في نقد النصر
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن
-
العدد: 8429 - 2025 / 8 / 9 - 16:42
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
مرضت الثقافة العربية المعاصرة بالهزيمة منذ حرب حزيران (يونيو) 1967، التي عُمِّدت بالهزيمة بـ أل التعريف، فلا حاجة لمزيد من التخصيص لتمييزها عن غيرها. هناك كتب تنحدر إلينا من تلك الفترة، وهي تحمل الهزيمة في عنوانها، من أشهرها النقد الذاتي بعد الهزيمة لصادق جلال العظم، والهزيمة والإيديولوجيا المهزومة لياسين الحافظ. وهناك كتابات ونقاشات يُصادفها المرء إلى اليوم تعود إلى هزيمة حزيران بحثاً وتنقيباً، منها في أحدث مثال محاضرة للمؤرخ المصري المرموق خالد فهمي، في المؤتمر السادس للجمعية العربية لعلم الاجتماع الذي عُقد في بيروت في 16 أيار (مايو) 2025. ورغم فرادة تلك الهزيمة وأصالتها من أكثر من وجه، منها هزيمة جيوش ثلاث دول عربية والاحتلال الصاعق لأراضيها خلال ستة أيام فقط، ومنها توسع كيانُ إسرائيل الناشئ مساحةً إلى ثلاثة أضعاف ما كان يحتل قبلها. ثم منها بصورة خاصة السقوط غير المتوقع من مكان أعلى، والصحو القاسي على ضعف وهوان الحال وقت لم يكن هذا الصحو الأليم في خاطر أحد، وعلى يد قوة غريبة، صغيرة الحجم، نشأ كيانها قبل عقدين بالكاد. بخصائصها الذاتية، هزيمة حزيران تصلح نموذجاً أصلياً للهزيمة في مجالنا، وهو ما حرصت إسرائيل على تثبيته، عبر إلحاق هزائم متوالية بالقوى العربية، أسهمت في جعل الهزيمة نمط وجودنا السياسي. مرض الهزيمة هو تعبير عن هذا النمط، وليس مجرد نتاج لخصائص كارثة حزيران الذاتية. لكنه كذلك نتاج ما سنقول إنه تثبُّت حربي في الثقافة والسياسة العربية، يمتنع عنه النصر ويقع في الهزيمة كل مرة، فيُسهم هو كذلك في ترسيخ النمط.
1
لكن ما تريد هذه المناقشة قوله هو أن الثقافة العربية مريضة بالنصر مثل الهزيمة أو أكثر، أو لعلها مريضة بالهزيمة لأنها مريضة بالنصر، تحلم به وترجوه وتنتظره، وتتنازع في العدة اللازمة لتحقيقه، وتبث الشعور بالذل الشديد، أو حتى باحتقار الذات، في نفوس المتربّين عليها لأن النصر يمتنع. وبقدر ما تحيل الهزيمة إلى انتصار العدو علينا، على ما مثلته هزيمة حزيران بجلاء صاعق، فإن النصر يبدو عكس ذلك: تمكُّننا نحن من إلحاق هزيمةٍ كاسحة بالعدو، بما يُحقق الثأر لنا، فيروي غليلنا ويشفي صدورنا. هذا، بينما لا يجري تعريفُ النصر، ولا نعرف لماذا هو طيب، ومن ينتصر بالفعل حين «نـ»نتصر نحن، ومن نحن. النصر هو… النصر.
وبقدر ما نفكر في إطار الثقافة العربية المعاصرة، فإنه ثمة إجابة ضمنية على سؤال العدو: إسرائيل والقوى الغربية الداعمة لها، بدلالة الصفة الاستعمارية لهذا التحالف الفذ. ثقافتنا الحديثة تشكلت حول تجربة الاستعمار (والحداثة التي واكبته)، وإن تكن حملت كذلك حساسية أقدم، مُحمّلة على اللغة العربية وآدابها والتاريخ العربي الإسلامي. وبينما لا تخلو العربية والتاريخ العربي الإسلامي من عُتُوٍّ امبراطوري يضعف العنصر التحرري في مقاومتنا للاستعمار، ويعزز من وجه آخر حضور أفكار النصر والفتح والمعارك الحاسمة، فإن تواكب الاستعمار والحداثة أورثنا تردداً مقيماً في التحديث الاجتماعي والثقافي والسياسي، تراجيدياً مثل كل تردد.
