحد من عمال المطبعة تفشت في قلبه مودة كبيرة نحوي.وضعت النقاط على الحروف، وضعتها دون أن يحس بها احدٌ، أحيانا في الليل وأحيانا في الفجر، اصنع خلايا ديواني الشعري بسرعة فائقة وخوف وارتباك، لم اعد أتمكن من إمساك نفسي عن هذه المجازفة. امرأة داخلها جنين ينمو، جنين اخدج. ها هي المطبعة حبلى تواري انتفاخ بطنها بالتستر والملابس العريضة، ستلد ولا احد يدري متى نما جنينها في أحشائها ولا كيف ارتكبت خطيئة الزنا. المُّ جواهري النارية، قصائدي القديمة والجديدة، المنشورة وغير المنشورة، أشذبها، اقرأها لصديقي محمد دارا عامل المطبعة. نشرب في ليل المطبعة المدلهم الرطب أنخاب الخمرة اللذيذة وبعد أن ننتهي من عملنا أللصوصي، اقرأ له مترنحاً مثل متنبي:

[ من تحت مسلات طغاة العالمْ
من تحت رماد الأزمان
من خلف القضبان
اصرخ في ليل القارات، أقدم حبي قربانْ
للوحش الرابض في كل الأبواب
* * *

واحدة بعد الأخرى، ترتفع الأيدي في وجه الطغيان
ولكن سيوف السلطان
تقطعها، واحدة بعد الأخرى في كل مكانْ
* * *
فلماذا يا أبت، لم ترفع يدك السمحاء ؟
* * *
ثورات الفقراءْ
يسرقها، في كل زمان، لصوص الثوراتْ
* * *
هذا عصرُ مسلات ملوك البدو الخصيان-الدول
الكبرى-الجنرالات-الآلات. لماذا
يا أبت لم ترفع يدك السمحاء بوجه الشر
القادم من كل الأبواب ؟ لماذا تنفى الكلمات ؟
يصيرُ الحب عذاباً ؟ والصمت عذاباً ؟
في هذا المنفى، وتصير الكلماتْ
طوق نجاةْ للغرقى في هذا اليم المسكون بفوضى الأشياء ]

يمرُ شهر متواصل من العمل الكثيف، البهيج، السري، احترق واحترق ثم يلد ديوان أشعاري: "مغني الأزهار البرية"…أطير به منتشياً، فرحان، انقل منه رزمة ما زال ورقها حاراً إلى مسكني وانقل بقية الرزم إلى احد مكاتب التوزيع، اهدي منه عشرات النسخ للصحف والمجلات والمؤسسات الثقافية، اهدي نسخة إلى فخري أمين، يرتعب فخري أمين، لا يصدق، شرحتُ له الأمر باقتضاب، حدثته عن فصول المؤامرة الدنيئة والتصيد وسط مياه "المؤسسة" الإقليمية، لطم جبهته وصاح باندهاش:
-فعلتها يا ابن…ضاع كل شئ !!
-ليكن.
-هذه سرقة يا أخي!
أضاف باستنكار:
-أتعرف ماذا سيترتب على ذلك ؟
-لا اعرف. المهم نزوة عمري !
-إذا اكتشفت "المنار" جريمتك سوف تضعك تحت مسائلة قانونية عويصة !
هززت أكتافي وقلت له:
-لا يهم !!
عدلَّ فخري أمين نظارته وتحدث بانزعاج:
-أنت متورط مع المؤسسة في عقد عمل وأمور مالية…
-سوف ادفع دمي.
مطَّ شفتيه وقال بامتعاض:
-من اجل ماذا ؟!
رفعت الديوان المطبوع طباعة أنيقة أمام وجهه وصحتُ باغتباط:
-من اجل هذا يافخري…
كأني حسمت الأمر مع ساعات ضياعي وانتصرتُ على قهري، اشعر الآن بزهو وازدهار وانحياز أكثر نحو الاكتراث، التصق بالأيام الممطرة الباردة الخريفية. لا أسير تحت أغطية أو مظلات، افتتن بالمطر المتساقط فوقي، هبوب الرياح وسقوط المطر يجعلاني انتعش وأتوتر وانبض بكلمات تمزق جلد الديوان الشعري القديم، مومياء الآباء والأجداد، أبوح لنفسي بأشياء كبيرة وخطيرة كأنها ليست نفسي.
يمران شهران هادئان يتساقط فيهما المطر بغزارة، أتوجس خوفاً من الذهاب إلى المطبعة كأنني في محل اتهام ورصد. أراهم، عاتكة الشيخ وعزيز شلال وآخرين، يكثفون ساعات بقائهم في المطبعة ويتخيل لي أنهم يبحثون عن شئ ما، أنا لم ارتكب أي خطأ جسيم، هذا في نظري ولم تكن عينا عزيز شلال تومئان بشر نحوي، إلا إنني أخمن إن في داخلهما ريبة وشك، في بؤر عيونهم السوداء رصد دقيق وفائق الكتمان حول تصرفاتي. يتوارى عزيز شلال في متابعته لي وتحليل تحركاتي بعيداً كل البعد عن وجودي العياني، يهملني تماماً، أراه يرصدني بهدوء رجل مباحث ويصنع من الصحيفة التي يقرأها ستاراً يغطي به ملامح وجهه ومتغيرات سحنته، ولكني اكتشفت مزيداً من تضاريس تلك الملامح الضائعة بتصنع. فاجأته بقولي:
-أستاذ أنت تملك أعصابا ثلجية !
دون أن يرفع رأسه أو يتكلم مباشرة ظل متشاغلاً في تقليب الصحيفة ثم تساءل بلهجة خالية من الصفات:
-أتعتقد أن الأعصاب الباردة اقل كفاءة من الأعصاب الحادة وتنطوي عليها الحماقات ؟!
لم أكن افهم ماذا يقصد بالحماقات، تركت جملته تتفتت دون تعقيب في فضائها الصقيعي، هل يقصد بذلك مؤامرتي ويشير إليها بكلمة "حماقات". لا استطيع تحديد المشاعر التي يكنها نحوي المدير المفوض لمؤسسة "المنار"، أهي مشاعر ودية أم عدائية ؟ بعكس المشاعر السافرة البغيضة التي أحسها نحوي من الشاعرة الشمطاء عاتكة الشيخ، كانت تعاملني بإذلال وقسوة. كان بمقدوري أن ابذل جهداً لإرضائهم لو كنت صبوراً وثاقب النظر ثم ادخل معهم في صراعات ايجابية من اجل صناعة أجنة حية في أحشاء المؤسسة برمتها ووضع حد لهذا التوالد الهزيل من الكتابات الهشة، إلا أن فخري أمين كانت له وجهة نظر مخالفة، يستبعد التصالح أو التحاور ويعرف بتأكيد قاطع إن أي تلاعب قرب المياه الإقليمية للمؤسسة يعني أول ما يعني قطع "لقمة العيش" لان ليس ثمة مراهنة على تبديل عقل "المنار" أو أهدافها أو إستراتيجيتها أو اعتباراتها التاريخية.
كانت فرصة بالنسبة لي، فرصة متاحة للتعلق بعزيز شلال، كان يعطيني الضوء الأخضر للتحاور معه، عرفني جيداً وصنفني من الطيور البرية الحرة، قَلب أوراقي بانتباه وانفتاح، قرأ صبري الفائق واستهوته إمكانياتي الشعرية، قال عني بالحرف الواحد: "أنت من النوع السهل الممتنع" ولكنني شممت رائحة التدجين تخرج من بين كلماته، أتقزز من هذه الرائحة المقيتة، هربتُ وتركت الفرصة ورائي تخبو كمن وضعوا ناراً على راحته. تركت المطبعة ولم اعد إليها ثانية، كنت أرى فرصتي الوحيدة هناك بين قواقع البحر ومحاراته، بعيداً بعيداً، أعب كثيراً من الهواء وقليلاً من لذائذ الحياة وأغوص باحثاً عن شئ يطفأ نارك يا ابن منصور الحلاج، ثلاثة أيام بلياليها معلقٌ تنزف وتنزف دون وجل أو حسرات والكلاب تلعق من دمك المهدور بلذة حتى توردت سحنها وصارت لها كروش وأوداج منتفخة وكونت تاريخها المزور، تاريخ سلطتها وحياتها المليئة بالنعم والمجونات.


