أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سعيد ناشيد - المسألة الدينية عند نيكولا ساركوزي















المزيد.....


المسألة الدينية عند نيكولا ساركوزي


سعيد ناشيد

الحوار المتمدن-العدد: 1959 - 2007 / 6 / 27 - 06:31
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


1 – رجل محترم وأفكار مخيفة :
منذ بدء الحملة الانتخابية والتي أوصلت نيكولا ساركوزي إلى رئاسة الجمهورية الفرنسية، أصدر الحزب الاشتراكي الفرنسي كتابا، وزعه على نطاق واسع ونشره في موقعه الإلكتروني، وذلك أملا في توسيع دائرة النقاش حول أفكار ساركوزي، وكيف أنها تمثل تهديدا لقيم الجمهورية الفرنسية.
يبلغ الكتاب الأبيض حول ساركوزي حوالي 140 صفحة من الحجم المتوسط، ويحمل عنوان : "القطائع المزعجة للسيد ساركوزي"، وقد اختار مؤلفوه أن يفتتحوه منذ البداية بسؤال صادم وصريح : "هل فرنسا مستعدة للتصويت في 2007، على محافظ جديد يحمل جواز سفر فرنسي ؟". الآن بعد ظهور النتائج يحق لنا أن نتساءل حول إذا كانت فرنسا قد فعلتها !
إن صياغة السؤال من طرف الحزب الإشتراكي الفرنسي بلغة استنكارية يكشف أمرا بالغ الأهمية، وهو أن فوز نيكولا ساركوزي في الرئاسات الفرنسية بدا منذ افتتاح الحملة الانتخابية بمثابة الاحتمال الأقوى.
وأخيرا، وكما أكدت جميع التوقعات، فاز نيكولا ساركوزي في الانتخابات الرئاسة الفرنسية ليوم 6 ماي 2007، وكان فوزه ساحقا.
إنه الحزن، الإخفاق، الإحباط... هذا صعب؛ بمثل هذه الكلمات حاولت يومية ليبراسيون، في افتتاحيتها لليوم الموالي، أن تبسط مشاعرها وتصف مشاعر آلاف اليساريين الفرنسيين "أننا حزينون"، هكذا جاء تعبير قائد انتفاضة ماي 68 في مقال وقعه مع اخرين في نفس العدد من ليبراسيون... إلا أن ذلك الإحساس بالخيبة والأ لم لم يمنع اليومية من أن تحيي المستوى الحضاري والمحترم الذي ساد أجواء الحملة الانتخابية، وهو اعتراف يحسب ضمنيا لفائدة المنافس الأقوى في الرئاسات الفرنسية. ثم أن معظم وسائل الإعلام قد حيت ما اعتبرته مصالحة الفرنسيين مع السياسة من خلال نسبة المشاركة التي بلغت في الدور الثاني حوالي 86 %.
أحد أبرز قادة الحزب الاشتراكي الفرنسي، دومنيك ستراوس كان، وصف النتيجة بأنها إخفاق خطير جدا، معظم الحركات اليسارية دعت إلى تنظيم الصفوف من أجل مقاومة أفكار لن تتأخر قبل أن تدخل إلى حيز التنفيذ، الحزب الشيوعي الفرنسي، والذي شهد تراجعا كبيرا خلال هذه الانتخابات وجه هو الآخر نفس الدعوة، وذلك فعلت شهرية لوموند ديبلوماتيك في افتتاحية عدد يونيو 2007 اليسار إلى تنظيم صفوف من أجل المقاومة، بيزانسينو ذلك الزعيم التروتسكي الشاب (33 سنة)، والذي خاض هو الآخر غمار المنافسات الرئاسية، وجه نفس الدعوة إلى اليسار الفرنسي... ومنذ الآن بدأت تتشكل حركة المناهضة ساركوزي بنحو لم يسبق له مثيل في تاريخ نتائج الرئاسيات الفرنسية.
