أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سعيد ناشيد - اليسار و سؤال الإسلام في فرنسا















المزيد.....



اليسار و سؤال الإسلام في فرنسا


سعيد ناشيد

الحوار المتمدن-العدد: 1961 - 2007 / 6 / 29 - 11:40
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


يكتسي اليسار الفرنسي أهمية خاصة، من حيث إنه يمثل بالنسبة للفلسفة المعاصرة مجالا لممارساتها، واختبارا لفرضياتها؛ فبدءا من وجودية جان بول سارتر، مرورا ببنيوية لويس ألتوسير، وبحفريات مشيل فوكو، وانتهاء بتفكيكية جاك ديريدا، استطاع اليسار الفرنسي بكل مكوناته السياسية والاجتماعية، أن يحتل موقع الأكاديمية في قدرته على احتضان وتأطير الإنتاج الفلسفي، وفي تمكنه من زرع القلق الفلسفي داخل مجال الحركة السياسية والاجتماعية.

من بين أحضان هذا اليسار المشاكس، نشأت حركات اجتماعية مكنت الفلاسفة من صياغة أسئلة جديدة وجذرية، ومن إعادة توجيه حركة الفكر، وممكنات التاريخ، نحو آفاق مغايرة. وحركة ماي 68، هي واحدة من تلك الحركات التي وإن خمدت شرارتها بشكل مبكر، وأخفقت في تحقيق أهدافها، فإنها مع ذلك، قد راكمت أسئلة لا زالت عالقة، ورسخت قلقا مانفك يقض المضاجع و يستفز الأذهان؛ قد يكون هو ذات القلق الذي أعد الأجواء لظهور حركة اجتماعية جديدة مؤخرا، بحيث أعادت فتح ممكنات العالم الراهن، على عالم آخر ممكن، وحررت الخيال السياسي من حتمية الكائن؛ إنها حركة العولمة البديلة ( )

انبثقت حركة العولمة البديلة، في بادئ الأمر، من خلال الأفكار التأسيسية، والاقتراحات التنظيمية التي ساهم بها اليسار الجذري في فرنسا بنحو حاسم، ومن المعلوم أن أشهر فلاسفة فرنسا قد انضموا إلى هذه الحركة، وأعلنوا مساندتهم ودعمهم لها، ومن بين هؤلاء يمكن أن نذكر؛ جاك ديريدا (قبيل وفاته)، جان بودريار، ألان كريش، دانيال بنسعيد....الخ. كذلك احتضنت فرنسا سنة 1998 ميلاد منظمة أطاك ATTAC بمبادرة من هيئة تحرير جريدة لوموند ديبلوماتيك، وهي المنظمة التي أصبحت، في ما بعد، تعد من بين أقوى مكونات حركة العولمة البديلة.

ولقد تمكنت حركة العولمة البديلة، خلال ظرف وجيز، من الانتشار في معظم أنحاء العالم، وأن تبدع أشكالا نضالية جديدة، وترسخ تقاليد تنظيمية من قبيل المنتدى الاجتماعي العالمي، الذي جرت دورته الأولى سنة 2001 في بورتو إليغري بالبرازيل. وبذلك تمكنت هذه الحركة من أن تكون لنفسها قدرة استقطابية ملفتة، بحيث أصبح هناك من لا يتردد في أن يصطلح عليها بالقطب الآخر في عالم وحيد القطب.

في أعقاب تداعيات الحادي عشر من شتنبر، كان على اليسار، سواء في فرنسا، أو في بقية العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية، أن يجد لنفسه موقفا متوازنا من الإرهاب، وكذا من الحرب على الإرهاب، وهو موقف لا يمكن أن يكون إلا ثمرة نقاش هادئ، وتحليل عميق، على أن فرنسا لم تكن هي الفضاء المناسب الذي يتيح فرصة إثارة مثل ذلك النقاش، إذ فيها انفجر النقاش حول القضايا المتعلقة بالإسلام، وهو ما سيزيد من ارتباك حركة العولمة البديلة، الشيء الذي جعل الكثيرين ينتظرون إعلان الحركة عن انسحابها من الساحة الدولية، وبذلك يتبدد الحلم بإمكانية تحدي القطب الواحد.