[ 11 ]



كانت واجهة المقهى العريضة المطلة على شارع "السعدون" تغمرها شمس النهار البارد، استدفأ بالحرارة النازلة منها بعذوبة ورفق، أتأمل الناس المارين وانتظر من بين وجوههم وجه ما يأتي. كل يوم اجلس هنا وكل يوم انتظر، اذهب إلى سوق "المتنبي" اقلب الكتب في محلات بيع الكتب دون أن اشتريها، اشتري بعض الصحف والمجلات وأعود إلى المقهى التي لا اعرف حتى اسمها، يطلق عليها بعض الرواد اسم مقهى "زناد".يغمرني فرح حين اعثر على بعض الأعمدة الصغيرة أو الكبيرة المتناثرة في الصحف والمجلات وهي تتحدث باهتمام عن "مغني الأزهار البرية"، يمدحوه مرة ويقدحوه مرة، لفت انتباهي احدهم وهو يشير إلى أشعاري بغضب ويصفها بأنها" مشروع هدام لتخريب بناء اللغة المقدس" هذا القائل عاد ثانية ليتهمني بالتطرف والصبيانية من خلال عموده في الملحق الأدبي لجريدة "الأهالي" وصل الأمر بهذا الناقد المحرض إلى حد هدر دمي، تحول من قائل إلى قاتل. لم أردُّ عليه بكلمة واحدة فقد تركته يهذي.
التقيت فخري أمين في مقهى "زناد" ومعه رزمة صغيرة من المجلات والصحف ورسالتين وصلت لي على عنوانه، إحدى الرسالتين من سليم الحلاوي والثانية من الدكتورة سميرة. قرأت رسالة الدكتورة وأحسست بمشاعرها النبيلة وتعاطفها معي،كانت تكتب ملاحظاتها بدقة وعناية مثلما تعتني بملابسها، أتذكرها الآن جيداً، أتذكر قرطها الذهبي بحجم حبة حمص صغيرة يتلالا به فص فسيفسائي ازرق تعلقه بأناقة في شحمة أذنها البيضاء، اثنت علىَّ في رسالتها بفيض من عبارات الود والتشجيع.علقَّ فخري أمين بحذر:
-بالتأكيد، تحثك الدكتورة على مزيد من الحماقات !
ضحك بهدوء ثم خلع نظارته وقال بموعظة شديدة الحرص:
-أأنت جذلٌ بهذا الذي أحدثته من ضجة بين النقاد والشعراء والقراء، أنت فعلاً كذلك…كف الآن عن تمزيق ذاتك، كف يا رشيد عن هذه العزلة الرهيبة وابدأ التعامل بواقعية مع الناس والأشياء…
عندما كان يتكلم كانت أصابعه مثل أصابع عازف تنقر على رزمة الصحف الصغيرة، رفع الرزمة أمام وجهي وقال:
-كلها تتحدث عنك بانبهار !!
قلت له وأنا أتمطى:
-أريد السفر يا فخري…
-إلى أين ؟!
- إلى بيروت أو القاهرة أو إلى أي مكان آخر، بدأت اختنق هنا.
- حاول أن تهدا يا أخي. أنت لا تستطيع السفر مثلما فعل سليم، ذاك يشبه الزئبق له خواص انزلاقية، خفيف الارتفاع خفيف الهبوط.
سافرت إلى الفضوة بعد غياب طويل ثم ذهبت منها إلى مسجد "السهلة" حيث قيل إن محسن فياض يسكن هناك.يعتبر هذا المسجد احد الشواخص المزروعة في ذاكرتي منذ الطفولة، ويعتقد أهل الفضوة وخاصة خالتي صفية، إن من يزوره مشياً على الأقدام أربعين مرة متواصلة دون انقطاع في كل ليلة ثلاثاء، سوف تَسهل أموره وتلبى جميع حوائجه. كانت خالتي صفية تأخذنا ملهوفة أنا وعناد ومعها نذوراتها الشحيحة عبر الطريق الترابي الذي يبعد عن الفضوة ببضعة كيلو مترات. كان بناء المسجد واسعاً بمساحة داخلية تناهز مساحة ملعب كرة قدم، يحيطه جدار عال من الآجر السميك المتآكل وله باب خشبي ضخم مرصع بحلقات نحاسية واذرع قوية وسعته لا تقل عن ثمانية أمتار، تقع حول فناء المسجد الترابي الواسع عشرات الغرف والايوانات المقوسة الجبهات، وهناك مواقع عديدة لمزارات أنبياء وأئمة وأولياء صالحين، يقوم الزوار بارتيادها على هيئة جماعات وبدورات منسقة ورتيبة يقودهم دليل بارع يرتل أمامهم تراتيل دينية خاصة في زيارة كل مرقد. كدتُ اصرخ من وجعي حين رأيت محسن فياض من بعيد، رايته مثل قصبة فوقها وجه مصفر كأنه قشرة ليمون يابس، ربط رأسه بخرقة سوداء وربط محزمه بخرقة أخرى، دب به حزن عميق، يتأمل الأفق بإفراط فيتراءى له أحبابه، يراهم بثياب بيض يتقدمهم المنقذ "المهدي المنتظر" يدق محسن فياض صدره: آه، حبيبي تعال، هاهو جاء مخلصكم يا ناس، افرحوا، سيملأ الأرض عدلاً !!. كان محسن فياض حافي القدمين، أشعث الشعر، حين تقربت منه دارَّ وجهه عني، تنكر لي وتنكر لكل تاريخه الماضي، قلت له بتوسل:
-أنا رشيد الهجري، أنت معلمي الأول، التفت نحوي !
صرخ بذعر:
-لا.لا تقتربوا مني.
دق الأرض بعنف ومضى إلى سبيله، يذكر الباري ويستعجل ظهور المخلص دون هوادة أو يأس. تركته مذعوراً وخائفاً وعندما وصلت بيت خالتي صفية، وجدتها جالسة بخواء في باحة الدار، عمياء، كأنها في غيبوبة لا تتحرك ولكن حين أحست بوجودي اهتزت وصاحت بصوت مبحوح:
-رشودي !!
تقدمت نحوي وارتمت على صدري بإحباط وانخرطت بنشيج:
-أين مضت بك الدنيا، لماذا لا تسال عنا ؟!
كانت مثل غريق تمسك بي كي لا اتركها، تتفقد أعضاء وجهي، تتلمس أقدامي ويديَّ…رأيتُ دراجة صباي الزرقاء مركونة عند زاوية في الباحة فوقها طبقة سميكة من التراب إضافة إلى براز العصافير والطيور والحشرات، كانت الدراجة منزوعة المقود وإطاراتها مفرغة من الهواء، كنت فيما مضى وعندما كانت بعافية، ارتمي فوقها باسترخاء، استنشق هواء عذباً، استنشق مع الهواء عبير سوسن راضي يتدفق من مسامات جسدها الناعم، وجدت نفسي على حين غفلة عاشقاً، ولهان، جربت الهرب وأغويت نفسي بأشياء بديلة عن الحب والهوى، لكن أبداً لم استطع فقد ماطلت روحي ومالت صوب عشق لا حدود له ولا انتهاء. هنا في هذا المكان بالذات التقينا مرة، تشظينا عن حب لا مثيل له. قالت:
-رشيد ماذا تفعل ؟!!
وضعت عباءتها فوق رأسها وهربت موتورة. ظلت مجرد ذكرى خاوية، تركت خالتي صفية واحباطات ذكرياتي ورحت أتمشى في أرجاء الفضوة، بين مداخلها وأزقتها، كانت الفضوة موحشة وخالية من سكانها الأصليين، أراها قانطة في جوف زمن مظلم تتثاءب بيأس تحت عمودها المعقوف، القاتم، الصدأ الذي تحطم مصباحه وحاضنته الدائرية. بحثت عن سوسن راضي في الأسواق والأزقة ومتون المدينة وأنفاقها، لم أجد لها اثر، آثارها غامضة مثل آثار فرج الناهي. كلاهما ليست له آثار لذا يصعب على المرء العثور عليهما، ربما انصهر الناهي في أتون إخلاصه المتزمت لعقيدته الكبيرة، عقيدة تحرير البشر من العذابات والاضطهادات، ربما لم يبق منه غير هيكل بالٍ نخرته أزمنة التحقيقات والعذابات والانتظارات، كان جواباً في النفوس الإنسانية المعذبة، يتكلم ببساطة المغمورين بالكدح وبأرواحهم يغرس شتل الحقيقة التي دونها أي شئ باطل، مضيت أتمثله، حاولت أن اغرس الحقيقة في احدٍ ما، كانت سوسن راضي عينتي الأولى التي أدخلتها أنبوبة الاختبار وما أن بدأت التجريب حتى: بق !! انفجر كل شئ وعلى عجل مذهل. تفجر ذاك العشق البهي وتحول إلى حطام. وضعت أنبوبة الاختبار في صهريج الصراحة العاتي دون خشية أو حساب اوتانيب ضمير، انكفأت سوسن راضي وغابت مثل شمس عن حياتي، تركتني ولم تعد، تركتني مجرد عقل اجترار لذكرى ملتهبة وموجعة، أنا الآخر لم اعد، لم أحاول غرس أي شتل من نبت الحقيقة في فؤاد أي احد. اصحب الحقائق شموساً بداخلي وامضي، اصحبها بأنانية مفرطة، كل الحقائق أحولها إلى زادٍ في رحلة بحثي عن الجواهر النارية في أعماق مياه الكون.


















