هل ترتقي الرقابة إلى المستويات الإبداعية؟
شاهر أحمد نصر
الحوار المتمدن
-
العدد: 8454 - 2025 / 9 / 3 - 22:12
المحور:
الادب والفن
تظلّ معاناة الكتاب والمبدعين مع الرقابة معاناة مزمنة، وهي في حاجة إلى معالجة حقيقية كي تغدو مصدر إغناء للنصوص الإبداعية.
في إحدى جلسات حوارنا الأدبية مع الشاعر والأديب الموسوعي عبد المعين الملوحي في مطلع الألفية الثانية رأى أنّ الكتاب ما يزال أداة التوصيل الثقافية الأولى، رغم مزاحمة وسائل التوصيل الأخرى له، ويجب أن يُعطى الحرية الكاملة للوصول إلى القارئ، وقد نوّه إلى "أنّ للكتاب نشوة لولاه لم نكن بشراً - واستطرد قائلاً - إنّ كابوس الاستعمار الفكري والثقافي ما يزال مستمراً في كثير من البلاد العربية، بل يزداد عمقاً وحدة في عدد من هذه البلاد"(1)، ودعا إلى إلغاء الرقابة على الكتب والمجلات والصحف إلغاء كاملاً، وإلى أن يكون وجدان الكاتب هو وحده الحكم فيما يريد أن ينشر، فالحرية شرط لكلّ إبداع... واستغرب عضو مجمع اللغة العربية، كيف وهو في الثمانين من عمره يضطر إلى أخذ موافقة تلاميذ تلاميذه على نشر كتبه..
لقد استعدت في ذاكرتي هذا الحوار، حينما استعرضت مخطوط كتاب "بحوث في الاقتصاد السياسي"(2) الذي حاز موافقة مديرية الرقابة (رقم ٩٧٧٠٨ تاريخ ٢٣ / ٢ / ٢٠٠٨) مع ملاحظة: "السماح بالطباعة بعد حذف المشار إليه"؛ فعزمت أن أعرض تلك العبارات التي رأى الرقيب ضرورة حذفها لأسباب ربّما رآها عظيمة تهدد أمن الوطن، والثقافة!
في الصفحة ١٤٠ طلب حذف جملة: "إنّ أهم أسباب تعثره (تعثر القطاع العام) هي البنية السياسية التي يعمل في إطارها".
في الصفحة١٤٩طلب حذف فقرة: "أجل إنّ الأحزاب الشيوعية والاشتراكية والتقدمية الرسمية في سوريا تتجاهل ضرورة الدعوة إلى الإصلاح السياسي... وإن دلّ هذا الأمر اللافت للانتباه على شيء فهو يدلّ على إفلاس تلك الأحزاب، وخيانتها لفكرها، وللجماهير التي تزعم الدفاع عن مصالحها... وينعكس ذلك في انكفاء الجماهير عنها، وزيادة عزلتها، فضلاً عن أنّ ذلك سيحدّ من مستقبلها." لقد أكد الرقيب مرتين على ضرورة حذف هذه الفقرة: (تحذف تحذف هذه الفقرة!)
كما طلب حذف الفقرة التالية في الصفحة ١٥٠ – "إن غياب الفكر السياسي، والإصلاح السياسي الملائم للإصلاح الاقتصادي يفرغ خطوات الإصلاح من محتواها... فضلاً عن وجود قوى ذات مركز مقرر في الموقع السياسي تستفيد من الحالة الاقتصادية الراكدة، ولها مصلحة في بقائها على حالها؛ فترفع شعارات سياسية وتختبئ كما يقول الباحث الاقتصادي الدكتور نبيل سكر تحت عباءة (الحفاظ على اللحمة الوطنية)، أو (الخصوصية السورية)، أو(المعركة مع العدو ) لعرقلة، أو لمنع التغيير حفاظاً على هذه المصالح المكتسبة، فضلاً عن الخوف من أن يتسبب الإصلاح السياسي والاقتصادي في تبعات اجتماعية وسياسية..)".