وعلى هذا العدو الإسرائيلي الغربي نتطلع إلى أن ننتصر. لا تنحصر المشكلة هنا في أن ذلك يتجاوز قوانا بكثير، وأن انتصار إسرائيل وشركائها مضمون في كل حال، وأن إسرائيل وحدها قادرة على تدمير المدن العربية كافة بالسلاح النووي إذا وجدت نفسها في ضائقة عسكرية. المشكلة بالأحرى هي أنه، عبر ثنائية النصر والهزيمة، نأسر أنفسنا في منطق عسكري حربي ضيق، نخسر فيه المواجهة، ونخسر أكثر من ذلك أشياء كثيرة، الحياة والحب والحرية والفن وفعل الخير والتعليم والعلم، وخلو البال واللامبالاة، فضلاً عن فن السياسة وحسن الإدارة وتعهد القانون في تنظيم أوضاعنا. في هذه الشؤون، إسرائيل، ودول الغرب، توفر حياة أطيب لأعداد أكبر من الناس فيها، بما لا يقارن بأي من بلداننا المنخورة بالفساد والصّغار والبلادة، والقائمة على المراقبة والتضييق. ليس لأن أعداءنا المفترضين منتصرون حياتهم أكثر بهجة، وأطيب، بل العكس أقرب إلى الصواب. النصر نفسه ثمرة حياة أوسع وأغنى وأجسر، وأذكى، وأكثر حرية. وفي هذا ما يدعو إلى القول إن نقيض الهزيمة ليس النصر، نقيض الهزيمة والنصر معاً هو الحياة الطيبة، أن نعيش حياة رحبة، دون إكراه ودون أذى (وسنعود إلى هذه النقطة). ومن هذا المنظور، يبدو أن هناك مبالغة كبيرة في قيمة النصر في ثقافتنا، هي من وجه آخر مبالغة في إهدار أشياء أخرى كثيرة تشكل نسيج حياة تعاش.
2
إهدار الحياة ذاتها. يبدو الموت ثمناً مقبولاً دائماً للنصر، فـ«نحن لا نستسلم، ننتصر أو نموت»، بحسب عبارة منسوبة لعمر المختار. لكننا في الواقع ننتصر ونُهزَم، وليس الاستسلام غير الاعتراف الرسمي بالهزيمة، وربما التعامل معها كنهاية لشيء فاشل وبداية واجبة لشيء مختلف. لم تكن المشكلة أننا هُزمنا أمام إسرائيل، بل في أننا لم نستطع تمالك أنفسنا بعدها واستجماع أمرنا على إصلاح الأحوال والاستجابة الفاعلة لهذا التحدي وغيره. إن الوقوف على الأقدام بعد سقوط أو فشل أو أزمة خطيرة، ثم السير مجدداً إلى الأمام، أرفع قيمة من وقوف وسير لم يمرا بتعثر وسقوط.
بل إن هناك تضييقاً لتصور النصر ذاته إلى التمكن من السلطة على الناس من غير حزبنا أو ديننا أو طائفتنا أو عشيرتنا، السلطة كفرض لكلمة المنتصرين على غيرهم وإعلاء رمزياتهم، بدلاً من توسعة العالم على النفس والغير وتحسين الحياة فيه. النصر يبدو فعل سلطة، يترجم إلى سلطة، ويصرف إلى سلطة، وينحل في سلطة تبدو هي الخير الأعظم. وإن كان من واقعة تاريخية تترجم أكثر من غيرها النصر إلى سلطة، والسلطة إلى نصر، فهي نفي البعثيين السوريين بعد حزيران (يونيو) 1967 الهزيمة لأن «النظام التقدمي» لم يسقط. الهزيمة تبدو بوضوح هنا خسارة للسلطة، والعدو الحقيقي هو من يتطلع إلى تغيير النظام وليس من يحتل الأرض ويُهجر سكانها ويقهر الجميع.
