في مفهوم الخيال السياسي وأزمته
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن
-
العدد: 8470 - 2025 / 9 / 19 - 16:32
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
1- تعريف: تتواتر الشكوى بالعربية وبغيرها، وفي الأوساط اليسارية بخاصة، من أزمة في الخيال السياسي، أي في الصور والتصورات والرموز والأفكار السياسية التي تلهم الناس في نشاطهم العام، وتسهم في تقريب شركاء المخيلة من بعض، وقد تقوم عليها أحزاب ومنظمات، أو تدفع إلى ظهور حركات اجتماعية، أو حتى قيام ثورات. ويقدر أن هناك أزمة في الفعل السياسي تعود جزئياً على الأقل إلى الفقر في الصور والرموز والتصورات المحركة، المحفزة إلى الفعل والتنظيم. وبينما لا يكف الناس في مجالنا عن الكلام في السياسة، بل وبناء الأحزاب، إلا أن الأخيرة لا تكاد تصنع فرقاً، ويتواتر أن تموت بينما لا تزال تحبو، بما يشير إلى قوة جذب ضعيفة، لا تشد أعضائها إلى بعضهم ونحو مستقبل متخيل مشترك. أما الكلام السياسي فيشيع أن يعوض عن فقر الخيال بالميل إلى الشجار.
2- عنصر مكمل: على أن هناك بعد آخر للخيال السياسي يندر أن يجري الكلام عليه، رغم أنه يساعد في تفسير الأزمة. يتصل الأمر بالصدمات والمخاوف و"المثل الدنيا" المختبرة كمكون مكافئ لخيالنا السياسي. التجارب المحبطة والفاشلة، الخيبات الكبيرة من المنظمات والأحزاب، الشعور بالخذلان أو حتى بالاستغلال في منظمات متبلدة، هذا جانب سلبي من الخيال السياسي، يشل الناس عن الفعل السياسي والتعاون مع الغير، ويدفعهم إلى الانكفاء والقدرية. الخيال السياسي مساحة تقابل وتفاعل أعظم المآثر وأقوى المخاوف، الانتصارات العظيمة والكوارث المأساوية، البطولات والتفاهات، ما يثير الحماسة وما يوقع في الاكتئاب. وهو في أزمة اليوم في كل مكان بفعل ما يبدو من أرجحية صور الصدمات والمخاوف والفشل على صور النهوض والشجاعة، بأثر هزيمة القوى والسياسات الاشتراكية في العقدين الأخيرين من القرن الماضي.
3- محصلة: يتكون الخيال السياسي بعامة من سوابق التاريخ المفصلية مثلما يوصلها لنا التراث (المشاع الفكري والرمزي العالمي)، ومن عمليات تكييفها مع الزمن الراهن في وجهة تغييرية أو في وجهة محافظة. هناك بالفعل أزمة في الفعل التغييري في كل مكان من العالم على صلة بأزمة الخيال، أو عقم المخيلة السياسية، بأثر محصلة تقارب الصفر، أو حتى تتدنى عنه، للمآثر والرضات (أو الترومات).
4- خيال سياسي إسلامي: في المجال العربي هناك حضور كبير للخيال السياسي الإسلامي، يركز على النبي والدعوة والوحي الرباني، على الصحابة والقادة والأبطال والشهداء، على المعارك والفتوح والسيطرة. النبي هو الشخصية المركزية في الخيال السياسي الإسلامي، تطلع ويتطلع كثيرون إلى أن يفعلوا فعله، فيكون ما حولهم من مجتمع وحكم وثقافة جاهلية يحاربونها وينتصرون عليها. هنا في واقع الأمر خيال مفتقر إلى الخيال بشدة، تمخض غالباً عن هزيمة أصحابه وكثير من المعاناة لهم ولغيرهم. كان الفارابي قد فسر النبوة بكمال القوة الخيالية عند النبي، هذا بينما يظهر إسلاميو زمننا نقصاً شديداً في القوة الخيالية، نابعاً من تكوينهم كمتبعين.
5- وقومي عربي: النصر مركزي عند الإسلاميين والقوميين معاً، لكن الإمبراطورية هي مرجع الخيال عند القوميين، وهي برهان إلهية الدعوة وكفالة نصرها عند الإسلاميين الذين كانوا يعرضون منزعاً عالمياً أو كونياً أكثر من القوميين، ربما يتشكل من تقاطع الدعوة التوحيدية إلى الناس جميعاً، ومن سعة وتنوع المجال الامبراطوري الإسلامي في عزه. وفي زمن التبعية وفقد الثقة بالنفس في القرنين الأخيرين، انقلبت العالمية الإسلامية على نفسها، فتحولت إلى عدمية وإرادة تدمير العالم.