طالما تساءلت في نفسي، والأسى يغمرني، ما الدافع من وراء طلب الرقيب حذف هذه الأفكار؟ أيهما يفيد القارئ، والمجتمع، والسلطة الحاكمة: أن تُحذف الأفكار التي لا تروق للرقيب؛ أم أن تُنشر، ويُعمل على تلافيها؟ هل ثمّة فائدة من حذفها وطمسها؟ وهل يسهم ذلك في تجاوز المخاطر الناجمة عنها؟ أم أنّ النظام الاستبدادي الذي تعمل الرقابة في ظلّه يترك بصماته على الرقيب ليصبح نسخة مصغرة عن تفاهته، وتهافته كأي جسم طفيلي يخشى نور الشمس والحقيقة أن تفضح هشاشته، وتسهم في انهياره...
يُظهر هذا الأسلوب من الرقابة أنّ انحطاط مستوى الرقابة هو مرآة لانحطاط الأنظمة الاستبدادية التي تعمم صنميتها على جميع مفاصل الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية فتشوهها...
من هنا تأتي أهمية الدعوة إلى حرية الفكر والتعبير، والارتقاء بعملية الرقابة لتتحول إلى عملية إبداعية مهمتها الأساسية السهر على أمانة المنتج الإبداعي ومتانته، وحفاظه على سلامة اللغة، وعلى المستوى الأدبي والفني الرفيع، ومراعاة الكاتب والفنان للقيم الأخلاقية، والفنية، والجمالية التي تعزّز إنسانية الإنسان، وتسمو به أخلاقياً وجمالياً وروحياً..
إنّ مسألة الرقابة تستدعي نقاشاً وتنظيم ندوات حولها لتصويبها.. في هذا السياق أطرح اقتراحاً أولياً للنقاش أدعوه: "الرقابة التفاعلية".
من المعروف أنّ الرقابة تبدأ ذاتياً إذ يحيل الكتاب نصوصه الإبداعية إلى عدد من المختصين، والمهتمين من معارفه، وحينما يرى أنّ عمله أصبح ناضجاً يقدمه إلى لجان الرقابة الرسمية التي تقبله أو ترفضه جزئياً أو كلياً..
أليس مفيداً قبل رفض أي عمل مناقشة صاحبه في أسباب رفضه؟
لتحقيق هذه الغاية من المفيد أن تتحول لجان الرقابة إلى لجان تفاعلية إبداعية بالاستفادة من التقدم التقني الإلكتروني في عصر المعلوماتية؛ إذ إنّ المقالات والكتب تُنضد إلكترونيا قبل نشرها، وأصبح من السهل والمفيد إيجاد وسيلة للتفاعل بين لجان الرقابة والكاتب عبر منصة إلكترونية، يمكن أن يطلق عليها اسم "منصة الرقابة التفاعلية" خاصة بلجان الرقابة تتبادل تلك اللجان الرقابية الآراء عبرها مع الكاتب حول نصه الإبداعي وفق طريقة محددة، فتصبح الرقابة وسيلة إغناء، وليست وسيلة كبح لخيال المبدع، أو تأطير لفكره، أو إكراه يحدّ من مبادراته وإلهامه...
من المفيد، أيضاً، أن تستفيد "منصة الرقابة التفاعلية" من ملاحظات وتوصيات واقتراحات الكتاب لتحسين أدائها باستمرار، وتحويل الرقابة إلى مصدر تفاعل وإغناء للفكر والأدب والفنّ بما يُسهم في معالجة الأزمة الثقافية المحدقة بمجتمعنا - التي تعود في بعض جوانبها إلى ثقافة الجهل، والانغلاق والتعصب الفكري، وثقافة الزعم بحصرية امتلاك الحقيقة (المقدسة) ورفض الآخر، التي تعصف بالبنيان الاجتماعي - لكي تسهم الرقابة في نشر الكتب، والفنون الجميلة الأصيلة الجذابة، لرفع الوعي الثقافي والاجتماعي، ونشر ثقافة الحرية، والجمال، والمحبّة، التي تسمو بإنسانية الإنسان، وتغني حياته.
الهوامش:
(1) الأصالة والإبداع في شعر عبد المعين الملوحي – شاهر أحمد نصر – دار الملوحي للنشر والتوزيع – دمشق – مطبعة المنارة – طرطوس 2002
(2) بحوث في الاقتصاد السياسي – شاهر أحمد نصر - دار الطليعة الجديدة – دمشق - 2008