مقام الحبّ - لقد أتى الإنسان إلى هذه الدنيا لكي يحبّ!
شاهر أحمد نصر
الحوار المتمدن
-
العدد: 8503 - 2025 / 10 / 22 - 15:13
المحور:
الادب والفن
غالباً ما يسأل المرء نفسه: ما الذي أتى بي إلى دنيانا هذه؟ ولماذا؟ وما الذي يسوّد جانباً من حياتنا، ويُعكّرها بكلّ هذا الظلام؟
ما النور، وما الظلام؟ ما الليل وما النهار؟ لِمَ الظلّ ظلّ؟ ومن أين يأتي كلّ هذا الظلّم، والظلام؟
ما الذي يدفع ذلك الغبار ليتراقص في نوافذ حياتنا المشرّعة، ولا نراه في ظلّ جدارها المظلم؟
هل ثمّة قيمة لكلّ ما هو موجود من غير وجودنا؟ وما السبيل للنجاة والخلاص من هول الظلّم، والظلام؟
يعاني الإنسان في طفولته المبكرة أموراً شتّى، وتتنازعه تساؤلات، وتساؤلات يجد بفطرته أجوبة عنها في اتحاده مع وجوده ومع من حوله، فتبدو حياة المرء في طفولته سهلة، وبسيطة، وإذا سأل دنياه: "من أنتِ؟" يُلقى في نفسه أنّها تجيبه ببساطة: "أنا أنتَ".
ثمّة فريق من بني البشر يرى في عهد "فجر الشبيبة" المستمر بين الطفولة ونضج الشباب "سجناً" يتوق إلى كسر قيوده، وفريق آخر يرى فيه "عهداً ذهبياً يهزأ بمتاعب الدهر وهواجسه"، وكلا الفريقين يعترفان بأنّ اللحظة التي يدخل الحبّ فيها قلب الإنسان هي لحظة فارقة تنير ذهنه، وتعرّيه، وتزيد من تساؤلاته، وتدخله عالماً جديداً من عوالم المعرفة؛ إذ يتراءى إليه فجأة أنّه نضج، فتسقط "ورقة التوت"، ويفقد طفولته، وبراءته، وإحساسه الفطري بأنّه يمتلك دنياه ووجوده، ويضيّعها، فيضيّعُ الإنسانُ - لا سيّما، الإنسان الحسّاس - ذاته، ويضيّع وجوده عموماً، بعدما كان ملك يديه، وتتوه بصيرته، كأنّه فقد عقله؛ فتجده يصرخ متأوهاً:
- "لكم غدتْ حياتي صعبة قاسية، ومعقدة آنَ نضجتُ، ووعيتُ أنّني مفارقٌ لوجودي، وها هي ذي دناياي تسخّر مني، وتصرخ في وجهي: "أنا لست أنت!" فأعود أبحث عن ذاتي، ويقودني بحثي عن ذاتي إلى أنْ أبحث عنك... آه، ليتني أعود طفلاً بريئاً فأعي ذاتي، وأعثر عليك، إذ أُلقي في نفسي في غياهب معاناتي أنني: "أنا أنت"! إنّما، من أنت؟ وأين أنت؟ وكيف ألقاك؟"
في لحظة من لحظات حيرة الإنسان، وعجزه عن الإجابة عن تساؤلاته، قد يطلّ الحبّ مبادراً إلى نجدته، إذ "إنّ كلمة واحدة تحررنا من كلّ ثقل الحياة وآلامها؛ هذه الكلمة هي الحبّ"، كما بينت التجارب البشرية التي دونها حكماؤها، وأكدوا أنّ الحبّ "شعور خارق للطبيعة قادر على تحسين وجود الإنسان على هذا الكوكب"؛ فيترنّم المرء حين يلقاه جزلاً كمن يناجي طيفه الهارب:
- "في أوج ضعفي، وقلقي زارني الحبّ، فأعاد إليّ بصري وبصيرتي، ورأيتك بحدْسي، وبــ"عين قلبي".. وعلّمتني الحياة أنّ على العاشق أنْ يبحث عن ذاته الضائعة في الحبّ، فهو يحبّ الآخر لأنّه صورة عن ذاته الضائعة في قلبه المفطور.."