إن طرح السؤال في فرنسا عن الموقف من الحجاب، لم يأت من وجهة نظر حماية العلمانية فحسب، أو الدفاع عنها، وإنما طرح السؤال بحمولة جديدة فرضها مناخ ما بعد واقعة الحادي عشر من شتنبر، إذ كان السؤال الذي طرحته فرنسا على نفسها هو؛ هل يضمر الحجاب غزوا إسلاميا يزحف على فرنسا، وبالتالي يسعى لمحاصرتها عبر أحزمة الضواحي؟

إن الحكومة الفرنسية حسمت الجواب بالتأكيد على وجود خطر إسلامي يتهدد فرنسا، وهو تأكيد تضمنه تقرير لجنة ستازي( سبق ذكره) الذي حدد هذا الخطر في النزعة الطائفية التي يرمز إليها الحجاب، ثم بعد ذلك جاء الكتاب الأبيض الذي وضعته الحكومة الفرنسية حول موضوع الإرهاب( سبق ذكره)، مؤكدا هو الآخر على وجود خطر إسلامي يواجه فرنسا في أمنها، في استقرارها، وفي مستقبلها، إنه، حسب الكتاب الأبيض، خطر لا يمكن لفرنسا أن تواجهه بمفردها، فلا بد من تعاون دولي، وهي صيغة تفيد في أنه لا بد من الالتحاق بفيالق الحرب المفتوحة على الإرهاب.

لكن، ما هي الحجج التي استند عليها الكتاب الأبيض لتبرير زعمه القائل بأن:" فرنسا هي هدف رئيسي للإرهاب داخل أوروبا "؟

مرة أخرى، يتبين كيف يمكن لتصرف أو سلوك، مهما صغر شأنه، وكيفما كان حجمه، أن يصير دليلا كافيا على النوايا العدوانية التي تستهدف فرنسا، طالما أنه ليست هناك من الأفعال ما يمكن أن يستهدفها واقعيا وعمليا، إلا أنه ربما يكون الكتاب الأبيض قد استفاد من الثقافة الإسلامية، واستعار من روحها:" النية أبلغ من العمل" !!.

هكذا يتضمن الكتاب الأبيض رصدا كرونولوجيا للتهديدات التي سبق أن تعرضت لها فرنسا منذ عام 1998 إلى عام 2006، لكن أية مضامين لهذه التهديدات؟ وهل ترقى إلى مستوى الخطر الحقيقي الذي يمكن أن يتهدد أمن فرنسا كما يلوح بذلك الكتاب الأبيض ؟.

لنقارب السؤال بعيدا عن العموميات، وبغض الطرف عن كل ما طبع الكتاب الأبيض من تعويم، ولنتساءل حول قيمة الأحداث المحكية، وحول أهمية الوقائع المروية؛ فحين يتلقى سفير فرنسا، الذي يقيم فوق أشبه ما يكون بمقبرة جماعية اسمها العراق، بعض التهديدات غير المحددة أصلا، فهل يكون ذلك كافيا لاستنتاج حكم يقطع بصدق القول، بأن فرنسا مهددة من طرف الإرهاب العالمي؟

ثم، حين يصرح ابن لادن عبر إحدى الصحف الباكستانية يوم 8 ماي 1998، أنه يهدد بضرب القواعد العسكرية الأجنبية في دول الخليج، وتكون جيبوتي من بين الدول التي تحتوي على قاعدة عسكرية فرنسية، ومع أنها ليست من دول الخليج، إلا أن ذلك لم يمنع الكتاب الأبيض من أن يستنتج من التصريح، بأن فرنسا مهددة من طرف الإرهاب العالمي؛ ألا يمكن أن يكون ذلك مدعاة للشك والريبة في تلك المزاعم؟ وهل في وجود جماعة تهدد بالاعتداء على سفارة روسيا في باريس، من دليل يجزم بما لا يدع مجالا للشك، بوجود خطر إسلامي يتهدد قيم الجمهورية الفرنسية؟ !.

