مستقبل عدم: إسرائيل وصراعاتها الوجودية المستمرة


ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن - العدد: 8385 - 2025 / 6 / 26 - 19:50
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي     

ليس هناك دولة أخرى في العالم تعتبر أن كل صراعاتها وجودية غير إسرائيل. في مواجهة غزة، في مواجهة إيران، في مواجهات سابقة مع دول عربية، تخوض إسرائيل صراعاتها وجودياً، أي عدمياً، صراعات مطلقة لا تقبل حلولاً سياسية. هذه الأخيرة تقوم على المساومات والتسويات والتنازلات المتبادلة، وتستبعد بالتالي إفناء الخصم أو إبادته. الإبادة بالمقابل مسجلة في التصورات الوجودية العدمية للصراعات، وهو ما يظهر بيسر أكبر في الجذور الإنكليزية لكلمتي إفناء وعدمية: annihilation و nihilism أكثر من العربية. النازيون خاضوا ضد اليهود صراع إبادة لأنهم فكروا فيهم كخطر وجودي يستهدف الأمة الألمانية والعرق الآري. والجينوسايد الإسرائيلي في غزة يقوم على تفكير مماثل يطال الشعب الفلسطيني بمجمله، التفكير في الوجود الفلسطيني كخطر وجودي على إسرائيل. لا يلزم أن تعني الإبادة قتل الجميع، بل خفض المرتبة الوجودية، أو إخراج الأعداء المتصورين من الحرب، وبالتالي من السياسة. هذا أكثر من عنصرية، إنه ضرب من صنع مرتبة دون بشرية، مثلما فكر النازيون في اليهود قبل تسعين عاماً.
ومفارقة حصر إسرائيل لصراعاتها في صورة الصراعات الوجودية أنها تبقي الوجود الإسرائيلي موضع نزاع بالفعل. فصراعاتك الوجودية المتواصلة تجعل وجودك صراعياً، وليس هناك ما يضمن لأي صراع بأن يكون منتصراً دوماً. أي أن إسرائيل هي من تبقي السؤال حياً حول وجودها والحق فيه، وحول التطلع إلى إزالتها من الوجود. أو هي التي تصدر عن شعور عميق بوجود غير شرعي، لا يبدو أنه يتملك أياً من الدولة الشرق أوسطية الأخرى. تعاني هذه الدول، ومنها الدول العربية بطبيعة الحال، من مشكلات شرعية سياسية، من نواقص مؤسسية وفيرة، من نظم حكم مستبدة وفاسدة، لكن لا يتملك أي منها قلق وجودي يحيل إلى الشك في فرصها في البقاء مثل إسرائيل. وليس سبب ذلك هو الرفض العربي، الذي يريد غير قليل من أهله أن يزول. بالعكس، سبب عدم زوال الرفض العربي هو السلوك الإسرائيلي المتأصل في تكوين المشروع الصهيوني كمشروع سيطرة غريب، يحمي نفسه بالقوى المسلحة المتفوقة، ولا يعترف بالمساواة لا مع ضحاياها المباشرين من الفلسطينيين، ولا مع المجال العربي. ولا مع أي كان في العالم بفعل ما يكنه اليهود الصهيونيون، المتدينون بخاصة، من كره للجميع، على ما كان يؤكد الراحل إسرائيل شاحاك في كتابه: أسرار مكشوفة. في المشروع الإسرائيلي بجميع نسخه، تلتقي فوقية يهودية متأصلة، تفوق بأضعاف ما نعرف من فوقية الإسلاميين وصلفهم، مع مظلومية يهودية فريدة من نوعها، تفوق هي الأخرى مظلوميات الإسلاميين السنيين، والمظلومية الشيعية العريقة، وكل ما نعرف من مظلوميات. المحصلة حالة من البارانويا الكيانية المؤسّسة، المحددة للسياسة وغير المتحددة بها، مزيج من هذيان عظمة وهذيان اضطهاد، يقوم على خلل مستديم في العلاقة مع الواقع، ويحول دون الدخول في علاقة سوية مع أي شركاء في العالم. هذه البنية هي التي تجعل من سلام حقيقي مع إسرائيل ممتنعاً في النهاية. إنها بنية انتحارية، تنحر كثيراً هرباً من انتحارها الذاتي.
ولا يعترض على ذلك بأن علاقة إسرائيل بالقوى الغربية قوية. إنها أكثر من قوية في الواقع، لكنها ليست سوية، ليست من نمط العلاقات المألوفة بين الدول، وليست حتى علاقة تحالف. إنها تنتمي إلى نطاق العبادة الديني، وليس نطاق التحالف السياسي العقلاني. ولا أعني بذلك ما يقال عن تراث يهودي مسيحي، بل بالأحرى ما يحيل إلى ما يسميه إنزو ترافرسو "الدين المدني"، القائم على شعور بالديْن والذنب (الهولوكوست والاضطهادات السابقة)، دين تجري عولمته في العقود الثلاثة الأخيرة، ويشغل الفلسطينيون فيه موقع الضحية الوجودية الواجبة.
ويقود الحصر الوجودي لإسرائيل إلى مراكمة لا تنتهي لوسائل القوة، بما في ذلك السلاح النووي الذي يستحق تسمية السلاح الوجودي، أو السلاح العدمي، لأنه قادر على الإفناء أو "الإعدام" الجماعي. هذا تكوينياً سلاح جينوسايد، وإن كان ذلك لا يقال فلأن مالكي السلاح النووي هم من عرفوا الجينوسايد ويثابرون على تعريفه. لدى إسرائيل ما لا يقل عن 200 قنبلة وجودية تصلح مؤشراً على ما لا يقل عن 200 قلق وجودي يتملك هذا الكيان الفريد من نوعه. ولأن الأمر كذلك، تدخل إسرائيل اليوم في صراع عدمي مع إيران التي تعرف مثل إسرائيل كم أن السلاح الوجودي مهم لوجودها وبقائها في عالم اليوم، وكم أن الحرمان منه يهددها بالعدم، نظاماً، وربما كياناً. الدول الحائزة على السلاح النووي تتمتع بوجود أعلى، قياساً إلى الدول غير المالكة له، منحدرة الوجود ومنقوصة السيادة.