6- المثل الأدنى: ربما يختلف القوميون والإسلاميون بخصوص المثل الأعلى، لكنهم متقاربون فيما يخص هذا المثل الأدنى الذي يراد تجبنه. إنه الخوف من الذل، من الهزيمة وضآلة الشأن، من الخروج من التاريخ بحسب تعبير أخذ بالشيوع في ثمانينات القرن العشرين (لفوزي منصور كتاب بعنوان: خروج العرب من التاريخ)، أو من الانقراض، وهو تعبير شاع في التسعينات وما بعد، وكان الشاعر أدونيس من أكبر مروجيه. الإسلاميون غاضبون محترفون، فيما القوميون (واليساريون) مكتئبون. ويستحق الاكتئاب العربي الذي خصص له الأكاديمي التونس نوري غانا كتابا مهماً بالانكليزية Melancholic Acts: Defeat and Cultural Critique in the Arab World، اهتماماً متكرراً من زاوية نظر مفهوم الخيال السياسي. كان كلام فالتر بنيامين المبكر على "الاكتئاب اليساري" قد ألهم غير قليل من الكتابات بين اليساريين الغربيين (وندي براون، جودي دين، إنزو ترافرسو، رودريغو نونيز، وغيرهم)، وإن كان لا يبدو أنها أسهمت في الخروج منه.
7- 1000 عام من الغياب: غاب العرب بما هم كذلك عن الحرب والسياسة، وعن الحضارة، وبالتالي عن التاريخ، لنحو ألف عام، وحين أخذوا بالعودة كانوا إما تحت سيطرة قوى استعمارية أو تحت جناحها، أو على هوامش امبراطوريات فاتحة جديدة، لديها رسالة هي الأخرى، لكنها ليست دينية: رسالة الحضارة. بلا قوة ولا حضارة، كان هذا الشرط العربي تحققاً للمثل الأدنى، تخيل الكارثة ومبعث القلق الوجودي.
8- التحرر الوطني: لكن جرت مواجهة الاستعمار بمقاومات متنوعة، بعضها عنيف جداً وباهظ الكلفة مثل الثورة الجزائرية. هنا مرجع جديد لخيال سياسي إيجابي، ليس إسلامياً ولا مستمداً من الإسلام، وإن يكن أغلب المقاومين مؤمنين، بل كان الجزائريون منهم يصفون أنفسهم بالمجاهدين. حدث الاستقلال الوطني لم يكن درامياً في الغالب مثلما كان في الجزائر، وهو لذلك أضعف تغذية للخيال السياسي. هذا يتكون، نكرر، من التجارب القصوى، الانتصارات الكبرى والكوارث الفظيعة. لكن التجربة الناصرية ربما تكون الأغنى على هذا الصعيد الخيالي عربياً. فهي تجربة مواجهات ومعارك، تمخض بعضها عن انتصار سياسي، وتمخضت إحداها عن أسوأ كوابيس العرب المستقلين، وختم مصير قائدها الذي مات شاباً نسبياً هذه التجربة بكثافة انفعالية كبيرة. كان العمل الفدائي ملهماً لنحو عقد بين الستينات والسبعينات، لكن تورط منظمة التحرير في الحرب اللبنانية ثم الهزيمة أمام إسرائيل حدت من الأثر الملهم للعمل الفدائي الذي ظل محدوداً في واقع الأمر حتى في سنوات صعوده.
وما يجمع بين هذه التجارب المتصلة بالاستقلال والتحرر الوطني هو أنها وطنية أو "قومية"، تشكل مرجعاً جديداً غير إسلامي، وإن استحضرت واستلهمت تاريخ الإسلام (بعضها عمل على إحياء مواض أصلية قبل إسلامية). وما أخذ ينفر من هذا المرجع الرضة التي وقعت عام 1967، وهي تروما كبيرة جداً، أقوى تأثيراً في الأنفس والقلوب من تأثير أي أشياء إيجابية تحققت وقتها. الترومات تصرف الناس عن التجارب التي تسببت لهم بجراح نفسية غائرة. ودورها في الخيال السياسي، في كسر أجنحته بالأحرى، كبير ولا يمكن المبالغة به.