عدا كل هذا، فإن الأمر، بالنسبة لنيكولا ساركوزي، يتعلق بتحقيق حلم جميل، حلم نسج خيوط صاحبه منذ عمر طويل، لم تعوزه في ذلك الحنكة ولا خذله الصبر والقدرة على مغالبة الإحباط والإخفاق، ولعل في ذلك عبرة من رجل تثير أفكاره الخوف والانزعاج، لكن شخصيته تظل جديرة بالاحترام.
عرف الرجل اخفاقات حادة، وعلى أكثر من مستوى سياسي وشخصي، فلقد ذاق مرارة الهزيمة والاخفاق في الانتخابات الأوروبية لعام 1999، حين تزعم لائحة التجمع من أجل الجمهورية، ولم يحصل إلا على نسبة ضئيلة من الأصوات. تكالب عليه أنصار الرئيس جاك شيراك من أجل التخلص منه، ثارت عليه الضواحي وهو وزير للداخلية، وقبل اسبوع واحد عن الاستفتاء الفرنسي على الدستور الأوروبي، تلقى الرجل صفعة مؤلمة من زوجته سيسيليا. فبعد أن ساعدته على النجاح، باعترافه، وقربته من الهدف، تخلت عنه في لحظة نزوة مفاجئة، ورحلت إلى نيويرك من أجل رجل آخر.
تجربة سبق أن قاسى مثلها منذ الطفولة، عندما تخلى عنه أبوه رفقة أمه واثنين من إخوته، لذلك نتفهم الرجل حين كان يردد في بعض لقاءاته الإذاعية عبارة : أن الحياة صعبة.
ربما هذا الجراح المتكررة هي ما يرتسم في عينين غائرتين وغارقتين في حزن قديم، إنها أيضا الجراح التي أومأ إليها في خطابه الافتتاحي لحملته الانتخابية يوم 14 يناير 2007، حين تم تعيينه رسميا من طرف حزبه، الاتحاد من أجل حركة شعبية، مرشحا لللانتخابات الرئاسية، فلقد وقف بكل ثقة في النفس ليعترف بأنه قد خبر الفشل، عرف الإخفاق وعاش التمزق، وليؤكد بعد ذلك بأنه لا يمكن لمن لم يعرف مثل ذلك أن يمد يديه لمن يعاني من ذلك.
اتهمه خصومه بأن الرجل الذي أخفق في المحافظة على قلب زوجته لن يقو على استمالة الفرنسيين، لكن الرجل فعلها.
اتهموه بأن الرجل الذي حضي بتعاطف الإدارة الأمريكية لن يقو على استمالة ناخبي اليمين الفرنسي المتطرف، لكنه فعلها.
اتهموه بأن الرجل الذي بدا شرسا في مواجهة انتفاضة الضواحي، سيفتقد إلى لباقة هزم امرأة جميلة مثل سيغولين رويال، لكنه فعلها.
هذا الرجل إذن يستحق الاحترام، لكن مشروعه الفكري يستدعي الحذر والمقاومة.
2 – المعادلة الإيديولوجية الصعبة :
بالرغم من المظهر البرغماتي الذي حاول المحافظة عليه طيلة الحملة الانتخابية، إلا أن مفتاح قوته شعبيته يتمثل في قدرته على حل معادلة إيديولوجية صعبة تتمثل في التوليف بين نقيضين أساسيين : فمن جهة أولى، نجده قد وظف أهم هواجس خطاب اليمين الفرنسي المتطرف القومية والشعبوية، ومن جهة ثانية فإننا نجده مسايرا لمتطلبات العولمة الرأسمالية والمتمثلة في تراجع دولة السيادة الوطنية.
لقد نجح ساركوزي في استمالة ناخبي اليمين الفرنسي المتطرف، من غير أن يقدم أي تنازل في مستوى إيمانه بالمثل والقيم الأمريكية، وبذلك استطاع أن يقدم نموذجا لجان ماري لوبين الجديد والمتحرر من عقدة العداء لأمريكا.