وإنما لضيق تصور النصر وتماثله مع السلطة، يبدو أننا لا ننتصر حتى حين ننتصر، وهو ما يحدث بصورة ما رغم كل شيء. لم ينتصر لبنان حين حقق حسن نصره الله «النصر الإلهي» عام 2006، ولم يكن ذلك فوزاً للبنان وفلسطينيِّيه، ومن باب أولى للعرب. كان نصراً لحزب طائفي مسلح بعينه، ولرعاته. وقبل ذلك، لم ينتصر العراق بعد انتهاء الحرب مع إيران عام 1988 بشروط مناسبة له. كان ذلك نصراً لصدام حسين وتعزيزاً لسلطته الشخصية والعائلية. ولم تنتصر سورية حين كان حافظ الأسد يكسب معارك ضد خصوم وأعداء متنوعين، في سورية ولبنان وفلسطين الشتات، بل زادت ضيقاً وصغرت. وليس مؤكداً أنها متجهة إلى اتساع اليوم بعد انتصار عظيم بالفعل تمثل في إسقاط حكم الأبد الأسدي، بل إن «زمان النصر» الذي يسجل أن «دمشق لنا إلى يوم القيامة» ينذر بقبض خانق على عنق البلد وأهله، يكرر سريعاً وسلفاً سيرة القبض الأسدي ويتجه لأن يفوقه. وأول الخنق العام شعار من يحرر يقرر، أي يستأثر بسلطة القرار وحده. وماذا يمكن أن يقرر المحررون؟ ليس المشاركة في السلطة، ليس الحلول السياسية للمشكلات الاجتماعية، وليس الحرية للجميع. من يحرر يقرر إلغاء الحرية، التي هي دوماً حرية الآخرين، المختلفين. أي مرة أخرى يصرف النصر بسلطة خاصة. وإنما لذلك يكون النصر فئوياً والهزيمة عامة، فلا ننتصر حتى حين ننتصر. وهذا المثال السوري الحديث يظهر أن سكرة النصر يمكن أن تكون أسوأ من دوخة الهزيمة، من حيث ما قد تُغذيه من غرور وأنانية واستئثار فئوي.
وانفصال عن الواقع. لقد وقعت هزيمة وطنية سلفاً أمام إسرائيل، ويبدو أن سورية خسرت محافظة السويداء بما يقارن بالقسم السوري من هزيمة حزيران وخسارة البعثيين محافظة القنيطرة، هذا بينما يبدو القوم في السلطة مستمرين في النصر. ولعلهم ليسوا بعيدين عن اعتبار أنهم منتصرون ما دامت السلطة لا تزال في أيديهم.
في مقابل هذه الروحية الاستئثارية، يفيد أن نستحضر ما قاله الثائر والشاعر المارتنيكي العظيم، إيمي سيزير: «ما من عرق (في سياقنا يمكن أن نقول: دين، طائفة، إثنية) يحتكر الجمال أو الذكاء أو القوة، والمكان يتسع للجميع في موعد النصر». النصر الذي لا مكان فيه للجميع هو سلطة خاصة، ستُهزم بعد حين يطول أو يقصر.
ما الذي يجمع بين الانتصارات المذكورة للتو؟ غياب الفكر، أو فقر الروح، حين الروح تعني الشعور بالنفس في العالم والعالم في النفس، ورغبة التعمير والإغناء. بالفكر نُعيد كسب ما قد نحرز من انتصار بالسلاح، فيتحول إلى ثقافة وروح مقدامة معافاة. مشكلتنا الأساس هنا، في غياب التفكير الحي المتجدد، والاستغناء عنه بالشعارات والكليشيهات والتقليد. أي كذلك في حلول الهوية محل الذات، والرابطة الجمعية محل استقلال الفكر والوجدان، ووراثة الماضي محل التفاعل مع الراهن ومشكلاته. ليست الهزيمة أمام الغير هي المشكلة الأصعب، بل عجز هوية بلا ذات عن أن تُسائل نفسها وتراجع نفسها وتحاسب نفسها وتنتقد نفسها وتنتصر على نفسها، أي مرة أخرى أن تفكر. الفكر والحرية هما مقوما الذات، بينما مقوم الهوية هو الولاء والتقليد. بالحرية والفكر يكون النصر عاماً، وبالهوية يكون النصر خاصاً والهزيمة وحدها هي العامة.
وبالحرية تتحول الانتصارات العارضة إلى بنية نصر، يُعاد إنتاجها وتتوافق مع ديناميكيات تَفتُّحٍ وتَعافٍ عامة. أمّا دون حرية، فهزائمنا وحدها بنيوية، يُعاد إنتاجها وتتكرس في الثقافة والسيكولوجية الجمعية.