لكن، لماذا كل هذا الإصرار من طرف الحكومة الفرنسية على بعث مناخ موبوء بالخوف لدى المواطنين الفرنسيين، من وجود خطر إسلامي داهم يتهددهم ويتهدد جمهوريتهم؟

وفي الواقع، إن ما ترغب فيه الحكومة الفرنسية من وراء ذلك، هو إعداد المناخ الداخلي الملائم للقبول بانخراط فرنسا، بعد لحظة تردد وممانعة، في جبهة الحرب الأمريكية على الإرهاب، وهي في سبيل ذلك، عملت على تعبيد الطريق للدخول في تلك الحرب، وقامت بإجراءات عملية نذكر منها؛ الانضمام إلى الحملة العسكرية في أفغانستان، إدراج المنظمات الوطنية الفلسطينية والمقاومة في جنوب لبنان ضمن لائحة المنظمات الإرهابية، والإبقاء على السفير الفرنسي في العراق سفيرا لدى الاحتلال، ينضاف إلى ذلك رفض استقبال أي وفد عن الحكومة الفلسطينية المنتخبة.

وموازاة مع ما يبدو كما لو أنه تغير جذري في الموقف الفرنسي من الحرب الأمريكية على الإرهاب، كانت الدولة الفرنسية أمام مهمة أخرى رئيسية، تتعلق هذه المهمة بالعمل على ترويض اليسار وحركة العولمة البديلة، حتى تنخرط جمعها في قبول هذا التحول، ولكي يتحقق ذلك، كان لابد وأن يقتنع اليسار الفرنسي، وإلى جانبه حركة العولمة البديلة، بوجود خطر إسلامي عارم محدق بالجمهورية الفرنسية !! .

فإلى أي حد تحقق هذا الهدف ؟

مع اندلاع الحرب العربية الإسرائيلية السادسة في صيف 2006، التي اشتعلت بين حزب الله اللبناني وجيش الاحتلال الإسرائيلي، صار من الصعب على المهتم أن يجد في الإعلام الفرنسي أي موقف آخر عدا المواقف الداعمة لما سمي حينها بحق إسرائيل في الرد، ويقصد بذلك، حق إسرائيل في الرد على اختطاف جنديين إسرائيليين، ولو بشن حرب إبادة جماعية في حق الشعب اللبناني، وبهدم البيوت على رؤوس من فيها من النساء والأطفال، و إذا ما تصفحنا الإعلام الفرنسي اليساري، أو المقرب من حركة العولمة البديلة، فسنجد بأن أسبوعية بولتيس كانت في عطلة، وأن شهرية لوموند ديبلوماتيك غيبت في افتتاحياتها الحديث عن موضوع الحرب، لتأخذ في الكلام عن المكسيك، هذا في حين أن جريدة لوموند التي يرى فيها الكثير من القراء مجد الصحافة اليسارية الفرنسية، فقد حظيت بتنظيم جنازة رمزية في حقها، نظمها متظاهرون في قلب العاصمة الفرنسية باريس، تعبيرا منهم عن إعلان وفاة إحدى أهم منابر اليسار الفرنسي، بعد أن اختارت الانحياز الكامل لإسرائيل.

هكذا يغدو السؤال التالي مبررا: ألم ينحرف إذن، اليسار الفرنسي ومعه حركة العولمة البديلة في اتجاه الانحياز إلى المشروع الأمريكي للمحافظين الجدد؟

سبق للصحفية اليسارية كارولين فوريست، أن كتبت تقول:" كشفت حدة النقاشات بين أنصار ومعارضي قانون منع الرموز الدينية في المدرسة العمومية، عن عمق الخلافات بين اليساريين، حول الموقف من الخطر الإسلامي." (1).

إن مثل هذا الصراع الداخلي، لم تسلم منه كذلك، حركة العولمة البديلة، فقد أمكن للفيلسوف الفرنسي دانيال بنسعيد أن يوجز الموقف على النحو التالي:" أمست حركة العولمة البديلة منذ 11 شتنبر، تعاني من خطر الانقسام، بل، إن الأمر يتعلق بحرب أهلية تدور رحاها داخل اليسار." (2).

وفي غمرة هذا الصراع، جاء التحاق المفكر السويسري طارق رمضان بحركة العولمة البديلة – وهو مفكر ينعت بالإسلامي التقدمي – ليضاعف من حدة السجال حول وجود خطر إسلامي، فخلال عام 2003، أصدر طارق رمضان مقالات تحت عنوان " تحدي التعددية " (3)، دعا من خلالها بقية الرفاق في حركة العولمة البديلة، إلى الانفتاح على المنظمات والجمعيات والمؤسسات الإسلامية، انطلاقا من إعمال مبدإ " التعددية الثقافية والدينية "، و قد حاول في كتاب أصدره في نفس السنة، أن يقوم بمبادرة اجتهادية تبين إلى أي حد يمكن ملاءمة قيم الإسلام، مع القيم الأخلاقية، الإنسانية والبيئية لحركة العولمة البديلة. (4).