ليس هذا لتزكية امتلاك السلاح النووي من طرف بلداننا. فعدا أنه ليس هناك فرصة لذلك مثلما نعاين اليوم بجلاء تام، فإن أعباء وجود أخف، غير مطلق وغير سيادي وغير عدمي، تستحق أن يضطلع بها في مجالنا، مع ما يلزم من تعديلات في تصور الذات والعالم، ومنها بخاصة مقاطعة التطلعات الامبراطورية التي تملكت الإسلاميين، وقادتهم (عبر تصور وجودي بدوره لصراعاتهم) في مسالك انتحارية وعدمية.
وغير السلاح الوجودي، تستأثر إسرائيل، ومن وراءها أميركا، بما يمكن تسميته السلاح الإلهي، سلاح الطيران المتفوق تفوقاً حاسماً، الذي يتيح لمالكيه احتلال السماوات. وهذا عنصر أساسي في البعد الشاقولي للسيطرة الإسرائيلية، يوسع مساحتها الجوية لتتجاوز مساحة المجال العربي كله (الحرب ضد إيران أول حرب إسرائيلية ضد غير العرب)، ويندرج ضمنه السيطرة على أجواء لبنان وسورية بطائرات الدرون، وكذلك احتلال المرتفعات والقمم في فلسطين (وفي سورية)، ثم في اعتبار ما تحت الأرض كذلك ملكية إسرائيلية. كان إيال وايزمان قد ركز على هذا البعد في أعماله عن الاحتلال الإسرائيلي للضفة والقطاع.
أقرب كيان سياسي كان يشبه إسرائيل في حيثية التصور الوجودي لكل صراعاته كان الحكم الأسدي. وهو احتاط بكل صورة ممكنة كي يبقى "إلى الأبد". العبارة تشي بقلق متمكن، وجد ترجمة في شعارات عدمية مثل الأسد أو لا أحد! أو: الأسد أو نحرق البلد! لقد أبقى الحكم الأسدي وجوده موضع تساؤل ومنازعة بفعل منزعه السيادي الإطلاقي وغير السياسي، ودفع ذلك الوجود الثمين في النهاية ثمناً لعجزه عن السياسة. منطقياً، تبدو قوة تضع وجودها ذاته رهاناً في كل صراع تخوضها مرشحة لخسارة هذا الوجود، مثل مقامر يراهن مرة تلو المرة بكل ما يملك.
فإذا كان العدم عاقبة للصراع الوجودي، فهل يمكن لمثل ذلك أن يحدث لإسرائيل؟ إذا كان قد وقع للحكم الأسدي، وقد استخدم أسلحة دمار شامل، أي ما يملك من أسلحة وجودية، ضد محكوميه، واحتكر مع حُماته السلاح السماوي في مواجهتهم، فلا شيء يمنع أن يحدث مثله لإسرائيل. المفاجأة السورية تقبل التكرار في حقبة يبدو أنها تنحو بصور متعددة لأن تكون حقبة المفاجئ وغير المتوقع، حقبة المعجزة والمستحيل.
قد يبدو هذا بشارة زائفة بالخلاص لمن هم في الدرجة الأدنى من الوجود في عالم اليوم، مثل شعب غزة، وعموم الشعب الفلسطيني، ومثلنا في سورية، لكنه مجرد محاولة لتخيل لا يفتقر إلى أساس منطقي. ليست المسألة أن من يفعل ما تفعله إسرائيل لا يستحق الوجود العادي، الهش والمعرض للأزمات والمتاعب والمحن القاسية، مثل كل وجود بشري على الأرض، بل إن من يفعل فعل دولة اليهود هو من يجازف بكيانه وفرصه في البقاء. الناس في كل مكان من العالم يرون ما جرى ويجري في غزة، ويرون ما جرى للتو لإيران، ويرون الاعتداءات المتكررة على سورية ولبنان، وهم يسكتون خوفاً من مصير مماثل، أو من داعمي إسرائيل الذي يمارسون عنفاً مهولاً على مستوى الخطاب، يكمل العنف الإسرائيل ويُشرِّعه ويثبته. لكن هذا السكوت ضحل، قد يحدث غير المتوقع في أي لحظة فيطيح به.
وغير المتوقع هو شيمة الحدث التاريخي في كل وقت، وفي أوقاتنا المتخلعة هذه أكثر من غيرها. يأتي المؤرخون بعد حين وربما يعبرون عن الدهشة بأن المعاصرين لم يروا قادماً ما كان يجدر بهم أن يروه حماية لأنفسهم أو توقياً من أسوأ المخاطر. لكنا كمعاصرين لا نستطيع أن نقفز كالآلهة فوق الحاضر لنرى ما يقع بعده. إسرائيل تفعل ذلك، واحتمال أن يدق عنقها في المحاولة لا يمكن استبعاده.
ليس عسكرياً حتماً، بل ليس عسكرياً بالقطع. لكن ربما في صورة خسارة معنى وشرعية؛ في صورة ضجر من شبيح مجنون تجاوز الحد ألف مرة، فصار خطراً على كل حياة، أو في صورة نازع علمنة لا بد أن ينهض في وجه أي سيطرة دينية، بما في ذلك السيطرة الرعناء لـ"الدين المدني".