[ 12 ]



ارفع ساقاي مثل مقص وأدق بهما حائط الغرفة لعل أحدا يأتي، اسمع سليم الحلاوي يقهقه، اجتاز مضيق "البسفور" وراح منه إلى "صوفيا" ومنها سيغادر إلى قارات العالم السبع، يفلت من مقلب ويقع في آخر، يقول: لا يهم، المهم هو كيف يخرج المرء أخيرا ولم يخسر. يحدثني في رسالته الأخيرة عن نساء ناعمات شقراوات ولذيذات، يحدثني عنَ فسحات مسرحية تفقد الصواب، يقول اختاروني في " صوفيا" بسبب جسدي الكروي ولغتي الخرساء بائعاً في مسرحية "القروش الثلاث" بدور لا يتعدى زمنه دقيقة واحدة، يصرخ الحلاوي: هذا إجحاف ! ويتابع: " استهانوا بقدراتي المسرحية الفذة، لا يهم سأتوغل واصل إلى الأضواء...سأتألق! " يطلق عليَّ في رسالته بين الحين والأخر: "الشاة الحية" ويسأل: كيف هو حال الشاة، ألم تتعب من السلخ؟! أما زالت ترفس تحت أقدام الجزارين ؟! اهربي أيتها الشاة الحزينة دون جلد، اهربي بقلبك وراسك يا أحلى من
العصافير الذهبية. أدق الحائط بساقيَّ وأهذي بذكرياتي. يمر شهران ونصف وأنا لم ادفع إيجار الشقة، جاءت صاحبة العقار بوجهها القبيح ووجهت لي إنذارا بإخلاء السكن، تسكن هذه المرأة التي كلما أرها اشمئز ، تسكن في طابق كامل، أنيق وضخم، أسفل شقتي الصغيرة تماما وتسكن معها مجموعة غامضة من النساء الجميلات، تختلف أشكالهن بين فترة وأخرى، أراهن وديعات ورشيقات يدخلن ويخرجن دون صخب ثم عرفتُ من البقال الذي تقع بقالته في الجهة المقابلة للعمارة بإشارة صرح بها باقتضاب بان المرأة مالكة العقار "قوادة" نساء غاليات الثمن، وعرفتُ في وقت لاحق بان الطابق الذي يقع أسفل شقتي لم يكن طابق سكن إنما هو مخدع لرجال أثرياء ولاعبي قمار وخمنت بان أصابع

النسوة الوديعات-من خلال تعاملهن مع رجال ذوي شان رفيع-تتحرك حركات خفية وسرية بمصائر بشرية خطيرة. هذا النوع من العاهرات لا يشبه عاهرات الدرجة الرخيصة الساكنات خرائب "الميدان" المبتليات بسد رمق أطفالهن.

صدرت قائمة طرد بأغلب عمال المطبعة وبعض العاملين في المؤسسة من ضمنهم فخري أمين، استثني اسمي من قائمة الطرد. استدعاني المدير المفوض عزيز شلال إلى مكتبه مرتين، في المرة الأولى كانت معه عاتكة الشيخ، أثناء الاستدعاء حثني على مزاولة العمل بروح جديدة وثوابت جديدة وعقب على قائمة الطرد باختصار:
-تطهير المؤسسة من المتلاعبين.
كانت عاتكة الشيخ تداعب قرط أذنها الأيمن بتوتر شديد، لم استطع التمعن في قسمات وجهها كثيراً فقد كانت عيونها جاحظة ومغروزة بي مثل إبرة عقرب.في المرة الثانية من استدعائي كان عزيز شلال يجلس لوحده خلف مكتبه بوقار حازم بينما جلستُ أنا فوق مقعد يقع في نهاية المقاعد الأنيقة.قال:

-هل نتحدث ؟!
وسال بعد أن أشعل سيجارته وارتوى منها بنفس طويل:
-عن ماذا نتحدث ؟!
وأجاب هو نفسه بحرص:
-سنتحدث عن وضعك الشخصي !
استأنف بأسى:
-أنت في وضع خطير يؤسف له...

-لا اعتقد...
اخرج ورقتين صقيلتين من اضبارة كانت أمامه واستدعاني لقراءتهما فوق مكتبه.رأيت الورقتين مذيلتين بتوقيعي، احدهما فاتورة الديون المالية المقدمة لي والثانية عقد العمل المبرم بيني وبين المؤسسة. سألته وكأنني أتحدث بذكاء وثقة عالية بالنفس:
-وما المطلوب مني ؟
-بالتأكيد ليس من السهل أن يُطلب أي شئ من رشيد الهجري، ولكن من الممكن أن اطلب الترفق بنفسك على الأقل...
وسألني بعد تأمل قصير:
-ألا تعتقد أن المؤسسة أعطتك أهمية خاصة ؟
-أحس بذلك.
-وبماذا تفسره ؟
-لا ادري !
-هل أنت ساذج ؟
-لا. وأحاول أن افهم...سألتك يا أستاذ ما هو المطلوب مني بالتحديد ؟
-سأوضح لك مدى خطورة الخروقات التي ارتكبتها ضد لوائح مؤسستنا ومدى رصدنا الدقيق لسلوكك الشائن هذا، ثم سأقول لك ما هو المطلوب منك...
-يعني إنكم تعرفون كل شئ ؟!
-عرفنا بعد فوات الأوان...
-انتم تعرفون إني سرقتُ أوراقاً وأحبارا وطاقة آلات ووظفتُ نشاطي الوظيفي لأغراضي الخاصة...كل ذلك برأيّ غير ذي بال، يمكن أن تؤخذ ضده جزاءات انضباطية وغرامات مالية مثلاً...
-هذا صحيح من الناحية المادية الصرفة.


-وهل هناك ناحية أخرى ؟!
-بالتأكيد، الناحية المعنوية، أنت عملت إساءة كبيرة لنا فقد أجمعت الآراء بان ديوانك "مغني الأزهار البرية" بمثابة منشور يهدد الأمن الثقافي للبلد، فهو من ناحية يُضعف
الروح المعنوي للأمة وهو من ناحية ثانية يساهم باندفاع متهور في تشويه تاريخها الحضاري ويضعضع أنظمتها اللغوية....
ارتوى من سيجارته وأضاف باستعلاء:
-نحن لسنا ضد آرائك وما أنت فيه من زعزعة عقلية...لا. وإنما لا نحب رؤية هذا التشويه عن قرب لان ذلك يشعرنا بالذنب.
ربت بانزعاج فوق المنضدة وعقب بتأوه بعد أن رفع حاجبيه:
-هذه فوضى ! كيف خرجت هذه الفوضى من تحت معاطفنا !!
-ليتم طردي على غرار الآخرين...
-هذا لا يبعث على الارتياح إنما يعطيك دور البطل، المطلوب هو : الاعتراف العلني بالخروقات ثم التبرؤ منها...
-هذا لا يمكن !
وفي أوج امتعاضه ابتسم ساخراً وقال بلهجة ثلجية:
-نحيلك إلى الدائرة القانونية...
* * *


من خلال الواجهة الزجاجية العريضة اللامعة، كنت أتطلع إلى الزهور بإعجاب. أتابع حركة الفراشات الملونة، عرفت الآن فقط لماذا يحبُ الأولاد مطاردة الفراشات، تجتذبهم

أشكالها البديعة وألوانها المخملية الزاهية، لم أكن في سنواتي الصغيرة اعرف إن في الكون أحياء جميلة مثل الفراشات، تعرفت في صغري على نمل البرية، هذه الكائنات الحزينة


الخرساء بثيابها السود الغامقة الشبيهة بجبات الرهبان، أسراب طويلة كأنها في مواكب حداد بحركة أسطورية
عجيبة من الذهاب والإياب. يقال إن نهاية اللحم البشري يأكله النمل، لم اتاكد من ذلك ولكنهم كلهم يقولون ذلك ويتوارثون القول. ياللبشاعة !!...تزحف الإنسانية برمتها دون أن تدري نحو أفواه النمل الأسود. إذن فهو الكائن الوحيد الذي ينتصر في نهاية المطاف على البشر. أما الفراشات، هذه الكائنات الوديعة فلا ادري على ماذا تقتات، إنها تتعلق بحب حول نواة الزهرة، كانت سوسن راضي مثل فراشة معجبة بشكل لا يصدق بالزهور، تعقد شعرها الحريري الأسود من الخلف بزهرة صغيرة أو زهرة كبيرة، بين وقت وآخر تعلق زهرة جديدة تختلف عن سابقتها بالحجم والشكل واللون، لاحظت إن اللون الأصفر دائماً يجذبها ،حتى بلوزاتها وقمصانها اغلبها لا يخلو من اللون الأصفر، إضافة إلى الزهور والفراشات كانت الشمس تظهر متألقة ساطعة في سماء باهتة.للمرة الثانية ارتاد مطعماً بنجمات خمس ذات مقاعد أنيقة تبعث في النفس الاستكانة والارتياح.
المرة الأولى وعندما جلسنا أنا وفرج الناهي لم نتكلم كثيراً ولم انتبه للزهور وحركة الفراشات ولم أر زرقة السماء الباهتة. كنت أتفحصه ويتفحصني بذهول واندهاش، لم أتوقع
أن يظهر فرج الناهي ثانية في حياتي، كنت احسبه من الميتين، ها هو أمامي أره بنحو غريب: رقبته مدفونة في ياقة قميص ابيض ومخنوقة بربطة عنق باهظة الثمن، تداثر اغلب