وقد جاء الرد على طارق رمضان من طرف الرئيس الشرفي لمنظمة أطاك ATTAC برنارد كاصن Bernard Cassen، في عدد لاحق من نفس الأسبوعية يؤكد فيه، بأن حركة العولمة البديلة تمارس التعددية بالفعل، وهي ليست هنا في حاجة لمن يذكرها بذلك، و يستدل على ذلك بكون منظمة أطاك، التي هي من أبرز منظمات حركة العولمة البديلة، موجودة في العالم الإسلامي أيضا، و يذكر كمثال على ذلك كلا من المغرب وتونس (5).

ونحن لسنا في حاجة، هنا، للتأكيد بأن حركة أطاك غير موجودة بالفعل في المغرب من الناحية التنظيمية، وإن كانت متواجدة في شخص أفراد لازالوا عاجزين منذ محاولاتهم التأسيسية الأولى سنة 2000، عن إحداث أية هياكل تنظيمية، ولا نخال الوضع في تونس أفضل حالا منه في المغرب، ومع ذلك، فمن العبث أن نتحدث عن التعددية لمجرد التواجد كأفراد، أو بمجرد الوجود التنظيمي في مختلف الدول؛ فالأحزاب الشيوعية مثلا، التي تنتمي إلى الأممية الشيوعية قبل انهيارها، كانت هي الأخرى موجودة في معظم دول العالم، إلا أنها لم تكن تؤمن بمبدإ التعددية، ولذلك، لم يكن يتم الحديث عنها كحركة تعددية. على أن ما يقصده طارق رمضان بالتعددية، هو أبعد من مجرد تواجد تنظيمي ببعض الدول الإسلامية، أو تواجد لبعض المسلمين أو من ذوي الأصول الإسلامية داخل حركة العولمة البديلة. ولعلنا سنسمح لأنفسنا، هنا، ببعض التوضيح لما حاول طارق رمضان تفادي توضيحه درءا لإثارة بعض النعرات. لنبين إذن، ما أومأ إليه من دون أن يفصح عنه:

إننا حين نتحدث عن حركة العولمة البديلة، فإننا نتحدث عموما، عن منظمات تجتمع حول قيم أخلاقية وإنسانية وبيئية مشتركة، وإن كانت جميعها تتبنى مبدأ الحرية الدينية، إلا أنها لا تتبنى في معظمها مبدأ العلمانية، علما بأن المجموعات التروتسكية، وهي من أنشط مجموعات حركة العولمة البديلة، تتهم العلمانية الفرنسية بالعنصرية. وإذا كانت منظمة مثل أطاك ATTAC تتبنى العلمانية وفق التقليد الفرنسي، فإنها تقوم بذلك جنبا إلى جنب مع منظمات يسارية تؤمن بالحرية الدينية بدل العلمانية، وكذا مع منظمات مسيحية تتقاسم معها نفس المبادئ والخيارات، سيما وأن بورتو أليغري التي احتضنت الدورات الأولى للمنتدى الاجتماعي العالمي، قد شهدت هي الأخرى أولى تجارب العمل الميداني المشترك بين قوى اليسار، ورجال الدين المؤمنين بأن الحرب على الفقر هي أيضا حرب مقدسة.

إن الرغبة في تعميم روح بورتو أليغري جعلت حركة العولمة البديلة تنفتح على تجارب منظمات مسيحية، تؤمن بأن الرسالة الإلهية الحقيقية، هي رسالة العمل على محاربة الفقر، والمحافظة على البيئة، ومساعدة المواطنين على امتلاك مصيرهم، ومن بين المنظمات المسيحية التي توجد ضمن حركة العولمة البديلة، نجد ما يسمى بالمجالس المسيحية للعولمة Assises chrétiennes de la mondialisation (ACM )، يتعلق الأمر هنا، بشبكة من المنظمات المسيحية المنتمية إلى حركة العولمة البديلة، وهي تضم عددا من المنظمات المسيحية، والجمعيات المسيحية من قبيل اللجنة الكاثوليكية ضد الفقر ومن أجل التنمية، والكونفدرالية الفرنسية للعمال المسيحيين، والإنجاد الكاثوليكي....الخ.