3
تبدو الحرب والانتصار فيها ثابتة أنثروبولوجية عربية، ربما تعود إلى جذورنا البدوية (التي تبقى معاصرة لنا عبر اللغة وآدابها)، وترسخت في الإسلام المحمدي في طوره المديني، ثم عبر الفتوح الإسلامية الهائلة التي كانت مزيجاً منتصراً من الدين والحرب، وتكرّست في التواريخ والسير التي تدور حول المعارك والبطولات والانتصارات، ثم سرت في التفكير القومي العربي الحديث الذي تكون في مواجهة التجربة الاستعمارية من جهة وعبر بعث التاريخ الإسلامي من جهة أخرى، ونشُطت من جديد في التشكيلات الإسلامية المقاتلة التي تبدو استحضاراً معاصراً للمزيج الديني الحربي الخاص بالفتوحات. وفي المناهج المدرسية يجري التركيز على الانتصارات، الحقيقية أو المتخيلة، ويُتكتّم على الهزائم والإخفاقات. في المحصلة يبدو النصر والتصور الحربي للذات ثابتة قديمة- عميقة، لم ينظر فيها ولم تُساءل وتفحص وتنتقد.
وليس إلا متوقعاً أن تقترن بمركزية الحرب والمعارك والنصر، البنية البطريركية للعائلة والمجتمع والسلطة، وأولوية الذكور، والاحتفاء بالبطولة والأبطال، واحتقار النساء ومكانتهن الثانوية، وسهولة ترجمة علاقات الرجال بالنساء إلى انتصارات وفتوح وسلطة. وهذا بدوره يدفع إلى قراءة للتاريخ تتثبت حول المركزية الحربية.
ومما يحول دون تفحص جذري للذات والعمل على تغيير السجل هو تفكيرنا في تجربة الاستعمار- الحداثة كهزيمة عارضة، كمعركة تشبه معارك سابقة في التاريخ العربي الإسلامي، معارك خسر أسلافنا بعضها لكن انتصروا في بعض آخر، وإن بعد زمن. نحن أحفادهم سننتصر يوماً كما انتصروا هم من قبل. لا شيء يوجب تغييره من أنفسنا، أو حتى من ما بأنفسنا.
الأمر ليس كذلك في العالم الحديث. هناك تحول حضاري يُقارن بالثورة الزراعية قبل نحو 10 آلاف عام، وليس بحملات وغارات سابقة، ولا حتى بظهور الإمبراطوريات ونشوء الأديان بما فيها الإسلام، عالم مختلف كلياً يدعو إلى إعادة هيكلة جذرية، وثورية، لتصور الذات ومواريثها التاريخية والأنثروبولوجية. هناك حياة مغايرة، تُسجل اختلافاً جذرياً عن حيواتنا وحياة كل المجتمعات والثقافات السابقة، أخذت بالظهور ابتداء من الغرب قبل أربعة قرون أو أكثر، لكنها تحوز طاقة تعمُّم عالمية، يقبلها حتى من يقاومون أوجهاً من العالم الحديث والمعاصر. هذه حياة لا خارج لها إلا الموت والعدم.
بالذات الموروثة لا يمكن أن ننتصر في هذا العالم الجديد، وإن حصل فهو انتصار مهزوم وغير مُحرِّر، لن يلبث أن يُهدر، مثلما يبدو الحال في سورية اليوم. بل إن شاغل الهوية شديد الحضور في الثقافة العربية المعاصرة هو مؤشر على فشل ظهور ذات تاريخية مغايرة، ونتاج لاستبطان الهزيمة وتحولها إلى بنية. المعركة اليوم هنا، وهنا للنصر معنى تحرري.
4
ويبدو أن هناك سجلين ثقافيين مختلفين لتشخيص مرضي الهزيمة والنصر. بصورة تخطيطية جداً، يبدو أن سجل الهزيمة هو فكرنا وأدبنا الحديث، المنكبين على نقد ذاتي مكتئب، يتواتر أن يرتد إلى «نق» وتذمر، بينما يبدو أن سجل النصر هو الفكر والأدب المكتوب على الطريقة التقليدية، والمُتمركز حول التاريخ الإسلامي والعربية الفصحى، وهو تفاخري وموجه نحو الخارج. لا مكان هنا لمساءلة الذات ونقدها. لا مكان للذات ذاتها، المكان كله محجوز للهوية. وهناك اليوم في سورية صعود لهذا الشعر الانتصاري التفاخري بموازاة صعود إسلاميين إلى السلطة. بالمقابل، لا يتصور أن نجد شعراً نثرياً أو حتى شعر تفعيلة يحتفي بنصر، ليس حصراً لأننا لا ننتصر، ولكن لأن هذا الشعر امتص من الانفعالات وتشرب من الأغراض ما لا مكان للنصر وما يشبهه فيه. على أننا نجد شعراً تقليدياً يحتفي بالهزيمة، ومنه بعض عمل نزار قباني ومظفر النواب وفيصل بليبل وأحمد مطر وغيرهم. لكنه بدوره احتفاء خارجي، ينقُّ على الذات المهزومة، ولا ينتقدها، يثبتها في صورة مرضية ولا يحتار بشأنها أو يسائلها. هذا «النق» موجود كذلك في شعر «حديث»، ومنه شعر محمود درويش حتى إلى ما بعد بيروت 1982. أخذ النقد، والذات، يظهران في شعر محمود درويش في النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي. هو نفسه يقول ما يقارب ذلك في كتاب: الطروادي الأخير، الذي يتضمن حوارات معه.