في أول كلمة ألقاها عقب إعلان فوزه، بادر نيكولا ساركوزي إلى بعث رسالة إلى الإدارة الأمريكية، مفادها أن الولايات المتحدة الأمريكية بإمكانها أن تعول على صداقة فرنسا، ولم يكن في المقابل مفاجئا أن تأتيه أول تهنئة من واشنطن بالذات.
وهنا لنا أن نتذكر كيف أن أن ساركوزي لم ينخرط في الحملة الفرنسية، والتي تزعمها جاك شيراك، ضد الحرب الأمريكية على العراق، بل أنه أنه لم يكن يخف تأييده لتلك الحرب، وأن حاول في إحدى المرات أن يبدو في صداقته لأمريكا نزيها بعض الشيء، حين انتقذ أسلوب إعدام صدام حسين، في مقالة اختار أن ينشرها في يومية لوموند (3 يناير 2007)، بيد أن عنوان المقالة كاف لإظهار ما لم يقله، فحين يحمل المقال عنوان : إعدام صدام حسين خطأ (une faute) ، فهذا يعني أنه ليس جريمة، وأن الحرب ليست خطأ.
لا يقف مشروع ساركوزي فقط عند حدود التطبيع السياسي مع الإدارة الأمريكية، وذلك عقب مرحلة قصيرة من الحرب الباردة الجديدة بين واشنطن بوش وباريس شيراك، وإنما نجد أن مشروع الرجل لا يجانب فلسلفة المحافظين الجدد واليمين الديني في الولايات المتحدة الأمريكية، وأنه بذلك بمثل حالة انقلاب على تقاليد اليمين الفرنسي، منذ ديغول إلى شيراك، مرورا بجسكار ديستان.
بعد اختيارها لنيكولا ساركوزي، يبدو أن فرنسا مقبلة على تحولات حذرية، وهي التحولات التي تثير منذ الآن حماسة من احتفلوا بفوزه، كما تثير مخاوف وغضب من احتجوا على انتخابه. ويبدو الأمر بالنسبة لجميع أطياف اليسار وكأنه يتعلق بصدمة ماي 2002 ثانية، وذلك حين تمكن زعيم اليمين الفرنسي المتطرف من الإطاحة بالمرشح الاشتراكي وقتها، ليونيل جوسبان، خلال الدورة الأولى للرئاسيات.
إن لوبين، الأمريكي هذه المرة، هو الذي أطاح بالمرشحة الاشتراكية.
3 – التغيير قد يقوده اليمين أحيانا :
لزمن طويل، ظل التغيير عنوانا بارزا لبرنامج اليسار، ومطلبا أساسيا للحركات الاجتماعية اليسارية، في حين لم يبرح اليمين المنافحة عن الثوابت الوطنية والهوية القومية، وأما مع ساركوزي فلعل الأمر يتعلق بنمط جديد من اليمين.
إذا كان اليسار واليسار الجذري في فرنسا قد رفع، منذ صدمة انتخابات ماي 2002، شعار تغيير اليسار من أجل تغيير الجمهورية (يمكن العودة إلى أرشيف أسبوعية بولتيس خلال هذه المرحلة)، فربما يكون ساركوزي قد نجح في إقحام المطلب اليساري للتغيير ضمن عناصر معادلته، وبذلك تمكن إلى حد بعيد في أن يظهر بمظهر رجل المرحلة.
مع ساركوزي، نجح اليمين في الانتقال من موقع الدفاع التقليدي عن النموذج الجمهوري الفرنسي إلى موقع الهجوم على أنصار المحافظة على ذلك النموذج، وهو بالتأكيد يعرف كيف يغلف كلامه بغلاف يبدو تحرريا، فقد وقف في خطاب 14 يناير 2007 ليقول : "الجمهورية ليست ديانة، الجمهورية ليست عقيدة، الجمهورية مشروع لا يكتمل أبدا".