والواقع أن ما كان يريده طارق رمضان، ليس أكثر من مجرد رغبة في انفتاح حركة العولمة البديلة بدورها، على منظمات وجمعيات ومؤسسات إسلامية تنشغل هي الأخرى بمجالات الفقر والتضامن والبيئة والرعاية الاجتماعية، علما بأن هناك عددا من الفعاليات الدينية الإسلامية التي لا تختلف أهدافها عن أهداف القوى اليسارية والتقدمية.

عقب صدور كتابات طارق رمضان، تراوحت مواقف اليسار الفرنسي، ومعه حركة العولمة البديلة، بين مؤيد ومندد، على أنه أمام قوة الموقف المعارض، لم يبق من اختيار لطارق رمضان سوى الانسحاب من الساحة الإعلامية والنضالية الفرنسية، ليجد بعد ذلك أفضل عزاء له في احتضانه من طرف الدولة البريطانية، بعد أن عينه رئيس الوزراء طوني بلير ضمن مستشاريه.

ومن بين أبرز وأشهر المؤيدين لطارق رمضان، نجد الفيلسوف الفرنسي ألان كريش الذي لم يخف إعجابه به، إذ اعتبر بأن أتباعه يلتقون مع معظم أهداف العولمة البديلة (6)، كما نعته كاتب افتتاحيات أسبوعية بولتيس، دنيس سيفر Denis Sieffert، بالفيلسوف الذي امتلك شجاعة تأويل النصوص الإسلامية المقدسة بما يجعلها تتلاءم مع برنامج النضال السياسي لحركة العولمة البديلة. (7)

ومن جهة أخرى، ففي مقابل هذه المواقف المؤيدة والمساندة، ثمة مواقف أخرى معارضة وشاجبة، استقطبت وجهة نظر الأغلبية، سواء من داخل اليمين، أو من داخل اليسار نفسه، وفي هذا الصدد، انتقد الرئيس الشرفي لحركة أطاك، برنارد كاصن، السيد طارق رمضان واصفا إياه بذلك " الحيوان الإعلامي " الذي يسعى جاهدا إلى " أسلمة أوروبا "، ومع ما في هذا النقد من حدة وتجن، فإننا نجد، في نفس الاتجاه، كارولين فوريست، قد وصلت في نقدها إلى أبعد من ذلك، فكيف لا وهي تعد نموذجا لتدهور قيم اليسار الفرنسي، وانتكاسة لبعض رموز العولمة البديلة أمام المشروع الأمريكي الذي وضع معالمه الأساسية المحافظون الجدد، فكيف جاء موقف الداعية اليسارية كارولين فوريست من مسألة الخطر الإسلامي؟

لنفترض في بادئ الأمر، بأن الذين لعبوا الدور الحاسم في صياغة الكتاب الأبيض للحكومة الفرنسية حول الإرهاب، قد انتبهوا إلى مضمون كتاب " النزعة الظلامية " لكارولين فوريست (8)، قد نتأكد من صحة هذا الافتراض حين نخوض في التفاصيل، لكن إذا اكتفينا بالجانب الشكلي فقط، لا شك أن إحدى أقوى الإشارات التي تميل إلى تأكيد صحة هذه الفرضية، هي قيام البرلمان الفرنسي بشراكة مع مؤسسة أخرى بالعمل على منح جائزة الكتاب السياسي لعام 2006، لذلك الكتاب " النزعة الظلامية ".

أما مضمون الكتاب، فمن شأنه أن يؤكد ذلك الارتباط الوثيق بين خلفية الكاتب، ومضمون الكتاب الأبيض الذي وضعته حكومة يمينية تشكلت عام 2002، فعن هذه السنة تقول كارولين في كتابها:" في بداية عام 2002، بدأت فرنسا تنتبه إلى حجم المخاطر المرتبطة بالنزعة الطائفية الدينية" (9)، فما الذي تعنيه سنة 2002 بالنسبة لفرنسا؟.