وكلا سجلينا، الأنثروبولوجي الهويتي والتاريخي القلق، مريض. واحد مريض بالاكتئاب الدائم وغياب الموضوع الخارجي، وواحد مريض بغياب الذات وتوجه نحو الخارج. المنتصرون بلا ذات (لكن بهوية محتقنة)، والذاتيون بلا انتصارات لأنهم بلا موضوع.
وإذا كان من غير المتصور أن نقرأ كتاباً بعنوان النقد الذاتي بعد النصر، فليس ذلك لأننا لا ننتصر، وليس لمجرد أن الناس ينتقدون ذاتهم حين يفشلون ويتعثرون لا حين ينجحون وينتصرون، وإنما لأنه لا معنى للنقد الذاتي بعد النصر إن لم يكن أولاً نقداً لفكرة النصر ذاتها. وهو ما لا نفعل بأثر تعظيمنا لفكرة النصر أو تسليمنا بأنها أعظم الخير. لقد تثبتت ثقافتنا على الحرب، لا على الحياة والاجتماع والسياسة. هذا سيء بحد ذاته، وهو أسوأ في مجتمعات يقود التثبت حول الحرب إلى الهزائم والبؤس، وإلى العدمية.
5
كان التمركز الحربي قد قاد بعد «الهزيمة»، أي وقت كنا نعمل من أجل النصر، بل نعبده، إلى الممانعة. في الأصل تعني الممانعة شيئاً أقرب إلى الحيلولة دون تحقيق العدو لأهدافه مع تجنب المواجهة العسكرية بسبب تعذر النصر فيها. لكنها (الممانعة) لا تزال متمركزة حول الصراع والمواجهة، وليس حول البناء والنهوض (وحول الهوية لا حول الحرية). وهو ما اشتد بعد صعود منظمات دينية مسلحة مثل حزب الله في لبنان وحماس في فلسطين، وبارتباط مع التخطيط الاستراتيجي الإيراني الذي اندرج فيه الحكم الأسدي في سورية، بخاصة في سنوات بشار. وتمركز الممانعة حول المواجهة ظاهر، ليس فقط من حيث أنها استمرار تكيفي مع شرط الحرب السابق، ولكن لكونها تُصادر الحياة في المجتمعات المعنية لمصلحة قوى سياسية عقدية معينة، لا تسمح للناس بأن يروا رأياً آخر، أو يمارسوا سياسة أخرى، أو حتى ألا يبالوا. فلا جرى في المحصلة تَحرُّر المجتمعات وتحديثها، ولا تَجنب المواجهة العسكرية، ولا الحيلولة دون تحقيق العدو لأهدافه.
ومن الممانعة لا تلزم غير خطوة أخرى لنصل إلى العدمية. العدمية هي ممانعة جذرية معززة بسند عقدي على قطيعة مع العالم المُعاش. فهي لا تعادل رفضاً جذرياً لنظام العالم القائم إلا إذا استند هذا الرفض إلى إنكار معنى العالم، وإلى عالم آخر من المعنى مقاطع للعالم الفعلي، وعامل على تدميره. العدمية العربية المعاصرة إسلامية أساساً، وسُنية الجذور في الغالب، وهذا بقدر ما إن الممانعة شيعية، أو آلت إلى أن تكون كذلك بفعل تمركزها الإيراني. الإسلامية السنية، في صيغة السلفية الجهادية، تنكر معنى العالم وتعمل على نفيه وتدميره، وليس على إصلاحه أو على الثورة العالمية.
وما تنفيه العدمية الإسلامية أساساً هو ما يمكن تسميته المشاع العالمي، كون العالم والحياة فيه مصلحة إنسانية عامة، وكون كثير من خيراته متاح للجميع، لا يكاد يمنع من الوصول إليها غير سوء تفكير وتدبير المحتاجين إليها أكثر من غيرهم. نحن لا نستفيد من المتاح من المشاع، وغضبنا الموجه ضد استئثار الأقوى والأغنى ببعض قواه غير المتاحة للعموم يمنع نفسه من الاستفادة من الكثير من المتاح، المعرفي والقانوني والفني والعلمي والتكنولوجي. نشكو من السقف فوق رؤوسنا بينما نحن بالكاد ندب على الأرض مثل الزواحف.