أجل، تلك مسيرة الإنسان في هذا الكون: إذ يجد نفسه في أسرة يتملى معالم أفرادها ويُحبّهم، ويتعرف إلى أصدقاء وصديقات، ويحبّهم... يحبّ والديه، وأشقاءه، وشقيقاته، وأقاربه، وأصدقاءه، ومسقط رأسه، وبني قومه، ويتولع بحبّهم، وهو يعلم أنّهم سيتركونه يوماً ما وحيداً.. يحبّ أبناءه، وأحفاده ويتولع بحبّهم، وهو يعلم أنّه سيغادرهم يوماً ما.. يحبّ شعبه، ووطنه، وعمله، ويتباهى بمهاراته، ويبني علاقات متنوعة، وينسج صداقات وعداوات مع أناس كثرٍ، وهو يعلم أنّه سيغادرهم يوماً ما... يحاول الغوص فيما حوله ويحبّه، وهو يعلم أنّه لا بدّ سيفارقه...
فلماذا يستثيرُ أيّ كلام "دفين حقدَ الإنسان، وكمينَ ضغنه" ويستخرجُ "أضغانَ صدره، وما فيه من غمر وغلّ...؟"
لماذا يكره النّاس بعضهم بعضاً، ويعادون ذواتهم، وهم يعلمون أنّهم سيغادرون يوماً ما، وسيظلّ ذلك الإنسان وحيداً؛ تعلّمه الحياة أنّ الحبّ هو دواؤه الناجع في بحثه عن ذاته الضائعة، مهما كان شأنّه، أو علت مناصبه، أو طغى وتجبّر وازداد شراسة وعدوانية؛ فيواصل العاقل مناجاته:
- "آه، أيُّتها المحبّة، ما أروعك، لقد أحييتني بعد جدب، وطهّرتِ نفسي، وثقّفتِ ذوقي، وأعدتِ إليّ ذاتي، وفطرتي، وطفولتي، و"فجر شبابي"، ووجودي، ووجدتني مستعداً للتضحية بنفسي لنيل رضاك.. وسموت بروحي، فصَفَتْ نفسي، وتلألأتْ أنوارُها توقاً إلى الحّرّية، وإلى السمو بإنسانية الإنسان، والابتهاج بالوحدة مع مبدع الخير، والكمال، والجمال... وأيقنتُ أنّ كلّ إنسان في حاجة إلى الحبّ، وأنّ الحبّ هو الحرّيّة والعطاء معاً، وهو أثمن وأغلى ما في الوجود، بل هو سرٌّ من أسرار الوجود... بالحبّ، والثقافة، والعمل، والمعرفة تكتمل إنسانية الإنسان، وخلاص الإنسان يكمن في الثقافة، والحبّ، والعمل، والمعرفة؛ لا سيّما، الحبّ الروحي! فرحت أنادي طرباً:
"أدنيتـَني منك حتـّـى ظننتُ أنّك أنـّــي
وإنْ تمنيْـــــــــــــتُ شيْــــاً فأنتَ كلّ التمنـّـــي"". (الحسين بن منصور الحلاج: شهيد التصوف الإسلامي (٢٤٤–٣٠٩ﻫ))
ما أتعس المرء الذي لا يعرف الحبّ، فيعيش حياة ضحلة لا إنسانية، ويغدو سلوكه أقرب إلى الغرائزية الهمجية الظلامية، والجاهلية المتوحشة، ويُخشى دائماً جانبه...
طوبا لأمة يعيش شعبها حياة عنوانها المحبّة بدلاً من الهمجية والحقد والبغضاء. طوبا لمن يعيش حياة تكلّلها المحبّة فيستعيد ذاته الضائعة، ويردّد مفتوناً طرباً: "المحبّة هبة حقيقية توهب للمرء كي تكتمل إنسانيته؛
لقد أتيتُ إلى هذه الدنيا لكي أحبّ!"