بيد أننا سنرى بعد حين، كيف أن الرجل الذي يدعو إلى عدم التعامل مع الجمهورية كدين جامد، هو نفسه الذي يدعو إلى انفتاح الجمهورية على الدين والمؤسسات الدينية، فالعلمانية يقول ليست طابوها.
يمثل نيكولا ساركوزي تغييرا جذريا داخل تقاليد اليمين الفرنسي، وانقلابا على الخط الديغولي، أنه يريد أن يغير فرنسا، هذا ما ظل يردده بلا هوادة طيلة حملته الانتخابية، وهو ما صرح به بوضوح في اختتام مناظرته الشهيرة مع منافسته سيغولين روايال، يوم 2 ماي 2007، وذلك حين قال : "أريد أن أصنع في فرنسا نفس التغييرات التي صنعتها دول أخرى". لم يفصح عن أي الدول يتحدث، لكن المقصود معلوم بالنسبة لرجل فضل في سياق حملته الانتخابية أن يزور الولايات المتحدة الأمريكية، ويستقبل من طرف رئيسها المؤمن بالله والمسيح.
4 – رجل قوي وامرأة جميلة :
خلال مناظرة 2 ماي 2007، والتي تقابل فيها ساركوزي وروايال، بدا أن الرجل الذي اصطلحت عليه الإدارة الأمريكية برجل فرنسا القوي، قد نجح إلى حد بعيد في أن يظهر بمظهر أقل عدوانية من امرأة يسارية وجميلة مثل سيغولين رويال، أظهر شخصية واثقة من نفسها وهو ينتقي جملا تأكيدية وإثباتية، في المقابل، فإن رويال افتتحت ما يكاد يقارب نصف مداخلاتها بأدوات النفي : لا، ليس ...إلخ، وهو الأمر الذي أظهرها وكأنها تنطلق من أطروحات مضادة من دون أن تمتلك لنفسها أصالة أطروحات معينة، ومن ثمة فإنها كرست الانطباع الذي طالما ساد خلال الحملة الانتخابية، والذي يرى بأن ساركوزي حظي بموقع محور السجال السياسي والمنافسة الانتخابية.
لم تنته المناظرة من دون نقط لصالح ساركوزي، سيما حين اتهمته رويال بالكذب وانعدام الأخلاق، ولم تفلح في الالتفاف على غضبتها، وبالجملة فقد أفلح ساركوزي في تعطيل آخر أسلحة امرأة كتن يجب أن يبدو أكثر لطفا واحتراما من وزير الداخلية السابق.
لا ندري إن كانت رويال هي الشخص المناسب، داخل الحزب الاشتراكي الفرنسي، لاستدراج ساركوزي إلى ساحة المنازلة الفكرية، على الأقل لتنكشف مكامن الخطر في مشروعه، ذلك أن وراء المظهر البرغماتي الذي اكتساه ساركوزي، هناك فرضيات إيديوليوجية وعقدية لا يمكننا أن نغفلها متى أردنا أن نتبين معالم التغيير الذي ظل يحلم به ساركوزي لفرنسا. وبإمكاني أن أعرض أربعة نماذج أساسية لتصريحات تستند إلى مرجعيات إيديولوجية وخلفيات عقدية، كان لابد من مواجهتها ومواجهة الرجل بها :
1- فالرجل سبق له أن صرح بأن الانتحار والاعتداء الجنسي على الأطفال هما من السلوك المرتبط بالحتمية الجينية للأفراد الذين يقومون بتلك الأفعال.
2- سبق له أن صرح بأن قانون 1905 حول العلمانية في فرنسا ليس طابوها، ودعا إلى التراجع عن مبدأ عدم تمويل الدولة للمؤسسات الدينية.
