أي سلطة في سورية، أي معارضة، وأي مستقبل؟


ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن - العدد: 8441 - 2025 / 8 / 21 - 22:18
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي     

في سورية، كما في غيرها، يتحدد شكل المعارضة بشكل نظام الحكم، بخاصة إذا طال به الأمد. في الحقبة الأسدية شغل إسلاميون موقع المعارضة النوعية أو "الموضوعية"، بالنظر إلى تكوين النظام، وما تعرضت له البيئات السنية من تمييز وتقليل سياسي. كانت هناك قوى معارضة أخرى، يمكن أن نسميها معارضة متنحية أو ذاتية، يحفزها شعور بالواجب أو حس وطني أو دوافع عَقَدية، لكن أضعفها عدم قدرتها على إشغال موقع التضاد الحاسم مع نظام كان تكوينه بمزج بين الطائفية والسلاح، وليس فقط ما تعرضت له من قمع وتفكيك (بسَطتُ تصوريْ المعارضة في "المعارضة الموضوعية": التشكيلة السياسية والتغير السياسي"، 2015). واليوم، المعارضة الموضوعية لحكم الإسلاميين، الذي يجمعون بين المعتقد السني أو صيغة سلفية منه والسلاح، هي شيء يشبههم: تركيبات بين هويات دينية أو إثنية والسلاح. تعبر عن مواقف معارضة مجموعات ليست هوياتية ولا مسلحة، يحركها هي الأخرى اعتبارات أخلاقية ووطنية وعقدية، لكن من لا يلتحق منها بالمعارضة الموضوعية لحكم الإسلاميين الحالي، يجدون أنفسهم في مواقع ضعيفة التأثير على سير الأوضاع في البلد.
بينما تخسر المعارضة الذاتية الفاعلية، فإن المعارضة الموضوعية، الإسلاميون يوماً والجماعات الأهلية المسلحة اليوم، تخسر الاستيعاب أو الاشتمال. لكن يتعين أن تتغير السلطة كي تتغير المعارضة، وتغيرهما معاً هو تغير التشكيلة السياسية القائمة اليوم.
ظهرت القوى المعارضة لنظام حافظ الأسد في سبعينات القرن العشرين. كان بعض رموزها ناشطين قبل ذلك، لكنها كحركة معارضة، الموضوعية منها والذاتية، نشطت عملياً في النصف الثاني من السبعينات. وكان أبرز قادتها من جيل حافظ الأسد، ومعظم كوادرها أصغر عمراً. عنف التشكيلة حال دون مشاركة من هم أكبر سناً، وهم على كل حال لجؤوا خارج البلد أو إلى لاذوا بالصمت، أو اكتفوا بأدوار ثانوية تحت ظل الحكم الواحد الأسدي.
يحكم سورية اليوم رجال في عمر حافظ الأسد حين استولى على السلطة قبل 55 عاماً. وتسير الأمور نحو ظهور قوى معارضة فتية، كما نحو استبعاد الأكبر سناً. منطق التشكيلة السياسية العنيف يحتم ذلك، وإن تكن فتية اليوم، ولا تزال فرص تغير التشكيلة، أي السلطة والمعارضة معاً، ممكنة. هل نستطيع تقدير سير الأمور في المستقبل القريب، أشهر وسنوات قليلة من اليوم؟ لدينا وضعان مرجعيان يمكن أن يُستأنَس بهما لتقدير الاحتمالات في هذا المدى الزمني، يطابقان بدايتين كبيرتين عرفتهما سورية المستقلة: الاستقلال عام 1946، وحكم حافظ الأسد عام 1970. ووفقاً لما إذا كان حكم الإسلاميين الراهن سيشبه هذا أو ذاك، سيتحدد شكل المعارضة.
ربما نواجه أوضاعاً أشد شبهاً بما بعد الاستقلال من حيث الاضطراب وعدم الاستقرار والتقلب السياسي، وقد تضاف إليها صراعات دموية. هذه بيئة أنسب للقوى المسلحة، لأنه يستحسن في زمن مضطرب أن تصون قوتك لا أن تتخلى عنها. لكن بيئة اليوم، ولأنها بالكاد تتشكل، تطلب وتتطلب ظهور قوى تقدمية، تعمل على المستوى الوطني، تنحاز للمواطنة والديمقراطية، ولا تلتحق بالمجموعات الأهلية المسلحة، وتعمل في المجمل من أجل شكل سياسي جديد للبلد. من شأن ذلك أن يسهم في ضمان تعدد سوري لا يقتصر على ما هو أهلي وهوياتي. لا نخرج من الهوياتية بالالتحاق بالأهلي المسلح أكثر مما نخرج منها بالالتحاق بحكم الإسلاميين، الأهلي المسلح بدوره.