والمشاع اليوم ليس موارد طبيعية مثل «الماء والنار والكلأ» التي يقرر حديث نبوي أن الناس شركاء فيها، بل العالم المشترك الذي نعيش فيه، بمعارفه وعلومه وفنونه وقواعده المجربة وغير قليل من تكنولوجياه، ولكن للمشاع كذلك وجهه السلبي المتمثل في مشكلات أمنية وبيئية وأمراضية عالمية لا بد من المشاركة في تحمل المسؤولية عنها. والمنهج الصحيح للتعامل مع المشاع العالمي هو العمل على كسر احتكار بعض قطاعاته الطليعية أو النفاذ التفضيلي إليها من قبل من هم أكثر ثراء وقوة، وليس العمل على تدميره، الذي هو منهج العدميين الإسلاميين في مجالنا. لا نستطيع أن ندافع عن مبدأ مسؤولية عالمية من طرف الأقوياء والقادرين بينما نحن لا نعرض حسّاً بالمسؤولية حيال أحد في العالم، ولا حتى تحمل المسؤولية عن عواقب أفعالنا في مجتمعاتنا ذاتها.
6
من الهزيمة إلى الممانعة إلى العدمية، تستمر روح الحرب المتجهة نحو الخارج، الساعية وراء انتصار على الخارج، والمتجنبة للنظر في الداخل، الداخل النفسي والاجتماعي والسياسي. وتستمر معها المنازع الهويتية الانعزالية. تبدو العدمية النافية للعالم من هذا المنظور ذروة الثقافة العربية وذروة الإسلام، أو ذروة المركب العربي الإسلامي، الذروة الانتحارية. انقلاب مميت على العالم بدل مواجهة الذات. سياسة الموت هذه لا تقود إلا إلى الموت العام، والانعطاف الواسع هو فقط ما يمكن أن يكون منقذاً. ومن الانعطاف نقد النصر والحرب، وقد توافقا مع كوارث لا جدال فيها، لا تقتصر على هزائم أمام أعداء متنوعين فقط، وإنما تتخطاها إلى انحدار في حياتنا الاجتماعية والثقافية وتدهور روحي وبؤس. وفي الأساس عجز في مواجهة الذات، في التعامل مع الفشل، التعثر، الهزيمة، السلبي أو النفي بتعبيرات هيغلية. فشلنا في استيعاب النفي في الثقافة والتفكير، بما في ذلك مساءلة النفس ومراجعتها والانسلاخ من أشكال متعفنة لها، وبما في ذلك الشك فيها ونقدها. الفكر الإسلامي لا يحتمل الشك ولا يتعامل معه، يُقصيه كلياً إلى خارج التجربة الدينية، بينما يمكنه أن يكون قوة إنعاش وتجدد لها. يجري نفيٌ انتحاري للعالم من أجل تجنب نفي شكل معطوب للذات؛ نفيها بمعنى مراجعتها والعمل على إصلاح جذري لها، أي كذلك الانتصار عليها. وأكثر من ذلك، يبدو أننا ننفي العالم كيلا نفكر فيه، كي لا ننظر في أحواله وأحوالنا فيه، وكي لا نعمل على تجديده وتجديدنا. كان أصوب وأوفق للحياة، وللتجدد الثقافي، أن نعمل على نفي محدد للذات، أي مرة أخرى الشك فيها ومساءلتها ومراجعتها، وإدراج الهزيمة والفشل كلحظات في وجودنا التاريخي، نقبلها ونعمل على تجاوزها. ومن شأن ذلك أن يضعنا في موقع أفضل لنفي العالم، مساءلته والشك فيه والعمل على تغييره، لكن من موقع الشركاء المسؤولين، المتطلعين إلى التحسن العام وتوسيع المشاع.
وعلى هذا الأساس ينفتح نقد النصر على العمل على تغيير تصور الذات ونمط الوجود في العالم، من الوجود الديني الأسطوري إلى وجود متفاعل مع العالم الفعلي والمشاع العالمي. ولعل هذا هو الأفق الذي يحتاج التفكير العلماني العربي إلى استكشافه، أفق وجود مختلف في العالم. بالمقابل، تبدو العدمية من هذا الأفق رفضاً للعالم والحياة الحديثة لا يقود إلا إلى الانتحار، ملاحقة عبثية لنصر ليس ممتنعاً فقط، وإنما هو كارثة علينا قبل غيرنا إن تحقق.