3- كان ساركوزي من أبرز الداعين إلى ضرورة تضمين مشروع الدستور الأوروبي، في ديباجته، الإشارة إلى الإرث الديني الأوروبي.
4- ساهم بقوة في إخراج المجلس الفرنسي للعقيدة الإسلامية إلى الوجود وهو مجلس سيمثل المسلمين على أساس ديني وطائفي، وليس على أساس المواطنة ،المساواة والعيش المشترك.
لقد كان نيكولا ساركوزي طيلة الحملة الانتخابية في موقف إيديولوجي مريح، أو على الأقل أن منافسة الأبرز، لم تنازعه فيما يثير الانزعاج والقلق داخل مشروعه، في حين أن اليسار الجذري، هو نفسه، يتقاطع مع أهم أفكار ساركوزي حول المسألة الدينية وحقوق الأقليات، فضلا عن مقولة الحتمية البيولوجية التي يتبناها معظم أنصار الحق في الزواج المثلي.
إن كان ساركوزي قد بدا خلال الحملة الانتخابية من دون منافسة إيديولوجية تذكر، فإنه لم ينس مراعاة الجوانب الشكلية، وهي أكثر الجوانب التي راهنت عليها منافسة الأبرز.
انطلق التحدي على مستوى الشكل من خلال الخطاب الشهير الذي ألقاه ساركوزي يوم 14 يناير 2007، وهو الخطاب الذي أثار جدلا واسعا في مستوى الإخراج والديكور.
في المقابل، كانت سيغولين رويال تحظى هي الأخرى بنوع آخر من الإخراج، وإن على مستوى المظهر الجمالي في الذات والجسد.
تذكرنا تسريحة الشعر والتنورة بنساء سنوات الخمسين، الستين والسبعين، وهي السنوات التي تتسم في ذاكرة أوروبا بسنوات الثلاثين المجيدة، سنوات دولة الرعاية والخدمات الاجتماعية، ومرحلة قوة الطبقة المتوسطة في الغرب.
لكن امرأة فرنسا الجميلة حاولت أيضا أن تظهر بمظهر أخلاقي محافظ، لذلك فإنها لم تكن تتردد في التذكير بأنها أيضا أم لأربعة أطفال، كما فعلت في ختام مناظرتها الشهيرة مع ساركوزي.
5 – جمهورية ساركوزي :
حين نتحدث عن نيكولا ساركوزي، فإننا لا نتحدث عن مجرد رئيس يميني، على نمط اليمين الذي اعتادت عليه فرنسا منذ مطلع الجمهورية الخامسة، وإنما يتعلق الأمر بمدرسة جديدة تريد أن تغير اليمين الفرنسي من أجل أن يقود عملية تغيير الجمهورية.
لم يتوان رجل فرنسا القوي عن ترديد : "لقد تغيرت"، كلمة رددها في خطاب 14 يناير 2007 أكثر من عشر مرات، أعاد قولها بعبارات مختلفة ولغة نافذة، لأنه بالذات أراد أن يقتنع الفرنسيين بأن فرنسا التي يجب عليها أن تتغير، لا يمكن أن يقودها إلى التغيير إلا رجل عرف كيف يتغير، وكيف يصنع التغيير لنفسه أولا.
لكن إلى أين يريد ساركوزي أن يقود التغيير ؟
هنا بالذات ننتقل من الجوانب المحترمة من شخصية ساركوزي إلى الجوانب المخيفة في أفكاره، فالرجل يمثل أيضا تهديدا بالنسبة لأهم قيم الجمهورية الفرنسية والمنحدرة من الثورة الفرنسية ومن فلسلفة الأنوار.
إذا كان الدستور الفرنسي يقر منذ بنده الأول بأن "فرنسا جمهورية غير قابلة للتجزيء، وهي علمانية، ديمقراطية واجتماعية"، فإن المشروع الفكري لنيكولا ساركوزي يمثل تهديدا لجميع هذه المفاهيم.