9- الربيع العربي: هناك مرجع ثالث، أحدث، للخيال السياسي هو "الربيع العربي": ثورات اجتماعية سياسية موجهة ضد نظم الحكم، تمخضت عن إسقاط أو سقوط عدد من الزعماء المزمنين، وشكلت أعظم أحداث في التاريخ السياسي للبلدان المعنية وأكثرها درامية وشجاعة. من الصور الملهمة في الربيع العربي التجمعات الكبيرة في ميادين عامة (نموذج ميدان التحرير في القاهرة)، والعدد الكبير من الشهداء والأبطال، ربما بخاصة في الثورة السورية. لكن الربيع العربي بدوره جمع بين ما يُلهم ويوحد وبين ما ينفر ويفرق، إن من حيث محدودية التغير الحاصل، أو من حيث فظاعة الثمن وضياع القضية الثورية في صراعات عقيمة وعدمية مثلما في سورية. وحين سقط الحكم الأسدي في سورية في معركة خاطفة وبقليل من الدم والدمار، وكان ذلك انتصاراً كبيراً بالفعل، لكن كانت مسالك المنتصرين مبتذلة وصغيرة، بلا خيال ولا حس تاريخي، أهدرت عظمة الحدث، حتى قبل أن تعقبه موجتان من العنف الإبادي، رضتان يتجاوز أثرهما الضحايا المباشرين من علويين ودروز إلى قطاعات أوسع من السوريين. إلهام الانتصار على النظام انتهى خلال أشهر. والمثل الأدنى هو الأقوى حضوراً في الأنفس اليوم، أعني الخشية من الأسوأ، من الطغيان والعنف الطائفي والاحتلال الإسرائيلي، ونحن نتكلم بعد تسعة أشهر على السقوط.
10- خيال سياسي يساري: ثم أن العرب جزء من العالم، وكانت تجارب عالمية مصدر إلهام وتغذية خيال كثيرين منا. ومنها بصورة خاصة الشيوعية في القرن العشرين. الثورة الروسية هي الحدث المرجعي في هذا الشأن، وهي حدث درامي بطولي كبير، ووعد بالعدالة والأخوة، ومنهج مجرب للتقدم. أو هكذا بدت لكثيرين منا ولملايين لا تحصى غيرنا. تشكل الخيال السياسي اليساري عبر الثورات، من الثورة الفرنسية 1789، إلى ثورات القرن 19: 1830، 1848 (ربيع الشعوب) ثم كومونة باريس 1971. لكنه خرج من أوربا وتعمم عالمياً بفضل الثورة الروسية، وتجدد الخيال السياسي اليساري ودخلت فيه مشاغل جديدة (ثورة ثقافية وشبابية وجنسية في انتفاضات 1968) التي لم تغير النظم السياسية في بلدان الغرب، لكنها كانت محررة اجتماعياً وفنياً بقدر كبير، وهي التجربة المكونة لليسار الجديد الذي وصلتنا "طراطيش" منه.
وبلغ الخيال السياسي الشيوعي من القوة حد أن تشكلت أحزاب شيوعية في معظم البلدان العربية، تمتع بعضها بغير قليل من النفوذ (السودان، العراق، وحتى بقدر ما سورية). لكن هنا أيضاً كان انهيار الاتحاد السوفييتي والمعسكر التابع له، وتكشف كوارث الحكم السياسية والحقوقية والاقتصادية التروما التي نفرت الكثيرين، ولم يتعاف منها الخيال السياسي اليساري إلى اليوم. وفي كل مكان من العالم دخل اليساران القديم (المتكون حول ثورة أكتوبر 1917) والجديد (متكون حول انتفاضات 1968) في أزمة مستمرة واكتئاب متجدد.
ولا يعود ذلك إلى فشل الثورات، فثورات القرن 19 فشلت كلها، بل إلى تعفنها وتآكلها من الداخل، وسكوت أو تواطؤ أكثر المنظمات اليسارية مع التعفن. ثم بعد ذلك السقوط المخزي وبدون مقاومة.