صحيح أننا حين نتحدث عن سنة 2002، فإننا بمعنى عام، نتحدث عن عالم ما بعد الحادي عشر من شتنبر، وتعني سنة 2002 أيضا بالنسبة لفرنسا، بداية دورة جديدة؛ ففي تلك السنة، وخلال الدور الأول من الانتخابات الرئاسية، حل الزعيم اليميني المتطرف جان ماري لوبين في المرتبة الثانية بعد جاك شيراك، فمرا معا إلى الدور الثاني، في حين أقصي الزعيم الاشتراكي الان جوسبان، الذي اكتفى بدعوة الناخبين إلى التصويت على شيراك، من أجل تفادي الأسوأ.

على أنه في مساء يوم الأحد 21 ماي 2002، واحتجاجا على النتائج المفاجئة لهذه الانتخابات، خرج عشرات الآلاف من الفرنسيين بالعديد من المدن الفرنسية بدعوة من تيارات يسارية، من بينها الرابطة الشيوعية الثورية، ودعاة حماية البيئة، وبمشاركة من مئات المتحدرين من الهجرة، ضد ما أفرزته نتائج الدور الأول من الانتخابات الرئاسية، إلا أن ذلك الشيء الذي تدعي كارولين فوريست أن فرنسا وقتها قد انتبهت إليه، لم يكن هو الحدث الانتخابي الذي يتعلق بصعود اليمين المتطرف والمعادي للمهاجرين، وإنما – بحسب كارولين- الشيء الذي انتبهت إليه فرنسا وقتها، هو وجود التطرف الديني الإسلامي (!!) ، وبذلك يكون البهلوان قد نجح في حجز مقعد للوحش بين المتفرجين.

اتخذت لنفسها كارولين فوريست أسلوبا في الاستدلال يدعو إلى الاستغراب، فمن ذلك أنها تقول:" في بداية سنة 2002، بدأت فرنسا تنتبه إلى حجم المخاطر المرتبطة بالنزعة الطائفية الدينية؛ إذ ثمة من النساء من ترفضن أن يفحصهن طبيب ذكر، بدعوى " الحشمة الإسلامية "، وهناك تلميذات تنتفضن لدى سماعهن الحديث عن فولتير، أو عند التطرق إلى نظرية التطور..." (10).

إذن ليس خطر اليمين المتطرف بزعامة لوبين، هو ما هدد مستقبل الجمهورية خلال الانتخابات الرئاسية لعام 2002، ولم يكن هو ما جعل الفرنسيين يدقون ناقوس الخطر، ويتحدثون عن أزمة الديمقراطية التمثيلية، وعن أزمة الجمهورية الخامسة، وإنما الذي هز أركان الجمهورية في تلك السنة، وارتج له كيانها بعد أن شكل خطرا عليها، لم يكن أكثر من مجرد بعض النسوة اللواتي ترفضن أن يفحص فروجهن طبيب ذكر... !! ، فأي منطق يسند هذا الاستدلال الغريب؟ وهل لدى كارولين من فكرة حول العلاقة بين الأمراض التناسلية والعلمانية؟ !!

وفي كل الأحوال، فمن سوء حظ البهلوان، أن أطباء فرنسيين يعترفون بوجود عدد كبير من النساء الفرنسيات، البيضاوات، المتحررات، وهن بالطبع من غير المتحجبات، ترفضن الكشف عن أعضائهن التناسلية لأطباء ذكور (11)، فهل يفعلن ذلك تحت تأثير " الحشمة العلمانية" أيضا !! ؟ أم أن الأمر هنا يتعلق بحق أساسي من حقوق المريض، وهو الحق في اختيار المريض لمن يعالجه من بين الأطباء، إنه بالتأكيد، حق لا علاقة له بالعلمانية، لكن، لماذا يتم تغييب هذا الحق فقط، حين يتعلق الأمر بمريضة تضع ثوبا على رأسها؟.

في سياق السجال الذي تشهده فرنسا اليوم حول العلمانية، يبدو وكأن كل شيء أصبح قابلا للتوظيف: فامرأة ترفض أن يفحصها طبيب ذكر، أو تلميذة تجادل في فولتير... كل ذلك وغيره، أضحى بمثابة دليل للجزم على أن التطرف الإسلامي محدق بفرنسا ما في ذلك أي شك !!.