بيد أننا نكتفي هنا بالمفهومين الأولين، طالما لهما علاقة بموضوع المسألة الدينية، وهما مفهوم عدم القابلية للتجزيء، ومفهوم العلمانية.
1 – عدم القابلية للتجزيء :
يتعلق الأمر هنا ببند ظل ثابتا في جميع الدساتير الفرنسية منذ قيام الثورة الفرنسية، أنه أيضا مبدأ متجذر في الفقه الدستوري الفرنسي وداخل الفلسفة السياسية الفرنسية منذ عصر الأنوار، فلقد سبق لجان جاك روسو أن كتب يقول : "ان ما يجعل السيادة غير قابلة للاستيلاب هو نفسه ما يجعلها غير قابلة للتجزيء، ذلك لأن الإرادة إما أن تكون عامة، أو لا تكون عامة، إما أن تعبر عن جسد الشعب، أو أن تعبر عن جزء منه فقط، وفي الحالة الأولى تكون هذه الإرادة المعلنة تعبيرا عن السيادة، وهي بالتالي تصنع القانون، وأما في الحالة الثانية، فإنها لا تكون أكثر من إرادة جزئية" J. Jacques Rousseau, du contrat social, collections classiques de la philosophie, Paris 1992, p 62.
فإلى أي حد تمثل أفكار ساركوزي خطرا على مبدأ عدم قابلية الجمهورية للتجزيء ؟
يعد ساركوزي رجلا يعرف ماذا يريد، لكن الأهم أنه يعرف كيف يقول، فهو يريد أن يستبدل النموذج الجمهوري الفرنسي القائم على مبدأ المساواة بين المواطنين بالنموذج الأمريكي القائم على أساس التنوع العرقي والطائفي وحقوق الأقليات، لكنه يعرف كيف يقول، إذ أنه يصرح بأن الجمهورية ليست ديانة، بمعنى أنها يمكن تغييرها. وبدل أن يقول بأنه يريد للمسلمين أن يشكلوا طائفة ثقافية ذات إرادة خاصة في فرنسا، فإنه يقول بأنه يريد اسلاما فرنسيا بدلا من إسلام في فرنسا، ولأنه يريد التراجع عن العلمانية فإنه يقول بأن الدولة يجب عليها أن تمول المساجد بدل أن تترك تمويلها للمتطرفين وللدول المنتجة للتطرف.
2 – العلمانية :
كتب ساركوزي في إحدى أشهر كتبه يقول : "هناك حاجة ملحة لبناء بيعات، كنائس ومساجد في الضواحي، ففي نظري على قدر أهمية بناء قاعات للرياضة في المجالات الحضرية الكبرى، من الأهمية بمكان إنشاء أماكن للعبادة".
Nicolas Sarkozy, la République, les religions et l espérance, cerf 2004, p 130.
يعتبر ساركوزي صريحا في الدعوة إلى التراجع عن مفهوم العلمانية كما عرفته الجمهورية الفرنسية منذ عام 1905، لقد تحدث خلال الحملة الانتخابية عن "أزمة النموذج الجمهوري"، بيد أنه يؤكد بأن الأزمة هي قبل كل شيء أخلاقية (خطاب 14 يناير 2007)، وأن الأزمة الأخلاقية هي في الأصل أزمة روحية ناجمة عن انسحاب الدين، الممارسة والمؤسسات الدينيتين عن الحياة العامة، كتب يقول : "لا يمكننا أن نربي الشباب بالاستناد فقط إلى القيم الزمنية، المادية أو حتى الجمهورية (...) ذلك أن قيم الجمهورية لا يمكنها أن تجيبنا عن جميع أسئلتنا ولا أن تلبي كل حاجياتنا" (نفس المرجع السابق، ص 163).