في المحصلة، يبدو أننا اخترنا ما يؤذينا ويعين أعداءنا علينا، بينما نحن نظن أننا نعمل على الانتصار عليهم. يجب أن نعاني من خلل أساسي حتى نسلك هذا المسلك. وجذر الخلل هو مقاومة التفكير، رفض التحاور والنظر في الحال. وفي جذر ذلك ذاته مخيلة مشدودة إلى الحرب والمعارك والانتصارات، تكرست في تعليمنا المعاصر ولغتنا وآدابنا، ويسهل انتحالها من طالبي النصر- السلطة الكُثر.
7
ما سبق هو تفكير في إطار الثقافة العربية المعاصرة، وهذا إطار لا يوافق الوجود السياسي لمجتمعاتنا المعاصرة. لقد كان مهيمناً بصورة ما زمن «الهزيمة» وربما بعدها بقليل، لكنه لم يعد كذلك منذ عقود. ولما كنا نتحدث عن النصر والهزيمة، وبالتالي عن الحرب والسياسة، فلا بد من التساؤل عمن ينتصرون وينهزمون، وعمن يحاربون ويسوسون، وهؤلاء متنوعون جداً إثنياً ودينياً وطائفياً وغير ذلك. اشتهر عن الشيخ متولي شعراوي أنه صلّى شكراً لله بعد هزيمة 1967 لأن مصر كانت في قبضة الشيوعية وقتها بحسبه. لم تكن مصر كذلك بحال، لكن هذا التصريح الفظ يكفي للقول إنه لم يكن ثمة إجماع في هذه القضايا وقت كان يُظن أنه ثمة مشروع يُجمَع عليه. وهو ما ازداد غياباً في العقود الأخيرة مع انحسار الهيمنة عن أي تيار فكري أو سياسي.
وعند النظر في الانتصارات المشار إليها فوق، يظهر بسهولة أن الشعور المنتصر من نصيب البعض وليس الجميع في مجتمعاتنا. انتصار صدام لم يكن انتصاراً للكرد الذين هاجمهم بالسلاح الكيماوي وجرد ضدهم حملة الأنفال الإبادية. وكان الاحتلال الأميركي للعراق هزيمة قومية عربية وسنية عراقية، لكنه انتصار للشيعة العراقيين والكرد. وإسقاط الحكم الأسدي أقرب إلى انتصار للسنيين السوريين، وليس للعلويين، بمن فيهم من كانوا يعارضون النظام. وينبغي الاعتراف بأن قطاعات من مجتمعاتنا المعاصرة لا ترى إسرائيل عدواً بقدر ما يفترض الشعور القومي العربي الذي يتماهى به بعضنا أكثر من غيرنا، والذي تتغير مساحة التماهي به كلما احتدمت الصراعات داخل مجتمعاتنا مثلما هو حاصل في سورية اليوم.
نقد النصر بالتالي نقدان. نقد للثقافة العربية المعاصرة، ثم نقد لمجتمعاتنا المعاصرة التي يتكلم أكثر سكانها العربية وتسودها رمزيات عربية. معنى النقد ذاته هو النظر المُسائل للبنى الاجتماعية والسياسية القائمة، كما للقيم والمعاني السائدة، ولتصورات الذات الفردية والجمعية، بهدف إظهار ما تقمع وتخفي وتضيق، وفتحها على آفاق أعرض. عملنا هنا على إظهار أن النصر يحيل إلى تصورات ضيقة للحياة في الثقافة العربية المعاصرة، وأنه ليس قيمة إجماعية في مجتمعاتنا المعاصرة.
ويُكمل التصور الثاني للنقد تصور العلمنة المُومَأ إليه قبل قليل، من حيث أنه ينظر في واقع مجتمعاتنا الفعلي، وليس إلى هويتها المفترضة.
وبصورتيه، نقد النصر يدفع نحو الحياة الطيبة التي تظهر من هذا المدخل كمساحة إجماع ممكنة في مجتمعاتنا العيانية.
8
ما الحياة الطيبة؟
قبل كل شيء هي حياة تخلو من الأذى، إلحاق الأذى بالناس أو بالأحياء أو الأشياء. نحن البشر نعيش باستهلاك، وبالتالي بإهلاك، حيوات أخرى، لكن يمكن تصور، ويمكن عيش، حياة لا تتجاوز في الإهلاك والاستهلاك ما يُقيم استمرارها.