الشعر عند الجهة الخلفية من رأسه فخلف صلعة دائرية لا تتناسب مع محياه الأسمر. كنت في المرة الأولى من لقائنا كنت ألح عليه بسيل من الأسئلة، كان لا يكترث بها أو يجيب عنها باقتضاب، لذا أدركت إني أسئ معاملته واذكره بماض يريد التنصل منه نهائياً. قطع تأملي في أشياء الخارج وقال:


-المهم أن نصل إلى نتيجة...
-أتعتقد أنهم سيفعلون شيئاً ما ضدي ؟!
-بالطبع.
-أنا احتمي تحت لوائح القانون المدني للدولة...
-هذا صح...وهم أيضا يحتمون باللوائح نفسها وبداهة القانون يميل إلى حماية الأغلبية أكثر من حماية الفرد.
لاحظته عندما أتكلم أو يتكلم هو، لا يلتفت نحوي، يظل وجهه مبحلقًا إلى الأمام كأنه يتحاشى اكتشاف خجله. اخرج سيجارة من علبة أجنبية أنيقة ورشف قليلاً من كأسه ثم تابع:
-المشكلة يا رشيد لا تحتاج إلى تعقيد.
داعب شحمة أذنه واستأنف:
-مجرد تقريرين دبجوهما وجلبتهما معي لتذيلهما بتوقيعك، احدهما اعترافك بعملية الاختلاس والثاني تنازل مهذب يحفظُ ماء الوجه عن مقاصدك وأشكالك الشعرية الجديدة...
صفق يديه كأنه اكتشف أشياء ثمينة وصاح:
-وينتهي الأمر !

-بهذه البساطة!!
تعلم فرج الناهي من الدرس السياسي وقسوته فائدة جمة، فائدة المناورة بطريقة خلابة وساحرة، محامي مؤسسة "المنار" ورئيس دائرتها القانونية. لم اسأل ولم نتطرق، لا أنا ولا هو، إلى كيفية تحوله النوعي، إلى قفزته الهائلة من "مناضل" تائه في أحلام تنظيمه السياسي إلى رجل معافى أنتج لنفسه وضعاً مريحاً هادئاً: دار من الدرجة الممتازة وزوجة وطفلان هما طارق وفاتن وسيارة "هارتوب" حديثة الطراز وامتيازات أخرى. قال فرج الناهي بتأكيد مُضجر:
-هذه فرصتك الذهبية الوحيدة في الحياة... أنا اضمن نتائج بصمتك على تقريري الاعتراف والتنازل.
مكثت بضعة أيام استجوب نفسي: هل أنا خطرٌ؟!
قطعوا عني الراتب الشهري والمعونات المالية، توقفت عن الذهاب إلى المؤسسة. اخرج من الشقة قليلاً، أتسوق حاجيات ضرورية وأتمشى بعض الوقت، أجلت دفع إيجار الشقة إلى الشهر التالي بتوسل وبحجج لم تتقبلها صاحبة العقار عن قناعة. لم أر هذه المرأة السمسيرة في النهار، رايتها فقط في المساءات، حين رايتها في النهار ظهر وجهها قبيحاً قباحة بشعة، ظهر بشكل مقزز من تحت طبقة الدهون والمساحيق الغامقة السميكة. المرأة الوحيدة التي رايتها في هذه الدنيا تضع مساحيق وجه بجمالية باهرة هي سوسن راضي، تضعها بلمسات فنية وتصنع من وجهها لوحة خلابة، مشرقة، خالية من الزوائد التزويقية بحيث تنمحي الحدود بين ما هو طبيعي وما هو اصطناعي لذا يتعذر اكتشاف اللون والقسمات الاصطناعية عن غيرها فتظهر خدود متوردة بلون التفاح ورموش سوداء نعسا وحاجبان أسودان على شكل قوس وفم شهي بحمرة دموية.داعبت يدي بأصابعها الحارة ذات يوم فارتعش كياني بحبور. سألتني:
-أليست لديك ميول أبوية ؟

استبدلت بذكاء هادئ مسالة "الإنجاب" ووضعت مكانها "ميول أبوية" قلت لها ضاحكاً:
هذه مرحلة تالية بعد المرحلة الأولى ...كيف يتسنى للمرء أن يفكر بالإنجاب قبل مرحلة الزواج ؟!
-أنا لا اقصد هذا، اقصد الميول والرغبات...
-بالتأكيد الميول والرغبات تأتي من وضع ما...
قاطعتني وهي تبرطم:
-لا. عند بعض الرجال والنساء يتحول الزواج إلى وسيلة للإنجاب، اعني تحقيق الميول الأبوية.
أتذكر آنذاك كانت ترتدي تنورة بلون باذنجاني مطرزة بأوراد صفراء كبيرة تنتمي لفصيلة عباد الشمس، تتهدل التنورة بشكل مخروطي فوق جسدها وتنتهي بنهاية مستدير وعريضة، كانت حين تتكلم تحاول توصيل أفكارها بتوتر. علقت على حديثها:
-إن صح هذا يا سوسن فهو ساذج، وهل تعتقدين أتحول في يوم من الأيام إلى هذا النوع من الرجال ؟!
شريط متهرئ انبش عنه في ذاكرتي لاستمع إليه برهافة، هو كل ماتبقى لي من الأشرطة الممتعة، بقية الأشرطة داكنة ومضجرة. كانت سوسن راضي مثل زخة مطر انهمرت ذات يوم في صحراء حياتي فاعشوشب. آه، مضت وخلفت شمساً حزيرانية لاهبة فوق كثبان جرداء لا يسكن فيها أي ابتهاج، استحضرها كلما أتعبني الهجير، تحضر مثل البرق، تحضر ذكرى ضاحكة بهيجة افرغ فيها آلامي وعذاباتي وتشرداتي.
هل أنا صرت خطيراً إلى درجة لا يكفون عن نسياني، لأي حدود وبأي معنى تشكل ألفاظي خطراً على صرح مؤسستهم التقليدي التليد، لماذا يصرون على مطاردتي بهذا العنف ؟ كل ما فعلته هو مجرد اختلاس أو سطو على ممتلكات الغير، استعمال بغير وجه حق لآليتهم الإنتاجية، آلية الطبع، أليست عقوبة ذلك هي : الطرد وتغريم الخسائر ؟! كلا. هي في نظر مديرهم المفوض عزيز شلال ليست كذلك، في نظره ما ترتب نتيجة الاختلاس والسطو، يسميها عزيز شلال: "النتيجة الأخلاقية". هنا بيت القصيد وهنا عقدة المطاردة، كيف لواحد مثل رشيد الهجري يخترق الجدران الإسمنتية لمؤسسة "الطاعة" وينتج مشروعه المحرض، كيف يخرج عن بيت الطاعة الثقافي وينتج ديوانه ذات المائة والخمسين صفحة دون رقابتهم، كيف يساهم في حملة إيقاظ الجنس البشري، انتزاعهم من حالات الترقيد، تغيير نظام حواسهم التقليدي، تعريتهم ليروا ابغض تشويهاتهم...من اجل ذلك صنع الهجري خطاباً تحريضياً ينبغي مطاردته...هذا تهويل مبالغ فيه يُراد منه مصادرة مشاعري لأنهم على دراية بان قصائدي ليست منبرية ولا يستسيغها عامة الناس...ذلك ملخص ما قلته لعزيز شلال أثناء تقديم استقالتي عن العمل، رفضها ببرودة قاتلة وهو يتمتم.