وهكذا تعمل الداعية اليسارية فوريست على مهاجمة بعض تيارات اليسار، وبشكل أساسي، تلك التيارات التي لا تتوافق مع مزاجها، ولا مع نمط استدلالها وطريقة تفكيرها، وهي تصطلح عليها باليسار العالمثالثي، أو اليسار المستند إلى تجربة مواجهة الاستعمار، في مقابل اليسار المناهض للكليانية، والمستند إلى حقبة مواجهة النازية (12)، إنها تهاجم الفيلسوف الفرنسي ألان كريش، تهاجم مدير شبكة فولتير ثييري ميسان، تهاجم الفيلسوف التروتسكي دانيال بنسعيد، من غير أن تنسى هوايتها المفضلة، المتمثلة في الثبات على نفس الخط الذي يطبع هجومها على طارق رمضان، واتهامه بالتآمر على أوروبا، بإقامته لعلاقات مع حركة إخوان المسلمين، كل هذه الأحكام والاتهامات وغيرها كثير، هي خلاصات مستنبطة من نتائج منطقها الاستدلالي ذي الطابع الغرائبي، وهذه بعض النماذج لهذا المنطق نقتطفها من كتاب كارولين السالف الذكر مع تعليق مقتضب جدا:

" يستند طارق رمضان إلى يوسف القرضاوي " ( ص:75 )، هذه حقيقة، بالنسبة لصاحبة الكتاب، تابثة لا تحتاج إلى دليل أو برهان (كدا)!.

" يستند الداعية القرضاوي إلى حركة الإخوان المسلمين " ( ص:131 )، لا يسعنا بعد هذا الاستنتاج إلا أن نتساءل عن من الذي يحق له أن يستند على الآخر؟ !.

" إذن ثمة علاقة بين طارق رمضان والإخوان المسلمين، بل إن رمضان هو سفير الإسلام، وسفير الإخوان المسلمين في الغرب " ( ص:125)،

تبعا لهذا الاستنتاج، فثمة إذن، تواطؤ بين الإخوان المسلمين، وبعض أنصار العولمة البديلة ممن تسميهم كارولين فوريست " الأغبياء الضروريون " ( ص:105 )

والظاهر أن لدى السيدة كارولين فوريست من الحجج والإثباتات ما به تسند هذه النتيجة " المنطقية !! "؛ فأثناء الإعداد للمنتدى الاجتماعي الأوروبي بلندن، خلال أكتوبر 2004، راجت، أو هناك من روج لإشاعة تفيد بأن عمدة المدينة، وهو يساري، قد استدعى الداعية الإسلامي يوسف القرضاوي لزيارة المنتدى، ومع أن الخبر لم يكن أكثر من مجرد إشاعة بهدف إثارة بعض المشاكل، أو لاستفزاز بعض الأطراف وإثارة نقاشات هامشية، إلا أن فوريست أبت وبإصرار، إلا وأن تستنتج من التعاطي مع هذه الإشاعة، بأن هناك من كان ينوي، أو يتمنى لو يشارك القرضاوي في المنتدى ( ص:131 و 132 ).

ونحن لا ندري إن كان الأمر هنا يتعلق بمجرد تمارين منطقية للتهافت، أو" لتهافت التهافت"، بيد أن الواجب يحتم علينا أن نعيد التذكير بأن فوز الكتاب " النزعة الظلامية "، بجائزة الكتاب السياسي لعام 2006، يؤكد مرة أخرى، ما وصل إليه الفكر من ترهل، ومستوى النقاش من تدن في مدينة عرفت بعاصمة الأنوار، ولا شك أن النجومية التي تتمتع بها اليوم الداعية اليسارية كارولين فوريست في وسائل الإعلام الفرنسية، تشكل خير تعبير عن مستوى الانزياح الذي أصاب الفكر والثقافة بفرنسا.