وهي كذلك حياة لا تدور حصراً حول السلطة وطلب السلطة والمزيد من السلطة. إنها حياة تدور حول التعلم والتفاعل والأخذ والعطاء، حول إنتاج ما ينفع الناس.
والحياة الطيبة كذلك حياة نشطة، لا تحبس نفسها وتعمل على حبس غيرها في أنماط تكرارية بلا نهاية. إنها حياة خروج إلى العالم ومشاركة مع الغير وجوب آفاق.
الحياة الطيبة هي بعد ذلك حياة فعل الخير للغير، القريب والبعيد، بقدر المستطاع.
ونقيض الحياة الطيبة هو الحياة الضيقة، المردودة إلى الدين والحرب (السلفية الجهادية احتمال ممكن دوماً لذلك)، أو إلى تقليد بطريركي ذكوري متكون حولهما. وكذلك كل ضروب الحياة المقيدة، القائمة على المراقبة والمجانسة القسرية، أياً تكن المبادئ التي تشرع ذلك.
ولا تتعارض الحياة الطيبة مع الدفاع عن النفس عند الضرورة، ولا هي تتوقع من الناس أن يكونوا أخياراً مثاليين في كل حال. فقط تقتضي قدرة على المراجعة وإصلاح الذات، وترجو أن تكون بعداً ماثلاً في حياة الأفراد والجماعات والمجتمع والعالم. أي أن توجد كمثال اجتماعي.
لكن الحياة الطيبة ليست عقيدة جامدة، دوغما، ولا يمكن أن تقوم على أي دوغما، دينية أو غير دينية. هي بالأحرى حياة ضد التقييد والعسر الذي يتسبب به جمود العقائد النازع نحو قولبة الحياة البشرية في قوالب ضيقة ملزمة. تنتصر هذه العقائد بأن تهزم البشر، تقيدهم بمقيداتها وتلزمهم إلزامات ضيقة. يُمكن تصور الحياة الطيبة على أرضية هذا الدين أو ذاك، وفكرتها واردة في القرآن، مقرونة بالعمل الصالح والإيمان: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النحل، 97). لكن لا يبدو أنه يمكن وصف حياة أكثر المسلمين، وبخاصة من يملكون سلطة باسم الدين، بأنها طيبة. إنها حياة تنزع نحو التقييد والإكراه، حياة ضيقة. لو أن الجهود التي يبذلها مسلمون لمنع غيرهم من العيش وفق ما يحبون يبذلونها من أجل أن يعيشوا هم وفق ما يحبون لكانت حياتهم وحياة غيرهم، وحياة مجتمعاتنا، أطيب.
يبقى الأساس أنه ليس ثمة صيغة ثابتة للحياة الطيبة ينبغي الدفاع عنها والدفع نحوها. من شأن فرض صيغة محددة للحياة الطيبة أن يجعل منها إيديولوجيا منصورة، خانقة للحياة، لا تصان الحرية ولا الكرامة الإنسانية إلا بالتفلت منها. الإيديولوجيات المنصورة هي نفسها الإيديولوجيا المهزومة، التي لا تفكر في الحياة إلا كحروب ومعارك ومواجهات.
وفي كل مكان، توجه الحروب والمعارك والمواجهات التفكير نحو الهويات والروابط الجمعية، لا نحو الذاتيات والحرية. التثبت الحربي يسير يداً بيد مع التثبت الهوياتي عند الجميع.
9
يحاول نقد النصر أن يكون مدخلاً إضافياً للنظر في ثقافتنا وفي مجتمعاتنا المعاصرة. نحن في أوضاع جذرية، فريدة، قصوى ومتطرفة من وجوه كثيرة، سياسية واجتماعية ودينية وأمنية واقتصادية وسيكولوجية، وهذا أياً يكن تعريف الـنحن. ما يجمع بين «نحن»ـاتنا من هوياتية أكبر مما يفرق بينها أو بين أي منها وما يمكن تصوره من ذوات حرة مسائلة ومسؤولة. صراع الهويات مثل الجاري اليوم في سورية ليس صراعاً تحررياً.
النصر يشغل موقعاً كبيراً في خيالنا السياسي بأثر جزئي من التصور الهوياتي للنفس، وأثر جزئي آخر من تصور حربي سلطوي للحكم. والهزيمة كذلك. نقد أفكار النصر والهزيمة يقتضي نقد هذا التصور الهوياتي، وهو ما حاولت هذه المناقشة القيام به. ثم إنه يدعو إلى الانشغال بالحياة الطيبة والحرية والتفكير أكثر، وبالحرب والسلطة على الناس أقل.