[ 13 ]



جاء فرج الناهي هذه المرة إلى شقتي وأخذني بسيارته الضخمة إلى مطعم" الامباسي" وهي مرة ثالثة نجلسُ فيها على نفس المقاعد أمام الواجهة الزجاجية العريضة اللامعة ونسبح تحت الأنوار الخافتة الزاخرة ونستمع إلى موسيقى تشرح الفؤاد. لا استطيع تحت الأنوار الذابلة فرز الملامح الجديدة لوجه فرج الناهي حتى أقيم مقارنة بين وجهه الضامر سابقاً ووجهه المتعافي الحاضر، إلا انه بدا وبصورة عامة رغم جمال ألفاظه فظاً لا يطاق. لأول مرة أراه يضع فوق رأسه كوفية ناصعة البياض فوقها عقال اسود رفيع فيه حزوزات دقيقة ويرتدي دشداشة بيضاء ناعمة تشبه رغوة صابون وتعبق من جسده رائحة مذهلة. بعد أن يأس من تحريضي على الكلام رفع ذراع كوفيته المثلث بحركة استعلائية تثير القرف ووضعه فوق كتفه بينما ظل ذراع كوفيته الأخرى سائبا على صدره. قال بنبرة مخلصة:
-خرج الأمر من يدي !
-أتعتقد أنهم ما زالوا يفكرون بأمري بصورة جدية ّ؟
ابتسم واخرج منديلاً ابيض مسح انفه:
-لقد أوضحت الأمر أكثر مما ينبغي وأنت تأخذ الأمور ببساطة كأنها أمور عادية !!
-إلى أي حد سيصل الأمر ؟
مسح انفه بالمنديل ثانية وتأملني مندهشاً ثم تحدث:
-إلى حد لا تتوقعه، إلى حد مداهمتك بطرق شتى، إذا لم يستطيعوا منك بالقانون فلديهم وسائلهم الخاصة، اعتبر كلامي إنذارا شديد اللهجة بصفتي محامي المؤسسة....عليك من الآن وصاعداً أن تواجه الموقف لوحدك، كل ما استطيع أن افعله من أجلك فعلته!!
-هل أنا أشكل خطراً ؟
سألته بسذاجة فأجاب دون تريث:
-يبدو لديك رغبة بأن تكون كذلك!
ربت على ظهري وتابع:
-أنت خطير بعض الشئ ولكن المهم هو ما تبقى فيك أما أن يفرغوك كلياً أو...
-يقتلونني !!
-كل شئ ممكن.
بقينا زهاء الربع ساعة بحالة صمت مطبق، لاحظت فقاعات صغيرة تطفو على نهاية شفتي فرج الناهي حين كان يتكلم تشبه تلك الفقاعات التي كانت تتكاثف حول شفتي مدرس اللغة في الثانوية، تذكرت نهاية انف المدرس المدببة حين تغدو في نهارات تشرين الباردة عبارة عن طفح جلي احمر مُنفر، يعالج الرشح الخارج من انفه بمنديل بال كثير الطيات. كان الأجدر أن لا يلطمني بدفتر أشعاري البكر، كان الأجدر أن يوقف نهمي للتوغل في دروب الاسئلات والحنونات،أن ويروضني بلطف، أن يخلع أنياب شراسة عقلي. حاول معي ذلك الشيخ الطرفي ولكن بمزاج عفن شهواني،يلوح لي وجهه مندرساً بين عمامة بيضاء ورقبة طويلة فيبدو كقدح "موطا". في الآونة الأخيرة راح يحرض وبشكل سافر ضد المدرسة الدينية المحتشمة، يتهم طلابها بالتجسس لدول أجنبية ويطلق عليهم عملاء. خرج عن طورهم الإلهي وسنتهم الروحية، جلبوه أقرباؤه صغيراً من مدينة"الفاو" وأطلقوه سائباً في الفضوة، عاش حياة مريرة، متشردة في الأزقة حتى اهتدى إلى عتبات المدرسة المقدسة، تسلقها درجة درجة ودخل الصرح السماوي المفضي إلى طريق شائك يُعطل رغبات الجسد، طريق النسك والورع والتطهر والتبحر في سنن الله والاجتهاد بشروحاتها،البسوه العمامة والجبة وقيدوه بالموجبات والضروريات. اضطربت روحه فانشق عليهم وخرج عن طورهم بتطرف شاذ وتصميم شره على شق الحياة بطفيلية بعيداً عن ماهية ما يرتدي وما يقرأ، غرز أقدامه في وحل الأرض رافضاً رغبات السماء، ضدهم كلهم، ضد الطلاب الأجانب، ضد فرج الناهي ودعواته الثورية، ضد مجون محسن فياض واباحيته. يقولها بصراحة: "أنا مع من يدفع لي نقداً، هربت من الله لأنه يدفع بالنسيئة". رغم إنهما-هو وفرج الناهي- لا يتقاربان ولا تهمهما مصالح مشتركة إلا إنهما في عداوة مستمرة وكراهية مفرطة، احدهما يحرض ضد الثاني. انتهى الشيخ الطرفي إلى أفواه النمل الأسود، وها هو الآخر يحدثني مسدلاً الستار على ماضيه كأنه في حالة هلع للدفاع عن وضعه المريح. قطع فرج الناهي صمتنا وسألني بحنان:
-أتحس بخوف يا رشيد ؟!
هززت راسي وأنا مضطرب:
-هل تستطيع مساعدتي على السفر إلى بيروت؟
-بعد الانتهاء من المعضلة...
-وقبلها، ألا يمكن؟
-هناك دوافع...
-إلى هذا القدر أنت مُخلص إلى مؤسستك؟!
لم يعلق بسرعة، وضع ساقاً على ساق واخرج مسبحة صغيرة ذات خرز سوداء ناعمة عليها نقط فضية وفي نهايتها سلسلة ذهبية صغيرة. فرَّ المسبحة قليلاً وقال:
-أنا أعيش حالة ميسورة، حالة بحبوحة، هذه الحالة تبعدني عن عوامل المجازفة والقلق، تجعل نفسي في وضع تكف فيه عن تذكر قسوة ماضيها وبشاعته.
صمت كمن يتذكر شيئاً ثم أضاف:
-الأغرب ما في الأمر إن أعداءك اللدودين في الماضي، اقصد رجال الأمن الأشداء يتجلون في يوم ما كأنهم أفضل من أي طبيب نفساني لمعالجة الهستيريا السياسية بما فيها من انحرافات وارتكاسات ينتج عنها تورط النفس في الغلو والتطرف...
استدار نحوي وتمعن بوجهي ملياً ثم استأنف:
-هذا يقوض النظرية القائلة بان العنف مصدر غير إنساني، بالعكس أنا أرى انه دواء ناجع في حالات كثيرة، خاصة الحالات المفرطة بالاندفاع، الحالات الميئوس منها.
- أتعتقد انك نلت حريتك بذلك؟
-دعك من هذا، الحرية وهمّْ، الشعراء المعاصرون مدمنون على التغني باسمه دون جدوى لأنهم يعشقون الحرية بخبال...
تابع بعد أن سوى عقاله:
-إذا وصلت إلى حالة البحبوحة عند ذاك تستطيع أن تشعر بسعادة دون الانتباه إلى مسالة الحرية، إلى مسالة كونك عبداً أو معبوداً.
صمت قليلاً ثم طقطق بمسبحته وتابع:
- رشيد، فتحت مؤسسة "المنار" لك أبواب المستقبل، عليك أن تنصاع...فقط تنصاع!
-رفع يده وأشار نحوي بغضب:
-انك مجرد أناني وناكر للجميل، لا تعرف ماذا تفعل، يهمك فقط أن تبني أمجادا كاذبة من الكلمات المُؤججة، تشعل الحرائق حولك وتتفرج!
حرك عنقه عدة مرات وصرخ:
-ارحم نفسك يا أخي!!
تحاشيت النظر إلى وجهه المزمجر، كانت نهاية أكمام دشداشته مزدانة بقرط ذهبي صغير بحجم حبة حمص يشبه أقراط الدكتورة سميرة. طلبت الدكتورة مني في آخر رسالة تفويضاً بجمع قصائدي الجديدة ونشرها في بيروت وأخبرتني بأنها عاكفة على وضع مقدمة لها وترجمتها إلى اللغة الفرنسية، تحرضني هذه المرأة على المزيد، تقول في رسالتها: " هنا تثير الإعجاب أيها الشاعر المستقبلي، اجمع الباحثون والنقاد على تسميتك بالأب الشرعي للقصيدة الجديدة"...خطابات هذه المرأة تشعل داخلي مشاعر القلق، تجعلني اهتز، تغمرني بأفراح لا مثيل لها. كفي عني يا أروع أستاذة في الدنيا. دعيني أتخلص من الخوف الذي أنا فيه:

[ كان الروم أمامي
و سوى الروم ورائي
***
مات مغني الأزهار البرية
مات مغني النارْ
مات مغني عربات الحرب الآشورية تحت الأسوارْ
***
ها انذا عاِر عُري سماء الصحراءِ
حزينٌ حُزنَ حصانٍ غجريٍ
مسكونٌ بالنارْ
وطني المنفى
منفاي الكلماتْ ]

نهض فرج الناهي بعدَّ أن سوى عقاله ثانية بيديه ثم تمطى ودق صدره، أحسست بإعياء ورغبة في الصياح.قلت له:

-ألا تشعر بقلق الضمير....