نخرج منها بالوطنية السورية كأرضية جامعة محتملة لسوريين مختلفين. والوطنية السورية مفهوم حقوقي وسياسي ومؤسسي، خلافاً للهوية/ الهويات، التي تحيل إلى ما هو ثقافي وجمعي وموروث. الوطنية يمكن أن تجمع، أما الهويات فلا تجمع، تفرق فقط. وهي لذلك، الوطنية، الأرضية التي يمكن أن تظهر عليها قوى تقدمية وتحررية، هي أوْلى ما تحتاجه سورية اليوم. خمسينات القرن العشرين كانت العقد الأكثر تقدمية في تاريخ سورية، لكنها كانت عقداً مضطرباً انتهى بعملية انتحارية: الوحدة مع مصر، وذلك بفعل عدم قدرة السوريين على معالجة خصوماتهم وحل مشكلاتهم. ليس هناك أفق وحدوي مماثل أمام سوريين قد يعجزون عن حل مشكلاتهم، والانتحار يمكن أن يأخذ أشكالاً أخرى، منها انحلال البلد. القاعدة العامة أن من لا يستطيع حل مشكلاته ينحل هو بالذات.
أما إذا كان المرجع الأنسب لسير الأمور في سورية في الفترة القادمة هو نموذج نظام حافظ الأسد: حكم مستقر من فوق، عنيف، يحطم خصومه وأعداءه السياسيين، ويُعوِّل على أن يكون أبدياً، مستنداً في ذلك إلى أجهزة أمنية وعسكرية مطيفة، فستكون الأمور أشد صعوبة على أي قوى سياسية مستقلة معارضة، وستجد نفسها محظورة وخارج الشرعية القائمة. ويبدو أن حكم الإسلاميين الراهن أقرب إلى نموذج حكم حافظ الأسد، والإعلان الدستوري يقرب أحمد الشرع من مؤسس السلالة الأسدية.
لكن ربما لا يصلح أي من هذين المرجعين، وقد نكون حيال وضع يمزج بينهما بصور يتعذر تقديرها اليوم. في حقبة الاستقلال كان هناك ميول نابذة ووحدة ترابية غير مضمونة، لكن لم يكن هناك تجزؤ جغرافي فعلي، ولا جماعات أهلية مسلحة ولها روابط خارجية قوية، ولا مركز سلطة فئوي بهذا القدر. هذه فروق كبيرة. إسلاميو اليوم لا يشبهون في شيء حكم أعيان المدن سنيي المنبت في حقبة الاستقلال، وبين حين وآخر في الخمسينات، ثم لعام ونصف من جديد بعد الانفصال عن مصر، وهذا بالنظر إلى أن إسلاميي اليوم طائفيون مبدئياً، تتحكم بهم غريزة جامحة لتركيز السلطة في أيديهم. ومن يحتمل أنهم ليسوا كذلك منهم لا يستطيعون أو لا يريدون ضبّ وضبط شتات القوى التي يتصدرونها، أي لا يظهرون ولا يتصرفون كدولة، قوة حكم عامة منظمة. وهو ما يعطي شرعية كافية للجماعات الأهلية المسلحة المناهضة لهم. هذه الجماعات هي المعارضة الموضوعية التي يتعذر أن تتغير دون تغير السلطة الأهلية القائمة.
لكن أليس لدينا وضع مرجعي ثالث؟ بلى، ثمة بداية سابقة على حكم السلالة الأسدية وعلى الاستقلال، هي ظهور الكيان السوري الحديث إثر الحرب العالمية الأولى. توجه سوريو تلك الأيام (وكانت سورية تعني وقتها بلاد الشام التي تعرضت للتو للتقسيم إلى دول) إلى إقامة نظام دستوري استيعابي. هذه التجربة وأدها الاحتلال الفرنسي بعد قليل. لكنها جديرة بأن تستعاد اليوم، ولعلها الأجدر. فالأمر يتعلق بتأسيس فعلي، أو إعادة تأسيس وطني هو ما أهدرته السلطة الحالية بغفلة وأنانية. لقد وقعت بداية كبيرة جداً قبل ثمانية أشهر ونيف، لكنها أديرت بغرور وعقلية صغيرة، وبمعرفة تاريخية تبدو معدومة. وما تحصل من "شرعية ثورية" أهدر بسرعة قياسية عبر إعلان نهاية الثورة وبدء الدولة. ما بدأ في واقع الأمر لم يكن الدولة، بل حكم العُصبة، حكم أهلي مسلح. حكم العصبة هو نقيض التأسيس، واستئناف مغاير لحكم العصبة الأسدي. الشرعية الثورية تُتَجاوز فقط بتحولها إلى شرعية تأسيسية.
هل فات الوقت سلفاً على استعادة الشرعية؟ لعل الأزمة الوطنية التي تفجرت بعد الهجوم الطائش والمهزوم على السويداء تكون دافعاً للمراجعة والعمل على إصلاح ما أفسده مؤتمر النصر، ثم مؤتمر الحوار الوطني، فالإعلان الدستوري، فتشكيل الحكومة. يمكن للبديل أن يكون مؤتمراً سورياً عاماً، ينعقد في وقت قريب، بمشاركة أساسية من عقلاء سورية ووطنيوها، وهم كثيرون، أن يكون مؤتمر إعادة تأسيس، يقطع الدرب على المنازع الانتحارية المتنامية عند أطراف متعددة في البلد. التفصيل في ذلك بحاجة إلى تناول مستقل.