جمهورية ساركوزي هي جمهورية تعيد الإعتبار للدين و للمؤسسات الدينية ، جمهورية تمنح للسلطة الدينية وظيفة سياسية بالغة الأهمية ، وظيفة تتعلق بتحقيق الأمن و الإطمئنان الروحيين ، إنه شرط أساسي فيما يراه ساركوزي لتحقيق الأمن و الإستقرار الإجتماعيين ، و هو ما يعني بالنسبة إلينا عودة إلى الجدل المقلوب ، بل إلى ما قبله بقرون عديدة.
ليس بوسع الجمهورية، حسب بعض تصريحات ساركوزي، الإحاطة بكل الأبعاد الروحية للمواطنين ، و لا بإمكانها أن تجيبهم عن كافة أسئلتهم الوجودية ، و هي أسئلة تتعلق بمعنى الحياة و هواجس الموت ، لذلك لا يمل الرجل و لا يكل من الحديث عن أزمة الفراغ الروحي كلما أتيحت له فرصة الحديث عن ذلك، و هو حديث عزيز على الأصوليات الدينية، إذ صرح في إحدى حواراته يقول:
"لا يمكن للإنسان أن يحدد نفسه من خلال العدم ، إنه لا يقو على غض الطرف عن السؤال ؛ من أين جاء و إلى أين يسير ؟" l expresse , 1 novembre 2004.
و هنا يحق لنا أن نسأل ساركوزي عن أي دور سيبقى للفلسفة، إذا كان الدين مدعوا إلى تحرير المواطنين من كل قلق وجودي قد يزعج طمأنينتهم ؟
ان ملاحظة ساركوزي حول قصور القيم الزمنية، المادية أو الجمهورية، على ملء الفراغ الروحي و تخليص الناس من قلقهم، تفتح الباب على مصراعيه أمام عودة نظرية الحق الإلهي إلى الديار الفرنسية بعد أن غابت عنها منذ نجاح الثورة الفرنسية.
فهل ثمة هدف اخر للمحافظين الجدد و الموالين لليمين الإسرائيلي المتطرف،ومن بينهم نيكولا ساركوزي، أهم من تعميم نموذج دولة إسرائيل القائم على أساس الجمع بين الإنتخابات الديمقراطية و نظرية الحق الإلهي؟
لقد سبق للمحافظين الجدد أن تمكنوا من التخلص من مكتسبات الثورة البولشفية ، و هي ثاني ثورة شعبية في العصر الحديث بعد الثورة الفرنسية ، فهل هم يتجهون اليوم نحو التخلص من مكتسبات أول ثورة شعبية في العصر الحديث؟
كل شيء يتوقف على قدرة الحركات الإجتماعية الفرنسية و نخب التنوير على تنظيم المقاومة التي وعدوا بها.

صدر للباحث مؤلفان ***
الفلسفة و ظاهرة الإرهاب العالمي
اليسار الفرنسسي و الإسلام



#سعيد_ناشيد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الجريمة بتفويض إلهي


المزيد.....




- هل أصبحت أميركا أكثر علمانية؟
- اتفرج الآن على حزورة مع الأمورة…استقبل تردد قناة طيور الجنة ...
- خلال اتصال مع نائبة بايدن.. الرئيس الإسرائيلي يشدد على معارض ...
- تونس.. وزير الشؤون الدينية يقرر إطلاق اسم -غزة- على جامع بكل ...
- “toyor al janah” استقبل الآن التردد الجديد لقناة طيور الجنة ...
- فريق سيف الإسلام القذافي السياسي: نستغرب صمت السفارات الغربي ...
- المقاومة الإسلامية في لبنان تستهدف مواقع العدو وتحقق إصابات ...
- “العيال الفرحة مش سايعاهم” .. تردد قناة طيور الجنة الجديد بج ...
- الأوقاف الإسلامية في فلسطين: 219 مستوطنا اقتحموا المسجد الأق ...
- أول أيام -الفصح اليهودي-.. القدس ثكنة عسكرية ومستوطنون يقتحم ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سعيد ناشيد - المسألة الدينية عند نيكولا ساركوزي