-لا.أنا دائماً أروض نفسي حتى على الحالات السيئات...ينبغي أن نتعايش يا أخي!!
عندما سقط ذراع كوفيته على صدره، أرجعه بخيلاء وبنفس الطريقة الأولى ثم نظر إلي بطرف عينيه وقال:
-مثلاً، هل أنا مقتنع ببعض الممارسات ؟!...أبدا لا إنما هي متطلبات ميكافيلية: الهدف يبرر الوسيلة.
تأمل المائدة قليلاً وتأمل راحة يده ثم قال بأسى:
- كنا أكباش فداء، لم يلتفت احدٌ إلينا عندما كنا أكباش فداء، لم ترقّْ قلوبهم لماساتنا، كانوا يستلذون بقهرنا وهواننا...
تأوه وتابع باكتئاب:
-أعطينا ما فيه الكفاية في الأزمنة الصعبة، واليوم عندما حصلنا على وضع السعادة بشق الأنفس جاءوا ليذكروننا بماضينا، يذرفون الدمع على نضالنا الذي كان!...لماذا هم يماطلون ولا يأخذون أدوارنا السابقة، ثق لا يسعهم إلا أن يرونا أكباش فداء !!
وقال بلهجة طيبة:
-راجع نفسك يا صديقي... أتظل كبشاً دون جدوى ؟!
راح الناهي يعبُّ من كأسه بإسراف، تغيرت ملامح وجهه الريانة وتكشفت وسط هالة الكوفية البيضاء ملامحه الممتقعة القديمة:
-لا فائدة... لا فائدة !!
رددَّ ذلك عدة مرات ثم عندما يأس مني قال بصوت حاد:
-أتعرف من كان وراءك لكي تصل إلى هذا الموقع ؟!
أشار بسبابته نحو صدره عدة مرات وهو يردد:
-أنا... أنا !!
ثم بغضب استأنف:
-كنت أتابع وضعك البائس من بعيد وأتألم وضعت كل ثقلي لكي أرشحك مديراً للمطبعة دون أن تدري...
تلفت هنا وهناك ثم تحسر وتابع:
-وإلا قل لي من يشتريك أو يشتري قصائدك بفلس احمر، وها أنت بكل بساطة تبصق على اليد التي امتدت إليك....
تركته يتمتم بنبرة ضئيلة الاتزان ورحت انظرُّ بانتشاء لساق امرأة ابيض بض يشبه قطعة مرمر صقيلة يظهر من أسفل غطاء المائدة القريبة، كانت المرأة الجميلة تتحدث مع صاحبتها بلهجة قاسية كأنها تدقق حسابات صعبة تتعلق بالجدوى الاقتصادية لمهاراتهن الليلية.












[ 14 ]







فتحتُ باب الشقة بلا اكتراث أو ارتباك ورأيت أمامي رجلاً نشيطاً، طويلاً يشبه هوائي السيارات،كلمني بصرامة وادعى انه من رجال مؤسسة "المنار" الأمنيين، استلمت منه استدعاء عاجلاً إلى المؤسسة بعد امتناعي من الذهاب إليها.
كان وضعي الصحي يزداد تردياً حيث تنتابني حمى قاتلة تشبه حمى "التيفوئيد"، أحس بصداع حاد وارتخاء في كافة أعضاء جسمي، يتساقط الشعر من راسي بكثافة كلما مررت أسنان المشط فوقه، بدأت شعرات جفوني وحاجبي هي الأخرى تتساقط، حضرتني صورة "المتنبي" متوعكاً في غمرات الحمى وهو ينشد بمرارة:
"أبنت الدهر عندي كل بنتٍ فكيف وصلتِ أنت من الزحامِ "
جرحتِ مجرحاً لم يبق فيه مكان للسيوف ولا السهامِ "
ذهبت في اليوم التالي إلى المؤسسة، وسالت موظف الاستعلامات في الطابق الأسفل عن سبب استدعائي، كان يرتدي سترة خضراء يشدها على جسمه النحيف بقوة ولان ربطة عنقه هي الأخرى مزخرفة باللون الأخضر فقد بدا لي يشبه طائر "أبو الخضير" صائد النحل. تمعن بوجهي للحظات وهو ينظف أسنانه بعود ثقاب ثم نهض من خلف مكتبه وقادني عِبر المصعد إلى الطابق الثالث، أشار لي بالانتظار في بهوٍ مستطيل وواسع لكنه دافئ:
-انتظر هنا ريثما ينتهي اجتماع مجلس الإدارة...
حدق بجدار البهو كأنه يراه لأول مرة ثم كرر دون تركيز:
-انتظر!
تركني جالسا ومضى. كانت جدران البهو بيضاء صقيلة مطلية بطلاء لامع حديث. كان فخري أمين يحلم بالصعود إلى هذا الطابق حيث مكاتب المستشارين والمحاسبين والقانونيين وذوي الاختصاصات الرفيعة المتنوعة، هنا الأركان الهامة لمؤسسة "المنار". لم أرَّ فخري أمين منذ مدة طويلة وبالصدفة رأيته من بعيد في "الباب الشرقي" رايته قاعداً على الرصيف مع صف طويل من الباعة، قاعداً فوق علبة حليب دائرية فارغة ويشدُّ يديه فوق ركبتيه، كان يتأمل أحذية المارة دون أن ينبس أسوة بالباعة المنادين لاجتذاب الناس إلى بضاعتهم، كانت بضاعته عبارة عن صف من الأحذية الجديدة رُتبت أفقيا فوق علبها الكارتونية، رايته بلحية خفيفة نبتت شعراتها المتفرقة عند منطقة الذقن حيث لا تنبت لفخري أمين لحية تامة رغم إلحاحه الجائر بحلاقتها، رايته هذه المرة بنصف لحية وبنطلون جينز مستعمل ونظرات شاردة حزينة، ابتعدتُ عنه ولم أحاول اقتحام وضعه البائس الذليل.
كان للبهو ثلاثُ منافذ مستطيلة مشرعة على الشارع وتقع قاعة الاجتماعات في الجهة المقابلة للمدخل، قاعة صماء لا تخرج منها أصوات أو أنفاس ولكن عندما فتح بابها باحترام مفرط رجل يحمل أقداح شاي فارغة، سمعتهم يتكلمون دون ضجيج، تخيلت أعقاب سجائرهم تتكوم بغزارة في النفاضات الأنيقة وتتصاعد من أفواههم وأنوفهم سحابات دخان كثيفة، أمس وقبل مجئ احد رجال امن المؤسسة الشبيه بهوائي السيارات ببضعة ساعات كانت صاحبة العقار قد جاءت ولم تضع على وجهها أي مسحوق سوى أن شعر رأسها الأسود دُهن بكثافة وان عينيها كُحلت بفجاجة فظهرتا كأنهما فكا نمل اسود، طالبتني بتسديد مبلغ الإيجار فوراً وان اخلي الشقة فوراً، قالت ذلك بصوت داعر خالٍ من الحياء والرأفة، تركتني أتلوى بجسمي المغمور بالحرارة والقشعريرة.
في نفس اليوم وبعد مجئ رجل التبليغات ذهبت على عجل إلى حانة "ليالي العذاب" وارتميت على احد مقاعدها المواجهة للشارع، لا ادري لماذا ارغب بالجلوس هنا وبإفراط، ربما لأنني عندما اخرج واقف عند الباب بضعة دقائق أحس باني موجود في مركز العاصمة، استنشق هواء بغداد كله دفعة واحدة، تكبر رئتاي ويكبر حجمي، أتهادى بأقصى حدود الطمأنينة نحو نصب "الحرية" أتمعن فيه لحظات ثم أستدير واقف تحته، لقد تمعنت فيه أكثر مما ينبغي حتى صار وشماً براسي. أعياني التفكير برواد الحانة المتكررين، اغلبهم ليسوا أسوياء، ليسوا أسوياء في عقولهم وميولهم الاجتماعية، مفرطون في شرابهم، متسكعون، متطفلون، لاعبو قمار ومراهنو سباق خيول وقطاع طرق ومتشردون، اغلبهم مُرقنة أدوارهم في الحياة ولدى كل واحد منهم ألف سبب لان يموت، لكنه لا يفعل ذلك ويغامر بالعيش !!....أنا مثلهم لم اعد سوياً، على الأقل في ضياعاتي وتشرداتي، أغوص مجنوناً إلى قاع البحر، التقط جوهرة تنخر عظام شبابي، لم اعد غير قصيدة مكتهلة فقدت سيولتها الحياتية. كنت أصغي لهم طيلة عمري، أصغي للبشر المعوجين والمستقيمين، أصغي للكتب والكائنات الفضة والكائنات الجميلة، وحين نطقت عزموا على تدمير مملكتي الشعرية الفاضلة:

[ لغتي صارت قنديلاً في باب الله، حياتي
فرت من بين يدي، صارت شكلاً والشكلُ
وجوداً.
فخذوا: تاج الشوك وسيفي
وخذوا: راحلتي،
قطرات المطر العالق في شَعرْي،
زهرةَ عباد الشمس الواضعةَ الخد على خدي،
تذكارات طفولة حبي،
كتبي، موتي
فسيبقى صوتي
قنديلاً في باب الله ]

حين كنا نجلس أنا وفرج الناهي قلت له دون حياء:
-أنت تحولت إلى نوع شرير !
أجاب بتهكم:
-لا. إلى نوع أفاق يحاول دون هوادة تعويض الخسائر، تعويض ما فاته من غنائم!
ثم وضح محامي مؤسسة "المنار" كلامه بدقة:
-كنا يا صاحبي نسير ُ إلى أهدافنا مثل خراف دون أن نلتفت إلى الوراء أو إلى هنا أم هناك، لم نلتفت إلى حياتنا وهي تنساب مثل ماء من بين أصابعنا، كان يعوزنا الكثير من المداهنة والكذب والانتهازية، كنا جسراً لعبور قوافل الأغبياء نحو الثراء والسطوة !!
راني احدُ الوجوه المتكررة في الحانة، راني معتصماً في وحدتي ألوك أفكاري، نهض من مكانه يتمايل ويمسك كأسه بيده، وضعه على طاولتي بلا استئذان وجلس على المقعد المقابل. ظل يبتسم بوجهه الشبيه بقطة معدن أثرية تستقر وسطه عينان غائمتان وانف كأنه مفتاح ماسورة مياه، بسطَ كفه أمامي كما لو أنها من الخشب ونطق بتوسل:
-أقرا كفي !
قلت له بعفوية جياشة:
[ الموتُ عرافُ المدينة
هادمُ اللذات
يعرفُ وحده
أين اختفى بستان عائشة
وفي أي العصور ]

لم يصغ إلي تماما، مالت رقبته وراح يغني أبيات شعر شعبية طاعنة في الألم ثم بدا يرقص بإيقاع هادئ مثل طائر ناشته حجارة طفل، يخفق بيديه على جنبيه ويدق الأرض برجليه ويهز رأسه.
منذ أمس ومنذ قدوم رجل امن المؤسسة اتخذت قراراً صارماً بوضع نفسي تحت تصرفهم ليفعلوا بي ما يشاءوا، علي أن انصاع، فرج الناهي هو الذي صنع بعضاً من خلايا رشيد الهجري، دسَّ في أيام الوعي الأولى بين طيات كتاب سلامة موسى وهو يرجعه إلي، دسَّ منشوراً سرياً يُعري أنظمة القهر ويحرض على مقاومة الاضطهاد البشري، اكتشف الناهي أخيرا رهاناته الفاشلة، أوقف على غفلة حربه من اجل كذبة أوغل في تصديقها وحمايتها من الافتراءات، كذبة أفشاها للناس بسرية على أنها حقيقة الحقائق: عدالة الأرض!!...هكذا بضربة سريعة انسحب وأنهى صراع الطبقات واكتفى بحل رخيص، أن يعيش ما تبقى من العمر برغد ونعيم "المنار".
هاأنذا أتماسك جيداً وأوقف نزيف عمري الذي تلعقه الكلاب، ادخل عن طيب خاطر حظيرة الناس المدجنين وانعم بوجبات لذيذة واشبع من نساء بضات، اقمع انتفضة روحي وأمزق كذبة أنا صنعتها من مخلفات كل الكذبات العالمية والمحلية، الكذبات المادية والمثالية، الكذبات السماوية والأرضية، وقدمتها لنفسي على طبق من نار، ينبغي الآن آن أنقذ روحي من هذا الحريق واتركها تُعال عليهم مثل قراد، اركل الحرية بقدمي مثل كرة خرقاء. كنت في البهو استعجل فض اجتماعهم لأمنح لحياتي رغوة شراب لذيذة فقد كان ريقي تيبيس وقفا راسي ينشطر. سمعتُ همس أقدام وجرجرة كراسي داخل قاعة الاجتماع ثم فتح الباب وتدفق منه رجال أنيقين ونساء متوردات تعبق منهم عطور منعشة، لم يلتفت احد منهم نحوي وأهملوني كفأر يُزدرى، ثم خرج رجل ومعه عاتكة الشيخ تحمل ملفاً احمر، خزرتني بامتعاض وشاورت الرجل الذي معها دون أن تستدير نحوي، خرجوا جميعا باستثناء عزيز شلال وفرج الناهي، استدعوني بنبل إلى داخل قاعة الاجتماعات، قدموا لي فنجان قهوة عطرة وقدح ماء بارد، انفرجت أسارير عزيز شلال لكنه كان متعباً بينما ظل فرج الناهي مطاطا الرأس دون حركة. كان عزيز شلال يجلس في مقدمة طاولة الاجتماع الطويلة وعلى جهة اليسار يجلس فرج الناهي بينما جلست أنا على يمين الطاولة. قال عزيز شلال:
-هل تريد سيجارة؟
قدم لي واحدة أنيقة وأشعلها بقداحة فضية ظل يحرك أبهامه على زنادها بتوتر:
-قررَّ مجلس إدارة المؤسسة بأغلبية ساحقة إعفاءك من المتعلقات المالية ومن العمل....
-يعني دون قيد أو شرط ؟!
سالت فأجابني عزيز شلال بابتسامة احتفالية:
-أبدا ...سرحناك من العمل دون قيد أو شرط.