ولقد وصل الأمر بفوريست إلى أن تضع الداعية الإسلامي يوسف القرضاوي، كعنوان إضافي لما تعتبره خطرا إسلاميا على أوروبا، وهي تستدل على ذلك بقول للقرضاوي، حسب زعمها، ما لم تقدم سندا تدعم به قولها، أو تحيله إلى مرجع أو مصدر يكسبه قدرا من الشرعية، وفي غياب ذلك، يعتبر هذا الزعم خرقا سافرا لأبسط شروط النزاهة العلمية؛ ومما جاء في كتابها أن القرضاوي قال:" لقد دخل الإسلام إلى أوروبا مرتين، وخرج منها مرتين...وربما سيتحقق الغزو القادم عن طريق الدعوة والإيديولوجيا." (ص:151).

لسنا ندري أي منطق هذا الذي يسمح لنا بالقول بأن الإسلام قد خرج بالفعل من أوروبا، وبأن أوروبا هي اليوم من دون إسلام ولا مسلمين، كما أننا لا ندري إن كان هناك من عالم دين في الإسلام، يجرؤ على اعتبار الدعوة شكلا من أشكال الأيديولوجيا، ومع ذلك، فلعل السؤال الذي يلقي بظلاله الكثيفة علينا، هو؛ ماذا يضير المناضل اليساري في أن ينتشر الإسلام أو أن ينحسر؟ وإذا كانت دعوة عالم دين إلى الإسلام موجهة للناس في أوروبا أو خارج أوروبا، من شأنها أن تثير قلق وغضب فورست وأمثالها ممن يتبنون نفس التفكير ويشجعون عليه، فلماذا لا يفعلون نفس الشيء حينما يتعلق الأمر بالحملات التبشيرية المسيحية، وهي التي تبدو أكثر فاعلية في قدرتها على الانتشار، بل وعلى استقطاب الأتباع، ولا أحد يجهل اليوم، أن الحملات التبشيرية المسيحية أصبحت تغزو مختلف أرجاء العالم، بما في ذلك العراق وأفغانستان، بحيث تستثمر وتستغل مختلف المآسي الإنسانية وأكثرها فظاعة، لتجديد ثقة المقهورين في خلاص جديد، دون أن ننسى ما يجري في الضواحي الفرنسية حيث تنشط الحملات المسيحية، سيما البروتستانتية، بكثافة ملحوظة، وهي بذلك تملأ فراغا لم تعمل على ملئه المنظمات اليسارية الفرنسية، ولا حتى الإسلام المتطرف كان بمقدوره أن يغطي ذلك الفراغ .









هوامش الفصل الرابع

(1) Caroline Fourest, la tentation obscurantiste, Grasset, 2005, p ; 75.
(2) rttp: lcr 18free.fr/breve_php3? id-breve=303
(3) Tariq Ramadan, politis, 19 juin 2003.
(4) tariq Ramadan, les musulmans d’occident,Sindibad , 2003.
(5) Bernard Cassen, politis, 10 juillet 2003.
(6) L’humanité, 3 décembre 2003.
(7) Denis Sieffert, politis, 13 février 2003.
(8) Caroline Fourest, la tentation obscurantiste, Grasset, 2005
(9) ibid., p ; 75.
(10)ibid, p ; 75.
(11) Alain Gresch, l’islam, la république et le monde, Fayard, 2004 ? p.323et324
(12) Caroline fourest, la tentation obscurantiste, Grasset, 2005, p. 48.





#سعيد_ناشيد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المسألة الدينية عند نيكولا ساركوزي
- الجريمة بتفويض إلهي


المزيد.....




- فيديو كلاب ضالة في مدرج مطار.. الجزائر أم العراق؟
- الناتو يقرر تزويد أوكرانيا بمزيد من أنظمة الدفاع الجوي
- طهران: لا أضرار عقب الهجوم الإسرائيلي
- آبل تسحب تطبيقات من متجرها الافتراضي بناء على طلب من السلطات ...
- RT ترصد الدمار الذي طال مستشفى الأمل
- نجم فرنسا يأفل في إفريقيا
- البيت الأبيض: توريدات الأسلحة لأوكرانيا ستستأنف فورا بعد مصا ...
- إشكال كبير بين لبنانيين وسوريين في بيروت والجيش اللبناني يتد ...
- تونس.. الزيارة السنوية لكنيس الغريبة في جربة ستكون محدودة بس ...
- مصر.. شقيقتان تحتالان على 1000 فتاة والمبالغ تصل إلى 300 ملي ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سعيد ناشيد - اليسار و سؤال الإسلام في فرنسا