11- نظرة عامة: هذه ملامح تخطيطية خشنة لخيالنا السياسي المعاصر. الإسلامي منها قديم، ويفشل الاستناد إليه نسقياً في إلهام العدالة والحريات والحقوق في مجتمعاتنا المعاصرة. وغير الإسلامي، الاستقلال ثم الربيع العربي، طاقته الخيالية ليست كبيرة جداً، وإن أمكن النظر إلى هذين المرجعين الأخيرين كتجارب للتحرر يُستند إليها. والمرجع الشيوعي تداعى عالمياً، واليساريون السوريون والعرب شركاء في كآبة جامعة. ولقد أفضى مصير هذه التجارب الأحدث إلى ضرب من شلل المخيلة، هو الوضع الذي نجد أنفسنا فيه، ويبدو أن كثيرين في طول العالم وعرضه مثلنا. حالة من فقد النزوع أو حس الاتجاه، لكن ليس على مستوى الفرد، بل على مستوى الفعل الجمعي.
12- الخيال والشجاعة: ما الذي يجمع بين هذه المراجع للخيال السياسي؟ البداية الكبيرة، الدراما الملهبة للحماسة والخيال، القيمة الرفيعة أو المثل الأعلى، والشجاعة. كلها أحداث شجاعة حتى ليمكن القول إن الشجاعة هي فضيلة الخيال السياسي الأولى، كما أن التخاذل والخور رذيلته. وما يمكن بناءه على هذه المراجع هو أنه يتشكل خيال سياسي جديد بالتالي من أفعال الاعتراض على الواقع، أفعال نفي ما هو قائم وتحديه، يتكون عبرها فاعلون سياسيون جدد، قد يتمكنون من تغير الواقع أو توجيه ما يحدث من تغيير في جهة المثل الأعلى. بالاعتراض على ما هو قائم نوسع نطاق الممكنات على حساب الممتنعات، ونمارس أفعالا كاسرة للهيمنة ومفعولها المُطبِّع للواقع، إلى أن نصل إلى عتبة تشكل خيال سياسي جديد، متحرر.
وإلى جانب أفعال الاعتراض والنفي، فقد نفعل خيراً بأن ندخل في النقاش العالمي حول الأزمة ونتعلم من غيرنا وربما نقول أشياء تفيد غيرنا. الأزمة عالمية، أزمة الخيال وأزمة السياسة، ونحن من العالم، والحلول ينبغي أن تكون مشتركة.
13- خيال سياسي ليبرالي: قد يبدو أن هذه المناقشة الوجيزة أغفلت الخيال السياسي الليبرالي. هناك اليوم تنويعة منه قلما تسمى كذلك، متمركزة حول مبدأ حقوق الإنسان، وتقترن بتفضيل وضع الضحايا للجماعة أو الجماعات التي ينحاز إليها المرء في نشاطه العام، مع غلبة تصور الجماعة ذاتها كأقلية مضطهدة أو معرضة للمخاطر. خطابات المظلومية هي أحد أوجه هذا الخيال السياسي. من شروط إمكان هذا الخيال العولمة الليبرالية بدءاً من تسعينات القرن الماضي، وظهور ضرب من الأممية الحقوقية الدولية، يبرز فيها الميثاق العالمي لحقوق الإنسان كوثيقة أساسية، وبدرجة أقل المعاهدة الدولية لتجريم ومعاقبة جريمة الجينوسايد، وعولمة الهولوكست منذ العقد الأخير من القرن الماضي، ثم ظهور مبدأ التدخل الإنساني. بإثبات أننا ضحايا، نعمل على أن يجري التدخل لصالحنا وأن يحمينا "العالم". لكن القوة التنفيذية للعالم ليست إلا الولايات المتحدة، وفي سجلها التاريخي إنجازات محدودة (يوغسلافيا السابقة)، وتدخلات كارثية (أفغانستان والعراق)، وتواطؤ إجرامي مع القتلة (فلسطين، ولوقت طيب سورية). ثم إن هذا الخيال يتصور الإنقاذ قادماً من قوة خارجية، وينطوي بالتالي التخلي عن الفاعلية والإمساك بالمصير.
14- البدء بالأزمة: الإقرار بأننا في أزمة والعمل على تجاوزها يبقى المسلك الأنسب في واقع اليوم. نحو 40 عاماً انقضت على الموجة اليمينية الليبرالية، أعقبت نحو 70 عاماً من زمن ثوري عالمي متنقل. بعد حين تنطوي هذه الحقبة التي أكلت أعماراً. وهذا وقت أفعال الاعتراض وكسر الهيمنة، ثم التعلم من غيرنا والمشاركة مع غيرنا في صنع مستقبل مختلف.