* * *

ذهبت إلى البقال الارمني الذي يقابل عمارة سكني حيث كانت بضعة رسائل تصلني على عنوانه، سألته فيما إذا كان قد وصل بعض منها فنفى بودٍ، كان وجهه أليفا بلا شوارب ويرتدي معظم الوقت نفس قميصه القطني الأزرق الشبيه بقمصان الرهبان، شم وردة حمراء كانت بيده وقدمها لي بصمت ثم تلمس جبهتي بحنان وكان العرق يتصبب منها. ألمت بداخلي حالة كابوسيه مضنية، التبست علي الأشياء وتوارت عني الحقائق، لم اعد غير هيكل مرهق.
وصلت الفضوة في ساعة متأخرة من الليل وقد اشتد المطر، تركت كل حاجياتي في السكن وهربت، تركت أثمن ما عندي، تركت طناً من الكتب والأوراق أخمن بان صاحبة العقار سترميها مع كيل من الشتائم إلى النفايات، سيصنع البقالون منها حاويات ورق مخروطية تعبأ فيها البهارات والكرزات. وقفت وسط الفضوة تحت غزارة المطر الثلجي وصرخت:
-أضاعوني وأي فتى أضاعوا ؟!!
تطلعتُ نحو أفواه الأزقة وأنا ارتجف وتصطك أسناني من البرد، شعرت باضطراب عنيف، هذه ليست أفواه أزقة إنما هي أفواه شرسة لكائنات خرافية مسعورة، بقت بين فجوات أسنانها وذرٍ لحمية !!...تخلص محسن فياض من بطش الأزقة ونجاسات الناس، يشير إلى نفسه ويستغيث مذعوراً: خلصوني منها...تغوص أقدامه في مسجد "السهلة" ويهيم على وجهه شارداً، رهن روحه في محبس الغيب وأرجا سعادته إلى حياة رغيدة أخرى، سأتدفأ بأحضان خالتي صفية وارى بيت الذكرى، ذكرى سوسن راضي والدراجة الزرقاء، يا للأسى رحلت سوسن، جوهرتي الثمينة، ضيعتها !! ظلت رائحتها العبقة تمرُّ شهية في خاطري، ربما رحلت إلى البرية: "لا يدري احدٌ حتى الشيطان".
طرقتُ باب خالتي مرة ومرتين، طرقته عدة مرات بحدة: أين انتم يا ناس ؟! صرختُ بهلع، لم يكن في الداخل ثمة ضوء أو إشارة إلى أحياء يقطنون الدار، وضعت راسي على الباب خائراً، شممتُ من بين الشقوق رائحة طفولتي ورائحة صفية ورائحة الصوف الذي كانت تمشطه، تعثرت ُ وأنا اصعد درجات القبو، وجدت نفسي أكثر وهناً من أي وقت مضى، مشيت بالزقاق المنتهي بفناء البرية، ابتهل فؤادي حين رأيت أم سوسن من بعيد، هرعت نحوها:
-آه، خالتي أم سوسن...أين انتم ؟!
رمقتني بحسرة وابتسمت، كان وجهها شاحباً يحمل شفتان تشبهان لحمة ذاوية وقسمات تنم عن أحزان ثقيلة، تلفُّ جسدها بعباءة بالية مال لونها الأسود إلى الاصفرار وتسحب بقدميها نعلاً أسفنجيا متآكلا، سقطت من عيني أم سوسن دمعة كبيرة وهي تحدق بي باهتة:
-جُئت متأخرا يا رشيد !
سرت معها باتجاه المدرسة الدينية وعندما وصلنا باب المدرسة وجدناه مفتوحا على مصراعيه، كان الباب مغبراً ونقوشه مثلمة في حين كانت عتبته وإطاره ملطخين بمواد دهنية وبقايا قاذورات يابسة، وكانت اغلب الكتابات المقدسة في قوسه قد اندرست والذي تبقى منها ظهر مشوهاً تصعب قراءته. عرفت إن المدرسة الدينية انتقلت من هذا البناء، ظل البناء خاوياً، تبرج من حشمته السماوية ولم تعد تنبعث من فسحته روائح الكتب المقدسة وروائح أبدان الطلبة المتطهرين، كانت تنبعث منه روائح شنيعة ومقززة، خليط من روائح اليوريا والغوائط والثوم، لم يعد كما كان مدرسة رسالية بل هيكلاً نزلته عوائل مفككة وأشخاص واهنون مصابون بالعته وأمراض الصدر والجذام والشلل، صار هيكلاً يشبه حاوية نفايات بشرية لأناس فائضين عن سكان المعمورة.
تركتني أم سوسن خائباً اتكأ على إطار الباب وصعدت هي بسرعة الطابق الثاني من البناء، بقيتُ أتأمل مشهد الخراب البشري داخل فسحة البناء بقنوط: صغار بلا سراويل يزحفون فوق البلاطات، يتغوطون ويتبولون دون اكتراث، آخرون يتقافزون ويتراكضون حول حوض الماء الناشف وعلى حافته، بعضهم يتأرجح بالمواسير المعوجة أو بأجزائها المخلوعة، تحول الحوض المائي إلى خزان لقطع خشبية ومطاطية بائدة وأجزاء حديدية وقطع غيار سيارات تالفة صداة. رأيت طفلاً قرب الركام الحوضي يحتضن جزمة عسكرية هرمة مغبرة، يلاعبها ويلوك بجزئها الناتئ اللين، رأيت شباباً يسيرون دائخين مبتوري الأطراف، يسيرون بعكازات أو دون عكازات كأنهم فرقة عسكرية مهزومة، رأيت شابات منفوشات الشعر كأنهن ميتات يمشين بلا حمالات صدر، رأيت آخرين ينامون نومات عميقة لامين ركبهم إلى بطونهم وجاعلين من أذرعهم وسائد، رأيت قططاً تموء بخواء ودجاجات تقاقا بهلع وديكة تصرخ كأنها كلاب، رأيت جحافل الذباب والديدان تغزوا الأماكن، يبدو إن الناس هنا ليست لديهم أي نية في ترميم ما تبقى من حياتهم المهدمة. جاءتني صبية ضامرة الصدر والوجه وسألتني بلهجة قبيحة:
-هل تريد ترياقاً أصفهاني ؟
-لا!
-أتريد حشيشا من قندهار ؟
-لا!
-أتشتري أعضاء بشرية، لدينا كليات وقلوب، لدينا عيون...
كان وجها يشبه وجه ذبابة. صرخت بوجهها بشراسة:
-لا. لا...
-أتريد شيئاً آخر ؟!
قالت ذلك وهي تتغامز ثم ابتسمت ابتسامة رديئة، حكت أجزاء شعرها الشعثاء الخارجة من عصابة رأسها السوداء وولت لاوية عنقها، بقيت أتشبع برائحة اليوريا والثوم والبراز، تقدم نحوي صبي بعينين جائعتين محمرتين وفم يابس يندلع لسانه مثل قطعة شوندر حمراء، تأملني قليلا وناداني باسمي ثم أشار للحاق به، مشيت خلفه وصعدنا سلماً ضيقاً مسخماً ممتلئة درجاته بقشور خضروات يابسة وقطع خبز مغطاة بمستعمرات فطرية بيضاء. أشار الصبي إلى غرفة موارب بابها قليلاً وانصرف. عندما دخلت الغرفة وجدت سوسن راضي ممدة فوق أريكة ذات أغطية بالية ومبعثرة، كانت نصف مغمضة وشابكة يديها فوق بطنها المنتفخ بينما غطت ساقيها بعباءتها، رأيت في جانب من الغرفة امرأة عجوز تغط بنوم عميق ينام قربها ولد صغير تكشف ثوبه الأخضر المخطط عن أعضاء صغيرة صفراء ذابلة، كان الولد ينام مثل ميت إلا أن فمه مفتوح يرتاده الذباب دون عناء. وضعت يدي على جبين سوسن راضي فابتلت وشعرت بحرارة قاسية، مسحت شعرها، وكان شعرها خشناً ودبقاً ومبعثراً، ظلت شفتيها مطبقة وبدأت جفونها تنغلق تدريجياً ثم بعد لحظات أصبح وجهها مكفهراً، هبطت السلم وأنا اسأل نفسي:
-يا رشيد، اهو آخر ليل سوسني حزين تراه، أهي آخر أغنية تغنيها للإزهار ؟!!
لم اكترث بأسئلتي لان سعيراً حلَّ بي يشبه مخاض القصيدة، وخارج البناء راح المطر ينهمر بأقصاه وتشتت أصوات الكائنات وانحسرت أنفاسها، تخوفت من أن شيئاً ما سيحدث قريباً، قريباً جداً، نسيتُ أن اهدي وردة البقال الحمراء لسوسن راضي، أحسست بنبض الوردة مازال يدق داخل راحتي، قذفتها للمطر، ربما سيعم الكرة الأرضية انفلاق هائل وان الكائنات ستقع في مأزق التشويه الخلقي أو أن الكون برمته سيقع تحت طائلة عذاب اختلال أنظمته وقوانينه، خيل لي بان الجاذبية ستتعطل فترتطم الكواكب بعضها ببعض وتؤول الإنسانية إلى أبشع مصير عرفه التاريخ، تراءت لي أسراب نملات سوداء بحجم الفيلة متأهبة لالتهام أجسادنا برغبة عارمة، أسندت ظهري بإعياء على عمود الفضوة وعندما نظرتُ إلى الأعلى شاهدت جثة رشيد الهجري تتدلى من حبل مشدود بنهاية العمود المعقوفة.

* تنويه: أشعار الرواية مستعارة من ديوان الشاعر عبد الوهاب البياتي.

[email protected]






ـــــــــــــــــــــــــ
صدر للمؤلف:

الجذور رواية مطبعة النعمان 1972
الطيب عباس ..عباس الطيب رواية مطبعة النعمان 1973
الطيور رواية منشورات مجلة الثقافة/بغداد /1974
زينة رواية منشورات مجلة الثقافة/بغداد/ 1975
الثورة الدائمة في العصر الإسلامي الوسيط دراسة منشورات مجلة الثقافة1976
مقدمة في الايدولوجيا دراسة دار الطليعة/بيروت/1988




#مهدي_النجار (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الورقة الرابعة:المثقف الاشكالي بين نارين
- الورقة الثالثة/اسرار الكتب المسروقة
- الورقة الثانية:مدارات العتمة
- اوراق مستحيلة في زمن الخراب
- ابن رشد...ضياع الفرصة التاريخية
- الشورى والديمقراطية في الخطاب الاسلامي
- الثقافة العراقية وعنق الزجاجة
- الكيانات السياسية والمسالة الدينية
- الكتابات البرية
- العقل وخطأ السكين
- المازق الطائفي في العراق
- شاهد من ازمنة التزوير الثقافي
- الطبري :الاسطورة والتاريخ
- / كتاب شهر اذار/ كيف يمكن ان نعيش سويا ومختلفين
- القيم الذكورية في الذهنية الاسلامية
- اليهودي في الذهنية الاسلامية
- الكيانات السياسية والمعاطف الماكرة
- الف ليلة وليلة والحقبة الكسولة
- الحداثة ومازق الهويات
- السلطة في التاريخ الاسلامي


المزيد.....




- روحي فتوح: منظمة التحرير الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطي ...
- طرد السفير ووزير الثقافة الإيطالي من معرض تونس الدولي للكتاب ...
- الفيلم اليمني -المرهقون- يفوز بالجائزة الخاصة لمهرجان مالمو ...
- الغاوون,قصيدة عامية مصرية بعنوان (بُكى البنفسج) الشاعرة روض ...
- الغاوون,قصيدة عارفة للشاعر:علاء شعبان الخطيب تغنيها الفنانة( ...
- شغال مجاني.. رابط موقع ايجي بست EgyBest الأصلي 2024 لتحميل و ...
- في وداعها الأخير
- ماريو فارغاس يوسا وفردوسهُ الإيروسيُّ المفقود
- عوالم -جامع الفنا- في -إحدى عشرة حكاية من مراكش- للمغربي أني ...
- شعراء أرادوا أن يغيروا العالم


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مهدي النجار - الانهيار الحزين